قراءات نقدية
عبد الحق السالكي: في سيمياء "أحلام على شاطئ الصمت"

للشاعر نورالدين قاسمي
مولود جديد ينضاف إلى خزانة الشاعر المغربي " نورالدين قاسمي " ديوانه الشعري " أحلام على شاطئ الصمت "، هذا العنوان يحمل دلالات عميقة يمكن تحليلها سيميائيا على النحو التالي:
* "أحلام" تشير إلى عالم الخيال والرؤى، وقد ترمز إلى أمال، وتطلعات الشاعر، أو الشخصية الشعرية.
* "على شاطئ الصمت" يشير إلى مكان هادئ ومستقر، لكن الصمت هنا يمكن أن يرمز إلى الاكتئاب، أو الحزن / أو حتى التأمل العميق.
ومن خلال الجمع بين هذين العنصرين، يمكن أن نفهم العنوان على أنه:
* تعبير عن رغبة الشاعر في الهروب من صخب الحياة إلى عالم من الهدوء والتأمل، حيث يمكنه أن يحلم ويتأمل في آلامه وطموحاته.
* أو قد يكون تعبيرا عن حالة من الاكتئاب أو الحزن، حيث يجد الشاعر نفسه على شاطئ الصمت، يحلم بعالم أفضل أو بتحقيق آماله.
من منظور سيميوطيقي يمكن أن نرى العنوان كرمز يحمل دلالات متعددة، ويمكن أن يُفهم بطرق مختلفة حسب السياق والقراءة الشخصية. العنوان يثير فضول القارئ ويدفعه إلى البحث عن المعاني في هذا النص الشعري الطويل.
تتصدر الديوان قصيدة: " لمن أكتب ؟ " التي يعيش فيها الشاعر غربة بين قومه الذين انشغلوا بما لا يشغله هو، ولم يكن ديدنهم، ديدن أترابه، ومن أخذ عنهم وأعجب بهم، وشكلوا نموذج الحياة الذي ارتضاه ، فأصبح " عاري الملامح " وحائر المدى، لا يدري متى يفرح ؟ فيسائل الكلمة ما جدواها وما قيمتها؛ فقد غاب مشتروها، شغلتهم الشاشات، والشبكات العنكبوتية، فضيعهم الفضاء الأزرق الافتراضي. تركهم وتيههم
ليعطي لكلماته جدوى ووزنا بما يتوق إليه من ثورة من أجل السلام.
رسمت كلماتي بغصن زيتون أخضر،
غمسته في دمي الأحمر،
وسكبته على الورق...
غصن الزيتون يرمز إلى السلام والطبيعة والجمال. واللون الأخضر يدل على الحياة والنمو والأمل. إذ يمكن أن نفهم أن الشاعر يرسم كلماته بعناصر طبيعية وجميلة، مما يوحي بالرقة والجمال في التعبير الشعري.
" غمسته في دمي الأحمر "
- الدم الأحمر يرمز إلى العاطفة والحياة والشغف. يمكن إذن أن نفهم أن الشاعر يسكب عاطفته وكلماته على الورق، مما يوحي بالحرية والانطلاق في التعبير الشعري. من خلال هذه الأسطر الشعرية نفهم أن الشاعر يعبر عن نفسه بصدق وعاطفة، مستخدما عناصر الطبيعة والجمال ليرسم كلماته. كما يمكن أن نفهم أن الشاعر يمتلك رؤية عميقة وصادقة لذاته وللعالم من حوله. فهو يسكب كلماته على الورق، مما يوحي بالحرية والانطلاق في التعبير الشعري. لكن الإحساس بالتيه، وحرقة السؤال، الذي تحترق فيه توجساته ونواياه. العالم بالنسبة له " دروب داجية " يتجرع فيها كأس الإحباط؛ فهو غريب مهمش، رغم أرقامه وعناوينه، التي تختزل وجوده وكيانه؛ بل كيان كل الناس في مدينة التهميش. والصخب التي تاه فيها الشاعر مفتشا عن ذاته؛ فلا يجد إلا الغواية والضياع الذي يسكن حياة الوجوه الكالحة. يحاول الشاعر أن ينفلت ويهرب إلى قريته النائية، بل يريد أن يتحدى مدينة التهميش والإقصاء لكن ينتهي به المطاف إلى الشرود، والهموم، ولا يستسلم.
