قراءات نقدية

صالح الطائي: مع "أوجاع على نهر الغراف" للأديب الروائي د. رحيم جودي

تبدأ العلاقة الأسلوبية اللغوية بين الأديب والمجتمع في اللحظة التي يلج فيها الأديب إلى روح المجتمع ليستلهم منه إرهاصات وومضات قلمه، وعدسة رؤيته ليرسم صورة حدث قد تبدو لغيره غير واضحة المعالم، ويسطر أحداث حكاية رصدتها الأعين، وهي نفسها كانت حدثا ترك أثره في القلوب، لكن دون ان يجرأ أحد على مزج الصورة بالكلمة ليصنع حكاية تندك في عمق الواقع. وهو بعمله ذاك يفتح باب الخيال من خلال تزاوج واقعي يجمع موهبة الأديب في استخدام خزينه اللغوي، مع الأسلوب السردي البعيد عن التعقيد، بما يبدو وكأنه محاكاة حقيقية لأوجاع المجتمع، وهو أمر بالغ الأهمية والضرورة لأنه يجعل المتلقي جزء من العمل، بل جزء من الحدث نفسه، بمعنى أنه يحشر المتلقي ضمن تلافيف النص وحدود الرؤية، وذلك وحده ممكن أن يُحدثَ تبادلا إيجابيا بين السارد وبيئته ومجتمعه ويمزق شخوص الحكاية للتفاعل مع الواقع الحياتي للمجتمع بشكل عام، حتى لو كانوا مجرد شخوص وهميين مبتكرين لا وجود لهم على أرض الحقيقة، وتلك إشارة واضحة للموهبة والقدرة الفريدة على خلق أشخاصا وأحداثا وهمية لا تمت للواقع بصلة تذكر، تنجح غالبا في خداع المتلقي، فلا يستطيع التفريق بينها وبين الحقيقة، في عالم مغرق بالعجائب.

من هنا أرى أن الأديب الذي يلتقط أنفاس المجتمع وهمساته وتداعيات حياته اليومية والصورة التي ترتسم على الملامح الرثة المتعبة ليخلق منها رواية تلقى قبولا غير مسبوق، هو الأديب الحقيقي، الذي يجازف بكل ما يملك، فيخوض دون تردد مغامرة غير أكيدة، ليجعل من عمله المقتبس من الحياة بشكل فانتازيا مغرقة بخيالات بوهيمية تجمع بين الطيبة والشراهة مرآةً تعكس صور تلك الأجسام التي لا يمنحها التصوير التقليدي مساحة لتُظهر جمالها الداخلي؛ صورة تدهش القارئ وتثير سيلا من الأحاسيس من خلال تفعيل المخيال (Imagination) (1) الذي تحفزه بشراهة، وتدفعه عنوة كشفا وتطلعا لما هو أبعد من حدود العقل الساذج والروح التقليدية، فالمخيال: ضوء يستخدم عادة من أجل عكس صورة بعض الحاجيات ذات اللون الداكن أو الشفافة على الشاشة، لتصبح واضحة ومرئية، وهو من مصطلحات علم النظريات (2).

وأنا واقعا تعمدت استخدام هذا المصطلح وفقا لرأي "غراسي" في القضايا التي عالجتها النزعة العلموية الوضعية، وقصرت أبحاثها عليها في محاولتها توجيه النظر إلى أهمية مسائل (الصغرى) "الميكرو" التي حجبتها قضايا (الكبرى) "الماكرو" (3)، لأني وجدت رأيه يعبر تعبيرا حقيقيا وصادقا عما أردت قوله عن رواية "أوجاع على نهر الغراف"، وما انماز به الراوي رحيم جودي في عمل هو بكر نتاجه الأدبي.

ذلك لأن ما يميز الإنسان ويعطيه الخصوصية الوجودية التي تعينه على التفاعل مع الحدث هي قدرته على عقلنة فوضى الأشياء، دون أن يعيد خلقها وفقا لتطلعاته، وإنشاء شبكات عديدة من الرموز والمعاني التي تتداخل فيما بينها لتخلط بين الخيال والواقع، لتسعى من وراء ذلك إلى إعادة تأثيث الواقع، وهي محاولة لإعادة بناء العالم المادي والمعنوي وفق سياقات المنطق واللامنطق، وبالتالي أرى أنها هي التي تُرسي نظام العلاقة الخلاصية المبتكرة والواقعية بين الكاتب وبين المجتمع.  فالكاتب مهما كان مبدعا ومتألقا يبقى حبيس هاجسه ما لم يغادر المساحة الشخصانية الضيقة التي يحشر بعضهم روحه فيها، ليسيح بدلا عن ذلك في دنيا الوجود بكل إرهاصاته وخيالاته ووقائعه وكل صور الطيبة والتوحش فيها.

