قراءات نقدية
كوثر بلعابي: بين كون الشعر وكون الكائنات.. قراءة وصفيّة في ديوان نجاة الورغي
المجموعة الشعرية: مناجاة مع الكون والكائنات
تقديم: تذكّرتُ وأنا اتصفّح المجموعة الشّعريّة: " مناجاة مع الكون والكائنات " لشاعرتنا الأستاذة نجاة الورغي دراسة لجابر عصفور تناول فيها مسألة حضور الطّبيعة في الشّعر العربي على امتدادِ فتراته التاريخيّة وطرقِ تفاعل الشّعراء مع عناصرها أرضيّةً كانت أو سماويّةً.. فذكر أنّ العَيْنَ التي نظر بها امرئ القيس الى الكون والكائنات حين ناجى الليل ووصف السّيل والخيل هي ذات العين التي حاور بها ابن خفاجة الجبل وصّور بها كلّ من الشّابّى ومي زيادة ونازك الملائكة الوجود بِبُعدَيْه المحسوس والمُجرّد وهي على حدّ قوله: (عَيْنٌ طِفلةٌ أدركت على سجيّتها حقيقةَ الصّلةِ الرّمزيّة بين الإنسان والكَوْنِ واستطاعت بذلك ان ترى في الطّبيعة وعناصرِها مرايا للإنسان وأوجهِ وجوده فأسكنتْه عالمَها الشّاعريَّ الأليفَ فاتِحة إيّاه على مستويات عديدة من الحوار الفنّيّ) وهو الذي أطلقت عليه شاعرتنا لفظة المناجاة.. ولعلّ جابر عصفور يحاول بذلك البحث في ممكنات الكون الشّعري الذي شكّلته القصيدة العربيّة في العُموم في تعاملها مع الكون الوجودي وكائناته خاصّة وهو يعتبر أنّ الشّعر في معناه المُجمَل: (هو صدى الكون والكائنات الكامنُ في تردّدات اللغة حين تخترق الزّمان والمكان في اتّجاه الفكر والوجدان يدفعها بحث كَونيّ في مَجاهل الذّات وما يحيط بها فتتسامى وهي مُحمّلةً بالرّؤى والخيالاتِ المدهشةِ على مظاهر الحَيف والدّناءة في الواقع الاجتماعي وتسعى إلى استشراف كلّ ما هو راقٍ ورائقٍ في الوجود والمَوجودات بلغة منفتحةٍ على فِتنةِ الجمالِ المُدهِش..) فبِهذا التّعريف وضع جابر عصفور نِسبةً معتَبَرَة من قصائد الشّعر العربي قديمِه وحَديثِه في سياق استنطاق الكون والكائنات بحثا عن الدّور الخارق والاستثنائي للشّعر في الكشف عن منزلة الإنسان في الوجود بين الكائن والممكن وحتّى المفروض ممّا يحملنا إلى القول بالرّسالة النّورانيّة والثّوريّة لهذا الصّنف من القصائد خاصّة وأنّها تصدّرت تجارب عدد من الشّاعرات في زمننا وفي تونس والبلاد العربية منهن الشاعرة نجاة في هته المناجاة التي تنتصر للسّموّ الإنساني وللسّموّ النّسائيّ خصوصًا..
فمن تكون نجاة وكيف ناجت في شِعرها الكائنات ؟؟
تعريف:
نجاة الورغي.. تونسية اصيلة تبرسق من ولاية باجة متحصّلة على الأستاذية في اللغة والآداب الفرنسية وعلى الإجازة في اللغة والآداب الرّوسيّة.. تكتب الشعر والقصّة بالعربية والفرنسية كما ترجمت العديد من الروائع الأدبية لتونسيين وأجانب نقلا وتعريبا.. فازت بجائزة نادي الطاهر الحدّاد للشّعر باللغة الفرنسيّة (1992) وجائزة زبيدة البشير (الكريديف. 1996) وتحصّلت على وسام الاستحقاق الثقافي (1996) وجائزة منتدى المتوسّط للقصّة القصيرة باللغة الفرنسية (2013).. من إصداراتها: بالعربية: انا لست شاعرة.. وبالفرنسيّة: nuages وamour proche. Amour lointain.. أحدث إصداراتها المجموعة الشعريّة: " مناجاة مع الكون والكائنات " (2023)
وصف خارجي:
