قراءات نقدية

محمد جواد فارس: قراءة في رواية (الوريث) للكاتب المسرحي حازم كمال الدين

لا يموت الإنسان إلى حين لا يتذكر احد

لا تخف كثيرا من الموت

بل من الحياة الناقصة

المحزن من الحياة

وليس الحياة قصيرة

و المحزن إننا بدءنا الحياة متأخرين

برتولد بريخت

الكاتب المسرحي الألماني

***

لرواية الصديق العزيز حازم كمال الدين أهمية من حيث انها ترتبط بشكل واقعي للأحداث عراقية، يشير لها الموقف من خلال الشخصيات التي اتخذ منها أبطال لروايته، ومن المعروف أن حازم كمال الدين هو مسرحي، كما عرفناه في دمشق عندما استضافتنا سوريا العروبة، ونحن تركنا الوطن بسبب من الاضطهاد السياسي، من قبل (الحليف) حزب البعث العربي الاشتراكي، بعد فرط عقد الجبهة الوطنية والقومية التقدمية، والتي للأسف وقعت حسب شروط الحزب الحاكم حزب البعث، وهنا حلت المأساة .

حازم كمال الدين وعدد غير قليل من المثقفين والكتاب والصحفين هجروا الوطن، وانبروا كل في مجاله، وحازم ورفاقه اسسوا فرقة مسرحية، وعرضوا اعمالهم على مسرح قاعة الحمراء في وسط دمشق، ولاقت مسرحياتهم النجاح في عروض دامت لاسابيع، حازم خريج معهد الفنون الجميلة في بغداد ولديه طموح في تطوير نفسه وهذا ما ظهر عندما توفرت الامكانيات له في بلد المهجر هولاندا بلد الزهور الجميلة، لقد استفاد من خبرة اساتذته في مجال التمثيل والإخراج، من أمثال يوسف العاني وفخرية عبد الكريم (زينب) وسامي عبد الحميد ،جاسم العبودي، صلاح القصب، جعفر السعدي، ابراهيم جلال، خليل شوقي، ، وقاسم محمد، وبدري حسون فريد وغيرهم ممن شاركو في المسرح العراقي، والذي لعب دورا مهما في تطوير الشارع العراقي، فمثلا مسرحية اني امك ياشاكر في الخمسينات من القرن الماضي وأيام الملكية، لعبت دورا مهما في تثوير الشارع ورفع معنوياته ومطاليبه، وفي الستينات عرضت مسرحية النخلة والجيران وهي رواية كتبها خالد الذكر غائب طعمة فرمان الروائي العراقي المعروف، كانت تتحدث عن طبيعة المجتمع العراقي والمعانات التي يعاني منها في السياسة والاجتماع والعيش في ظل الأنظمة السابقة .

أن أذكر هذه المقدمة لكون كاتبنا المسرحي حازم كمال الدين هو له باع طويل في تطوير منهجية المسرح مكتسب لتجارب كتاب المسرح من خلال تواجده اليوم في المهجر (هولاندا) وقد كتب عنه الكثير في مجالات عمله المسرحي المبدع.

و قد أطل علينا في روايته الجميلة:

الــوريث

عن البدء في قرأة الرواية، يطل علينا د. فتحي بن معمر في تقيم هذه الرواية [هل اتاكم حديث من يستحق الحياة على تخوم الموت] ويستطرد قائلا: هذا العنوان مقتبس من عنوان مقالة ليسري الشيخاوي حول حازم كمال الدين فنان يستنطق الحياة على تخوم الموت.

