قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: "قلبٌ بين مزدوجين".. قراءة في الشعر كتجلٍّ وجودي وفضاء تأويلي

للشاعرة الفلسطينية إيمان مصاروة

تشكل قصيدة "قلبٌ بين مزدوجين" للشاعرة الفلسطينية إيمان مصاروة مثالاً شعرياً نادراً يتقاطع فيه البعد الوجودي مع البعد الفني التأويلي، ويعيد تمثّل الشعر كخطاب يتجاوز البلاغة إلى استحضار الكينونة في بعدها الأنطلوجي والزماني. تندرج القصيدة ضمن الشعر الحداثي المتحرر من الأوزان التقليدية، غير أنها تعيد توظيف تراث الخليل وتوقيعات الشعر العربي الكلاسيكي بطريقة تتماهى مع التجريب الصوفي والانخطاف الرؤيوي في لغة معاصرة.

أولًا: في المعمار الفني والعتبة العنوانية:

يحمل العنوان "قلب بين مزدوجين" بعداً دلالياً عميقاً، يُستثمر فيه التشكيل الطباعي (المزدوجين) بوصفه علامة ترميزية تحتضن القلب بين القيد والتمييز، بين الاحتواء والاغتراب، وهو ما يشي بأنّ القصيدة ليست فقط عرضاً لعاطفة، بل هي استبطان لمسار وجودي موارب. فالقلب هنا ليس مركز الانفعال العاطفي فحسب، بل هو مركز المعنى.

ثانياً: الذات الشعرية بين الطفولة والكهولة – جدل الهوية والانشطار "كهلٌ إذا أبصرته / طفلٌ يعاندُ مِفصلَه..."

تبدأ القصيدة بإدخال القارئ إلى منطقة توتر وجودي: الكهل-الطفل. وهذا التناقض ليس سوى صورة عن الانشطار الداخلي للذات المعاصرة التي تعيش شروخات زمنية ونفسية. الذات هنا غير متطابقة، بل متعددة، تعيش كظلٍّ غائب حاضر، تنتمي إلى الماضي وتبحث عن ملامحها في الحاضر المنكسر.

ويظهر هذا الجدل أيضاً في قولها:  "هو كلّ شيء حين نبصر وردة في الريح يغمرها المطر..."

فالذات ليست فقط متشظية، بل تستدعي تمثّلات كونية وعاطفية لجمع شتاتها عبر استعارات الطبيعة والذاكرة.

ثالثًا: بين الغياب والحضور – ثنائية الزمن واللغة:

القصيدة تتداخل فيها مفردات الزمن بشكل مركزي: الغياب، الحنين، الليل، الماضي، الذكرى، المستقبل، وكلها مغموسة في لغة شبه صوفية ترى أن الشعر ليس ترفًا بل أداة لتلمّس الأثر.

 "يا ليل لا تُطل العتاب ولا تنادِ قاتلي / يا ليل كم كتبت على أطرافك الدنيا..."

في هذا المقطع، يتحول الليل إلى كائن رمزي، شاهد على الأحزان ومحاور للشاعرة، في تقليد يذكّر بأفق القصيدة الصوفية والعتابية، كما عند ابن عربي أو النفري، حيث يُستدعى الليل ليكون فضاء الكشف.

رابعًا: الشعر كخلاص – مناجاة الفن ضد العدم.

من أبرز محاور القصيدة إعلانها الفلسفي حول الشعر كملاذ أخير ضد الفناء:

"لماذا الشعر؟... لأن الوجدَ وجهٌ لا يواريه التراب ولا الممات..."

هنا تستعيد القصيدة أطروحة جمالية وجودية: أن الشعر لا يقول فقط ما لا يُقال، بل هو وجه للحضور في وجه العدم، قافية للخلود في زمن هشّ. فالقصيدة تُعلن أن الشعر ليس قولًا جميلاً، بل وجوداً مقاوِماً للفناء.

خامسًا: البنية التأويلية: من الاستعارة إلى التأويل الهيرمينوطيقي.

