قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: بين عذوبة الانفعال وصدق الحرف

قراءة نقدية في قصيدة (يا شعر مالي عن هواك بديل)، للشاعرة الفلسطينية مقبولة عبد الحليم.
في مسار الشعر الإنساني، تقف القصيدة التي تبدأ بـ"يا شعر مالي عن هواك بديل" كنموذج للانغماس العميق في وعي الذات، وحوارها مع الجرح المتألم والمبنى العاطفي المرهف. هذا النص لا يحمل فقط كلمات، بل هو رحلة روحانية في دفق من الوجدان الملتبس بين الأمل والخوف، بين التعبير عن العشق والتساؤل عن قيمته في عالم مضطرب. تذوب الحروف هنا في سائل من العاطفة، حيث لا تكون القصيدة مجرد تسلسل لغوي أو سردي، بل هي صورة مرآوية للذات في لحظة صراعها مع الصمت والفقد.
مع توظيفها للغة بليغة تتمازج فيها الصور البلاغية والتكثيف الرمزي، تعيد الشاعرة تشكيل العلاقة بين الذات والعالم، وبين الحب والفقد. فالقصيدة لا تروي قصة عشق، بل تتناغم مع قلق الوجود، محملة في طياتها تساؤلات فلسفية عن الكينونة، والزمن، واللامكان. في هذا السياق، يشكل "الحرف" ليس مجرد وسيلة نقل، بل هو الأساس الذي تتنفس من خلاله الروح، وتغذيه، حتى يصبح هو نفسه شاهداً على رحلة الوجود المتعثر بين الحزن والرجاء.
تدعونا هذه القصيدة إلى العودة إلى اللحظة الأولى التي يتحقق فيها الوجود من خلال الإحساس بالانتماء إلى الحرف والكلمة. هي دعوة لتأمل تلك العلاقة العضوية بين الإنسان ولغته، تلك التي قد تتوه في خضم الحياة اليومية، لكن يبقى الشعر هو المنفذ الأكثر صفاءً لفهم الوجود بكل تعقيداته.
كما يمثل النص الذي بين أيدينا تجسيداً حيّاً للحوار الداخلي بين الشاعرة مقبولة وحرفها الشعري، حيث يتبلور العشق الأبدي للكلمة باعتبارها ملاذاً وجدانياً ومتنفسًا روحيًا. يظهر الشاعر هنا وهو يمارس طقس المصالحة مع ذاته الشعرية، متنقلًا بين أتون المواجع وأمل الانبعاث، بلغة مشحونة بالعاطفة وملتزمة بميزان الإيقاع وجمال التصوير.
فمن ناحية البنية الموضوعية نجد أنّ هذه القصيدة تقوم على ثنائية أساسية: الفقد والحنين، التقهقر والانبعاث. الشاعرة تسائل نفسها عن تبدل الإحساس، متسائلةً عن ذبول النبض الشعري الذي كان يوماً ما فياضاً. هذا التأمل في أزمة الكتابة وذبول الإلهام، جعل النص مشدوداً بين قطبي اليأس والأمل. أما اللغة والصور البلاغية فقد اتسمت في النص برهافة حسية وعذوبة صوتية. اعتمدت الشاعرة مقبولة صوراً حية مثل: "جودي شعوراً حلّقي وتألقّي"، "كوني الندى والزهر"، حيث نجد أن المجاز اللغوي قد حضر بقوة، من خلال تشخيص الحرف، واستعارة الطبيعة (الندى، الزهر، الشهد) لإيصال الانفعال الداخلي.
تنتمي هذه الصور إلى إرث بلاغي كلاسيكي، لكنها جاءت منسوجة بخيط وجداني صادق، مما أنقذها من الوقوع في التكلف. حافظت القصيدة على إيقاع بحري موزون (قريب من البحر الكامل)، مع التزام نسبي بالقافية الموحدة، مما عزز الانسجام الموسيقي. غير أن القصيدة لم تكتفِ بالإيقاع الظاهري، بل غذّته بموسيقى داخلية نابعة من تكرار الحروف الموحية (مثل السين واللام)، والتي تعكس انسياب العاطفة الحزينة وتوترها الدفين.
