قراءات نقدية

عفيف قاووق: إضاءة على رواية دروب وجلجلة للدكتور جورج شكيب سعادة

دروب وجلجلة، للدكتور جورج شكيب سعادة صدرت العام 2024 في بيروت عن دار ناريمان للنشر. ينطلق الكاتب في روايته هذه من بدايات الحرب الأهلية التي شهدها لبنان أواخر القرن الماضي معرجًا على أسبابها ونتائجها كما يراها ويعتقد، وعليه لن نغوص في التطرق لما جاء في هذه الرواية من رؤية وتوثيق سياسي وتاريخي لتلك الحقبة  لأنها تبقى وجهة نظر المؤلف ابن منطقة الشوف اللبنانية الذي عايش تلك الحقبة المؤلمة من تاريخ لبنان، لذا فالنقاش لا ينتهي في هذه القضية التي لا تزال خلافية ليومنا هذا، والتأريخ للحدث السياسي والأمني يبقى وجهة نظر لدى الكثيرين. لذا سنكتفي بالتطرق إلى القضية الأساس التي تمحورت حولها الرواية وما كابدته الطفلة لميس بعد أن فقدت أهلها في بلدة الدامور في تلك الحرب والحياة المتنقلة والمضطربة التي عاشتها متنقلة من منزل منال ووائل الحيفاوي العائلة الفلسطينية التي إلتقطتها وصولًا إلى بيت عابد الحلبي وزوجته نسب وهي العائلة اللبنانية التي تبنتها.

الرواية واقعية واجتماعية بامتيازلما تثيره من قضايا ومحاور، تنطلق كما قلنا من بدايات الحرب الأهلية التي شهدها لبنان وكان من إحدى تداعياتها التهجير القسري للعائلات وتشتت أفرادها.

عنوان الرواية دروب وجُلجلة جاء معبرًا تماما عن مضمونها ومجريات أحداثها، حيث شهدنا بدل الجُلجلة إثنتان الأولى تلك التي سلكتها الطفلة لميس أو هيفا –لا فرق- بدءًا من منزل منال ووائل الحيفاوي ثم انتقالها إلى دير الراهبات في صيدا وبعده إلى الميتم في جونية تحت إسم رُلى ليستقر بها المقام طفلة متبناة في منزل عابد الحلبي وزوجته نسب؛ إضافة إلى رحلتها القسريّة إلى لندن والمهانة التي تعرضت لها هناك.

أمّا الجلجلة الثانية فكانت من نصيب ميسـا تلك الوالدة التي فقدت ابنتها وأفنت أيامها ولياليها في البحث عنها دون جدوى، إلى أن كان اللقاء الأول والأخير والإبنة على فراش الموت.

الرواية هادفة تشير إلى قضايا اجتماعية عدّة، ومن هذه القضايا التهجير القسري وتداعياته على الأسرة، وأيضا مسألة التفكك الأسري متخذة من عائلة عابد الحلبي نموذجا، كما تطرقت إلى الجانب التربوي والعلاقات الأسريّة ما بين الزوج والزوجة وما بين الأهل والأبناء، وتشير أيضا إلى مسألة شائكة تكمن في تدخل الأهل في تحديد مصائر أولادهم دون الإلتفات إلى مشاعرهم او طموحاتهم وهذا ما حصل مع عابد الحلبي وابنته المتبناة رُلى عندما أصرّ على اختيار من يراه زوجًا مناسبا لها دون الإكتراث لرأيها الرافض لمثل هذا الإختيار.

الى جانب كونها رواية اجتماعية إلا اننا نلحظ في بعض فصولها شيئا من أدب الرحلات وأدب الرسائل أيضا، ففي أدب الرحلات كانت الرحلات الداخلية إلى منطقة الشوف لنتعرف على بعض القرى والمعالم الأثرية والعمرانية والمنتزهات لتلك المنطقة من جبل لبنان، وأيضا الرحلات الخارجية كرحلة لندن والحديث عن طبيعة تلك المدينة وحدائقها كحديقة فيكتوريا وشوارعها كشارع اكسفورد وغيرها من المعالم. امّا فيما يخص أدب الرسائل فقد تمثّل في الرسائل المتبادلة بين رُلى وحبيبها شبلي الأسمر.

