قراءات نقدية
محمد يونس محمد: كثافة لكيمياء النص.. قصائد حائط احدب لفلاح الشابندر
شكلت التطورات التي مر بها الشعر ذلك الانفتاح النوعي في بنية النص، وشكل مقومات الشعر منذ عزرا باوند والفهم الجديد للشعر تغيرات عدة، وكان دعوة عزرا باوند للاختزال والايجاز لم تفهم بشكل موضوعي، بل فهمت من خلال السياقات العامة، لكن اليوت استفاد من تلك الفكرة ووسع مفهومها، والتحول الذي مر به ستيفن سبندر من الوزن نحو النثر في حينها هو كدعوة لأليوت للتواصل في تطوير مفهوم الشعر المعاصر، ونشير إلى أن الشعرية الانكليزية بالرغم من ذلك التطور النوعي، فهي تحافظ على السياقات العامة، فيما الشعرية الفرنسية انقسمت على نفسها، فمنهم من اتبع اسلوب مالارميه في كون الذات هي المحور في النص، ومنهم من تخلى عن الذات كليا، وعلى وجه الخصوص جبهة انطوان ارتو، الذي فقد جاك ماري بريفيل بعد خمس سنوات، والذي يعد من اخلص المناصرين لفن ارتو الشعري، ونشير هنا لدور متفرد قدمته الشاعرة سامانثا باريندسون في اسلوب نثري متفرد، وكان في واجهة أخرى روفائيل البرتي يتقدم بسرعة في اكتساب مفهوم ارتو اللغوي، والذي هو أهم فهوم شعري حينها، حيث اللغة تناقض مفهومها العام للتعبير، وذلك أقصى ما بلغه الشعر في مفهومه الجديد، ولينا تجربة تقترب كثيرا من انطوان ارتو، وفي تجربة فلاح الشابندر في نصوص – حائط احدب – للمعاينة والدرس .
تشكل نصوص - حائط احدب – الصادرة من دار العارف للمطبوعات تجربة خارج السياقات العامة للشعر في التعبير الشعري وفي فيزياء النص، فالنص عند الشاعر فلاح الشابندر وحدة زمن بكثافة ايجاز لغوي، وهذا ما يجعل وحدة الزمن تمر في اختصارات، ومن هنا تفقد الذاكرة الاجتماعية النسب العالية من دورها، ويكون للوعي والخيال الشعري التعويضات الممكنة عن ذلك الفقدان الزمني وركن الذاكرة، ومهمة اللغة الشعرية هنا ليس تجاوز الشكل الاجتماعي في اطار الوظيفة المعتادة للنص، بل امتلكت اللغو زمام الحرية التامة في التكيف التعبيري، ولم تعد ناصية وظيفة اللغة كما كانت، واللغة في التوظيف الجديد لها لابد ممن تحول اللغة من نمط إلى آخر، وذلك النمط ليس بسائد، وفيها اللغة تبحث عن نفسها لتستقر من جديد في ركن التعبير والتفسير، وهنا تتحول اللغة من كونها وسيلة تعبير إلى كيان داخل كيان النص الشعري، وتلك مهمة صعبة على الشاعر، وعليه أما ارجاع اللغة إلى الركن القديم، أو يحول اللغة إلى الكيان الشعري، ونسب الازاحة ترتفع عند ذلك الكيان، ونسب التشبيه تضمحل تماما، فالشاعر فلاح الشابندر يهدف لخلق فن شعري وليس بشعر يحتمل ذلك الفن بنسب، وذلك سائد، وهذا ما دفع الوعي الشعري عند الشاعر التوجه نحو الاستثناء، ولسنا هنا إزاء المنهج التقليدي للشعر وما يتصل به من ابعاد، بل وفي فكرة جديرة موضوعيا نؤكد لا وجود منهج ثابت للشعر، بل هناك مراحل كل منها يتصف بخصوصيته، ومثلما كانت القصيدة الموزونة هي مرحلة اتصفت بتاريخ، وسيارات اغلب مراحل الحداثة، لكن آخر مراحل الحداثة قامت بتسريع وحدات الزمن، ففي ما بعد الحداثة الشعر استفاد من تلك التحولات، واكتسب المفهوم الاكثر معاصرة له، والشاعر – ونستثني هنا كاتب الشعر – يؤمن تماما بالتجديد كظاهرة معرفة خلاقة، وليس كسياق جديد للكتابة الشعرية، ومن ذلك دخل فلاح الشابندر في الموضوعة وتجاوز السياق .
النص الشعري في مجموعة- حائط احدب – هو استثمار لما مرت به وحدة الزمن اختصار موضوعي، والنص اتجه نحو المستوى الدلالي داخل تلك التكثيف الوظيفي لكيمياء الشعر، بعد انحسار فيزياء النص إلى حد كبير، ليكون ذلك النص برغم الايجاز الموضوعي عالم لا يدرك في الادراك المباشر، بل يحتاج التأمل والامعان به، ففي النصوص التي تحررت من هيمنة النص الموازي، لتكون تلك النصوص بحرية تامة لا يمكن مجارتها، وفي النص .
