اخترنا لكم

أحمد المسلماني: إلغاء نظرية النسبية

في كتابه الصادر عام 2023 «العلوم الزائفة.. مقدمة قصيرة جداً» خصّص مؤلفه «مايكل دي جوردين» أستاذ التاريخ في جامعة برينستون الفصل الثالث لما أسماها «العلوم مُفرطة التسييس».

لقد دخلت السياسة في العلوم الطبيعية كما دخلت في معارف عديدة وأفسدتها. وكم كان صادماً أن تتجاوز السياسة العلوم الاجتماعية إلى قلب العلوم الطبيعية للنيل منها وتوجيه نظرياتها، بل وإلغاء بعض فروعها.يتوقف «مايكل دي جوردين» طويلاً أمام النازية في ألمانيا والستالينية في الاتحاد السوفييتي كنموذجين للعلوم فائقة التسييس. وفي الستالينية يتوقف المؤلف أمام عالم الزراعة السوفييتي «ليسينكو»، الذي أسّس «علم الأحياء الزراعي»، وفي النازية توقف عند عالم الفيزياء الشهير «فيليب لينارد» الحائز على جائزة نوبل عام 1905.

ولد العالم السوفييتي «ليسينكو» في أوكرانيا، ودرس علوم الزراعة، ثم اهتم بعلوم الوراثة. وفي عام 1927 نشر مقالاً في صحيفة البرافدا الشهيرة قال فيه إنه قادر على تغيير الخواص الوراثية للنباتات عن طريق الإجهاد البيئي، وأنه نجح في زراعة بازلاء شتوية في مناخ شبه استوائي.

أصبح «ليسينكو» لاحقًا عالماً رسمياً للبلاد، فقد قام ستالين بدعمه، وأيده الحزب الشيوعي، ووصل نفوذه إلى قيام السلطات بتجريم «علم الوراثة» الكلاسيكي لصالح علم الوراثة الجديد أو «علم الأحياء الزراعي» الذي أسسه «ليسينكو».

لم يستمر ذلك المجد طويلاً، فبعد رحيل ستالين بدأ العلماء السوفييت في نقد ليسينكو، وتحدثوا عن كذب تجاربه وزيف نتائجه.

في الغرب كما في الشرق كان هناك من يروجون للعلوم الزائفة. وقبل النازية بكثير ظهرت نظريات تحسين النسل، وصاغ أحد أقارب تشارلز داروين وهو «فرانسيس جالتون» مصطلح «علم تحسين النسل». تحدث جالتون وغيره عن إمكانية تحسين الصفات الوراثية للإنسان، وبناء على ذلك يجب دعم التناسل لدى الأفراد الصالحين، ومنعه لدى الآخرين.

لم تكن هذه الأطروحات صحيحة بأي حال، وبحسب المؤلف.. فقد أصبح «علم تحسين النسل» في أميركا مسيّساً للغاية، وفي عام 1926 تأسّست «الجمعية الأميركية لعلم تحسين النسل».. وكان ذلك نموذجاً آخر للتسييس المفرط للعلم.

يُعدّ التسييس النازي للعلم هو النموذج الأشهر في هذا الصدد، فقد نشر عالم الفيزياء الألماني «فيليب لينارد» كتابًا بعنوان «الفيزياء الألمانية»، وهو كتاب ضخم صدر عام 1935 من أربعة أجزاء، يرى فيه العالم الشهير أن العلم يتحدّد بالعرق والدم، وأن هناك أنواعاً من الفيزياء يتحدد كل نوع فيها حسب نوع البشر!

كان لينارد داعماً للنازية قبل وصول هتلر للسلطة، بل إنه استعجل وصوله وشارك في انقلاب هتلر في ميونيخ عام 1923. هاجم لينارد نظريتي «النسبية» و«الكم»، وقال إنهما سيتم حذفهما من مناهج التعليم الألماني.

