قراءات نقدية
بهيج حسن: قراءة لقصيدة "نحيبٌ صامت" للشاعر العراقي الأستاذ يحيى السماوي

لمناسبة اليوم العالمي للشعر
" الى روح الطيبة أمي في عيدها الذي لم تعشه"
***
أمـي الـتـي تـعـبـتْ مـن انـتـظـاري
وأنا يُتنقَّلُ بي مثلَ خروفٍ
بين مسالخ شُعَبِ التحقيقات في دهاليز الأمن
وأقبية التعذيب السرية ..
أو أتـنـقّـلُ كـالـنـسـنـاس
بـيـن مـعـسـكـرات الـلـجـوء والـمـنـافـي
فـغـفـتْ إغـفـاءتـهـا الأخـيـرة
قبل أن أقول لـهـا:
تـصـبـحـيـن عـلـى جـنـة ...
كـيـف لـي أن أقـبّـل يـدهـا الـمـطـرّزة بـالشـذر؟
**
بـيـن فـمـي وبـيـن يـدهـا
لـحـافٌ سـمـيـكٌ مـن الـتـراب ...
وأنـا لا أريـد أن أوقـظـهـا مـن الـنـوم ...
لـذا : ســأقـبّـل يـدَ كـلِّ أمٍّ فـي الـدنـيـا
تـكـريـمـا لأمـي الـتـي أشــقـيـتـهـا كـثـيـراً
مـنذ أول صـفـعـة شرطيّ أمـنٍ
لـسـعتْ وجـهـي
حـتـى آخـر صـرخـةٍ أطـلـقـتـهـا احـتـجـاجـاً
ضـد الـمـجـاهـديـن الـزور
فـي وطـنـي الـمـعـروض لـلـبـيـع فـي
سـوق الـمـحـاصـصـة !
***
يحيى السماوي
.......................
- السياق والموضوع:
القصيدة رثاءٌ شخصيٌ مؤلمٌ لوفاة الأم، لكنها تتحول إلى رثاءٍ جمعي لوطنٍ مُهانٍ العراق عبر استعارة الأم كرمزٍ للأرض والأمومة الروحية. الشاعر يدمج بين الحسرة الفردية على فقدان الأم والمعاناة الوطنية تحت وطأة القمع والفساد السياسي، حيث يُصوِّر نفسه ضحيةً مزدوجة: لفقد الأم، ولانتهاكات النظام الأمني والصراعات الطائفية.
2- الصور الفنية والانزياحات:
أ- التشبيهات الصادمة:
'مثلَ خروفٍ بين مسالخ شُعَبِ التحقيقات': الخروف رمز التضحية البريئة، والمسالخ تُجسِّد وحشية السلطة.
'أتَنقَّلُ كالنسناس بين معسكرات اللجوء': النسناس القرد الصغير يشير إلى التهميش والتنقل القسري بلا كرامة.
ب- المفارقات:
الأم التي تعبت من انتظاره تموت قبل أن يهنئها بعيدها، في مفارقةٍ تُظهر فداحة الغياب القسري والحرمان من وداعٍ لائق.
لحافٌ سميكٌ من التراب بين فمه ويدها: التراب هنا حاجز الموت، لكنه أيضاً رمزٌ للقمع الذي فصلَهُ عن أمه/وطنه.
ج- الانزياح الزمني:
الجمع بين أول صفعة شرطيّ أمن و-آخر صرخة ضد المجاهدين الزور- يُلخّص مسيرة معاناة طويلة، من الاستبداد إلى الفساد الطائفي، وكأن الزمن تدحرج على جسد الأم-الوطن.
3- الرمزيات والدلالات:
أ-الأم:
ليست مجرد أمٍّ بيولوجية، بل هي التجسيد الأنقى للوطن الذي يُعذَّب ويُهجَّر أبناؤه. موتها يُعادل موت البراءة والسلام في العراق.
ب- اليد المطرّزة بالشذر -الجروح:
الشذر علامات التعذيب، لكنها تُحوَّل إلى إكليلٍ من الألم والفخر، كأن جروح الأم-الوطن شهاداتٌ على الصمود.
ج- قبلة يد كل أمٍّ في الدنيا:
فعلٌ تعويضيٌ عن ذنب الشاعر تجاه أمه، وتحويل الفقد إلى تضامنٍ إنسانيٍّ عالمي.
4- اللغة والإيقاع:
أ- لغةٌ مكثفةٌ وجارحة:
استخدام كلمات مثل مسالخ-، -أقبية التعذيب-، -الشذر-، -المجاهدين الزور يُعبِّر عن واقعٍ دمويٍّ بلا مواربة.
ب- الانزياح عن الإيقاع التقليدي:
القصيدة غير موزونة، كأنَّ انكسار الوزن يعكس انكسار الذات والوطن. التقطيع المتقطع للأسطر يُحاكي أنفاساً متعثرةً أو نحيباً مكبوتاً.
5- النقد السياسي والاجتماعي:
أ- سوق المحاصصة:
سخريةٌ لاذعة من النظام الطائفي الذي حوّل العراق إلى بضاعةٍ تُقسم بين الميليشيات والأحزاب.
ب- المجاهدين الزور:
هجومٌ على التناقض بين خطاب المقاومة المزيف وممارسات القمع والفساد.
ج- الشرطي والمحتج:
صراعٌ دائريٌّ بين السلطة والمواطن، حيث يُولد العنفُ مزيداً من العنف.
6- الخاتمة:
القصيدة ليست مجرد بكاءٍ على أمٍّ، بل هي مرثيةٌ لجيلٍ عراقيٍّ ضاع بين سجون الدكتاتورية وفوضى الاحتلال والطائفية. السماوي يكتب بقلمٍ يقطرُ ألماً وغضباً، لكنه يرفضُ الاستسلام، فقبلةُ يد كل أمٍّ تُصبح مقاومةً بالحبّ ضدّ ثقافة الموت.
***
بقلم: بهيج حسن مسعود