قراءات نقدية
باقر صاحب: "دار خولة" للكويتية بثينة العيسى.. جدل الهوية والصراع من أجل التمسك بالجذور

يمكن القول أن رواية "دار خولة" للكاتبة الكويتية بثينة العيسى، الصادرة عن منشورات تكوين ودار الرافدين، العام 2024 ، تسلّط الضوء على مجريات الحياة العائلية، في عصر منصّات التواصل الاجتماعي، مع تحديد البيئة المكانية الكبرى للأحداث في بلد، فيه تقاليد ديمقراطية، مثل الكويت، ومن ثمّ البيئة المكانية الصغرى، وهي " دار خولة". فبطلة الرواية خولة سليمان، أرملة في سن الخامسة والخمسين، وهي أستاذةٌ في الفولكلور، وزوجها الراحل قتيبة أستاذٌ في الأدب العربي. ومحبٌّ كبيرٌ للشعر، وهو الذي سمّى مكان الحدث بـ " دار خولة"، تيمّناً بالإرث الشعري الكلاسيكي، الذي يتردّد فيه هذا الاسم، اقتباساً من صدر بيتٍ لعنترة بن شداد" عمّي صباحاً دار خولة واسلمي". زوجها الذي كان يلومها على خطوة تعلّم الأبناء في مدرسة أميركية، وكان يناكفها بشأن" الفتى العربي.. غريب الوجه واللسان"، تخلّى عن مسؤولية تربية أبنائه، وجعلها حصراً بها، في حين أنّ غالبية الرجال يضطلعون بهذه المسؤولية.
عشاء عائلي
تخوض الرواية، في علاقة خولة مع أبنائها الثلاثة: ناصر ويوسف وحمد، حيث تدعوهم لعشاءٍ عائلي، لإعادة أواصر الأمومة والبنوّة مع الثلاثة، إذ أنّ تلك الأواصر متقطّعةٌ بشكلٍ كبير، مع الأبن الأكبر ناصر، فقد قضى الجزء الأكبر من طفولته في بيت جدّته، أمّ أبيه، حيث الدلال الكبير للجدّات، وتمتّعه باستقلاله في الدور الثاني من بيت الجدّة، أمّا يوسف المتزوّج، وأبٌ لتوأم، وحمد أصغرهم، فيفضّلان أن ترسل صينية الطعام إلى غرفتيهما. فكانت تشعر بغصّةٍ كبيرة، وهي تأكل وحيدةً كلّ يوم. كانت الدعوة للعشاء مُبرّرةً بحجّة المناقشة بشأن برنامجٍ تلفزيوني، دُعيت للمشاركة فيه لإضاءة الجانب الإنساني في حياتها وعلاقتها مع أبنائها. فلها شأنٌ مع النجوميّة، عبر ظهورها المستمرّ لأكثر من عقد، ومشاركتها في الندوات والمؤتمرات، إلى أن حدثت الطّامّة الكبرى، بنظر أبنائها خاصّةً ناصر ويوسف، إذ أدلت بآرائها بشأن أوضاع الشباب، وهاجمت انزياحهم إلى الثقافة الغربية، وحدوث ما سمّته" الانمساخ الجمعي" للشباب، أي افتقادهم لهويّتهم العربيّة، عزّزت ذلك بمصطلحاتٍ حداثيّة، كانت موضع تندّر الشباب على منصّات التواصل، وهذا ما سبّب الشّعور بالخجل عند أبنائها، لذا كانت دعوة العشاء بشأن مناقشة مشاركتها الجديدة في برنامجٍ تلفزيوني، فرصةً كبيرةً للهجوم عليها من قبل ابنيها ناصر ويوسف، لأنّ الثالث حمد لم يحضر، مع اتّصالاتها المتكرّرة له بالحضور. حيث حوكمت من قبل ابنها ناصر على تخلّيها عنه، وتركه في بيت جدّته، واتّهامها بأنّها لا تحبّه. هنا إنكار لأمومتها، والذهاب بعيداً في المشاركة في البرامج الحوارية.
دور الأم وشرط المرأة
هنا نلتقط ثيمةً مهمّةً للرواية، ألا وهي البحث عن الذات، البحث الذي ينبثق عنه جدل الهوية والصراع من أجل التمسك بالجذور، وإثارة الأسئلة؛ فهل تقتصر ذات المرأة على الأمومة، أم يحقّ لها أن تكون ناشطةً في كلّ المجالات، ومنها الإعلام، إذ يمنح تكريس الظهور على الملأ عبر الميديا الحديثة نجوميّةً ومراقبةً من العامّة لكلِّ ما يتلفّظ به الناشط الإعلامي، سواءً أكان رجلاً أو امرأة. خولة كانت لها اليد الطّولى في البحث بشأن القضايا الاجتماعية كافّة، عبر الميديا.
إزاء خوضها غمار العقد الستّيني من عمرها، تعلن أنّ " التّصابي والتّأمرك أمران متلازمان"، أي أنّ لديها الاستعداد للظهور التلفزيوني مُجدّداً بدون أيّ رتوش، ومهاجمة ثقافة الـتأمرك لدى الشباب عامة.
الشيخوخة والوحدة
الزمن الروائي، بسرد الراوي العليم، ولم يستغرق سوى ساعات وجبة عشاء، له خلفيّةٌ زمنيّةٌ واقعية، هي على امتداد عمر بطلة الرواية، الذي يصل شوطه، إلى أنّها ستحظى أخيراً بعشاءٍ عائليٍّ تشبّهه مثل" أسرةٍ سعيدةٍ في فيلمٍ هوليوودي عن عيد الشكر". وإزاء ذلك تستبق القارئ شعوره بتناقض هذا التشبيه مع كراهيتها لأميركا، تستبق ذلك بأنَّ كراهيّتها نابعةٌ من موقف، وليس عن تعصّب. في غمرة هذه السعادة المُفترضة، يتداركها الشّعور بأنّ" الشيخوخة والوحدة أمران متلازمان" فقد أصبحت تستجدي حضور ابنائها الثلاثة على مائدةٍ واحدة.
