قراءات نقدية

محمد جواد فارس: القصة والرواية في الأدب الروسي والسوفيتي

ان الاطلاع على العلوم والثقافة يجب أن تكون ليس ملكا لصاحب التجربة في الممارسة، وإنما يجب طرحها للاخرين للاستفادة منها، واريد في مقالتي هذه ان اتحدث عن تجربتي وانا كنت طالبا في معهد للطب البشري في مدينة كرسنودار التابعة لجمهورية روسيا الاتحادية، في سبعنيات القرن الماضي، وبنصيحة من استاذي في تاريخ الحزب الشيوعي في الإتحاد السوفيتي، وهو يعرفني اني مبعوث الحزب الشيوعي العراقي وكنت مسؤول عن المنظمة الحزبية في كراسنودار، أضافة إلى نشاطي النقابي، في اتحاد الطلاب العرب كنت نائب للزميل محمد ابو مندور مصري الجنسية وهو دكتور في الاقتصاد الزراعي خريج معهد كوبان الزراعي ودرس في جامعة عدن عاصمة جمهورية اليمن الديمقراطي لفترة، ويعرف الرفاق السوفيت نشاطاتنا في المجال الحزبي وكذلك الطلابي، سجلت في المدرسة الحزبية لاعداد الكوادر التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفيتي انذاك، بناء على نصيحه استاذي، وكانت المواضيع التي تدرس فيها: هي الفلسفة والاقتصاد السياسي والاشتراكية العلمية وكذلك تاريخ الحركة العمالية والشيوعية العالمية، كان استاذنا في تاريخ الحركة الشيوعية والعمالية العالمية يزودنا بمعلومات مهمة أهميتها تكمن في أن نقرأ روايات في الأدب الروسي والسوفيتي،" مثل الحرب والسلم لتولستوي والجريمة والعقاب لدستويفسكي ورواية الفقراء لدستويفسكي وانطوان تشيخوف الروائي والطبيب ويعرج كيف أن انطوان تشيخوف وهو من أبرز كتاب القصة القصيرة كتب عدد من القصص في رواياته كان يمازج ما تعلمه في دراسته للطب في جامعة موسكو من علوم الأحياء والفيزياء والكمياء والرياضيات أضافة للعلوم الاخرى في التشريح والفسلجة، وله قول مشهور لتشيخوف (أن الطب هو زوجتي والأدب هو عشيقتي) مستفيدا بماكتبه في قصصه ومنها الفلاحين ورسائل إلى العائلة والشقيقات الثلاث وغيرها وقد كتب تشيخوف للمسرح الروسي، وفي إحدى قصصه يقول (اذاخرج المريض من غرفة الطبيب وهو مبتسم، فهذا يعني أن الطبيب ناجح). وهنا تكمن عبقريته في القول أن المسألة هي نفسية لدى المريض. وفي إحدى قصصه القصيرة والتي كتبها عام 1953 في العهد السوفيتي وعنوانها (العروس) ينتقد فيها المجتمع السوفيتي، حيث تدور القصة حول شابة جميلة أسمها نادية تعيش مع جدتها في منزل للاثرياء، نادية تستعد للزواج من خطيبها اندريه بزواج تقليدي، ونادية كانت تعاني من شعور في الغربة، وترى في شخصية ساشا ابن عمها، الذي هو مثال للمجتمع الجامد وله رؤية نقدية للحياة، وقصة (العروس) لتشيخوف حولت إلى أعمال مسرحية وسينمائية، وقد شارك في إخراجها كتاب مخرجين مع اهتمام ناتج عن موضوعها الإنساني، لأنها تحمل في طياتها مفهوم واضح عن معنى الحرية وتحدي الأعراف الاجتماعية التي كانت سائدة انذاك.

وأريد أن انقل نص ماكتبه الكاتب الكبير صاحب قصة (الام) في تقيمه لرفيقه انطوان تشيخوف: (أن لغة وأسلوب تشيخوف قمة من المستحيل الوصول اليها) واذا تكلم المرء عن تاريخ اللغة الروسية لابد له أن فضل خلق هذه اللغة يرجع إلى بوشكين وتورجينف وتشيخوف.