يقول د. فتحي (الحقائق عل الأرض تقول ألا خيار سوى الاخيار في ظروف لا خيار فيه) صيحة تراجيدية متحشرجة تخرج من صلب (أيوب) احبه لتعلن عجزه وعجز بلاده ودكتاتوره ومعارضيه بل وعجزنا جميعا إزاء النظام العالمي الجديد الما بعد عولمي والما بعد حداثي، حيرة كبرى تنتابه، كما تنتبنا كقراء فنقف محدودين أمام(فلسفة رعناء) _ والعبارة له _ تتسلط عليه وعلينا في حوار حجاجي أقرب إلى السفسطائية بحثا عن إجابة تغدو بمجرد الوصول اليها معظلة لا تختلف عن معضلة أيهما أسبق البيضة أو الدجاجة..فستطرد بمقالته الفلسفي عن رواية حازم كمال الدين كاتبا: ففي سابقة أولى من نوعها أقام حازم كمال الدين نصه على خمسة أقسام اخرج أحدثها وحرك شخصياتها أنطقها على أركاح (جمع ركح) عديدة تنوعت بها ومعها الأفضية والامكنة كما تخاتلت وتبادلت الأدوار فلم تعدم الرواية بعضا من ساحاتها أثينا الاغريقية بما فيها من توضيح مسرحي، ولم تخلو من بعض ملامح ساحات الجدل في روما،كما رشحت في ثناياها ملامح بلاد وادي الرافدين وعكاظيات أسواق العرب وأيامهم انتثر في بعض طياتها عبير الحضارة الغربية صلف زمن ما بعد الحداثة في التصور القول الفعل والممارسة. فكان هذا النص عصيا على التجنيس وان وسمه صاحبه برواية، فبلغ التشويق ذروته وصار سلام الخير شاهقا. ونص المقالة وسردية للرواية خاض فيها الدكتور فتحي بن معمر طريقين اولهما فلسفي والاخر يدخل ضمن مفاهيم علم الاجتماع في تشخيصي لأ أبطال الرواية. بدء الكاتب روايته في القسم الأول تحت عنوان وادي الرافدين (القلعة المقدسة) نحنوا صخرة فصارت قلعة: خشبية عثيقة. طرقها يصر إذا ارتفع ويخشخش إذا هوى، نوافذها مشبعة بظلال، ،زوجاجها مضبب بغباء ملتحم بمعدن يستعصي تميزه عن حائط كان في الأصل حجرا سحقته حقب سحرية وواقعية وغبارية ومطرية فاكتسى روحا هائمة الألوان والأزمان والاحساس! من نافذة القلعة يلوح غصن زهرة عباد شمس كمن ينادي فجرا ستلوحه شمس فيتقطر على حافات السماء. نسائم تربت على زهرة عباد الشمس الحمراء، يفر من الزهرة خفق جناحي نحلة، يصطفق بالنافذة فيتكسر ازيزه .. كوة تلوح داخل الزجاج، صمت. يصف الفجر تحت ضربات الشمس صمت . الصباح المتعثر بألوان الفجر عازم على الظهور صمت. صياح ديك يثلم الصمت طائرات إلى زهرة عباد الشمس مخلفا كوة في كلوس اب. من كوة النافذة تتبين باحة كلوس اب. باح عتيقة صخرية رابطة الجيش تمركز في وسط القلعة. كلوس اب. في ركن من الباحة محراب. في المحراب شبح إذا ما نظر حوله فسوف يوصف الفضاء هكذا: _ هذا الفضاء زمن تحول أمواجا ثائرة تحجرت وهي في أوج الثوران واذا ما ما تأمل الأمواج الثائرة غمغم: انها على اهبة الاستعداد لاتنكر لتحجرها والتحول ماء أجاجا. كلوس اب.

من خلال هذه السردية القصيرة التي اتخذ المؤلف عنوان لها وادي الرافدين متحمسا للكتابة عن هذه الحضارة العظيمة التي سجلت في التاريخ، وكأنها الجذر الأساسي الذي استمدت منها الحضارات في العالم بمشرقه ومغربه أولوياتها ومنها مسلة حمرابي واضع القوانين في العالم وكذلك الهندسة في ماسمي بالجنائن المعلقة وهي إحدى عجائب الدنيا السبع، ولا ننسى كيف أن اشور بنيبال في الدولة الاشورية، قام بإنشاء اول مكتبة في العالم المكتبة التي ضمت الكثير من المخطوطات من جلود الحيوانات، ف المؤلف يريد أن يصف لنا وبشكل تصويري لبوابة عشتار بجمالها ورونقها وهي المدخل لشارع الموكب حيث تسير فيه مواكب ملكية عند انتصارات مملكة بابل على يد نبوخذ نصر ماسمي (بالسبي البابلي).

