تُعَد مسألة تحديد المراحل التاريخية لأي أدب من آداب العالم، من القضايا النقدية المعقدة، وقد جابه الباحثون صعوباتٍ عديدة، عند كتابتهم تاريخ الآداب. تكمن صعوبة تحديد مراحل هذا الأدب أو ذاك في عدم وجود منهج واحد يستجيب لطموحات الباحثين. فالاعتماد على كل الأحداث التاريخية لا يعتبر منهجا ناجحا في كل الحالات، لأن هناك انقلابات عسكرية كثيرة ليست ثورات حقيقية ولم تسهم في تغيير المجتمع والحالة الأدبية والفكرية وأن التغييرات في الحياة الأدبية لا يمكن أن تظهر في ليلة وضحاها، بل تحتاج إلى فترة طويلة لكي تتفاعل العملية الأدبية معها وهناك من الباحثين من قسّمَ تاريخ الأدب إلى أجيال، فكثيرا ما نسمع بجيل الأربعينات والخمسينات والستينات والخ، إلا أن هذا المنهج يفتقر إلى الدقة العلمية، إذا إن الأجيال الأدبية كثيرا ما تتداخل مع بعضها.
ولجأ باحثون آخرون إلى طريقة الأنواع الأدبية، فكتبوا عن تاريخ الشعر والنثر بمختلف أنواعه (المسرحية، القصة، الرواية) أو تاريخ التيارات والمدارس الأدبية مثل: الكلاسيكية والرومانسية والواقعية. والواقعية الانتقادية ثم الواقعية الاشتراكية.
ولكل طريقة من هذه الطرق التي ذكرناها سابقا مزايا ومساوئ، فلا نعتقد هنا بوجود طريقة واحدة تتوفر فيها كل الدقة العلمية والموضوعية. ونعتقد أن الاعتماد على المنهج التاريخي في تقييم مراحل الأدب هي الطريقة الأقرب إلى الدقة والموضوعية والأكثر وضوحًا، وخاصة لطلبة الجامعات الذين يدرسون تاريخ الأدب العربي الحديث، بينما نجد أن الطريقتين الأخريين تتناسبان مع منهج النقد الأدبي والأدب المقارن.
ونشير هنا إلى أن الاعتماد على المنهج التاريخي لا يعني تسجيل كل الأحداث المهمة منها والثانوية، فالأدب كما سبق وأن أسلفنا لا يتأثر بالأحداث الصغيرة، بل بالتاريخية الكبيرة التي تهز المجتمع وتحدث فيه هزات فكرية واجتماعية واقتصادية.
ويبدو لنا من المصادر التي اطّلعنا عليها، ولا أدّعي هنا الاطلاع الكامل عليها كلّها، أن موضوع تحديد مراحل الأدب العراقي لم يكرّس له النقاد العراقيون دراسات كافية، ولهذا بقي معلقًا ينتظر الحلول.
قد يكمن السبب في حاجة النقد العراقي إلى أعمال نظرية يحصل فيها الناقد على “أجوبة جاهزة” عن مختلف مظاهر الأدب وتطوره التاريخي. فلم يعالج النقاد العراقيون هذا الموضوع في مقالات خاصة مكرسة له، عدا ما ورد في كتاب الناقد باسم عبد الحميد حمودي الموسوم “رحلة مع القصة العراقية”(1) كذلك يمكن للقارئ أن يكوّن تصورًا عامًا وبسيطا عن مراحل النثر العراقي الحديث بفضل دراسات بعض النقاد التي يكشف بناؤها عن تسلسل تاريخ النثر.
وكمثال على ذلك، يمكننا أن نذكر دراستي الدكتور الراحل عبد الإله أحمد المكرستين لفترتين تاريخيتين فقط(2). الدراسة الأولى كرست للفترة الواقعة بين 1939-1908، أما الثانية فتشير إلى مرحلة أخرى هي: منذ الحرب العالمية الثانية، إلا أن الباحث لم يحدد نهايتها كما هو واضح من عنوان الكتاب.
ولقد اختلف أكثر النقاد في تقييم مراحل الأدب العراقي بشكل عام، فمنهم من قسمه إلى أجيال ومنهم من ارتأى تقسيمه إلى مراحل قليلة، بينما زاد نقاد آخرون من عدد المراحل.
ولغرض الدخول في صلب الموضوع لا بد لنا من التطرق إلى بعض طروحات النقاد بهذا الخصوص، فإن ما طرحه الناقد المعروف الاستاذ باسم عبد الحميد حمودي على سبيل المثال من آراء حول تقسيم مراحل النقد العراقي الحديث والمعاصر يعكس هذا الاختلاف وعدم الوضوح الذي وقع فيه أكثر النقاد العراقيين، ولهذا فنحن سنولي هنا اهتماما بطريقته في تقسيم تاريخ النثر العراقي. وسنشير بإيجاز إلى آراء النقاد الآخرين حول هذا الموضوع الهام.
يقسم الأستاذ حمودى تاريخ النثر العراقي إلى ست مراحل ننقلها هنا باختصار لكي يكوّن القارئ فكرة عامة عنها.