يزيد من هم الشاعر فقد القدس، وانصرام زمن السلم والوئام، وتولي الشعراء الدبر فالكلمات اختنقت، والنوايا جفت... والأمة ضاعت، نخرتها الأسقام وفرقتها الأحقاد والنحل، صرنا كالخرفان والبقر والأنعام... بفعل الجهل والتخلف. نجد الشاعر يطرق موضوعاته بلغة مباشرة واضحة لا تكلف فيها، ولا حنوط بلاغية تخفي الحقيقة. وحين تكون لغة الشاعر مباشرة وواضحة، يمكن أن نستشف الحالات النفسية والسيكولوجية، والأبعاد السيميوطيقية التالية:
* الصدق والصراحة، فقد يشير استخدام اللغة المباشرة إلى أن الشاعر يرغب في التعبير عن مشاعره وأفكاره بصدق وصراحة، دون تكلف أو تزييف. كما يدل الوضوح على القوة والثقة في التعبيرعن نفسه، ويرغب في نقل رسالته بشكل واضح ومباشر، مما يضفي على نصوصه الشعرية واقعية، سبيل التواصل الفعال وبالتالي التأثير القوي والمباشر على القارئ؛ فتحدث الاستجابة ورد فعل.
هكذا يستعرض الشاعر آلام الأمة وخوالج الذات: فهذه غزة وما عاشته من ويلات، وتقتيل في قصيدة " صيحة " ويبدو أن صرخة قرى غزة المناضلة الأبية التي يتحدث عنها الشاعر في " صيحة " لا يقصد الحالية؛ لأن القصيدة كتبت بتاريخ
04/08/ 2018، والمأساة الأخيرة كانت في 2024/ 2025.
ولعل قصيدة " صرخة صامتة " التي كتبت بتاريخ 18/06 / 2024 هي من تولت رسم عويل الأطفال وجوعهم، وهول الردى وأنين الأطفال ,
وتلك قصيدة " صدمة " التي تحكي حلم العاطفي بغادة جميلة فتانة، التي لم ينل منها إلا حلما ورديا جميلا، ووهما بعد أن علًّق على وجودها الأماني والآمال في الوصال.
والأخرى " حورية على شاطئ الصمت " تستحضر معشوقة الإنس، حورية، عروس البحار التي كان الشاعر يبحر بلا سفن ن ولا مراكب من أجل الظفر بها، لكنه لم ينل منها إلا خيط دخان " أحلام شيدت "، " على شاطئ الصمت ".
إن البعد الدلالي والسيكولوجي لهذا الحضور القوي للخيال في تجربة الشاعر نورالدين قاسمي، يمكن إيعازها إلى قدرة الشاعر على الإبداع والتجديد، وإنشاء عوالم جديدة ومبتكرة، كما أن الخيال يعتبر وسيلة تعبر عن العواطف بشكل أكثر عمقا وتعقيدا؛ إذ يحدد رؤية فلسفية عميقة للعالم والحياة، حيث يرغب الشاعر في استكشاف الأفكار والمفاهيم بشكل مبتكر.
كما يدل هذا الجنوح نحو الخيال على الهروب من الواقع، والضغوط اليومية، وخلق عالم أكثر جمالا وسعادة، بالإضافة إلى هذا فهو تعبير عن اللاوعي والرغبات والمخاوف الداخلية. وهو مع هذا بحث عن الذات والهوية، واكتشاف الأفكار والمشاعرالداخلية. إذ من خلال استخدام الخيال في الشعر، يمكن أن يخلق الشاعر عوالم جديدة ومبتكرة، وينقل رسالته بشكل أكثر عمقا وتأثيرا. وهذا ما نلاحظه من خلال جملة من الصور البلاغية، والحوارات الداخلية في القصائد التي تحاول أن تبوح بمكنونات الشاعر وخوالجه التي تتميز بالاحباط والانهزام أمام صعوبة الواقع المعيش والتحديات التي يواجه بها الإنسان.
لا يمكن القول إن الانكسار هو الحاضر الوحيد والأوحد في نصوص الشاعر، لأن قصائد أخرى مثل: " عشق وانتماء " يتحول الشاعر إلى طفل مزهو بانتمائه وانتصاره، بل إعجابه بالصحراء، ونغمها، وكثبانها ورمالها الذهبية ن وكرمها الأصيل فهي:
" هبة ربانية
سالبة للعقل
يلثم الموج
أحلام الرمل
في حضرة
شامخات النخل "
فالشاعر قاسمي كثيرا ما يفاجئ قرئه بالجديد، اللامتداول؛ بصورة أو تصور كما في قصيدة؛ " أحلى قصيدة "
{... }
" أيا قصيدة...
لم تنظم بعد. "
وهو بهذا يصعب قراءة قصائده بشكل أفقي يمر، ويلامس مجموعة من القصائد، بل يحسن بالدارس الوقوف على كل نص شعري؛ وقد يمكن له أن يجمع بين بعض النصوص المتشابهة ليس إلا. بل على القارئ أن لا يغيب عد ذهنه قدرة الشاعر توليد الدلالات؛ لأنه وإن تشابهت أحيانا، بعض النصوص فإن القدرة على الإبداع والتوليد الدلالي والتصويري، مثل ما في النص الشعري " المرآة " يحتم على المتلقي أن يعد عدته لاكتشاف ما يتوصل إليه الشاعر ولا يراه.
***
بقلم: د. عبد الحق السالكي
08 / 06 / 2025