تفيض القصيدة باستعارات مركبة: الليل، المطر، الرسائل، الكأس، المدى، البيت، فنجان الغيب، وجميعها تستبطن مدلولات وجودية – كلٌّ منها حاملٌ لبعدٍ تأويلي لا يُفكك إلا عبر قراءة دائرية (هرمينوطيقية)، كما يقترح بول ريكور، حيث تنفتح اللغة على أفق لا نهائي للمعنى.

 "هذه القصيدة كالحياة... تُجيد محو الغيب فيك..."

تقوم القصيدة إذن على الشعر بوصفه حدثاً معرفياً وروحياً، يتكشّف شيئاً فشيئاً، لا كإخبار بل كرؤيا.

سادساً: البُعد الوطني والالتزام الرمزي.

تتسلّل إلى ثنايا قصيدة "قلبٌ بين مزدوجين" إشارات وطنية ورمزية عن الأوطان: "يا دُرَّةَ الأوطانِ يا وجعاً يُراقُ على المشاعر..."

هنا يتجاوز الحديث الشعري الذات ليحتضن الذات الجمعية. ولكن الوطن لا يُذكر مباشرة ككيان سياسي، بل يُستحضر ككناية عن الألم الجمعي والأمل المستتر، كأن الشاعرة تريد إعادة الوطن إلى لغته الشاعرية الأولى، لا بوصفه سلطة بل روحاً.

سابعاً: الصوت الأنثوي المتفرد – بين العاشقة والمُؤوِّلة.

تُظهر القصيدة صوتاً نسائياً متمايزاً، بعيداً عن التكرارات السطحية للخطاب العاطفي النسوي، لتنتج لنا شاعرة-مُؤوِّلة، تمزج بين البوح العاطفي والتفكيك الرمزي، وتخلق توازياً بين الأنوثة والقصيدة، بين الحنين والنصّ.

خاتمة:

قصيدة "قلبٌ بين مزدوجين" للشاعرة إيمان مصاروة ليست مجرد تدفّق وجداني، بل عمل شعريّ معماريّ مكتمل، يُزاوج بين اللغة ككائن حيّ والزمن كأثر. الشعر فيها طريقٌ للنجاة، وتأويلٌ للذات، ودفتر حضور في وجه الغياب. إن إيمان مصاروة تقدّم في هذا النصّ شعراً لا يُقرأ فحسب، بل يُعاش ويُتأمَّل، وتحفر بوعي شعري وجودي في بنية اللغة والكينونة معاً.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

........................

قَلْبٌ بَيْنَ مُزْدَوَجَيْنِ

هُوَ شَائِكُ المَعْنَى كَثِيرُ الأَسْئِلَهْ 

كَهْلٌ إِذَا أَبْصَرْتَهُ 

طِفْلٌ يُعَانِدُ مِقْصَلَهْ....... 

ظِلٌّ تَرَسَّخَ فِي الْغِيَابِ 

وَحَاضِرٌ إِنْ ضَلَّ فِي الدَّرْبِ الْمُسَافِرُ 

يَقْرَأُ الصُّحُفَ الْقَدِيمَةَ وَالْمَقَاهِيَ حِينَ يَهْجُرُهَا الرِّفَاقُ.... 

وَمَا تَبَقَّى مِنْ رَسَائِلَ لَمْ تَصِلْ.......

عَهْدٌ يَخُونُ الصَّمْتَ وَاللَّيْلَ الطَّوِيلَ 

وَمَا يُقَالُ عَلَى الشِّفَاهِ الْمُقْفَلَهْ....... 

**

هُوَ كُلُّ شَيْءٍ حِينَ نُبْصِرُ وَرْدَةً فِي الرِّيحِ يَغْمُرُهَا الْمَطَرْ..... 

هُوَ لَيْلُنَا الْمُنْثُورُ فِي الطُّرُقَاتِ يَسْأَلُ مَنْ هَجَرْ...... 

هُوَ آيَةُ الْمَنْسِيِّ بَيْنَ الْحَاضِرِينَ وَذَاكِرَةٌ 

هُوَ كُلُّ أُغْنِيَةٍ يُعَانِقُهَا الْوَتَرْ..... 

هُوَ صَمْتُنَا الْبَاقِي عَلَى جَسَدِ الْحُرُوفِ..... 