كانت خولة قد اعتذرت مُسبقاً عن البرنامج، لكنّها أرادت لمّ الشّمل، والظّهور بمظهر الأمّ أولاً، وإعادة فرض هيبتها في الدار، وإعادة ناصر إلى حضيرته الطبيعية. وهنا حصل ما لم تتوقعه، إذ بدا ناصر مؤازراً لها في حال سمحت له بالظهور، في البرنامج المفترض، على عكس يوسف، الذي يريد أن يكون المطبخ ميدانها الرئيس. جرت بين خولة وابنيها مناكفاتٍ حول جدوى الظهور التلفزيوني من جديد، إذا كان الظهور السابق جعلها ترند السّخرية على مواقع التواصل، طبعاً هنا السخرية من نقدها لتأمرك الأجيال الجديدة، ومن المنطقي أن تتلفظ بمصطلحات مثل تغريب وامبريالية وحداثة، وأسماء مفكرين مثل فوكو وإدوارد سعيد والجابري، ورفضها مغالاتهم في إلصاق مصطلحاتٍ وأسماء فلاسفة لم تذكرهم حقّاً. إزاء عشاء السخرية هذا، أحسّت خولة كما لو أنّها أصبحت أضحوكة أبنائها، ومن خلفهم مسرح التواصل الاجتماعي. أحسّت بالفشل بأنّها لم تكن أمّاً، ولا امرأةً مثقفة كأستاذة الفولكلور وناشطةً إعلامية. فناصر المتعلّم في مدرسة أميركية، فاشلٌ جدّاً في ثقافته العربية، وهذا منبع خصومة خولة مع أميركا، حيث في البدء، الانبهار الكبير بالأميركان، ما بعد شباط 1991 ، حيث تخيّلت خولة " أبناءً فارقين: يقرؤون الصخب والعنف لفوكنر وأوراق العشب لوايتمان، يعشقون إدغار ألان بو، ويعزفون الجيتار ويحفظون أغنيات بوب ديلان، ويتحدّثون عن الديمقراطية وحقوق الإنسان وقضايا البيئة"، أصيبت بالإحباط إزاء حلمها المثالي، إذ لم يخطر ببالها أنّها لن تستعيد ابنها ناصر من أميركا قط، فكانت النتيجة أنّه فاشلٌ دراسيّاً، يعمل كمنشئ محتوى، وموظّفٍ في شركةٍ استثماريّة.
الدار الخاوية
وكانت نهاية العشاء العائلي في أنّ خولة باتت مُحبطةً من اشتباك ابنيها على خلفيّة حطّ كلٍّ منهما من شأن الآخر. اشتباكٌ بالأيدي أدّى إلى تحطيم محتوياتٍ في الدار، فأيقظ لدى خولة الشعور بأنّ الدار مُفرغةٌ من معناها مادّياً وروحياً. قبلها كانت هزيمتها في المحيط الخارجي" عندما تحول لقاء الساعة إلى مقاطع فيديو لا تزيد على ثوان، وثار الناس على تويتر، أحسّت بأنّها تُسحل في شوارع افتراضية، بأيادٍ افتراضية، تتلقّى صفعاتٍ افتراضية". لقد نسيت كلّ ذلك، وقتها لكنّها لم تنس صمت أبنائها الناشطين على مواقع التواصل، ما عدا حمد، فقد كان في العاشرة من عمره سلواه ألعاب الفيديو. هذا الذي كبر، وصار يقضي أوقات فراغه في لعب" البادل" و" الفيفا الافتراضية". قدم حمد في نهاية العشاء العائلي، وما تمخّض عنه.. المزيد من الفرقة بين خولة وأبنائها. فوجد حطام المحتويات، وخولة النائمة، وقد ابتلعت حبوب" الزاناكس"، وكانت قد تركت له وجبة طعامه في "المسخّن". جلب معه سمكة زينةٍ حمراء، غمرها في الحوض الزجاجي، وبعد لأيٍ من الزمن، تَباغت بأنّها ميّتة.
كم هي دلالةٌ كبيرةٌ في أن يغرق السمك في مائه، إذ يبدو أنّه المعادل الموضوعي، لفشل خولة في محيطها العائلي، كما هو محيطها الخارجي، حيث أحبطت بأن تكون ناشطةً إعلاميةً متصديّةً لتمسّك الأجيال الجديدة بقشور الحداثة الغربية وليس بجوهرها.
هي رواية امرأةٍ سعت إلى أن تكون ناجحةً في دورها كأم، وشرطها كامرأة، كإنسانةٍ لها تأثيرها الإيجابي في الآخر، لجهة نقد سلبيات الحداثة، وما جرّته في خلق شبابٍ كسولٍ ووقحٍ ومتذاكٍ.
هي روايةٌ تمسك بتلابيب القارئ، ليكملها في بضع ساعات، كأنّها وجبةٌ روائيّةٌ ساخنة. روايةٌ عن المرأة العربية عامّةً، والخليجية والكويتية خاصّة في سعيها إلى تكريس هويتها كأمٍّ ناجحة، وامرأةٍ مؤثّرة ثقافيّاً وإعلاميّاً في عالم الميديا الحديثة ومنصّات التواصل الاجتماعي.
***
باقر صاحب - كاتب عراقي