قراءات نقدية

صالح الطائي: أثر الديكولونيالية في أعمال شوقي كريم حسن الشعبوية

ليس شابا في شرخ الشباب ولا كهلا في منتصف العمر، بل هو شيخ خبر الحياة وخبرته، فتماهى معها وتماهت معه، كما هو تماهي سرب الطيور المهاجرة في تحليقها في فضاء لا حدود له. نهل بكل أبعاد الظمأ الأنطولوجي من معارفها حتى ارتوى، ومن همومها حتى أحاطت اللوعة كيانه، ومن واقعها حتى تخيل البحر سرابا. ذلك هو الأديب العراقي السومري الكبير شوقي كريم حسن، الذي عاصر مراحل كولونيالية داخلية وخارجية متعددة، من مرحلة الحكم الطائفي إلى مرحلة الحكم المطلق، وهما تمثلان استعمارا داخليا (محليا) غير عابر للقارات، إلى مرحلة الكولونيالية الأمريكية التي أنجبت الكولونيالية الديمقراطية المحلية الزائفة، وهي بمجموعها محطات شرسة لها ثقافتها التي تدل أنها لا تُسعَد ولا تفرح برؤية عالَم قائم على التفاعل والتعايش الثقافي، لأنها تؤمن بمسار فكري مؤدلج يسعى لترسيخ دكتاتورية الكلمة، ولا يسعى إلى فهم باقي الثقافات أو التفاعل الإيجابي معها، لأنه أصلا لا يرغب بتحقيق عدالة مجتمعية أو مساواة إنسانية تُحترم فيها إنسانية الإنسان.
تركت إرهاصات هذا الواقع المضطرب المشحون بالتناقض الأخلاقي بصْمَتها بضجيجها وصمتها على جيلين كاملين من أجيال الشعب العراقي، ولونتهم بمشتهاها، وغيرت أنماط تعاملهما مع الواقع، فانحرف مع مسارات ريحها عدد كبير، اظهرها تفاعلهم وكأنها حققت أبهر نجاح في التاريخ، لكنها في الواقع كانت واهمة جدا فهي لم تنجح في قلع الموروث الجيني من أعماق نفوس العراقيين المدكوكة في محليتها، ذاك الموروث الذي استمده ابن سومر عبر تاريخه من نسغ جهاد غائر في القِدم، تكاد لا ترى قعره مهما جهدت نفسك، وسامٍ في الاتقاء تكاد لا تعرف أين سيستقر، بعدٌ ليس ككل الأبعاد النمطية التي يألفها الإنسان، لأنه بعد بؤري لا يمثل المسافة المرئية بين مستشعر الروح ونقطة اندماج أشعة الضوء الساطع الذي يتصل بتكوين الصورة فحسب، بل ويمثل مسافة الحياة نفسها بكل صورها الأثيرية التي تتلفع بثياب ملائكية شفافة تكاد لا تُرى، ولا يشعر بوجودها إلا الأديب الخارق؛ الذي يحمل بين جوانحه روحا بوهيمية تميل إلى اتباع سلوكيات انتاجٍ وفق نمط حياتي غير مألوف، سلوك انتاجي مغرق بالغرابة، يراه بعضهم مجرد ابتذال سوقي لا قيمة له، ويراه غيرهم أرقى مرحلة من مراحل الوعي الفكري التي تجرد الإنسان من تفاهات ما يحيط به ليؤسس وفق منهج التفاهة لخلق حياة أخرى، أعلى قيمة من غيرها، يقدمها بنهم بدوي للضيوف عسى أن يستمتعوا بلحظاتها المارقة، وهي التي تشعره أنه مسؤول عن كل لحظة من لحظاتها التي تمرق كالسهم فيستعصي على الغافلين الإمساك ولو بطرف أذيالها.
في تجربته الثرة ذات الوجوه المتنوعة المعبرة والقاسية والمتجهمة والفرحة والسعيدة والحزينة والمتأملة والقانعة والمتحركة والساكنة والسامقة والتافهة والسامية والمنحطة ذات البعد الشعبوي المغرق بالمحلية، أسس شوقي كريم حسن لمنهج سردي فلسفي له مبرراته التي ترسم لوحة لتطلعاته الأفقية، تلك التطلعات التي تمتد مع امتداد أفق الحياة نفسها، لم يداري ولم يخاتل ولم يموه ولم يجامل ولم يخف أو يرتعب من أحدٍ، وإنما دخل إلى عمق ميدان الحدث مباشرة بصدر عارٍ وقلم وممحاة وكثير من الصبر والشجاعة دون أي سلاح آخر في تظاهرة قد تبدو لبعضهم وكأنها "دون كيخوتية"، ليواجه الأسود المفترسة التي أطلها الجهلة في حلبة صراعه لتفترسه، تلك الأسود التي كانوا يأملون أنها ستعرقل وتعيق مسيرته.
وفق رؤية وبؤرة هذا البعد الفلسفي صدرت لشوقي مجموعة عنوانات ناتئة بارزة مستفزة وقد تكون وقحة ومشاكسة غير مألوفة، امتدت من قنزه ونزه، إلى شروكية، إلى خوشية، إلى هباشون، إلى هتلية، إلى ثغيب، وصولا إلى سيبندية.! وهي محاولات منكشفة الوجه تبدو معربدة تمردت على سياقات واقع يعيش خمولا حد العجز، وهو البعد الفلسفي في ثقافة شوقي، بعدٌ رسم مساراته الإيحائية بريشة فناني عصر النهضة، ليضعها في متحف الحياة.