وما هو موقف انطوان تشيخوف من غوركي اذكر مايلي: عندما اختير انطوان تتشيخوف في عام 1900 عضوا بالاكاديمية الروسية، لكنه بعد مرور عامين اي 1902 رفض العضوية أحتجاجا على عدم موافقة القيصر نيكولاي الثاني على قرار علماء وأدباء روسيا بأختيار مكسيم غوركي عضوا بالاكاديمية، لمعرفته في شخصية وادب مكسيم غوركي ومدى العلاقة الطيبة بينهما،

لقد عمق انطوان تشيخوف الاتجاه الواقعي في الأدب الروسي، وحتى من خلال أبطاله في قصصه ومسرحياته وهم من المجتمع الروسي أناس بسطاء، وكان يدرك في أن كل واحد منهم موضوع كامل في سرده للقصة القصيرة وكان في قصصه ومسرحياته تحمل التحليل النفسي من خلال دراسته للطب البشري.

 أما الكاتب مكسيم غوركي والذي عاصر لينين بعد ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى فقد اشتهر في أهم واجمل رواية كتبها هي (الام) وفي هذه الرواية والتي اخذت شهرة واسعة في اوساط المثقفين الثورين والشيوعيين، وهي مترجمة إلى العربية ولغات عالمية أخرى، يتحدث فيها غوركي عن ام كادحة كانت تجلس أمام مصنع عمالي كان يعمل فيه ابنها تبيع (الشوربة) للعمال وكانت لها علاقة بالحزب الاشتراكي الديمقراطي حيث يمدها بالمناشير فكانت عندما تسكب الشوربة بالصحن بناء على طلب العامل تتطلع بوجه وتضع المنشور تحت طاسة الشوربة، وكانت حذرة من جواسيس النظام القيصري المتابع لنشاط الحركات الثورية. كان الشوربة ذات طعم لذيذ ولرخصها بالنسبة للعمال فعليها إقبال كبير منهم. ومن هنا نجد أن هذا العمل السري ودوره في الثقافة الحزبية وابتكاره في نشر الثقافة بين اواسط العمال وتوسيع القاعدة الحزبية ومن ثم الثورة على الحكم القيصري. وهذه الرواية نشرها غوركي عام 1906 وانتشرت الرواية وأصبحت كحافز للبلاشفة في الاعداد لثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، وبعد الثورة ظهر روائين كتبوا عن منجزات ثورة أكتوبر الاشتراكية كما هو كتاب الأرض البكر حرثناها ل ميخائيل شولوخوف والتي تدور احداثها في قرية اوكرانية صغيرة وتتحدث عن حياة الفلاحين والعمل الجماعي (الكلخوزات) وشلوخوف هو مؤلف ثلاثة عشر رواية ومنها الرواية المعروفه الدون الهادئ ويروي فيها بطولة الجيش الأحمر السوفيتي في الحرب الوطنية العظمى (الحرب العالمية الثانية) وآخر ما كتبه وأنهى حياته في الكتابة به هي رواية (مصير انسان) ومن الروايات السوفيتية كذلك والفولاذ سقيناه لاستروفسكي وهذه القصص والروايات تجسد الحياة في ظل النظام الاشتراكي القائم انذاك وإنجازاته في التطور العلمي والاقتصادي وحياة المجتمع السوفيتي انذاك.

و من خلال قراءتي لرواية الفقراء لدوستويفسكي وهذه الرواية تتضمن رسائل بين أشخاص الرواية يتبادلوها بينهم وهو أسلوب ابدع فيه دستويفسكي، وأعجبني النص التالي: عزيزتي الغالية جدا، ماكار أليكسيفيش!