فَوَاصِلُ الْآهَاتِ 

مَا أَخْفَى الْمُحِبُّ عَنِ الْحَبِيبَةِ 

حِينَ غَادَرَهَا لِتَبْقَى نَجْمَةً عَذْرَاءَ قَيَّدَهَا الْقَدَرْ..... 

يَالَيْلُ لَا تُطِلْ الْعِتَابَ وَلَا تُنْادِي قَاتِلِي 

يَالَيْلُ كَمْ كَتَبَتْ عَلَى أَطْرَافِكَ 

الدُّنْيَا وَلَمْ تَقْرَأْ جِرَاحَ السَّابِقِينَ 

أَكُنْتُ وَحْدِي أَكْتُبُ الشِّعْرَ الْمُسَجَّى فَوْقَ أَوْزَانِ الْخَلِيلْ.... 

أَمْشِي إِلَيْكَ تُعيدُنِي الأَيَّامُ مَوَّالًا تُرّدِّدُهُ 

الشِّفَاهُ وَيَحْتَوِيهِ الشَّوْقُ فِي دَرْبِ الْحَنِينْ.... 

يَا شِعْرُ مَنْ أَعْطَاكَ هَذَا السِّحْرَ 

مَنْ أَغْوَاكَ مَنْ أَسْقَاكَ كَأْسَ الْعَاشِقِينْ.... 

يَا شِعْرَ قَلْبِي بَيْتُكَ الْحُرُّ الْمُقَيَّدُ 

بَحْرُكَ الْمُمْتَدُّ فِينَا كَالْمَدَى 

وَجْهُ الْكِنَايَةِ وَالرُّؤَى 

سِحْرُكَ الْمَأْثُورُ فِي الْكَلِمَاتِ وَالتَّأْوِيلْ..... 

*

أَمْضَيْتُ عُمْرِي فِي حُرُوفِ قَصِيدَةٍ 

لَا تَسْتَرِيحُ كَأَنَّهَا الدُّنْيَا تَدُورُ وَلَا تَبُوحُ 

بِمَا تَكُنْ وَلَيْسَ سِرًّا مَا تَرَى..... 

هَذِي الْقَصِيدَةُ كَالْحَيَاةِ تُجِيدُ مَحْوَ الْغَيْبِ فِيكَ 

تُجِيدُ صَقْلَ الصَّمْتِ... تَحْمِلُ لَيْلَهَا شِعْرًا 

وَتُكْمِلُ فِي الْوُجُودِ غِيَابَهَا 

مَنْ ذَا يُبَعْثِرُ فِي الْجَوَابِ الْأَسْئِلَهْ..... 

لِمَاذَا الشِّعْرُ؟؟!... 

لِأَنَّ الْوَجْدَ وَجْهٌ لَا يُوَارِيْهِ التُّرَابُ وَلَا الْمَمَاتْ 

أَعْمَارُنَا ذِكْرَى وَبَيْتُ الشِّعْرِ قَافِيَةُ الْخُلودْ.... 

قِفَا نَبْكِ".. لَقَدْ رَحَلَ الْجَمِيعُ وَلَمْ يَزَلْ بَاقٍ "

يُذَكُّرُنَا بِليْلَى شَوْقُهَا الْمَأْثُورُ فِي قَوْلِ الرُّوَاةْ 

فَحَيَاتُنَا بِالشِّعْرِ تَكْبُرُ لَا تَشِيخُ وَلَا تَمُوتْ.... 

وَحَيَاتُنَا طِفْلُ الْخُلودِ مُدَثَّرٌ بِالْمُعْجِزَاتِ 

حَيَاتُنَا مَا أَضْمَرَتْ أَنْفَاسُنَا مِنْ أَمنِيَاتْ.... 