و لمتابعة رواية الوريث وفي هذا المقطع يكتب الراوي في سرديته: في ليلة زاف غونريل من إسفاف وجد العريس نفسه في المخدع أمام عروس مستلقية مثنية الركعتين على وجها خمار خفيف، فاتبع بسرعة وصية ابيه وكشف عن الشيء بين ساقيه وارامى فوقها. لكنه لم يعرف ما العمل! فقد عجز عن تحديد المكان الذي يولج فيه الشيء: (أهو الفتحة الصغيرة بحجم عين الإبرة، أم الفطر الطولي المسيجيد بما يشبه شفتين متهدلين تحت عين الإبرة؟) كانت تساؤلاته ضاربة في الاطناب ذاهبة حد الارتباك وقد قصد منها فتحة التبول وماتحتاج.لمن يعرف كيف ينفذ وصية والده القاضية بايلاج الشيء في الشيء: تقصد الفتحة الصغيرة بحجم عين الإبرة، ام الفطر الطولي؟ همس بعصبية لوالد العروس،الملك لير، الذي اجابه بهمس متواطئ (في الفطر يا يا ابني!) الأمر الذي جعله يرفع صوته: (الفطرالثأر وغسل العار ليس فتحة يا عمي! الفطر الذي تقصده شق تطبق عليه شفتان، وأبي أمرني أن أدخله في الفتحة! .

حدث ذلك لما تأخر الوقت إبان انتظار والده هرقل بن ذي الجوشن ووالد العروس الملك لير بصبر شب عن الطوق ظهوره المظفر من قبة الزفاف بشارة النصر على العروس: المنديل الخفاق الملطخ باللون الأحمر اللزج.

و إذ أعلن النفير نتيجة التأخير اقتحم الملك لير قبة الزفاف مرتعدا في صوته رئيس (هل يعقل أن تكون ابتي فاقدة للعذرية ؟) ومايترتب على ذلك الزئير من عواقب تلوث اسم العائلة الجليلة وتوقظ حفلات الثأر وغسل العار. وأصابه فرح بليد حين انجلت الأحجية ابان اندفاع الحوار السالف مع إسفاف الذي لم يتزحزح عن رأية قيد انملة: _ لا يمكن إدخال الشيء في فتحة صغيرة بحجم خرم الإبرة!هل رأيت الفتحة ياعمي؟ تعال إريك ايها. وسحب الملك لير بقوة صوب ساقي العروس التي شدت خمارها على وجهها بقوة ولمت ساويها ففلقهما اساف عنوة: " انظر بنفسك يا عمي! لاتوجد فتحو أخرى! فقط الفطر الطولي المغطى بكتلة لحم تشبه الشفتين! . والحوار يطول،

و من هنا نستنتج ان ما أراده المؤلف في هذه السردية، أن يقول ان المجتمع منذ عهود سالفة لم يجد ما يعلم الجنسين عن علم وظائف الذكر والأنثى وحتى الوظيفة التشريحية لكل عضو فيه، أضافة الى العادات و التقاليد منها البكارة عند الزوجة واشهارها

بين المدعوين في حفل الزفاف ليؤكدوا طهرة وشرف الزوجة .

و انتقل إلى عنوان اخر وهو [ مونولوخ أيوب ] وقد اتخذ المؤلف من أيوب بطل لروايته مع أربعة اخرين لهم ادورهم. وعنوان الفصل (شهر الحرب الرابع، لسعة ضوء) يسرد فيه مشهد التالي: يوم قصف مصنع حليب الأطفال عصافير الجنة . على الطاولة أمامنا أنا واساف وجبة الظهيرة في مطعم قريب من يشق السماء من العدم. شرعت بالتعليق: _ هذه ليست طائرات حر... لكن تعليقي قاطعته قذائف فراغية التهمت بقية حروف كلمة حربية _بم بم بم بم بم، في تلك الزلزلة ضاعت أيضا صرختي (يا أمي الحقيقي!) لم يسمعها أح