يرى الأستاذ حمودي أن فترة البدايات تبدأ من العشرينات عند دخول بعض شباب العراق مجاهدين في جيش الشريف حسين وبداية الاضطراب الكبير الحاسم، من الولاء القلق للسيطرة العثمانية، المتجلي في تأييد عدد من العراقيين وطموحهم في الاستقلال المشوب بالتحفظ إلى التطلع الواعي لأمل تحقيق الدولة العربية الواحدة، الذي تحطم بالانكفاء إقليميا إثر تنفيذ معاهدة سايكس بيكو(3). ويَعتَبرُ الناقد حمودي القاصيّن محمود أحمد السيد وعطاء أمين أبرز ممثلي هذه الفترة. ويستمر حمودي في تحديده لمراحل النثر العراقي فيرى أن “الفترة الثانية” كما يسميها تمتد لست سنوات من 1930 حتى 1936 أي منذ توقيع معاهدة 1930. حتى انقلاب بكر صدقي – حكمت سليمان عام 1936. هكذا يحدد الأستاذ حمودي هذه الفترة، ولكنه في مكان آخر من نفس الصفحة يقول في شيء من الاختلاف عن رأيه الأول: (..... وتستمر هذه الفترة (يقصد الفترة الثانية) في رأينا حتى قيام حركة مايس 1941 وفشلها، متواصلة إلى الخمسينات وخلالها انطلقت القصة الكلاسيكية الموباسينية)(4) ويعتبر حمودي عبد المجيد لطفي، ذي النون أيوب وعبد الوهاب الأمين، حسين الرحال، عوني بكر صدقي، يوسف متى وعبد الحق فاضل من أبرز الكتاب العراقيين آنذاك. أما الفترة الثالثة فتبدأ عنده منذ 1946 أي بعد تشكيل وزارة توفيق السويدي وإجازة الأحزاب السياسية والسماح لها بالعمل العلني، وتميزت بظهور جماعة (الوقت الضائع) وفؤاد التكرلي وعبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان.
أما (الفترة الرابعة.... فهي تمثِّل تداخلاً بين جيل الفترة الثالثة، الذي عاش الحرب العالمية الثانية وأحداث ثورة مصر وتأمين القناة 1956-1952 وبروز وتبلور فكرة القومية العربية)(5).
ويعتقد الأستاذ الفاضل حمودي أن النثر العراقي انقسم في هذه السنوات إلى مدرستين: (الكلاسيكية الواقعية المباشرة) التي مثلها جعفر الخليلي وذو النون أيوب، ومدرسة البحث عن دخيلة النفس الإنسانية المتمرِّدة المسحوقة الرافضة لواقعها)(6)، ومثلها كل من عبد الملك نوري، فؤاد التكرلي، نزار عباس، غائب طعمة فرمان وجيان وغيرهم.
وهكذا يصل الناقد حمودي إلى (الفترة الخامسة) التي بدأت من ثورة 14 تموز 1958 بدون أن يحدد نهايتها إلا أنه يحدد بداية الفترة الأخيرة التي يسميها (فترة المخاض) منذ نهاية 1959 حتى 1968. أي إن الفترة الخامسة استمرت لمدة عام ونصف العام تقريبا.
نلاحظ أن هذا التقسيم سياسي وليس أدبيًا فهو يعتمد على أغلب الأحداث السياسية والانقلابات العسكرية. إن تحديد مراحل الأدب يعتمد على أسس نظرية معروفه في النقد الأدبي في العالم كله. ومن أهم هذه المبادئ النظرية هو المبدأ التاريخي الذي اعتمد عليه أكثر مؤرخي الأدب(7).
يؤكد المبدأ التاريخي على ضرورة الاعتماد على الأحداث والهزات التاريخية الكبيرة التي تحدث تغييراً كبيرا في المجتمع الواحد أو في العالم مثل الحرب العالمية أو الثورة الفرنسية، أو إعلان الدستور العثماني عام 1908. أي تلك الأحداث التي تظهر أسبابها قبل حدوثها وتظهر بوادر ثقافتها أو بنيتها الفوقية قبل أن تحدث، فالحرب العالمية مثلا ظهرت بوادرها وأسبابها قبل أن تبدأ حيث كانت تبرم المعاهدات وتعقد الصفقات، وتزداد ثروة أصحاب الملايين بينما يتعاظم عدد الفقراء وتسوء حالتهم باضطراد، فيظهر أدب يصور حياتهم، كذلك تنتفض الشعوب ضد المعاهدات والصفقات، التي تتحكم بمصائرها فيبرز أدباء ينمون ويترعرعون في ظل الحماس القومي فيمجدون اخلاق شعوبهم وتقاليدها وقيمها الحضرية. وعندما نحدد فترة ما من فترات الأدب العربي الحديث، مثلا، منذ إعلان الدستور العثماني عام 1908، فإننا لا نعني بذلك أن الأدب العربي الحديث تغيرت مفاهيمه وقيمه منذ هذا العام، بل يجب أن نأخذ بنظر الاعتبار كل الصراع الذي كان يدور بين قوى الخير والشر من أجل تحقيق أهداف دستور 1908 وغاياته قبل هذا العام بفترة من الزمن، ويجب أن نراجع ما كتبه الأدباء شعراً ونثراً وخطابةً لنبين مضامينها المطالبة بتحقيق الدستور والديمقراطية في الدولة العثمانية.
أما أن نعتمد على حدث ثانوي مثل تشكيل وزارة توفيق السويدي ونعتبره يشكل مرحلة أدبية أو على حدث أخر مثل الانقلاب العسكري الذي قاده بكر صدقي فهذا بعيد عن الموضوعية. ونحن نتساءل هنا هل استطاع توفيق السويدي أن يقوم بتغييرات أدبية وثقافية كبيرة؟ هل أسست وزارته أدبا جديدا؟ والجواب طبعا يكون بالنفي القاطع، كذلك لم يستطع بكر صدقي ولا انقلابه العسكري أن يكون ثقافة جديدة، ولهذا فلا نجد أية ضرورة لـ” مرحلته الأدبية” التي تمتد لست سنوات فقط.