لو انك على الأقل، لم تيأس ! يكفي أن الأمر فيه من الحزن ما يكفي. ابعث إليك بثلاثين كوبيكا فضية! وذلك كل ما في وسعي أن ابعث إليك، أشتر ما انت بحاجة ماسة اليه، ما يسد رمقك بكيفية من الكيفيات؛ فنحن بالذات لم يتبق لنا تقريبا أي شيء، ولست ادري ما الذي نفعله غدا، ان الأمر لمحزن، يا مكار الكسيفتش! فلا تزد من عذاب نفسك، فقد حاولت ولم تفلح. فما العمل أذن ؟ تقول فيدورا أن الأمر لن يصبح بعد كارثة، اننا نستطيع البقاء هنا موقتا، وبأننا حتى إن انتقلنا من هذا المحل، فلن نفلح البتة في محو آثرنا، إذ يستطيع هؤلاء - أن هم أرادوا - أن يعثروا علينا، ولسوف يعرفون جيدا كيف وأين سيجدوننا، في اي محل استقررنا فيه، أجل، ذلك صحيح، الا اني مع ذلك لم أعد في نفسي، أي جاذبية تجرني حول هذه الشقة، للبقاء هنا، ولو لم يكن الأمر شديد الحزن لكتبت لك شيا ما. يا لغرابة طبعك، يامكار الكسيفيج ! انت تأخذ الأمور مأخذا مشرفا في الحزن، كما انك ستبقى أيضا، أنسانا شديد الحزن على الدوام.انني أقرأ بتركيز شديد كافة رسائلك، فأجد انك تعذب نفسك من أجلي، وأرى في كل واحدة من تلك الرسائل، بأنك تهتم لأجلي بدرجة لا تهتم فيها انت بالذات لنفسك، لن تكون هناك من دون شك، سوى طريقة واحدة ليقول الناس بأن لك قلبا طيبا ؟ لكني انا سأقول بأنك تفرط ياصاحبي في طيبة القلب تلك.أنا أنصحك يا مكار الكسيفتش، نصيحة الصديقة لصديقها، كما اني ممتنة لك كثيرا، لجميع ما قمت من أجلي، وإني لأحس جيدا بكل ما أقوله، فحكم هكذا بنفسك، على صدق أحاسيسي ومشاعري، اذا مازلت أرى إلى الآن، بعد كافة الأحزان والمآسي، التي تسببت لك فيها بشكل غير إرادي، بأنك لا تحيى الا بحياتي: بأفراحي واحزاني، يا سلوة قلبي ! أن العناية الشديدة بالاخر، وتجسم مثل هذه المتاعب هي بعيدة عن الذات، ليعد بحق وحقيقة ذريعة، ليجعل المرء نفسه شقيا وتعيسا للغاية، فين جئت عندي اليوم بعد عودتك من المكتب، فزعت لرؤيتك. كنت شاحب الوجه بدرجة كبيرة وفي غاية الروعة واليأس والاحباط ! كان وجهك بلا معالم معروفة - وكل هذا لأنك خشيت من أن تحكي لي حكاية فشلك، لأنك خفتي من أن تتسبب لي في عذاب وإرهاق نفسيين، لكنك لما رأيت بأن ملامح وجهي تنم بالأحرى عن الفرح، أستعدت هدوءك كله، يا مكار أليكسيفيش ؟ لا تتأسف، ولاتيأس، وإنما كن عاقلا، فإني أرجوك واتوسل إليك. هيا، سنرى بأن كل شيئ سيسير على ما يرام، وبأن الأمور ستدبر بكيفية حسنة لصالحنا، لكن وجودك سيصبح، في حالة ما إذا ظلت حياتك دوما مجرد مسار أليم ومفعم بأحزان الآخرين، مجرد ثقل ثقيل، ستظل تئن تحت وطأته. الوداع يا صديقي، وأرجوك ألا ثشغل بالك كثيرا من أجلي!

 ف. د

هكذا هم الكتاب الروس والسوفيت في كتابتهما الكلمات الجميلة في السردية والتعبير الوصفي قي رسم صورة لشخصية ما في الرواية.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

في المثقف اليوم