قراءات نقدية

كريم عبد الله: قراءة تأويلية في قصيدة "قنّاصة النّور" للشاعرة جميلة مزرعاني

قنّاصة النّور

تلألئي في أفق الكدّ تراقصي على قمم المجد يا نجمة الشّقاء السّاطعة تهادي بين الكواكب بزهو ومرح حوّطتك بسواعد الكدح المستديم من كلّ عين تحسد من كلّ قلب حاقد حصّنتك بيقين صدقي من مكر الموج يشرئبّ صوبك يطفئ وهج قبساتك اللّامعة تمايلي على متن فلاحك المسبوك بالنّصب لتشتعل ثقافة المقل تناثري في رحاب الفؤاد تناسيم عطر وفخار. يا نتاج عمر على جسر التّعب أثمر عند آخر سلّم الوصول سلطان ضيائك توهّج اشمخي فوق كبرياء المنى فلا يحبط انبهارك صواعق ولا يخفي سطوعك سحب أو قنّاصة خلف منافذ الضّغائن يضرب خلسة في عقر الفوز

يسترق الإبداع ينزع عنك ثوب النّور وقبّعة الرّجاء ليصيب سهامه في أوج القمم.

***

جميلة مزرعاني - لبنان الجنوب / ريحانة العرب

....................

القراءة: في الزمان الذي يتناثر فيه الضوء على أطراف الأفق، حيث تلتقي ظلال الحروب الصامتة مع شعاع الأمل الضعيف، تطل قصيدة الشاعرة جميلة مزرعاني كأنها نداء متجدد لروح المقاومة التي لا تكلّ، لا تملّ. "قنّاصة النّور" ليست مجرد كلمات تُنسَج على الورق؛ هي خطاب مستمرّ بين النور والظلام، بين الشجاعة والمخاوف المتربصة.

الشاعرة تتسلل إلى عالمنا كمن يسكب بريقًا في عتمة الليل. تفتح نافذة لرؤية جديدة: النور، الذي غالبًا ما يتصور أنه بعيد عن متناول اليد، يصبح الآن سلاحًا في وجه العتمة. النور ليس فقط إشارة إلى البراءة أو الطيبة، بل هو الفكرة المتمردة، القوة التي تصمد، النية الصافية التي تتحدى الانتقام والخيانة. والشاعرة، بقدرتها على الحرف، تكشف عن "قنّاصة النّور" تلك القوى التي تحاول أن تقتل الجمال، أن تشوه الأنوار قبل أن تضيء.

لكن في خلفية هذه القصيدة، هناك أمر آخر يبعث على التأمل: النور لا يموت. حتى حين يكون الهدف مرمى لسهام الحقد، حتى حين يرسل العدو غدره عبر "منافذ الضغائن"، يبقى النور مرصعًا داخل الشاعرة نفسها، محاطًا بسور من "يقين صدقي" وكأنها تكتب مصيرًا لا يمكن للموج أن يغيره. فالنور في هذه القصيدة ليس ناعسًا أو هائمًا في السماء، بل هو صراع يومي، رقص على أطراف الألم، تمايل على ظهر تعب الإنسان.

الشاعرة كـ"قنّاصة" في حد ذاتها:

الشاعرة هنا ليست مجرد مراقب خارجي للحياة، بل هي القنّاصة نفسها، التي تعيش في صراع دائم مع الظلام داخلها وخارجها. تكتب وتترقب، تبثّ إشعاعاتها رغم الرياح التي تعصف بظلالها. وقنّاصة النّور هي تلك الذاكرة المقاومة التي ترفرف في سماء الحرب الداخلية للإنسان، حيث يظل الجمال والإنسانية هدفًا يتم اصطفاؤه وسط رصاصات الأيام، ليظل يضيء الطريق للآخرين.

التصورات الرمزية التي اختارتها الشاعرة هي صورة كونية لحرب بين "النور" و"الظلام"، ولكن الحرب هنا ليست معركة خارجة عن الذات، بل هي مقاومة خفية تشتعل في أعماقنا في لحظات الضعف والانكسار. الشاعرة لا تنادي في قصيدتها، بل تصرخ فينا جميعًا بأن النور في داخلنا، ورغم كل شيء، يظل وميضه هو الأمل في طريقنا الطويل.

النور، في النهاية، هو النصر:

لكن، ما يجعل القصيدة تخرج عن التقليدية هو الطابع الصوفي الذي يلتف حولها. فالنور ليس فقط جوابًا للظلام، بل هو الجواب الذي يعبر عن هويتنا كإنسان، كما لو أن كل قمة، مهما عتت، هي مجرد نقطة في الطريق نحو هذا النور الأبدي الذي يحترق فينا. النور ليس هدفًا نهائيًا؛ بل هو رحلة، هو الحلم الذي يتحقق على بُعد كل شعاع.

هكذا، بين سطور الشاعرة، نجد أن الظلام ليس العدو المباشر. العدو الأكبر هو الصمت الذي يسمح للظلام بالانتشار. "قنّاصة النّور" هي من يرفض هذا الصمت، يرفض أن يُطعن النور في قلبه، ويرفض أن يُغتال الإبداع في مراحله الأولية. إنها دعوة إلى النضال، إلى الانتصار في تلك المعركة المتواصلة، إلى تحويل كل ضربة للحياة إلى مصدر قوة.

الطاقة السحرية للقصيدة:

إذا كانت القصيدة تحتفل بالنور وتستفزنا لملاقاة الظلام وجهًا لوجه، فإننا لا نغادر ساحة المعركة إلا ونحن أكثر تمسكًا بأحلامنا. لأنها، وببساطة، تحوّل الكلمات إلى أسلحة، والأحلام إلى وقود، والجراح إلى طرقات تعبير. فيها من الإبداع ما يشعل فينا الفتيل، ويجعلنا نواجه الضغوط التي تحيط بنا بأرواحٍ ملؤها العزيمة.

الخاتمة:

شاعرة لبنان الجنوب، جميلة مزرعاني، لا تقدم لنا مجرد كلمات موزونة؛ هي تمنحنا إيقاعًا نرقص عليه رغم كل القنّاصة التي قد تصوّب نحو قلوبنا. قصيدتها تأخذنا إلى مكان بعيد عن الخوف، مكان نعرف فيه أن النور لا يتوقف أبدًا، حتى لو تقطعت أوصالنا تحت ضربات الظلام.

النور لا يُخطف إلا ليُعاد خلقه من جديد.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

في المثقف اليوم