ولهذا لا نتفق مع هذا النمط من تاريخ مراحل الأدب لأنه غير مبرر تاريخيا، حتى لو انطلقنا من مبدأ التغييرات الحكومية والسياسية، لأنها لم تكن ذات طابع جدي ما عدا ثورة 14 تموز التي غيرت وجه العراق وهزت المجتمع العراقي. هذا ومن الجدير بالذكر أننا نلاحظ أن هذه الفترات التاريخية التي حددها أستاذنا الفاضل حمودي متداخلة مع بعضها وأقر هو بهذا الأمر فاعتبر مثلاً أعمال القاص العراقي محمود أحمد السيد متداخلةً بين الفترتين الأولى والثانية مبررا ذلك بقوله:
“... إن الذي يجب الإشارة إليه هنا هو أن محمود السيد لم يعش إلا سبعا وثلاثين (37) سنة قضى عشرين منها كاتبا ومؤلفا منتجا فكان بحق جيلا وحده....”(8). في الحقيقة أن المناهج الأكاديمية لا تأخذ بهذه الطريقة لتقسيم الأدب، بل يجب مراعاة الموضوعية والأسس النظرية. ويحق لنا أن نتساءل هنا مثلا: ما هي ضرورة تقسيم “جيل السيد” إلى مرحلتين؟ هل هناك ضرورة تاريخية أدبية؟ هل هناك أحداث كبيرة؟ وهل كوّن السيد مدرسة أدبية اتسمت أعمال ممثليها بخصائص أدبية مشتركة؟ والرد على كل هذه التساؤلات بالنفي طبعا.
كذلك نلاحظ أن الناقد باسم عبد الحميد حمودي حدّد بداية النثر القصصي بعشرينات القرن، أي منذ ظهور كتابات محمود أحمد السيد القصصية، ولم يشر إلى مرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية وما قبل إعلان الدستور العثماني التي شهدت تطورا بطيئا في النثر القصصي حيث ظهرت المقامة الخامسة “رسالة العشق” للالوسي ذات الطابع القصصي نسبيا و” الرواية الإيقاظية” لصاحبها سليمان فيضي، إضافة إلى أعمال أخرى.
أما الدكتور الفاضل عبد الإله أحمد الذي أشرنا إلى كتابيه، فهو يختلف عن غيره من الباحثين في تحديد مراحل تطور النثر القصصي العراقي الحديث والمعاصر، حيث تتميز دراساته عن غيره من النقاد بالتزامها بالمنهجية العلمية والموضوعية، إلا أنه لم يتوقف عند مسألة مراحل النثر القصصي العراقي، ولم يخصص لها بابا أو فصلا من أطروحته، بل اكتفى بالإشارة إليها عند تحديده الفترة الثانية التاريخية التي تدخل ضمن دراساته.
إن عنوان كتابه الأول الموسوم “نشأة القصة وتطورها في العراق 1939-1908” يعني أنه يحدد بدايات القصة بعام إعلان الدستور العثماني، على الرغم من إشارته إلى “المحاولات البدائية” كما يسميها، والتي مثلها أبو الثناء الألوسي. أشارالدكتورأحمد في مقدمة كتابه المذكور أعلاه، إلى أن مادة بحثه هي كل ما استطاع الحصول عليه من قصص منشورة في الصحافة العراقية منذ انطلاقتها عام 1869 حتى عام 1939، لكنه مع ذلك لم يتطرق ولم يُشر إلى وجود فترة أخرى تسبق 1908 وتتميز بكتابات ذات طابع خاص بها.
وقد كتب الدكتورأحمد عن “المقامة الخامسة” لأبي الثناء الآلوسي: إن هذه المحاولة (المقامة) في بعض مظاهرها إنما هي تعبير عن طبيعة الأدب الذي كان سائدا في زمنها.
وهو أدب يسوده التكلف والزخرفة اللفظية المصطنعة، ويسرف في استخدام البديع استخداما لا جمال فيه ولا فنية....(9).
وفي مكان آخر من مقدمته أشار الدكتور عبد الاله أحمد إلى أنه لم يعثر على محاولة واعية لإنشاء قصة ذات لون محلي إلا بعد إعلان الدستور العثماني عام: 1908.....(10).
يُعد إعلان الدستور العثماني حدثا كبيرا لا شك فيه، وله أهميته الكبيرة ليس في العراق فحسب، بل في كل الولايات العثمانية.
ولكن من الضروري هنا العودة إلى الوراء قليلا إلى عهدي سليمان باشا ومدحت باشا اللذين شهدا تطورات اقتصادية نسبية. وإن إصدار أول صحيفة عراقية (الزوراء) عام 1869 تم قبل إعلان الدستور العثماني وأن بداية زيادة صلات العراق مع العالم الخارجي ودخول الإرساليات التبشيرية إليه أيضًا تم قبل 1908، أخيرا وليس آخِراً فإن نعوم فتح الله سحار (1859-1900) لم ينشر روايته الموسومة “لطيف.. وخوشابا”(11) بعد إعلان الدستور، بل قبله وبتأثير واضح من هذه البعثات التي لعبت دورا كبيرا في نشر الثقافة الأوربية وخاصة في المناطق الشمالية من العراق.
