قراءات نقدية
طارق يسن الطاهر: تأثير العقل على شخصية مصطفى سعيد

"بطل رواية موسم الهجرة إلى الشمال للطيب صالح"
موسم الهجرة إلى الشمال للكاتب السوداني العالمي الطيب صالح، رواية لا تنقضي عجائبها، تأتيها من مكان تجد فيها العجب، تتناولها من كل زاوية تلقى فيها الثراء، تكرر قراءتها فتجد فيها شيئا جديدا مع كل قراءة.
هذه الرواية جاءت ضمن تيار روايات الصراع الحضاري التي تناقش العلاقة بين الشرق والغرب، بين الحضارة العربية والحضارة الغربية، وممن تناول تلك القضية رواية "أديب" لطه حسين، "وعصفور من الشرق" لتوفيق الحكيم و"الحي اللاتيني" لسهيل إدريس، وغيرها.
أجرى الكُتَّابُ جميعُهم - في هذه الروايات - صراعًا بين العاطفة والعقل، وقد غلبت العاطفة على الشخصية العربية، لكن الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال جعل العقل مسيطرا على البطل، ومحركا لأحداث الرواية، بل نستطيع القول إن العقل كان بطلا من أبطال الرواية.
وهذا أسلوب انتهجه الكاتب مخالفا لما جاء في روايته "عرس الزين" حيث جعل الحب هو محور الرواية، وكان بطلها " الزين رسولا للحب ينقل عطره من مكان لمكان" عرس الزين ص23
شخصية مصطفى سعيد كما رسمها الكاتب تخلو من العاطفة تماما، فلا مكان للعاطفة في حياته.
منذ طفولته فقدَ والده، ولم يتأثر، وربَّته أمه بشخصيتها الخالية من الحنان المعهود لدى الأمهات.
وعندما قرر السفر قرر وحده، دون مشورتها، فلم تحزن لفراقه، ولم تغضب لانفراده بالرأي، بل قالت له:" افعل ما شئت، سافر أو ابق، أنت وشأنك، إنها حياتك، وأنت حر فيها" ص27
يشير مصطفى سعيد إلى عقله كثيرا في هذه الرواية، وورد ذلك صراحة وضمنا في حوالي أربعة عشر موضعا من الرواية، فتارة يقول عن عقله إنه مدية " كان عقلي كأنه مدية حادة " ص33
المُدية هي السكين، وهي في لغات بعض العرب، ولا توجد لدى بعضهم، وقد وردت عن أبي هريرة تعقيبا على حديث سليمان عليه السلام، واختلاف المرأتين في أمومة طفل: "قال أبو هريرة: واللَّهِ إنْ سمعت بالسكين إلَّا يومئذ، وما كنَّا نقول إلّا المُدْيَة".
قلت تارة يسميه مدية، وتارة يقول آلة، و" آلة صماء" ص32 وتارات يقول عقل، فكان كما قال في وصيته للراوي: " إنني أعرف بعقلي ما يجب فعله " ص 70
لا عجب فإن الحصيف يدرك قدراته، ويوظِّفها، فكذلك كان مصطفى سعيد، وهو يقول: " كان سلاحي هذه المدية الحادة في جمجمتي " ويردف: " وفي صدري إحساس بارد " ص30 كناية عن غلبة العقل على شخصيته، وخلوه من القلب والعاطفة، فيوظف عقله الذي "يقطع في برود وفعالية"ص26
ويجد الكاتب لبطله مبررا، حينما يقول على لسان أحد المحامين في المحاكمة المشهورة: "مصطفى سعيد يا حضرات المحلفين رجل نبيل استوعب عقله حضارة الغرب، ولكنها حطمت قلبه" ص36، و " ومضى يرسم صورة لعقل عبقري دفعته الظروف إلى القتل" ص36.
ولكن الحقية إن هذا البطل منذ نشأ، فقد نشأ بعقل دون قلب.
هكذا كانت تعاتبه مسز روبنسن - وهي التي استقبلته في القاهرة وأكرمته، وتابعت دراسته فيها، ووقفت مودِّعة، تبكي، حين سفره بالباخرة إلى لندن، وواسته في المحاكمة، وتابعت أعماله وكيلةً له في لندن، وأغدقت عليه من العاطفة والحنان الكثير- "ألا تستطيع أن تنسى عقلك أبدا ؟!" ص32
وكتبت في رسالتها للراوي: " كان لموزي عقل عبقري، لكنه كان متهورا، كان غير قادر على تقبل السعادة أو إعطائها" ص149 هنا جملة محورية لخَّصت صراع العقل والقلب في شخصية مصطفى سعيد.
كذلك - بسبب عقله المتحكم في عاطفته - كانت علاقته بالأماكن، فلا ينتمي لمكان، فكل البلاد لديه جبالٌ تتفاوت أحجامها:
"ففكرت قليلا في البلد الذي خلفته ورائي فكان مثل جبل ضربت خيمتي عنده، وفي الصباح قلعت الأوتاد وأسرجت بعيري، وواصلت رحلتي، وفكرت في القاهرة – ونحن في وادي حلفا-فتخيلها عقلي جبلا آخر..." ص 28، "كان كل همي أن أصل إلى لندن جبلا آخر أكبر من القاهرة" ص 30
تبدو في كل مواقف الشخصية، وفي كل صفحات الرواية سيطرة العقل، ويقابلها خلوه من العاطفة، فهذه مسز روبنسن بكل مواقفها التي فعلتها تجاهه ورغم حنوها وعطفها عليه: " وتحنو عليّ كما تحنو أم على ولدها " ص 30 فكانت تبكي عند سفره، وكان هو يصف نفسه في تلك اللحظة: "إلا أنني لم أكن حزينا" ص30
جملة أخرى تثبت خلوه من العاطفة، حين قال: " لم أكن أحس تجاههم بأي إحساس بالجميل، كنت أتقبّل مساعداتهم كأنها واجب يقومون به نحوي" ص27
هكذا كان العقل مسيطرا على شخصية مصطفى سعيد، ومتحكما في أحداث الرواية، يفرض وجوده على صياغة المواقف وكان لسطوة العقل دور كبير في كل ما صادفه البطل من مآسٍ.
وأثَّرَ كذلك على بقية الشخصيات، حين أصابهم ما أصابهم، لا لشيء إلا لصلتهم برجل لا يُعلِي من قيمة شيء، كما يُعلي من قيمة العقل، وهو نفسه كان ضحية لعقله المتحكم، فالإنسان عقل وقلب، ولكلٍّ منهما وقت يتسيَّد فيه، فلا يُستعمَل العقل حيث يتطلب الأمر قلبًا، ولا يأخذ القلبُ دور العقل، فلو طغى أحدهما على الآخر، هنا يكون الخلل، وتكون الكارثة، ربما هذه هي جزء من الرسالة التي أراد الطيب صالح إيصالها للقراء من باب التطهير من الفعل المشين.
***
طارق يسن الطاهر
..........................
1) المقال وفق الطبعة الثانية للرواية دار العودة- بيروت