قراءات نقدية

كريم عبد الله: المدينة جرح تخيطه اللغة: تأملات في الألم والخيبة

قراءة نقدية أسلوبية تحليلية لقصيدة "المدينة جرح تخيطه اللغة"

 للشاعرة: ايمان يادور، ترجمة: علي عزيز

***

تتسم قصيدة /المدينة جرح تخيطه اللغة/ للشاعرة إيمان يادور بالكثافة الرمزية والوجدانية، كما تنقل بمهارة عالية مشاعر الحزن، الضياع، والقلق في إطار مشهد مديني معبر، يتم تصويره ببلاغة مؤثرة على مستوى الأسلوب والمضمون. القصيدة تمزج بين الحنين إلى الماضي والألم الناتج عن الحاضر، واللغة فيها هي الرابط بين الجرح والشفاء، بين الخراب والأمل، بين العتمة والنور.

1. المشهد المكاني والزماني:

تبدأ القصيدة من خلال إشارة إلى الزمان والمكان، حيث يُظهر الشاعر كيف أن /السماء لا تتسع لقلقنا/ (البيت الأول)، وهو تعبير دقيق عن تراكم القلق والخوف الذي يعصف بالإنسان. هذا التقديم الزماني والمكاني يعكس حالة من الضيق الشديد، حيث تتضاءل السماء (المكان الأوسع والأعلى) لتكون غير قادرة على احتواء قلق الإنسان. هذا العنصر الزمني يصبح تجسيدًا لحالة داخلية، تُظهر التوتر النفسي في بيئة غير مستقرة.

ثم يأتي استحضار الطبيعة كوسيلة لفحص الحاضر، حيث يُقال إن

/الطبيعة متحف/

لكن من خلال نظرة الحاضر تصبح الطبيعة مجرد ذكرى باهتة، /استحال أصفر/

و/لن تزهر الورود/

ما يعكس الانقطاع عن الحياة والخصوبة، ويُظهر قسوة الواقع الذي يُحيط بالشاعر.

2. اللغة والتصوير الشعري:

القصيدة تعتمد على الصور البلاغية والتراكيب المعقدة، مثل

مئة عام ستمر دون أن تمنحنا تشكيلة خضراء

وهو تعبير يربط الزمن الطويل بفقدان الأمل في التغيير. الشاعرة توظف الصور الشعرية بشكل مميز لتعكس حالة من الإحباط الثقافي والاجتماعي، حيث أن الشوارع مبللة

/بدموع المتسولين/

وكأن المدينة أصبحت مغطاة بدماء الفقراء والمحرومين.

عند الحديث عن

/شجرة الحور/

التي لا تحمل ذكريات، تصبح الشجرة رمزًا لفقدان الذاكرة والتاريخ، حيث تموت الرموز التي كانت تحمل في الماضي القيم الثقافية والاجتماعية. صورة /شجرة الحور/ تضاف إلى صور أخرى تكشف عن تعثر الروح الجماعية: لا أحد يلتقي في

/موعد/

ولا أحد يتوجه إلى الله في

/سجادة الصلاة/.

هذا الفراغ الروحي يعكس حالة الاغتراب والتفكك في المجتمع.

3. الرمزية الدينية والسياسية:

يتداخل في القصيدة البُعد الديني، حيث يظهر الإيمان بوجود قوة عليا تعكس حيرة الشاعر في علاقة الإنسان مع الله:

/الهي.. لماذا لا ترسل قلادة قوس قزح/.

هنا يُستخدم قوس قزح كرمز للأمل والتغيير، وهو عنصر من عناصر الطبيعة التي قد تعيد الإضاءة إلى المدينة المظلمة. ومع ذلك، في إطار الانتقاد السياسي والاجتماعي، تساءلت الشاعرة /ماذا يمكن أن يكون أكثر رعباً / وضع الإنسان عينه حتى على السماء؟/

وهو تساؤل يحمل في طياته الإشارة إلى العبث السياسي والتسلط على المقدسات، حيث يصبح الإنسان، أو الإنسان السياسي، عاجزًا حتى عن رؤية السماء بتواضع واحترام.

4. اللغة كأداة للتعبير عن الألم والبحث عن الخلاص:

يُلاحظ أن القصيدة تتحدث عن المدينة كـ/جرح/ تُخيطه اللغة، وهذه الجملة تعبير عن القوة الكامنة في الشعر واللغة كأدوات علاجية. اللغة تُصبح بمثابة الطبقة التجميلية التي تحاول إخفاء الجرح العميق، لكن رغم ذلك يظل الجرح واضحًا، وهو في النهاية لا يجد شفاءً حقيقيًا. كما يبرز التناقض بين سعي الإنسان نحو الخلاص بواسطة اللغة وبين هشاشة هذه اللغة في مواجهة الواقع المدمر.