وهكذا فإن ما قبل الحرب العالمية الأولى 1914، وما قبل 1908 تمثل مرحلة أخرى يمكن أن نسميها بداية “نهضة العراق الأدبية”(12) على حد تعبير الشاعر العراقي المعروف مهدي البصير. يتميز أدب هذه المرحلة بظهور أشكال “انتقالية” إن جاز التعبير، نجد فيها مختلف خصائص الكتابة التقليدية إضافة إلى نقل مشوه وناقص وغير صحيح لبعض الأعمال الأوربية بخاصة والأجنبية بشكل عام. ويختلف أدب هذه الفترة اختلافاً نسبياً عن كتابات المرحلة اللاحقة (أي مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى) يكون تأثر الأول بروايات الفروسية والروايات التعليمية والتاريخية لقربها لمزاج الناس وذوقهم الأدبي آنذاك، بينما نجد أن النثر القصصي في قترة ما بعد الحرب العالمية الأولى والعشرينات يأخذ منحىً واقعياً وتتعمق علاقته بالأدب العربي في مصر والشام فيتأثر به، وتنتشر أيضاً بعض الأعمال الأجنبية المترجمة والمنقولة سواء عن طريق مصر أو تركيا أو أوروبا مباشرة.
إذن فإن الدكتورأحمد حدد المرحلة الأولى للقصة العراقية منذ عام 1908 حتى 1939 بنفس الطريقة نراه يحدد المرحلة الثانية في كتابه القيّم الثاني الموسوم “الأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية” إذ حدد فترة دراسته من 1940 وتستمر طوال الأربعينات والخمسينات وتتوقف عند أوائل الستينات(13)، أي بعد ثورة 14 تموز 1958.
أما الباحث المعروف سيد حامد النساج فلم يتطرق هو أيضا إلى هذا الموضوع في كتابه (بانوراما الرواية العربية) ولكنه قسم تاريخ القصة العراقية إلى أربعة أجيال هي:
1- الجيل الأول: جيل الرواد، مثل محمود أحمد السيد 1903-1937 وأنور شاؤول وغيره.
2- الجيل الثاني: مثل ذي النون أيوب، وفاضل والخليلي وغيره.
3- الجيل الثالث: هو جيل ما بعد الحرب، مثل عبد الملك نوري وغائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي.
4- الجيل الرابع: هو جيل ما بعد ثورة تموز 1958، ويمثله إسماعيل فهد اسماعيل، عبد الرحمن مجيد الربيعي وغيرهما (14).
هنا أيضا نلاحظ أن ممثلي الجيلين الأول والثاني قد عاشوا في مرحلة واحدة تقريبا، كذلك الشيء نفسه يمكن أن يقال عن الجيلين الثالث والرابع، إذ إن ممثليهما مارسوا وما زالوا يمارسون نشاطهم الإبداعي ويشاركون في بناء العملية الأدبية المعاصرة حتى وقتنا الحاضر.
يمكن أن نأخذ بفكرة الأجيال، ولكن هذا لا يعني إلغاء مبدأ المراحل، فمن غير الممكن أن نخصص واحدةً لكل جيل. وهناك أكثر من ناقد أخذ بفكرة الأجيال واهتم بالأعلام المعروفين ونسي أن قصصا عراقية أو أعمالاً تتضمن بعض عناصر القصة ظهرت منذ بداية الصحافة العراقية أي قبل الدستور العثماني والحرب العالمية الأولى لكنها لم تأخذ مكانها ضمن تقسيم الأجيال ولن نتحدث بالتفصيل عن كل الأعمال النقدية التي قسم فيها مؤلفوها تاريخ القصة العراقية إلى أجيال أو مراحل، ولكن سنكتفي بالإشارة إليها فحسب. فالناقد العراقي الأكاديمي عبد القادر حسن أمين قسّم تاريخ النثر القصصي العراقي في رسالة ماجستير مهمة للغاية كتبها عام 1955 إلى مرحلتين:
1- مرحلة ما بين الحربين.
2- مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية (15).
أما الأستاذ الفاضل داود سلوم فيقسم تاريخ القصة إلى مرحلتين أيضا: الأولى ما قبل الحرب، وتمثل الثانية فترة ما بعد الحرب ولم يعر ثورة 14 تموز 1958 أهمية تذكر(16).
ونلاحظ أن الأستاذ سلوم ترك الفترة الأولى مفتوحة، ولم يحدد بدايتها. هذا وقد كتب الكاتب المعروف سهيل إدريس صاحب مجلة (الآداب) البيروتية عن نشاط ذي النون الإبداعي بشكل خاص وتحدث بالتفصيل عن مراحل نشاطه واعتبره من أبرز الأعلام في تاريخ النثر العراقي المعاصر، الذي مر بالمراحل التالية:(حسب مفهوم إدريس).
جيل محمود أحمد السيد وأنور شاؤول يمثل المرحلة الأولى، أما المرحلة الثانية فتبدأ من عام 1936 الذي بدأ فيه ذو النون أيوب نشاطه القصصي وتبدأ الثالثة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية(17). ولا نجد أية ضرورة لمناقشة هذا التقسيم لفقدانه مبرراته الموضوعية التاريخية الأدبية فكيف تبدأ مرحلة أدبية في سنة بحد ذاتها لمجرد أن بدأ أديب معين نشاطه فيها. ومن الجدير بالذكر أن الدكتور الفاضل سهيل إدريس كان قد بالغ في مكانة ذي النون أيوب وقد وقف القصاصون العراقيون الآخرون موقفا نقديا سلبيا من آرائه لهذا الصدد.