تقاطعت والجنون
أطاح بي الجنون
برفسة حافر استفهام
منهما إياي
لتفسير هكذا نوع من النصوص الشعرية لابد أن نخرج من القاعدة التاريخية للشعر، والتي تهدف لضمان معنى اجتماعي، وحسب اليوت إذا كان الشعر الوهم والايهام فمن الطبيعي سنفسد القاعدة التاريخية بالخروج الموضوعي منها، والشعر ليس الحقيقة الإنسانية حتى، بل ذلك التصور الذي يضيف لتلك الحقيقة معنى آخر بجدارة لم تعدتها، وتلك تعتبر ذلك النوع من التنازلات القيمة من الشاعر نحو انسانه، وتلك الصيغ ليست بالسهل أن يبلغها كاتب الشعر، بل يصل إليها الفنان بحسه الشعري، ويعتبر الشاعر فلاح الشابندر تجربة في الاطار النوعي، وفي النص المعنون – روزنامة – حيث التعويل على الحس المركب ما بين الذات والمعنى .
تتطاير .. تتطايح
في
ظل الركن
ومثلما تقرأ طالعك
كان عليك
أن تفهم الحياة على نحو أفضل
هنا ستكون مهمة اللغة في بعد آخر يختلف عن البعد العام لها، وعندما تبحث اللغة عن نفسها نقصد بذلك أن تتحول اللغة إلى معرفة وليس تكون في متاهة لتبحث عن تلك النفس الهاربة، وتلك النفس الهاربة هي الوعي والشعر والمعنى، وذلك المثلث تأصل في كيان اللغة، وهذا نفسره بخروج من الوجود الاساس لكينونة اللغة، والدخول في الماهية، ويرى ايلمان كراسنو بضرورة التحول نحو الرؤية الطارئة التي تنتجها رؤيا خلاقة، وذلك يعني تجاوز المهمة التقليدية للشعر، فما هو معرف ومكرس لا يحتاج من الشاعر الخوض فيه، وما طبيعة المهمة الشعرية إذا اخبرني الشاعر بأن الاشجار مثمرة، وذلك ما اجد خلاصته في الافق الاجتماعي وتداول الكلام العابر، ويخبرنا فلاح الشابندر بما لا نعرفه ولم نعيشه، وهذا هو شعر ما بعد الحداثة على اقل تقدير، وفي النص – من شاكلتي – ندخل في ما لا يفسر في الادراك المباشر للمعنى .
بافتراض مشترك ( النسيان )
إن عالما يتكون من اضدادها
بجريرة كينونة خطأ ... ( أنت )
في ذلك المقطع ثم رياضيات حسية تتجه ليس لعم القارئ، بل لتخضع وعي القراءة لتحليل تلك الرياضيات الحسية، والتي قد انتجها تمرين روحي لذات الكتابة، وفي تحليل بنية اللغة في الجمل دون فصلها نجد التعبير يناور بالأقواس، وهناك رأي لرتشارد شيبرد حول ازمة اللغة الشعرية في ظروف آخر مراحل الحداثة وما بعدها، حيث تغير نسق اللغة من التوصيل والتفسير نحو التحليل ما بعد المناورة، ودور التكثيف أو الايجاز الفني هو التفريط بالطاقة الحيوية للنص، والشاعر هو من فرض تلك الصيغ في شعر ما بعد الحداثة، ففي ما بعد الحداثة ما مات الخيال بل مات الادراك العام، والعالم الخارجي استبدل بعالم النص، وذلك المقطع على عكس التصور المنهجي يخلو من الحس، بل هو بحد ذاته اثارة حسية، ويشكل بعد الاستعارة الاستعداد على الدخول في جمل لم يزاولها، لكن بعد التجربة ارتفع مستوى الاستعارة من الاقناع إلى الادهاش، ففي النص – أمسية زجاجية – حيث التداخل أو التعارض في المعاني هو ثلم للدلالة في اصله .
على راحة الليل
ينزلق تلامس الظلال على سراب
الزجاج
نمضي
وآدمية عري أبكم
ترادف المفردات غير المنتظم في الحقل الاجتماعي لا يجعل ذلك الشعر يخلو من التفسير، وقد اشار ريلكه حول اهمية التحول نحو المضوع، ونشير هنا لكي تخرج من الحكي أو مزاولة الكلام، وفلاح الشابندر يجسد بالموضوع لا في التفسير العام المباشر، بل بما يجعل ذات الشاعر تستعد لدور الوعي، ودور الوعي يحيل للذات ليس القصد بل الغاية، وتلك الغاية لا تفرط بمفهوم الإنسان كما يفرط به القصد من أجل تعزيز النفس، والنص هو المفتاح في ما يكون من صعوبة الوصول لرمز مفهوم الإنسان، وكلما كان النص بكثافة نوعية تؤهل اللغة والمعنى والادراك، وفي النص – مؤبد العزلة – يستهل الشاعر بفكرة لا تفاوض .