في هذا السياق لا يمككنا إغفال ما كشفته القصيدة عن رؤية فلسفية للوجود الشعري، إذ يصبح الشعر هنا كينونة قائمة بذاتها، لا مجرد وسيلة للتعبير. هو الوطن الذي يحتضن الروح، والمرفأ الأخير في زمن الصمت الثقيل، كما صورته الشاعرة مقبولة عبد الحليم:
"لكنه الصمت المقيت وأهله / صوت الصدى في الخافقين ثقيل"
ومن هنا يحضر الوجود الشعري كجوهر، لا كظاهرة عابرة.
من الواضح أنّ الأسلوب يغلب عليه الطابع الإنشائي (نداء، أمر، استفهام)، وهو ما ينسجم مع الجو العاطفي المتوتر للنص. فهناك شوق مُلِّح، رغبة في استعادة لحظة الصفاء الشعري، مع إدراك مأساوي لصعوبة ذلك. وهذا الانفعال الأصيل يحمي النص من السقوط في سطحية التعبير.
بمنهج أقرب إلى النزعة الرومانتيكية، ينجح الشاعر في إعادة تأسيس العلاقة الوجودية بين الذات والحرف. هناك وفاءٌ نادر للحرف باعتباره صورة أخرى للنفس، ورفضٌ صامت للانصياع للصمت أو القنوط.
على المستوى الجمالي، تمكن النص من المحافظة على توازن دقيق بين العفوية والإحكام، بين الانسياب العاطفي والإيقاع البنائي. ولعل هذه القصيدة تذكرنا بما قاله الفيلسوف الألماني مارتن هايدغر عن "اللغة" بوصفها "منزل الوجود"، فالشاعرة هنا تحتمي في بيتها اللغوي من برد العالم وقسوته. كما تُحاكي القصيدة روح الرومانسيين أمثال ووردزورث، الذين رأوا في الشعر استجابة طبيعية لعواطف متأججة عبر لغة موزونة.
الخاتمة:
تمثل قصيدة (يا شعر مالي عن هواك بديل) للشاعر مقبولة عبد الحليم مثالاً على ما يمكن تسميته "الوجد الشعري المأزوم"، حيث تتحرك الشاعرة في مساحة فاصلة بين حلم الكتابة وكابوس الفناء الروحي. ومن خلال إيقاع متماسك، وصور متدفقة، ينجح في استبقاء حرارة الانفعال رغم ظلال الصمت المخيم.
ومع ذلك، تظل الحاجة قائمة إلى توسيع مساحة الابتكار البلاغي، وتكثيف المشاهد الشعرية، بما يعزز من فرادة التجربة ويجنب القصيدة الوقوع في التقريرية العاطفية.
***
بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين.
......................
يا شعر مالي عن هواك بديل
يا شعر مالي عن هواك بديلُ
والحرف يسري في دمي ويقول
*
هل قد تصحّر فيكِ إحساس طغى
قد كان مثل الشهد حين يسيل
*
جودي شعورًا حلّقي وتألقي
رغم المواجع يَعْدُك التعليل
*
مهما ابتعدت وكنت أنت قصيّة
فأنا رفيفك للوصال عجول
*
قد كان نبضك بالقصيدة مولعًا
ماذا جرى كي يعتريه ذبول !!
*
أنا قد رأيت الدمع منك مواسيًا
وطنًا وآهًا في نِداك تطول
*
لكنه الصمت المقيت وأهله
صوت الصدى في الخافقين ثقيل
*
ظلي على عشق التراب وأفرطي
واملي الدنا أملًا وليس يزول
*
كوني الندى والزهر حيث تولهت
فيه الجنائن والشذا مسدول
*
أوجاع فكرك طببيها دلّلي
روحًا عرفتُ وعشقها التدليل
*
رغم المواجع لن تغادر لحظة
فيها نحلّـق للسما ونجول
*
سحرًا جنونًا يعترينا يحتفي
فينا تعالي فالجنون جميل
*
فحضنته ناغيته حتى انتشى
وقصيدة صرنا وساد ذهول
*
يا حرف أنت المشتهى والمنتهى
فلقد عشقتك وانتهى التأويل
***
الشاعرة مقبولة عبد الحليم