وقد اهتم المستشرقون المتخصصون بالأدب العربي الحديث بمواضيع مختلفة وبقضايا الشكل والمضمون لكنهم لم يكرّسوا دراسات أو مقالات لموضوع تاريخ الأدب العراقي الحديث بشكل عام وتاريخ القصة بخاصة.
فالباحثة الأذربيجانية السوفيتية نرمين خانم سلطانلي(18) تطرقت إلى مراحل القصة العراقية وأعطت رأيها بهذا الموضوع واقترحت مراحلها الأدبية، بينما لم تقدم باحثة أخرى هي: م. عماروفا ولا زميلها شوكوف(19) رأيهما بهذه “المعضلة”، بل اكتفيا بالإشارة إلى كونها ما زالت معلقة وتنتظر الحلول. قسمت نرمين خانم سلطانلي أجيال الناثرين العراقيين إلى ثلاثة هي:
الجيل الأول: جيل الرواد الذين ظهروا في بداية العشرينات من القرن، مثل السيد وذي النون أيوب وعبد المجيد لطفي وعبد الحق فاضل وغيرهم.
أما الجيل الثاني فقد ظهر أعلامه، مثل عبد الملك نوري وفؤاد التكرلي وغائب طعمة فرمان وعبد الله نيازي وجبرا إبراهيم جبرا ومهدي عيسى الصقر وغيرهم، بعد الحرب العالمية الثانية.
أما الجيل الثالث والأخير فقد ظهر بعد ثورة 14 تموز 1958، وذكرت الباحثة قصاصين عراقيين مثل: محمد خضير وموسى كريدى ومحمد كامل عارف وغيرهم كأبرز ممثليه(20).
نرى أن هذا التقسيم أقرب من غيره إلى الواقع والموضوعية وهو يتناسب مع المبدأ التاريخي إلا أننا نفضل استخدام مصطلح (مرحلة) على (جيل) لأن الأجيال تتداخل فيما بينها كما سبق وأن ذكرنا. ولهذا لا يمكن الاعتماد عليها لوحدها فقط لأن مرحلة واحدة يمكن أن تضم جيلين ولأن الأجيال تظهر كل عشرين سنة على الأقل فنحن نعتقد أن تاريخ النثر القصصي العراقي الحديث ينقسم إلى المراحل التالية:
1- مرحلة بداية عصر اليقظة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى:
وتبدأ منذ منتصف القرن التاسع عشر عند تولي مدحت باشا حكم الولايات العراقية، وتميزت هذه الفترة بتغييرات ملحوظة في المجتمع العراقي آنذاك اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً، حيث ظهرت الصحافة العراقية لأول مرة وبرزت نتائج الإرساليات التبشيرية فبدأ المثقفون العراقيون يتقبلون الأعمال النثرية من قصة ورواية ومسرحية. تُرجمت في هذه المرحلة بعض الأعمال الروائية والقصصية من اللغات الأجنبية، وبدأت الكتابة التقليدية المتمثلة في المقامة تتغير شيئاً فشيئاً. وظهرت في مقامة الألوسي (رسالة العشق) بعض العناصر القصصية التشويقية ونشرت صحيفة (الزوراء) ترجمة رفاعة الطهطاوي لرواية (تليماك) لمؤلفها الفرنسي فيلينون. وظهرت أعمال نثرية تاريخية وتعليمية يتوفر فيها العنصر العاطفي التشويقي.
تنتهي هذه المرحلة بانتهاء الحرب العالمية الأولى فهي تمهيد لفترة يشهد فيها الأدب العراقي تغيرا ملحوظا في الشكل والمضمون، ففيها أعلن الدستور العثماني عام 1908 الذي فتح أمام العراق والمثقفين العراقيين، على الأقل من الناحية المعنوية، فرص التعبير عن الذات والبحث عن بدائل جديدة للخلاص ولتغيير الواقع المعاش. ثم جاءت الحرب العالمية الأولى فيحدث الالتقاء بين الشرق والغرب وتزداد الاتصالات وتعمق الوعي القومي والوطني وتتوسع مدارك المثقفين العراقيين بحكم الاتصالات بمختلف بلدان العالم وبخاصة مصر، التي توسعت فيها آنذاك حركة الترجمة ونقل العلوم والآداب، وتعرف بعض المثقفين العراقيين على الآداب الأجنبية عن طريق الهند أيضا، التي كانت هي أيضاً خاضعة للسيطرة البريطانية.
2- مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى حتى الحرب العالمية الثانية:
كما سبق وأن ذكرنا بأن الحرب العالمية الأولى كانت حدًا فاصلاً بين عالم مليء بالتخلف بسبب حكم الولاة العثمانيين وفترة صراع بين أعتى صنوف التأخر وبذورالتجديد، التي كانت تجاهد من أجل النهوض أمام هذا السيل الجارف من العتمة. وكان إعلان الدستور العثماني 1908 من الأحداث الهامة أيضا التي مهدت لحقبة جديدة. أي أن هذا التطور الذي نجده في المرحلة الثانية من تاريخ القصة العراقية لم يبدأ بالحرب العالمية على وجه التحديد، بل إن عناصره وبذوره الأولى تعود لفترة أقدم بقليل. وتعد ثورة العشرين الكبرى في العراق من الأحداث الهامة في هذه المرحلة فيتعمق الوعي القومي: ويزداد يوما بعد يوم الشعور الوطني ويتعمق شعورالمسؤولية لدى المثقفين العراقيين فيظهر جيل كامل من القصاصين الذين يضعون نصب أعينهم واقع مجتمعهم المتخلف ويفكرون بكيفية تغييره والقضاء على كل مظاهر البؤس والحرمان وإذلال الإنسان العراقي. وتدفعهم هذه الأحاسيس الوطنية إلى الشعور بالمسؤولية وتأنيب الضمير والذنب، فيزداد نشاطهم الثقافي بخطى حثيثة. فيصدر حسين الرحال، الشخصية العراقية المعروفة جريدته (الصحيفة) في هذه الفترة، وينشر الكاتب العراقي المعروف محمود أحمد السيد قصته الطويلة (جلال خالد) المشبعة بالمشاعر الإنسانية والأفكار الوطنية. وتتعمق ارتباطات العراق مع أشقائه العرب لدرجة أنها وصلت إلى مستوى العلاقات الشخصية بين الأدباء، مثل صلات الصداقة والإعجاب بين العراقي محمود السيد والقاص المصري محمود تيمور.
