قراءات نقدية

رانية مرجية: مزامير العاشق الروحاني

في زمنٍ صاخبٍ تجفّ فيه ينابيع الشعر، ويبهت فيه الحُبّ تحت وطأة الاستهلاك والسطحية، تأتي مجموعة "مناديل من حرير الكلمات" ليحيى السماوي، كضوء يتسلل من نافذة الروح، ليعيد للكلمة قدسيتها، وللعشق طهارته الأولى. ليست هذه النصوص مجرد نثر شعري، بل هي ترانيم صوفية تمتح من ينابيع الفلسفة والعرفان، وتتماهى في جسدٍ لغويّ مشغول بالحنين، وبوجع المحبة، وبجمالية الحلول العشقي الصوفي.

العاشق النبيّ: الشاعر ككاهن المحبة:

يمثّل السماوي هنا صورة العاشق-النبي الذي يخاطب معشوقته لا بوصفها جسدًا، بل بوصفها كينونة كونية، تمتد جذورها إلى الروح، وتغتسل بماء التأمل. نقرؤه فنشعر وكأننا في حضرة صوفيّ عاشق، يسجد عند محراب الجسد والروح معًا، فيصوغ من لمسةٍ قبلةً ، ومن تنهيدةٍ صلاة:

"حياتي قصيدة من بيت شعرٍ واحد ..

أنت مطلعها"

في هذا البيت النثري، لا نجد الشاعر وحسب، بل نجد الإنسان الباحث عن مطلقه، عن جزئه الضائع في الآخر. وهنا، يتحول الحبيب إلى مجاز إلهي، فيصبح العشق شكلًا من أشكال العبادة.

بين نشيد الإنشاد والحلاج: إرث العشق المقدّس:

ليست مصادفة أن تُفتتح المجموعة بإشارة عميقة إلى "نشيد الإنشاد"، فالسماوي، كما سليمان، يبحث عن الجمال الفاضل، لا الجمال السوقي. وما شولميث إلّا استعارة لعشقه الأزلي الذي لم يكتمل. وكأن السماوي يردد في طيّات نثره ما قاله الحلاج ذات عشق: "أنا من أهوى ومن أهوى أنا":

" أنا وحدي: إثنان ..

 أنا وأنت: واحد "

بهذا التماهي، يُلغي السماوي المسافة بين العاشق والمعشوق، ليؤسس لحلولٍ شعري بينهما، حِلٌّ لا جسدي فحسب، بل روحي وفلسفي.

صوفية الجسد، فلسفة اللغة:

رغم العناق الحسيّ الواضح في كثير من المقاطع، إلّا أن السماوي لا يقع في فخ الغريزة، بل يرتفع بها. فالجسد عنده وسيطٌ للسمو، والقبلة طقسٌ مقدّس، يُعيد خلق العالم من جديد:

"أضلاعي سأستلها قصيدةً بعد قصيدة

لأصنع لك

سريرًا من الشعر"

في هذا التكوين، تتحوّل المفردة إلى ملمس، والجسد إلى ورقة، والشاعر إلى نحّات في معبد الجمال.

شيفرات القرآن والحديث: الحسيّ في حضرة المقدّس:

يملأ السماوي نصوصه باقتباسات قرآنية وحديثية، ليس على سبيل التزيين، بل ليمارس فعل التقديس للكلمة والحب. حين يقول:

" أين أُولّي أحداقي

 فثمّة وجهك"

نحن لا نقرأ الآية فحسب، بل نُعيد قراءتها في مرآة العشق، فتصبح الحبيبة قبلةً، ووجهًا إلهيًا يتجه نحوه القلب والبدن معًا.

رمزية الأسطورة:

من جلجامش إلى شهرزاد

يستدعي السماوي رموز الأسطورة لا ليعيد سردها، بل ليمارس إعادة إنتاجها بمعجمه العاشق. "جلجامش"، "سيزيف"، "شهرزاد"، كلها تتحول إلى طيفٍ يتقاطع مع تجربة الشاعر، فتصبح الذات العاشقة مسرحًا تراجيديًا-روحانيًا لتجربة الخلود والانكسار والبحث عن المعنى:

"  أفعاكِ بريئةٌ من أعشاب كلكامش ..

لكنها

ليست بريئةً  من قلقي "

بهذه المفارقة، يعيد السماوي صياغة قلق الإنسان أمام الحب والموت، في لغةٍ تنوس بين المجاز الفلسفي والانفعال الوجداني.

تواشج الصوت والظل: ميتافيزيقا اللغة

ينجح السماوي في تحويل الحرف إلى جسد، واللفظة إلى نَفَس، حيث لا يمكن التفريق بين النص والنبض. تتوه اللغة فيه كما يتوه العاشق في حبيبته، فيغدو النص تجربة عيشٍ كاملة، لا مجرد قراءة:

"قلمي عيني الثالثة… فهل تقرئين دمعي؟"

ما بين اللغة والدمع، يخلق السماوي معبرًا خفيًا للقارئ، ليحسّ لا فقط بالجملة، بل بما تحتها.

خاتمة: الحبّ كخلاص جمالي:

"مناديل من حرير الكلمات" ليست مجموعة نصوص نثرية فحسب، بل هي طواف في محراب العشق، حيث تتصادى الفلسفة مع التصوف، والجسد مع الروح، والمقدس مع الحسيّ، في تجربة قرائية لا تشبه إلا ذاتها. يحيى السماوي هنا لا يكتب… بل يتجلّى.

إنه يحيى السماوي الذي يكتب نشيد الإنشاد الحديث، نشيد لا مكان فيه للزيف، بل للوضوح الصارخ، للحب الطاهر، للكتابة التي تمسّ القلب قبل الورق.

وبهذا، نُسجّل شهادة محبة ودهشة في حضرة شاعرٍ، علّمنا أن اللغة يمكن أن تكون حريرًا… وأن القلب يمكن أن يُكتب بمناديل.

***

رانية مرجية

في المثقف اليوم