الرواية كتبت بأسلوب سلس وبلغة أنيقة  وبصور بلاغية وشاعرية واضحة، تضمنت العديد من الحكم والرؤى حول التربية والمواطنية والحُب أيضا، وقد اعتمد الكاتب تقنية السارد العليم  وربما بسبب هذه التقنية أتت الرواية بلغة واحدة من حيث الأسلوب والمتانة دون الإلتفات إلى الفئة العُمرية او المستوى الثقافي للشخوص، بحيث ان جميع شخصيات الرواية امتازوا بنفس المستوى من متانة اللغة وبلاغتها حتّى أن الطفلة رُلى ابنة العشر سنوات في حواراتها ونقاشاتها مع عابد وأفراد عائلته وكذلك مع الراهبات في المدرسة نجدها على صغر سنها تُحاور وتُجادل بمنطقِ وحكمة وتأتي أحيانا بشبه مطولات مدعمة بأمثال وبِحِكمٍ تفاجىء من يستمع إليها.مثلا في حوارها مع الراهبة دومنيك وشكواها من عدم فهمها لشرح معلمة الرياضيات جاء ردّها أشبه بمرافعة محكمة ومنطقية قد يعجز عن الإتيان بمثلها من هم أكبر منها سِنًّا، فهي تقول: "ألسنا شركاء مع الأستاذ في الصف؟ فإن لم نكن نحن هنا هو لا يكون" وأردفت قائلة:"كل خلل يبدأ بسيطًا فإن لم يعالج يتفاقم ويؤذي"(ص56و57).

ان بعض ما ورد على لسان رُلى طفلة العشر سنوات ومهما كانت درجة وعيّها ومستوى ذكائها لا يمكن ان تنطق به أو أن تعي كنهه، فمثلا في نقاشها مع عابد الحلبي وزوجته عندما فُرِض عليها الذهاب إلى لندن تقول ابنة الإثنتي عشر سنة:"إنّ صيانة الطفولة من مهمة الأمهات قبل أن تُخضع لأمزجة الآباء"(79)، وفي موضع آخر تقول: "إن الرفاهية مع الغربة عبء ثقيل"(81).

أمثلة كثيرة على عدم تناسب عمر الفتاة مع عميق قولها،  فبعد أن لمست تعاطفا في المطار من المسافرة  فاطمة نجدها تقول: "المحبة هي الدين الأفضل ولا دين بمعزل عن الرحمة والمحبة"(86). كما انها في حوارها مع "أمّها" نسب وفي معرض انتقادها لتصرفات عابد الحلبي تقول:"أن من يضع يده على المحراث ثم يلتفت إلى الوراء يعوجّ ثلمه ويفسد عمله"(118). كل هذه الأقوال المحكمة وغيرها كثير صدرت عن طفلة لم تتجاوز الإثني عشر سنة من عمرها. وبرأيي  لو كان خطاب رُلى مغلفا بمسحة طفولية بريئة دون إغفال مسحة الذكاء التي تتمتع بها لأتى أكثر إقناعا وانسجاما.

بالعودة إلى الرواية وبالرغم من وجاهتها لناحية القضايا المثارة فيها، إلا انه ومن وجهة نظر قد أكون مخطئا، أرى انه كان بالإمكان إختصار عدد صفحاتها دون المساس بجوهرها، فمثلا ماذا أضافت زيارة الفليبين التي استهلكت ما يقارب العشرون صفحة إلى الرواية وأحداثها.كما أن الضغوط التي مارسها عابد وزوجته على رلى لإرغامها على الزواج مرة من سيمون حداد وأخرى من الشاب الأميركي، برأيي لو تمّ الإكتفاء بذكر حالة واحدة من هاتين الحالتين كان كافيا للإشارة إلى ظاهرة  تسلط الأهل على الأبناء وفرض خياراتهم عليهم.

اللافت أيضا ان رُلى إنصاعت بسهولة لرغبة  عابد الحلبي وقبلت السفر إلى الفليبين، وهي تعلم أن هذا السفر هو سفر عقابي لإبعادها عن شبلي حبيبها، هذا الإنصياع من قبلها لم يكن مقنعًا من قبل فتاة جامعية راشدة وعلى قدر من الوعي والثقافة سيما وأن خيارات عدة كانت متاحة أمامها.

ملاحظة أخيرة نجد أنه في الصفحة 218 يعلمنا الراوي بوفاة جدّ  رُلى الذي كان سندا ومعينا لها تسترشد بحكمته وكان يتفهّمها جيدا علما أننا لم نلحظ أي مشاهد تجمعهما تؤكد ذلك، سيما وأن الجدّ كان مغيبا عن مشاهد الرواية منذ البداية.

هي ملاحظات أوردتها وطبعا لا تقلل من أهمية هذه الرواية التي لامست الواقع الاجتماعي في العديد من المفاصل، فمبارك للدكتورجورج هذا الإصدار وبالتوفيق الدائم.

***

بقلم: عفيف قاووق– لبنان

في المثقف اليوم