إن اقتباس الكاتب من عمق المجتمع صورا مختلفة الأبعاد ليعيد بهرجتها وتزويقها وإعادة بنائها من أجل أن يخلق من مجموعها حدثا يثير التساؤل والشكوك، هي مرحلة النضج الروائي الحقيقي، فالسرد وحده لا يخلق تواصلا أثيريا بين الكاتب والمتلقي، بل هو إعادة بناء مبتكرة لصور المعاناة والفرح بما يمنحها ملامح شخصانية يشعر المتلقي وكأنها تعكس صورته، وهي الفعل الأثيري الذي يعيد تحديد الهويات، من خلال صور التناقض التي تزدحم فيها، ومن خلالها تستوطن في الروح.

إن رواية "أوجاع على ضفاف الغراف" محاولة للارتحال عبر بوابات الزمن بحثا عن عشبة الخلاص من كمد الروح الإنسانية التي أظنت الأيام بسمتها، فضاعت أمنياتها في سيل عرم من التداعي الأخلاقي المدعوم بإرهاصات مجتمع البساطة وسطوة الإرث القبائلي المتمثل بروح البداوة التي ترفض مغادرة الواقع الحياتي، وكأنها عصية على أي تغيير يسعى إليه المجتمع من أجل التقدم خطوة إلى الأمام.

في دنيا الواقع يتفق العقل والمنطق على أنه لا فرق بين وأد فتاة رضيعة، لا تعرف الدفاع عن نفسها، لأنها لا تملك لسانا ولا قوة ولا رغبات، وذبح صبية تتمثل الإنسانية في وجودها بأبهى صورها، لمجرد أنها أرادت أن تمارس حقها الطبيعي، وتشبع رغبة ممارسة الإنسانية لوجودها، مثلها مثل باقي قطيع المجتمع من الجنسين، ولكن باختلاف بسيط، هو أن القانون تواطأ مع القطيع، فأباح له ما أباحته الفتاة لنفسها خلافا لما سنه قانون العرف الرث.

من هنا أرى ان رواية رحيم جودي البِكر؛ والتي نأمل ان تتبعها روايات أخرى لا تقل عنها شأنا، جاءت لتعترض على موروث يستلب إنسانية الإنسان، جاءت تدعو إلى احترام إنسانية الإنسان، جاءت تدعو إلى الخلاص من خلال تنقية الروح من درن مواريث السذاجة التي لا تحترم رغبات الإنسان، في وقت لا تتيح له أن يمارس تلك الرغبات تحت ظلال القانون بدوافع فيها الكثير من الأنفة الكاذبة.

أما ختم الرواية بجملة: "إنها ابنتي" التي رددها الرجل (والدها) الذي ذبح بطلة الرواية (ابنته) "أحلام" في محاولة منه للدفاع عن "رجولته" المتهافتة إلى حد الإذلال، فكان ومضة اختزلت إلى حد النانو مواريث الأمة وتداعياتها المغرقة بالازدواجية والسذاجة، وبالكثير من التوحش الإنساني؛ الذي يقود المرء أحيانا للسير خلاف ما تريده السماء من أجل الحفاظ على رجولة سبق وداستها إكراهات المجتمع عشرات المرات، فوَّلدت في داخله عقدة نقص قضى عمره كله بحثا عن شفاء لها، فلم يجده إلا بنحر ابنته، وسلب روحها، ناسيا أنه ليس رباً بل عبدا آبقا عصى مولاه، وارتكب جرما سوف يحاسب عليه حسابا عسيرا.

صدرت رواية "أوجاع على نهر الغراف" للكاتب والأديب والباحث الدكتور رحيم جودي عن دار النخبة المصرية بغلاف يحمل صورة من التراث العراقي الموغل في القدم، وكأن مصممه أراد أن يربط بين أحداث الصورة وتلك المواريث التي عفا عليها الزمان، والتي تمارس خلافا للقانون؛ الذي يتساهل دائما مع المجرمين من هذا النوع.

والرواية هي العمل الأدبي الأول الذي نأمل ألا يكون الأخير، وأن يستمر العطاء الثر لرفد ساحة الأدب العراقي والعربي بأعمال مائزة فيها الكثير من الإمتاع والمؤانسة.

***

الدكتور صالح الطائي

...........................

هوامش

(1) بعلبكي، منير، المورد الحديث: قاموس إنكليزي عربي، منير البعلبكي ورمزي البعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، 2008، ص: 402.

(2) المكتب الدائم لتنسيق التعريب في العالم العربي، المعجم الموحد لمصطلحات الفنون التشكيلية: (إنجليزي - عربي - فرنسي)، سلسلة المعاجم الموحدة (24)، جامعة الدول العربية، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، الرباط، 1999. ص:27.

(3) غراسي.، فالنتينا، مدخل إلى علم اجتماع المخيال: نحو فهم الحياة اليومية، ترجمة: محمد عبد النور وسعود المولى. المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (سلسلة ترجمان)، الدوحة ـ بيروت، 2018، ص:24.)

(4) جودي، الدكتور رحيم، أوجاع على نهر الغراف، دار النخبة، القاهرة، 2024.

 

في المثقف اليوم