وتتميز هذه المرحلة بسعي الأدباء العراقيين النشط للتعرف على الأعمال الواقعية الأوربية مثل روايات تولستوي وأميل زولا وغيرهما من الكتاب الأوربيين، الذين أعجبَ محمود أحمد السيد إعجابًا شديدًا بأسلوب كتابتهم، وبمضامينها الجديدة، وكان يتمنى ويحلم بكتابة (روايات تحليلية كبيرة) شبيهة بأعمالهم الخالدة. وفي هذه الفترة كان المثقفون العراقيون ينهلون ثقافتهم من مصادر مختلفة ومتنوعة للغاية، من الأدب العربي القديم ومن الآداب الأجنبية عن طريق القراءة المباشرة بلغاتها الأصلية والترجمة والنقل التي قام بها المصريون والسوريون عن اللغتين التركية والفارسية.
وتطورت في هذه المرحلة القصة القصيرة وظهرت أعمال أدبية، اعتبرها مؤلفوها والنقاد العراقيون آنذاك أعمالاً روائية، وتطورت الصحافة الأدبية حيث نظمت مسابقات عديدة في مجال القصة، ودارت مناقشات مختلفة حول الأنواع النثرية مما يدل على اهتمام الأدباء بها. وهكذا فإن المتتبع لهذه المرحلة يلاحظ تطور النثر القصصي التدريجي، الذي يمثل الصراع بين القديم والجديد، فلم تقبل هذه الأنواع قبولاً حسنا في بداية أمرها.
3- مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية حتى انقلاب"ثورة" 14 تموز 1958:
شهدت هذه المرحلة تطورا سريعا في البنية الثقافية العراقية، فقد انفتحت أبواب العراق على روافد جديدة من الثقافة الإنسانية، القادمة من مصر والدول العربية الأخرى والهند وبريطانيا والاتحاد السوفييتي بحكم ارتباط العراق بالحلفاء. ويلاحظ مؤرخو الأدب العراقي انتشاراً سريعاً لمختلف الآداب الأوربية الغربية والأدب الأمريكي، الذي كان يتميز بروحيته الثورية المتحركة وتعمقت أفكارالواقعية والواقعية الاشتراكية والواقعية الجديدة وازداد تعلق الأدباء العراقيين بالآداب الأجنبية، وأخذت القصة تتبوأ مركز الصدارة، وازداد الاهتمام فيها على كل المستويات وظهر في هذه المرحلة جيل كبير من خيرة المثقفين العراقيين، كانوا مطلعين اطّلاعاً عميقا على الأدب العربي القديم إلا أنهم كانوا يبحثون عن أنواع تتناسب وتتلائم مع طموحاتهم الكبيرة من أجل إسعاد مجتمعهم العراقي فأخذوا يقرأون باللغة الأنجليزية والفرنسية والأعمال المترجمة ترجمة فنية في مصر والعراق وسوريا. وظهرت في هذه المرحلة بداية تأثير الفكر الوجودي وبدأت تطبق بعض مفاهيم سارتر الوجودية في النقد الأدبي، ومن أبرز المثقفين الذين عرفوا بهذا الاتجاه الأخوان فؤاد التكرلي ونهاد التكرلي وغيرهما.
وانتقل الأدباء والقاصون في هذه المرحلة إلى درجة راقية من درجات التطور الأدبي، فأخذوا يطالبون بكتابة القصة الفنية ورفضوا القصة الشعارية والوعظية والأدب السياسي المباشر وأطلق القاص المعروف عبد الملك نوري على هذا النوع من القصص السياسية مصطلح “مقاصة” إشارة إلى كونها مقالات قصصية أكثر مما هي فنية. واتسمت هذه المرحلة بنضج بعض الأشكال النثرية العراقية وبظهور الاتجاهات الرومانسية والواقعية الجديدة فظهرت القصة الرومانسية والتاريخية والشكل البدائي للرواية الواقعية المتمثلة بقصة “الدكتور إبراهيم” لمؤلفها المعروف ذو النون أيوب. وساعد انتشار الصحافة والروايات العراقية على تطور القصة، فتطورت في هذه المرحلة أنواع صحفية قريبة من الأدب القصصي تطورا كبيرا ونقصد بهذه الأنواع أو الأشكال: الخاطرة القصصية أو التحقيق القصصي ومختلف الأشكال التي تتضمن أسلوباً لغوياً أقرب إلى القصة منه إلى الأنواع الإعلامية، كمثال على ذلك نذكر قصص ذي النون أيوب التي تتسم بالوثائقية، لدرجة أنه أتهم لأكثر من مرة بأنه يكتب قصصه عن أشخاص حقيقيين، فقال النقاد بأن الدكتور إبراهيم، بطل الرواية المسماة باسمه هو أحد أقطاب الحكم الملكي وتعرض الكاتب لبعض المضايقات آنذاك.