فَاكْتُبْ لَهَا شِعْرًا يَلِيقُ بِعَاشِقٍ 

وَطَنِي النَّبِيُّ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي مَعَانِيهِ أَنَا 

بَيْتَانِ مِنْ صِدْقٍ وَقَافِيَتِي 

تُفَسِّرُ مَا تُوَارِيةِ الْكِنَايَةُ لِلشَّبَابِ 

كَأَنَّهَا أُمٌّ سَتَفْضَحُ سِرَّنَا 

**

سَافَرْتُ فِي مَاضِيكَ يَا قَلْبِي الْجَرِيحْ 

سَافَرْتُ أَقْرَأَ مَا تَعَلَّقَ فِي السَّتَائِرِ 

حَوْلَ كَعْبَتِنَا 

وَنَظَرْتُ حَوْلِي لَا أَرَى إِلَّاكَ 

عَشْرُ قَصَائِدَ وَقَصِيدَتِي فِيكُمْ تُرَتِّلُ فَخْرَهَا 

هَذَا هُوَ الشِّعْرُ الَّذِي حَفِظَ النَّدَى 

وَبَدَا الْمَدَى فِي رَاحَتَيْهِ كَأَنَّهُ الإكسيرُ إِن شِئْتَ الْخُلودْ.... 

فَاحْفَظْ لِنَفْسِكَ شَوْقَهَا وَاكْتُبْ 

فَإِنَّ الْحَرْفَ طِفْلُ الرُّوحِ فِي هَذَا الْوُجُودِ.... 

يَوْمًا سَيَذْكُرُنَا الْمُسَافِرُ لِلطَّرِيقِ 

وَيَنْحَنِي الزَّمَنُ الطَّوِيلُ كَأَنَّهُ الْمُشْتَاقُ لِلذِّكْرَى 

وَلِلْأَحْلَامِ لِلَّنَّجْوَى الَّتِي فِي رَاحَتَيْهِ 

لِفِنْجَانٍ وَحِيدٍ يَقْرَأُ الْغَيْبَ الْمُوَارَى 

أَيُّهَا الْمَاضِي أَتَعْلَمُ مَا غَدِي 

أأنا سَعِيدٌ أَمْ شَقِيٌّ..؟ 

كَتَبَ الَّذِينَ عَرَفْتَهُمْ أَنَّ السَّعَادَةَ أَنْ تُحَاوِلَ مَا تُرِيدُ.. 

كَتَبَ الَّذِينَ قَضَوْا عَلَى يَأْسِ الْعَبِيدْ 

أَنَّ الشُّعُورَ يَدُ الإِلَٰهِ وَأَنَّ صَوْتَ الشِّعْرِ وَحْيٌ مِنْ جَدِيدْ..... 

كَتَبَتْ يَدِي لِلْعَاشِقِينَ 

اقْرَأْ فَأَنْتَ الْمُبْتَدَأُ 

إقْرَأْ وَقُلْ مَا شِئْتَ فِي مَا شِئْتَ 

لَسْتَ الْآنَ وَحْدَكَ يَحْتَوِيكَ الشِّعْرُ قَلْبًا دَافِئَ المَعْنَى 

كَتَبَ الْمُسَافِرُ فِي الْأَثَرْ.... 

اللَّيْلُ أَطْوَلُ مِنْ عِنَاقٍ لَا يُرَى 

وَاللَّيْلُ أَعْمَقُ مِنْ خَيَالٍ فِي الرُّؤَى 

وَاللَّيْلُ شِعْرٌ فِي شِفَاهِ الْمُتْعَبِينْ 

وَخَتَمْتُ فِيكُمْ هَا هُنَا بَعْضِي 

جَوَابًا يَسْتَبِيحُ الأَسْئِلَهْ...... 

قَلْبِي الْمُعَلَّقُ فِي الْحُرُوفِ 

وَفِي الْبِحُورِ وَفِي الْعُيُونِ الْمُسْبَلَةْ 

تَارِيخُ شَوْقٍ لَمْ يَزَلْ يَرْوِي النِّهَايَةَ 

وَالنِّهَايَةُ فِيكَ تَسْأَلُ حَنْظَلَهْ....... 

يَا دُرَّةَ الأَوْطَانِ يَا وَجَعًا يُرَاقُ عَلَى الْمَشَاعِرِ 

هَلْ أَرَاكَ بِكُلِّ وَجْهٍ حُرَّةً تَبْدُو كَآخِرِ زَفْرَةٍ 

فِي الرُّوحِ تُزْهِرُ مُشْرِقَهْ  !!!!.....

***

إِيمَانٌ مُصَارَوَة 

النَّاصِرَة \\ 19-5-2025 

في المثقف اليوم