5. الصراع بين الفرد والمجتمع:

القصيدة أيضًا تُظهر العزلة الفردية في مواجهة مع مجتمع مفكك، حيث يُشار إلى الأنانيات والمفاهيم السطحية التي تسيطر على الأفراد. الشاعرة تعبر عن هذه العزلة عبر الفردية:

/أمنحني لساناً / لا أحد يستطيع أن يترجم اسمك إلى لغة الحرب/. هنا يظهر التشاؤم الشديد من المحاولات العديدة التي فشلت في إيجاد لغة سلام بديلة عن لغة الحرب.

6. التناقض بين الأمل واليأس:

القصيدة تقدم رؤية متناقضة حيث تمزج بين اليأس والأمل. في حين تصف المدينة بأنها

/كئيبة/

و/مظلمة/

إلا أن الشاعرة تطلب من الإله قلادة قوس قزح لإضاءة هذه المدينة، ما يعكس التفاؤل الخفي بوجود إمكانية التغيير رغم الظلام. هذا التوتر بين الأمل واليأس يتجسد في التساؤل الذي يُطرَح على شكل دعاء، مما يعكس حالة القلق الروحي.

7. الجانب الاجتماعي والثقافي:

القصيدة تُسلط الضوء على الواقع الاجتماعي حيث تنحدر الشوارع إلى

/دموع المتسولين/

وهذه صورة تعبيرية مؤلمة تبين الفجوة بين الطبقات الاجتماعية والاختلال الاجتماعي الذي يعاني منه المجتمع. كما يظهر التدهور الثقافي حين يُظهر الشاعر صرخة /الشعراء/ في ظل ظروف ثقافية متدهورة تُهدد الذاكرة الجماعية.

الخاتمة:

تُعد هذه القصيدة من القصائد التي تتسم بالعمق الفلسفي والوجداني، حيث تعكس أزمة الهوية والوجود في مدينة عانت من القلق الاجتماعي والروحي. إن الشاعرة من خلال صورها البلاغية والتراكيب اللغوية الدقيقة تنجح في نقل الوجع والحزن الناتج عن واقع متأزم، لكن الأمل يظل حاضرًا في خلفية النص، متجسدًا في البحث عن النور والذاكرة واللغة كسبيل للإنقاذ.

***

بقلم: كريم عبد الله – العراق

.....................

المدينة جرح تخيطه اللغة

انه زمان حتى السماء لا تتسع لقلقنا

التحليق دون مكان يحتويك ضياع

الطبيعة متحف لو تأملته بعين الحاضر لاستحال أصفر وبتلك النظرة لنْ تزهر الورود

ومائة عام ستمر دون ان تمنحنا تشكيلة خضراء

أترى قامة شجرة الحور ليس عليها حرف من الذكريات

لا ترى احد لموعد تتمايل روحه في الأعالي

ولا ترى احد يفترش سجادة الصلاة باتجاه قلبه

الجميع يصلّون لعيونهم.

ماذا يمكن أن يكون أكثر رعباً

وضع الإنسان عينه حتى على السماء؟

مَنْ يدري لعل غيمة في صرختها الأخيرة تعيد الحياة الى البداية

أتظن أن الكهوف سوف تؤوينا مرة أخرى؟

أي مرض هذه الحياة ؟!

الارض عوضاً عن قلبي

تخفق مثل كتلة مستديرة داخل جسدي

لعلي انا فقط أسمعها تصرخ ولا أحد يهتم

أسير في الشوارع وليس مِن ابتسامة تعمرّ طريقي

الشوارع هنا مبللة بدموع المتسولين

أذهب وأجمع الأغاني التي تتدفق من أفواه السكارى.

عندما يكونون ثملين،

يندبون حياتهم المفقودة.

مدينتنا بيضت رؤوس هؤلاء الذين أرادوا ان لا يسودَّ قلبها

الهي.. لماذا لا ترسل قلادة قوس قزح

لعنق هذه الشوارع السوداء لمدينتا الكئيبة؟!

يا إلهي أعطني كوكباً

ودعْ الشعراء يعمّرونه

أمنحني لساناً

لا أحد يستطيع أن يترجم اسمك إلى لغة الحرب

أعطني مصباحاً من نورك،

كي لا تضيع المدينة في الظلام.

إلهي أعطني ذاكرة كي لا تنسى المدينة ذكرياتها.

كي لا تخاف المدينة بعد الان منك،

ولكي لا يغرنّها الشيطان، ولا يقتل شعراءها.

***

ايمان يادور – كردستان العراق

في المثقف اليوم