وهكذا، نلاحظ أن الصحافة العراقية لعبتْ دورا إيجابيا ملموسا في تطور القصة في هذه المرحلة فانتشرت المقالات الصحفية على شكل قصص أو تحقيقات قصصية. وليست هذه هي المرة الأولى التي تظهر فيها مثل هذه الأشكال القصصية في الصحافة، فلو رجعنا إلى تاريخ الآداب الأوربية لرأينا أن هذا الشكل الصحفي الأدبي ظهر على يد استيل وزميله أديسون على صفحات مجلتيهما “الثرثار” (1711-1707) و” المشاهد” (1714-1711) وغيرهما من المجلات الإنجليزية التي أصدرها هذان الكاتبان(21).
وظهر هذا الشكل في فرنسا أيضًا في القرن 18 الثامن عشر في أعمال ل. س. ميرسيه وريتيف دي بريتون وقد حصل كتاب “لوحات باريسية” (1788-1781) لمؤلفه ميرسيه على شهرة عالمية واسعة لتميزه بالواقعية الوثائقية وبالصور الحية عن المجتمع الباريسي آنذاك. ويُسمى هذا الشكل باللغة الفرنسية Essays’ بالإنجليزيةessay, feature وله مصطلح خاص به في اللغة الألمانية، وبالروسية أوتشِرك ( ocherk)، وقد عرّفه الكاتب الروسي المعروف مكسيم غوركي خير تعريف، إذ قال عنه “إنه نوع فني يقع على حافة الحدود بين القصة القصيرة والبحث”(22).
ولهذا النوع الأدبي أشكال مختلفة مثل: ملاحظات الطريق، أدب الرحلات، قصص المحاكم، المقالات الاجتماعية ذات الصيغة القصصية والصورة الشخصية الأدبية وغيرها. والوثائقية هي أهم سمة لهذا النوع، لكنه لا ينفي، بل بالعكس يفترض وجود الخيال الفني والمبالغة في وصف المظاهر الإيجابية أو السلبية، حسب موقف الكاتب وهدفه منها. وهذا لا يعني أن القصاصين العراقيين في مرحلة ما بعد الحرب العالمية التزموا بالوثائقية، بل إن واقعيتهم كانت تصويرية، أي أن قصصهم كانت عبارة عن لقطات من الواقع الاجتماعي، ولهذا سمى بعض النقاد واقعيتهم بالأسلوب المباشر لأنهم كانوا رغم مساعيهم في كتابة قصة فنية يسقطون في المباشرة عند طرح أفكارهم الاجتماعية. كذلك شهدت هذه المرحلة ظهور مجموعة من الأدباء والمثقفين ولعوا بـ” الألعاب” الفنية في تصوير الواقع، فسَمّاهم بعض النقاد بالأدباء “السايكولوجيين” تمييزا لهم عن أدباء الواقعية الجديدة، واصطلحوا عليهم بجماعة “البروج العاجية”، ونذكر على سبيل المثال لا الحصر من هؤلاء الأدباء: فؤاد التكرلي وعبد الملك نوري، اللذين أخذا بيد القصة العراقية القصيرة نحو الأساليب الفنية المتطورة.
4- مرحلة ما بعد "ثورة" 14 تموز 1958 حتى التسعينات:
إن أهم ما يميز أدب هذه المرحلة هو ظهور أنواع مختلفة من الرواية: الرواية الاجتماعية، والنفسية، والسياسية، والرمزية. وتطورت القصة القصيرة تطورا كبيرا فأصبحت من أكثر الأنواع الأدبية انتشارا في الصحافة الأدبية العراقية. وشهدت هذه المرحلة صراعا حادا بين المدرسة الواقعية ومختلفة الاتجاهات التجديدية، بسبب انتشار الأفكار الوجودية والعدمية العبثية بعد انتكاسة الثورة والصراعات الحزبية والأحداث الدموية الكبيرة. ولقد أثرت الانقلابات العسكرية والتقلبات تأثيرًا سلبيًا كبيرًا على الأدب العراقي بشكل عام، والنثر خاصة لأنه لا ينمو إلا في ظل ظروف التطور الثقافي والاستقرار.
إلا أن الواقعية عادت وترسخت بعد نكسة حزيران 1967 وبرزت في بداية الثمانينات فظهرت الروايات العراقية الواقعية، التي أصبحت معروفة لدى القارئ العربي خارج العراق أيضًا، حيث أخذت دور النشر اللبنانية تنشر أعمالا روائية عراقية. هذا ومن الجدير بالذكر أن الرواية العراقية وصلت في هذه المرحلة إلى مستوى فني ناضج على يد غائب طعمة فرمان في رائعته رواية “النخلة والجيران”(23) (1966).
ونلاحظ أيضًا انتقال العديد من الصحفيين والقصاصين العراقيين، الذين ظهروا في الخمسينات إلى المغامرة الروائية، فظهرت مجموعة من الروايات العراقية الواقعية التي تميزت بوجود بطل "خاص" مصوّر بنوع من الفنية والسردية المتدفقة والخ من خصائص الكتابة الروائية الحقيقية، كنموذج الشخصيات الأدبية “وحريتها” في سلوكها وطرح أفكارها في الواقع القصصي.
وبدأت الروايات العراقية تطرح واقعا عراقيا محليا بلغة روائية مسهبة، لغة السهل الممتنع واخذ الروائيون يجدون مقوماتها كالحوار والحوار الداخلي وترتيب الحدث ترتيبا روائيا وانتقاء الرئيس وإهمال الثانوي من الحقائق والمأخوذة من الواقع الاجتماعي.