" مناجاة مع الكون والكائنات " كتاب سماوّي الغلاف بصورة لغسق لا يزال ملتحفا بالزّرقة الليلكيّة والنجوم تنازعه الضّياء تُوَلّي إليه وجهَها طِفلةٌ تعتلي غَيمَِة الأحلام وكأنّها تنتظر بِشغف ولادة اليومٍ الجديد.. قد تكون حلم الشّاعرة المسكونة بطفولتها او تلك " العين الطّفلة " التي تحدث عنها جابر عصفور وهي تبحث عن (حقيقة الصّلة الرّمزيّة بين الإنسان والكون) أثناء مخاض يومه.. يُشرِق العنوان بلون الشمس الوَضيء على زرقته المُريحَة مُحدّدا الصياغة اللّغويّة لمحتواه: مناجاةً ووِجهَةً هذه المناجاة (الكون ومافيه بل ومَن فيه).. هذه الكلمة ذات المعاني المتعدّدة معجما ومجازا هي صيغة مصدر من ناجاه يناجيه مناجاةً ونجوى بمعنى سارّهُ وباح له بما يجيش في خوالجه.. وناجى الله بمعنى دعاه وإليه تضرّع وبثّ شكواه.. والمُناجَى أو النّجيّ هو الذي نأتمِن صدقَه وإخلاصَه فنُسِرّ له بما في أنفسنا.. والشاعرة هنا اتّخذت الكون والكائنات (يعني عناصر الكون) بمعناها الطبيعي والرّؤيوي نَجِيَّهَا.. ومادّة هذه المناجاة ذات الدّلالات المجازيّة هي قصائدها الواحدة والثلاثون التي نجد أولاها على الوجه الثاني للغلاف موجّهة إلى المتلقّي بشكل مباشر بواسطة ضمير المخاطب مطلقا في صياغة وكتابة توشيحيّة مُوقّعة على وزن الرّمل تضمّنت تبريرا في إهاب رومنسيّ للتلك الصّلة الخاصّة والشّفيفة بين الشاعرة المناجِية والكون المناجَى..
ضمّ الكتاب أيضا تصديرا بعنوان: معارَضة مقفّاة للدكتورة فاطمة لخضر هي عبارة عن تقييم لا يخلو من نزعة شاعريّة لقصائد شاعرتنا وإحالة على وظيفة الشّعر في الحَياة: (ص 6 : في بَوح شفيف لِقارئ مشتاق
تجلّت مناجاة الشاعرة
بِرويّ سِمَته الانعتاق
مشاعر فيّاضة عميقة شاسعةُ الآفاق...
... شِعرها إيقاظ للغافِل الوَسنان
وحَفر في منابع الوجدان
غايته إدانة العنف والغدر والظلم والبهتان
وإعلاءُ رايةٍ خفّاقة بأسمى قِيَمِ الإنسان)
هذا التّصدير يُعاضده الإهداء المحتفي بالسّماء تأمّلا وبحثا في أسرار الكون سموّا بذاته عساها تبلغ مراتب الفعل الجميل والجليل..
ذاك مغزى مناجاة شاعرتنا للكون تلك المناجاة المجازية التي هي في الحقيقة رسالة شعرية موجّهة إلى الإنسان وقد ساءها سقوطه من مرتبة الاستخلاف إلى قاع (الغدر والجحود والتجنّي) كما ردّدت قصائدُها..
وصف داخلي:
هذه القصائد وزّعتها الشاعرة إلى باقات أربع حسب الحالة الشعرية ووجهة المناجاة كالآتي:
_ البوح... قالت الشّاعرة
_ لمسات كَونيّة ونجوم
_ كوكبنا..
_ رجع الصّدى... قالت الكائنات..
وهي بهذا التّقسيم قد نبست بملامح كونها الشّعري الذي نفذت منه الى محاورة الكون والكائنات لا سيما القول / الكلمة النابعة من الوجدان.. والفضاء السّماوي بسموّه ونَورانيته.. والأرض بحنوّها على أبناء رحمها حتى الجاحدين منهم.. وصدى الوجود الفاعل في الشعر والشعراء.. فنحن إزاء كون شعري تسبح الكلمة في أوساعة بين الأرض والسّماء وجهتها الحقيقيّة هي الإنسان لذلك حكمت كتابة هذه القصائد المناجاة ثلاثيّةُ:
_ السّؤال (خاصّة في قصيدتين لافتتين ص 32 أ هي حائرة ؟: أ هي حائرة لا تنام / رفيقُها الظّلام...
و أ هي صامتة ؟: أ هي صامتة تلك النجوم / أم هي ساهمة إيانا تلوم؟ / عن الهيام بالسّراب / عن الغَوص في الضّباب / عن الارتياب..) ونجد الشاعرة في موضع آخر تضع الكتابة ذاتها في موضع التساؤل في مغزاها ووظيفتها إذ أوردت في قصيدة: تساؤلات ص 27: (أ انتم سطور كتبتها الصّدف؟
حروفها اختفت قبل أن تجفّ ؟
أ بقايا ميثاق خُطَّ بِحبر الفراق؟
غابت عنه البُنود عبر العهود...)