في كتاب «الرجل الذي طارد أينشتاين» جرى عرض تطور ثم تدهور العلاقة بين أينشتاين ولينارد. في مرحلة التطور قال أينشتاين إن «لينارد هو الأستاذ العبقري والعظيم»، وأرسل لينارد تحية تقدير لأينشتاين على النظرية النسبية. وقد كان لينارد أسبق إلى نوبل من أينشتاين، فقد حصل عليها لينارد عام 1905، وحصل عليها أينشتاين عام 1921.

في مرحلة التدهور هاجم أينشتاين لينارد وقال: «إن نظرياته عن الأثير طفولية، وبعض أبحاثه مثيرة للضحك، والإعلام هو الذي يروج لأينشتاين». لم يكتف لينارد باستهداف أينشتاين بل استهدف الفيزياء النظرية كلها، فوصفها بالمدرسة التكعيبية، وأن علماءها لا يجيدون الفيزياء كما لا يجيد الفنانون التكعيبيون الرسم.

كان حنق لينارد على أينشتاين كبيراً، وحسب الكتاب فقد سخر لينارد من شهرة نظرية النسبية في العالم، وقال: «إن ولادة ماعز في اسطبل لن يجعل منها حصانًا أصيلاً»! وكان رد أينشتاين: إن لينارد شخص مختل!

في الواقع.. فإن لينارد الذي حوكم بعد هزيمة هتلر، وتم إرساله إلى قرية نائية يعيش بها ما بقى من حياته، كان ناقماً على كثير من العلماء، مثل هايزنبرج ورونتجين وماري كوري.

لقد اعترض «فرنر هايزنبرج» على رؤية لينارد، ورأى أنّ نظريتي النسبية والكم هما نظريتان فيزيائيتان صحيحتان. وقد حرّض عليه لينارد، ولولا أن والدة هايزنبيرج كانت صديقة لزوجة هيريش هيملر المقرب من هتلر، وكانت تلعب معها «البريدج»، لكان مصير هايزنبيرج السجن.

هاجم لينارد أيضاً العالمة الكبيرة ماري كوري، كما قلص من أهمية ويليم رونتيجين مكتشف الأشعة السينية، وقال: «أنا أبو الأشعة السينية وليس رونتجين، لأنني اكتشفتُ الجهاز الذي يستخدم لإنتاجها، ورونتجين أشبه بالقابلة (الداية) التي ساعدت في عملية الولادة، وليس أكثر!

وفي كتابه «رجال عظماء في العالم»، الصادر عام 1933، لم يذكر لينارد أينشتاين ومدام كوري ورونتجين.

من المثير هنا أن عالم الفيزياء الألماني «يوهانسن شتارن» الحائز على جائزة نوبل عام 1919، كان مؤمناً بالفيزياء الألمانية «الآرية»، وقد هاجم بدوره النظرية الكميّة لأسباب سياسية.

كان مؤلف «العلوم الزائفة.. مقدمة قصيرة جداً» موفقاً في وصفه المعركة بين لينارد وأينشتاين بأنها «نموذج للعلم القبيح». ولقد كانت الولايات المتحدة محظوظة للغاية بذلك التسييس المفرط للعلم في ألمانيا، فقد هرب العلماء إلى بريطانيا ثم أميركا، وكان دورهم جوهرياً في النهضة الكبرى التي شهدتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.. مدنياً وعسكرياً.

واليوم.. اختفى ذلك التسييس المفرط للعلم، لكن العلوم الزائفة تتمدد، وقد أعطت وسائل التواصل الاجتماعي مساحة هائلة لانتشار العلوم الزائفة. ثم إن العلماء الزائفين طوروا من أدواتهم وباتوا يسبغون على أفكارهم صبغة علمية، لطالما نجحت في خداع كثيرين.

لقد أتاحت الترجمة العربية لذلك الكتاب والمتاحة مجاناً على شبكة الإنترنت فرصة لمعرفة المزيد في هذا الصدد.. لقد حان الوقت لمواجهة هذا الصعود الكبير لمروجي نظريات المؤامرة والعلوم الزائفة. العلوم الزائفة خطر على ثقافتنا وحضارتنا.. العلم هو الحل.

***

أحمد المسلماني - كاتب مصري

عن جريدة الاتحاد الإماراتية، يوم: 24 يوليو 2025 23:45

في المثقف اليوم