وفي الحقيقة أن هذه الفترة شهدت احداثا كبيرة كان لها انعكاس كبير على الأدباء العراقيين وعلى الأدب فظهر ما يسمى بأدب الحرب و” رواية الحرب” وعاش عدد من الأدباء في الخارج، متابعين كتابة أعمالهم هناك، بحيث أصبح من الصعب جدًا الإحاطة بمجمل مضامين هذه القصص والروايات لافتقارنا إلى المصادر الجديدة أولا ولأنها لا تدخل في موضوع بحثنا فنكتفي بهذا القدر.
ومن المعلوم أن هذه المرحلة تمتد إلى ثلاثين عامًا، شهدت أحداثًا كبيرة، أثرت تأثيرًاواضحاً في المجتمع العراقي والحركة الأدبية. ولهذا فيمكن للناقد أن يقسمها إلى فترات قصيرة، مثل انقلاب 17 تموز 1968 وتأسيس الجبهة الوطنية والقومية التقدمية عام 1973 ، لكن نشوب الحرب مع إيران عام 1980 لثماني سنوات يمكن اعتبارها مرحلةً كاملةً تميزت بأدب موجّه ومكرّس لها، تم وصفها بإسهاب من قبل الكاتب العراقي المعروف سلام عبّود في كتابه "ثقافة العنف في العراق". كل هذه الأحداث أثرت في الحركة الأدبية العراقية، ولكن لا يصح أن نعتبركل واحد منها بداية لحقبة قائمة بحد ذاتها.
ومن الجدير بالذكر أن الأدب العراقي، كان في كل هذه المراحل الأدبية على صلة وثيقة بالأدب العربي الحديث وبالحركات الأدبية العربية. ولا يمكن لمؤرخ الأدب بأي حال من الأحوال أن يدرس ظواهره بمعزل عن سوريا ولبنان ومصر وغيرها من الأقطار العربية. أي إن هذه التقسيمات غير منفصلة تماما عن الأدب العربي الحديث، بل لها علاقة بها بسبب التاثيرات المتبادلة وتشابه الواقع السياسي والاجتماعي، وليست بديلاً عن مراحله العامة.
5- من التسعينات حتى احتلال بغداد من قبل الأميركان: هذه مرحلة طويلة عانى فيها العراق من الحصار الاقتصادي والسياسي مما انعكس تأثيره على الأدب العراقي وظروف الأدباء العراقيين الاقتصادية والسياسية والنفسية بسبب القمع واضطرار العديد منهم الى مغادرة وطنهم إلى مختلف بلدان العالم.
6- مرحلة ما بعد الاحتلال الأميركي للعراق:
***
الدكتور زهير ياسين شليبه
.......................
* نُشر هذا المقال في مجلة "البديل" العراقية أو إحدى الدوريات العربية، في منتصف الثمانينات، لهذا لم أتطرّق بالتفصيل إلى التسعينات واكتفينا بتسمية المرحلة الأخيرة "مابعد الاحتلال"
1- باسم عبد الحميد حمودي. رحلة مع القصة العراقية (بغداد) 1980.
2- انظر: دكتور عبد الاله أحمد. نشأة القصة وتطورها في العراق (1939-1908) بغداد 1969، والأدب القصصي في العراق منذ الحرب العالمية الثانية. بغداد 1977.
3- باسم عبد الحميد حمودي. نفس المصدر ص91
4- نفس المصدر ص92
5- نفس المصدر ص93
6- نفس المصدر ص93
7- انظر قضايا تدوين تاريخ الآداب الشرقية. مجموعة من المؤلفين. موسكو. 1973، ص74.
8- باسم عبد الحميد حمودي. المصدر السابق ص 96
9- الدكتور عبد الاله أحمد: نشأة القصة.... ص9.
10- نفس المصدر ص11.
11- نعوم فتح الله سحار. رواية لطيف خوشابا. مطبعة الدومينيكان. الموصل 1891، كذلك انظر صالح جواد الطعمة. مسرحيته لطيف خوشابا. الأديب العدد 5 السنة 1960 بيروت، ص17.
12- مهدي البصير. نهضة العراق الأدبية. بغداد 1946 ص4.
13- الدكتور عبد الاله أحمد. الأدب القصصي ص8.
14- السيد حامد النساج. بانوراما الرواية العربية. القاهرة 1980 ص173-160.
15- عبد القادر حسن أمين. القصص في الأدب العراقي الحديث. بغداد 1955.
16- داود سلوم. الأدب المعاصر في العراق (1960-1938).
17- دكتور سهيل إدريس. القصة العراقية. الآداب. الأعداد 4.3.2، بيروت 1953.
18- نرمين خانم سلطانلي. الواقعية الجديدة في العراق بعد الحرب العالمية الثانية. باكو 1972.
19- م.عماروفا. أعمال ذي النون أيوب رائد القصة العراقية. موسكو. 1967، انظر كذلك ب. ف. تشوكوف. ترسخ النوع الروائي في النثر العراقي (1954-1919). موسكو. 1970.
20- نرمين خانم سلطاني. المصدر السابق ص4.
21- انظر قاموس المصطلحات النقدية الأدبية. موسكو. 1974.
22- مكسيم غوركي. الأعمال الكاملة. الجزء 47 ص250 باللغة الروسية والإنجليزية.
23- غائب طعمة فرمان. النخلة والجيران. بغداد. 1966.