_ التّمرّد: في سياق الانسجام مع الفضاء الكوني والتعارض مع الفضاء الاجتماعي ممّا افرز قصائد تتغنّي بالسماء والنجوم مساحة لسعادة الحلم والخيال.. وتتذمّر في المقابل من مظاهر السّلوك السّلبي للكائنات الاجتماعية.. تقول مثلا في: (ص 42... أرحّب لِحين بِبَدرٍ أو هلال / معه أجول بأجنحة الجذل / سعيا للوصول إلى كواكب تمرّ سريعا أو على مهل...
... بعيدا عن الصّلف / في فيافي العبث / في فجاج الإعياء والغيوم) ثمّ نجد شاعرتنا في القصيدة الأخيرة التي أفردتها بباقة رجع الصدي ص 85 تعبّر مستعيرة أصوات البحار والقارّات والكواكب والمجرّات لتعلن تبرّمها ممّا يقترفه الناس من جرائم وخطايا في حقّ كوكبهم وفي حقّ إنسانيتهم وبعضهم بعضا: (كوكبكم يتصارع / الأجناس تتطاحن / تمقت التّوازن / تنحر الأمان / لا شيء يسرّ / حين نمرّ / مخلوقات تنتشر / منها مَن يتّجر / بمُهجتِه والسّلام...)
_ الإقرار: جسّدته في جمل تقريريّة مثبتة affirmatives بالمقوّمات المثلى التي مثّلت أساس المناجاة لما ينبغي أن يكونه الإنسان والشاعر تحديدا حتى يرتقي بيكون إلى مصافّ " مرايا الكون" على حدّ عبارة جابر عصفور فأشادت بالأرض التّوّاقة إلى أعالي السّمَاء وبالإنسان الأمثل الذي يجسد معنى الاستخلاف الحقِّ محافظا على سلامة نوعه وسلامة كوكبِه وذلك في ص 68: (يُحالف المدى / يتصدّى للجحود / يحتقر البغضاء / على الدّوام يُجيد / فنون الاحتماء / بالجرأة بالتّجديد / بِدروع الإباء) وها هي شاعرتنا تُشيد في مواضع عديدة بالشّعر والشّعراء ودورهم المتقدّم في تحقيق هذه المعاني إذ كتبت عن المرأة الشاعرة ص 58: (نحن نور وملكات / نحن لغات ونغمات / نهب الأكوان أنغامنا والبيان.../... نرسم السّحر في الفضاء / للوحود للأنام / نحن نُلَوّح بالأمان..)
تلك ملامح الكون الشعري لنجاة الورغي وهي تناجي الكون الوجودي في قصائد رومنسيّة الرّوافد حتّى أنّها أهدت قصيدة (غربلة على كوكب الأرض ص 74) إلى روح ميخائيل نعيمة وجوديّة الأبعاد بمحمول صوفيّ تجلّى خاصّة في كثافة المعجم السّماوي برمزيته القِيَميّة التّجريديّة وتلك التّوظيفات ذات العمق التّعبيري لأسلوب التّشبيه البليغ على طريقة ابي القاسم الشّابّى وهو يقارب مثلا في قصيدة: " للأبد الصّغير" بين قلبه وبين عناصر الكون الفسيح.. وخاصّة ذاك الإيقاع التّراتيلي القائم على ترجيع التّراكيب النّحويّة (مِنهم مَن صفا.. منهم مَن ارتمى.. منهم من جَنَى) وتَجانُس الصّيغ الصّرفيّة (تَسارعٌ.. تَسابُق / صمود.. خلود) في أجراس صَوتيّة مُتَعاوََدةٍ أضفت غنائيّةً مؤثّرة على مناجاة الأكوان التي هي في الحقيقة نشيد الإنسان..
صفوة القول:
هكذا مثّلت المناجاة كتابة لصيقة بذات الشّاعرة في انفعالاتها وتأمّلاتها وهي تعبّر عن (شوق الحياة وأسرار الملكوت) ذاك المعنى الذي ترجمته قصيدة الشّابّى (إرادة الحياة) فكانت بذلك صدى لتجربة حياتيّة مُوازِنةٍ بين القلق والتّمرّد في بحثها على حدّ قلم جابر عصفور " عن جوهر الإنسان الحرّ و الأمثل في مرايا الكون والكائنات" دواتُها جماليّة التّوظيفات السّلسة للّغة وتلك الخيالات الرّومنسية الشّفيفة القائمة على جملة القيم المثلى المُستمدّة من الانسجام الأبديّ للكائنات داخل أوساع الكون وبين مجرّاتِه.. تلك المعاني السّامية التي تتسرّب سريعا إلى الذهن والوجدان.. أ ليس حسن الوقع لدى المتقبّل هو المعيار الأوّل لنجاح الشّاعر في تَجويد القصيد؟؟
***
بقلم الأديبة التّونسيّة: كوثر بلعابي