حتى انا. هرع اساف بعيدا وصاح علي؛ _ دعنا نجري خلف خلف أولئك الناس! إلى أين؟ إلى المطبخ؟ صرخت بارتباك، لا! إلى هنا. صاح بيد اني لم أعد أراه، أين أختفيت يا اساف ؟ هنا في المخبأ! أسرع، تحت السلم ؟ نعم أركض، هذا ليس مخبأ! إنه دورة مياه! دو ة مياه ؟! مرحاض! ثم ماذا!؟ أنها مرحاض يا إسفاف! ادخل! هذا هو الملجأ الوحيد في هذه الساعة أسرع! ادخل! ادخل!، انهال القصف مجددا وضاع التفكير. هرعت تاركا ريحا مسكونة بلازمة، إسفاف: ادخل! أدخل! ادخل! أدخل!، محاطة بصرخات اخرين كفقاعات انفجرت وتوقفت صورتها عن الحركة في الهواء. دخلت التواليت، مرحاض من متر مربع، أكثر من 12 شخص مكبوسين داخل المرحاض يتنفسون من رئات بعضهم يتلمسون ايدي من بجانبهم متوهمين انها ايديهم الشخصية، كتلة من لحم 12 شخصا انصهرت فكانت كائنا ب 48 من الأطراف و24 من الأعين ما لانهاية من أصوات الاستغاثة واللعنات و الآيات . روائح الطعام ما تزال تخرج مع التنفس المنقطع لمن حط في التواليت وقد نسي البعض أن يمضخ لقمته ا يبصقها.

هكذا يصف روائينا الحرب وماتجر من مآسي قاسية على الإنسان مخلفاتها، القتل و الأسر والدمار للمدن وتيتيم أطفال في العائلة والأرامل.

ويستمر في سرد هذه الحرب التي تأكل الأخضر واليابس لان القائد هكذا يريد ؛ يتابع، صاح إساف: لم أعد أسمع شيئا عن طريق السماعة الإلكترونية يبدو أن الاتصالات الإلكترونية قصفت. لم أفهم شيئا مما قال، ساد صمت جاف بللثه بتمتمته: ماذا قلت؟ فرد اساف دون فاصل المعتاد: كيف تجرؤ على شتم القائد إسماعيل يسن حفظه الله ورعاه ؟ أنعقد لساني من عبارة الرئيس القائد حفظه الله ورعاه: _ وماذا تريد أن أقول؟ أدبج له قصيدة مدح؟! _ انتبه لكلماتك! الرئيس القائد حفظه الله ورعاه يجب أن يحمي نفسه أسوة بأبناء شعبه! باغتتني صحوة متأخرة ؛ [ لايمكن أن يتكلم أحد من اتحاد الرافدين الديمقراطي عن حق إسماعيل ياسين في الدفاع عن نفسه، ولن يسميه الرئيس القائد حفظه الله.بلمح البصر استرجعت صورة الخط المائل في الصحراء وتمترست خلف أساليب العمل السري وأجبت ؛ يجب أن يحمي حضرته نفسه، ولكن سيادته يقود عملياته البطولية من مكان تتعرض فيه حياتك وحياتي للخطر، و شبكات تجسس الرجل الكاوبوي متغلغلة داخل كل اجهزته!.

و يواصل السردية حول مأسي الحرب وما آلة اليه من الخسارة في كل شيئ حتى بالمال وشراء السلاح ذو التكنلوجي العالية أضافة للخسائر الاخرى من القتلى والأسرى . الرواية غطت مراحل من تاريخ وادي الرافدين في سردية تصلح لان تكون مسرحية خاصة وان الكاتب لها هو رجل مسرحي وفي فترة تواجده في المهجر (هولاندا) بعد أن ترك الوطن ليس اختيارا وإنما بسبب الاضطهاد والمعاناة نتيجة حكم الحزب الواحد وكذلك اضطهاد الرأي الاخر، والحروب التي تصدرت المشهد السياسي، منها الحصار الجائر على الشعب، والعدوان الأمريكي البريطاني الغربي على العراق بلد الرافدين وموطن الحضارات الأولى السومرية والبابلية والاكدية والاشورية.

رواية الوريث جديرة بالقرأة، وهي صادرة من دار الكتاب في تونس ويتضمن 376 صفحة، اتمنى للعزيز الصديق حازم كمال الدين المسرحي و الكاتب، المؤلف لهذه السردية الشيقة والمتضمنة في اسلوبها الاكاديمي، الفلسفي والتاريخي، في طياتها تاريخ أحداث بلد الرافدين، من أجل أن تكون هذه الرواية في المستقبل عمل مسرحي له النجاح والوفقية دوم.

***

محمد جواد فارس - طبيب وكاتب

 

في المثقف اليوم