وأنا واقعا أرى أن الفلسفة تقف أحيانا عاجزة عن التماهي مع تطلعاتٍ منكشفة الوجه لا تهتم بسياقات السرد المتداول، سياقات تنعطف بشكل مفاجئ خارج سياقات الواقع في كل حركة منها، فتبدو نافرة في وجه عالم مسطح اعتاد على نمط تماهي الكل مع الكل دون احراج، سياقات مراهنة على تحرير الخطاب الأدبي والفكري الجمالي من وهم الكونية السوقية التي تتلفع بعباءة الحداثة وما تطرحه من القيم المعرفية والأنطولوجية التي تنماز بالتأويلية المحضة بعيدا عن الواقع وإكراهاته الهشة، وهي محاولة جريئة تنطوي على تحدٍ مصيري يراه بعضهم تهديدا لصرح المجد العالي الذي بناه شوقي بتضحيات لا تقدر بثمن عبر تاريخه الأدبي الطويل، ويراه آخرون تجربة تجديدة تسعى لإخراج النص من نمطية السائد الموروث، وكأنها تأثرت بالثقافة الديكولونيالية.
يذكر أنه رغم الجانب السيء في الديكولونيالية كفكر هوياتي عابر للقارات، يعمل على خلق أنموذج جديد للكونية الإنسانية وفق صياغات متعددة الهويات، تنزع عن الهوية المحلية وجهها الداخلي الجمالي المرتبط بنشأة وتاريخ وموروث خاص، والانتقال بها إلى بعد عالمي واسع، تجد هناك من يؤمن بأن جمالياتها تمثل منعطفا تجديديا فلسفيا يسعى وراء تفكيك فلسفة الأدب والفن المعاصرين لتنقيتهما من المحلية والانطلاق بهما نحو العالمية، وأنها لم تأت لتصادر (المحلي) وإنما جاءت كمحاولة جريئة لبناء عالم (عالمي) متنوع الجمال الثقافي، وأكثر شمولية من البعد المحلي الضيق.
ولأن الديكولونيالية تدعو إلى الانفتاح على أنماط هوياتية مغايرة، فهي تخلق كينونات إبداعية مغايرة تختلف كثيرا عن غيرها، وتملك فضاءً جماليا له قدرة القضاء التام على الاختلافات الهوياتية من أجل تنسيق الرؤى العولمية باتجاهات عابرة للحداثات وللجغرافيات والموروث والتاريخ، ومحددة بعيدا عن شخصانية الهوية المحلية، لهذه الأسباب يرى آخرون أن مجرد الوقوف بوجهها، وهو ما يمكن وصفه بالعصيان المدني الجمالي، يمثل محاولة جريئة لاستعادة الإنسان المحلي إنسانيته المصادرة، لأنه ليس بحاجة إلى اختراع نمط إنساني عالمي جديد ومبتكر وفيه الكثير من الغرابة عن الواقع المحلي، يعيق ممارسته التاريخية بكل موروثها العميق.
والذي أراه أن التنوع الثقافي الأدبي والفني العالمي بمجمله كان محصلة حتمية لأثر الديكولونيالية على ثقافة وأدب الشعوب بشكل عام، والأدباء منهم بشكل خاص. ومع أن النظرية الديكولونيالية نشأت في أواخر القرن الماضي لتعنى بدراسة الأدب في بلدان رزحت تحت نير الاستعمار الغربي وسطوة الفكر الكولونيالي الذي مارس الفرنسة والأمركة وغيرها بالقسر والإكراه؛ وبوعي كامل لتحقيق مكاسب على حساب الثقافة الجمعية المحلية العامة، إلا أن ذاك لا يعني أن الجميع خضعوا لسطوتها، وإن كان الأغلبية قد انساقوا خلف هذا الوهم المؤدلج وتأثروا به.
ويبدو من معطيات الواقع أن الديكولونيالية رغم أهميتها لم يكن لها كثير الأثر الذي حقق نجاحا في تحديد مسارات شوقي كريم الإبداعية لينتج كل تلك الروايات والقصص، لأني على يقين أن أفق شوقي أوسع من أن تحتويه تلك الثقافة. وأن ما جاء به شوقي في كتاباته الأخيرة ولاسيما منها تلك التي أنجزها منذ سيطرة المحتل الأمريكي على العراق ولحد الآن كان سعيا كبيرا منه لتحرير الحواس المعتقلة وإطلاقها في دنيا تفاعلية مثمرة، وهو في استخدامه المفرط للتسميات الشعبوية المحلية إنما حاول خلق نوع من التواصل الروحي مع المتلقي، وهذا ما تراه واضحا في فلسفات النص الذي يكتبه وفي حوارياته وباقي نتاجه الأدبي. ويعني هذا بكل تأكيد أن شوقي كريم حسن نجح في اختراع مقاييس جمالية بعيدا عن التوجه الديوكولونيالي، ولكنها لا تتعارض معه.
***
الدكتور صالح الطائي/ العراق ـ واسط

في المثقف اليوم