تعارفنا .. وظلي
مسرات العزلة
الجنون فكرة ...
من الطبيعي في المفهوم الشعري الفكرة تمنحنا الحرية المستوى الحسي لترجمة تلك الفكرة، والعقل الراجح يدرك الفكرة في الشعر لا تفسر من خلال النص، بل كما احال بول كلي لمن يقف امام لوحاته في المنهج التجريدي، [ان ما يحس التلقي هو النص، وهنا لا نقول بذات الفكرة بل بالمجاورة لها، ومفهوم الشعر في ركن التاريخ يستوجب التفسير، فقد فرضت على الشعر مواطن لا تتوافق معه، فالأيديولوجيا بعيدة كل البعد عن صفاء ونقاء الشعر، والشاعر فلاح الشابندر وضع مفهوم الشع في ذلك الركن المهم، فكان مع حرية الشعر، وانبثقت نصوصه الشعرية منها، ويشير يونك لفكرة، أو طرح ذلك المنظور المهم، في أن الموهبة الشعرية هي مركب مستقل بنفسه، وذلك ما يكون في جوهر تفكير فلاح الشابندر، وفي النص – صديقي أيها الحب – يرتفع ايقاع البهجة، لكن لا ينحدر ايقاع الألم .
وكيف جئت مهلهلا
وذهبت وفيك أسى العمر
وحفنة رفاق تعساء
يهتم روبرت موسل بالقوة الخلاقة، ويعتبر تلك القوة تمزج المعرفة بالاستعداد النفسي، والشاعر الخلاق لا يتصف بغير معنى أو سبيل، فلا مسار يأخذ الشاعر نحو مبتغاه، وفي المسار سيرحل الجسد وتبقى الروح، وبذلك الركن الاكثر اهمية قد تعطل، والشاعر الحقيقي جوهر خلاق وليس بمظهر تمثل، وينطلق فلاح الشابندر من أفق هذه الفكرة، ويتجه لجوهر النص ليكتمل الكيان الشعري، وبذلك يمكن للنص أن يكون ذلك العالم البديل للعالم الخارجي، والبرهة الزمنية عند الشاعر هو اعظم من ظرف زمني، إلا إذا كان يتفق معها تماما، وفي نص – حائط احدب – تتجلى فلسفة الشاعر ومضمونها الشعري .
خاصرة الحائط
من بين
الجرح – الشرخ
الشاخص قدر
غير قدرنا
يرى مالكولم برادبري بصعوبة الموضوع الشعري هي الاهم والاجدر، ونوافق مع تلك الفكرة ونشير ليس ذات الموضوع تشكل الاهمية بل الصعوبة بحد ذاتها والتي هي ترفع من نسب الموضوع، والشعر ليس التعابير بل المعاني المنتجة من التعابير، وكلما ارتفعت نسب الكثافة الشعرية تطور المعاني واستعدت الاستعارة لقبول دور مغاير، وهنا يكمن نقطة ارتكاز اشتغال فلاح الشابندر الشعري، ففي النص – قلب عائم .. – تتحق الفكرة التي ذهبنا اليها حول صعوبة الموضوع .
حلمت صار عندي... سر؟
مران... العزلة لطالما تمنيت
الدائرة أكمل الأبعاد
مران الدوران ...... مران
الشعر صراحة في مرحلة ما بعد الحداثة لا يمتلك الحلول لمشاكل المجتمع، بل الشعر ذلك اللحن الخالي من المرونة وغير المتخلي عن الشجن، ولا المبتعد عن التأمل الروحي، والنص المعاصر مصفاة ضخمة لهموم الشاعر، فتبقى ولا تزول تلك الهموم الحسية المتصلة بالنص وليس بذات شخص الشاعر، ففي النص – ما يجول في خاطر الشمعة ؟؟ - هنا خلاصة فلسفية هائلة .
ما يستر ظاهر الفراغ
نقطة ... أجهلها
والتي لا يمكن أن
أكونها
تجربة الشعر عن فلاح الشابندر في نتاجه الشعري – حائط أحدب – لا تسير في ركاب الشعر في مساره العام، فهناك خصوصية التجربة، ونمط الكتابة الشعرية ليس هو المكتوب ما نعني به، بل ما نتمكن منه من القراءة الموضوعية، حيث يكون الشعر كما مفازة لا تجذبنا نحوها بل علينا تدبر الأمر، وصراحة بالنسبة لي شخصيا الشعر العظيم هو العصي على الفهم والادراك المباشر، فالشعر مجموعة احاسيس، ومن الصعب جدا العثور على تعبيرات تنيب عن ذلك الحس، والشاعر الحقيقي من فلاح الشابندر حتى لو تعارض مع نفسه من أجل بلوغ المعنى الشعري لا يتراجع، وتلك المهمة شاقة على مستوى المشاعر والحس لكنها عظيمة في النتيجة المرجوة، وتلك سعادة كبيرة في أن تكون كما انطوان ارتو لا يفهمك إلا القلة من العقول ذات العمق الفكري الرصين .
***
محمد يونس محمد