قراءات نقدية

رحيم الغرباوي: الماضي اليوتيوبي وديستوبيا الحاضر قراءة

في شعر الدكتور علاوي كيطان العقابي

يقال أنَّ كل محكيٍّ مثالي يستهل بوضعية وكيفية مستقرة إلى أنْ تأتي قوة تشوش عليه وتلك القوة تنتج من مؤثرات سواء أكانت المؤثرات سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية وحتى ذوقية، ولربما من حالات وعي فكري تُغير ما استوت عليها الأزمان وسكرت بها العقول، أو طابت لها النفوس وبحركة الزمن تجد أنَّ ما قيل غير ما في الواقع؛ لذا وجدنا منذ أول قراءة لقصيدة في التاريخ العربي التي حبَّذ الشاعر فيها الطلل وبكى عند دوارسه؛ لما في الزمن الماضي من إسقاطات مهما كانت تعسفية إلا أنَّها سرعان ما تُعَدُّ من متخيلات يوتوبية، إذ يستذكر المستذكرون الماضي، فيستشعرونه أجمل من الحاضر، وهذا هو ديدن حياة المجتمعات والأفراد على السواء، نراهم ينسون متاعبهم حين يمر الزمن عليها، فيطلقون الحسرات أسفاً؛ وذلك بفضل معاناتهم من الواقع، وتغيُّر العادات والتقاليد التي عاشت الناس عليها؛ لما للحياة الماضية من بساطة لاتحتاج إلى منافسة وكدّ، أو طغيان الماديات على المعنويات كما نجده في حاضرنا.

ويبدو أنَّ الشاعر الدكتور علاوي كيطان العقابي، هو واحد ممن قارن بين الماضي والحاضر، استدعاه ذلك أنْ ينظم أكثر من نص يعالج فيه الفرق بين الاثنين، إذ يروي ذلك في قصيدته الأولى (تسبيحةُ المطر) التي يقول فيها:

كانوا يقولون لنا:

من نعمةِ اللهِ على الناسِ المطرْ

تعشوشبُ الأرضُ

ويزدانُ الشجرْ

ويستحمُّ السعفُ من غبارِهِ

وترقدُ الشمسُ بحضنِ الليلِ والرذاذْ

ويُشرِقُ القمرْ.

ولما كان الشاعر يعيش تحت ظلال الشجر في بساتين بدرة الشماء وبالقرب من أهاليها الفلاحين الذين ينمازون بالطيبة والفطرة النقية، وهو المتعلم النابه والشاعر الشفاف، يرى أنَّ الناس كانت وما تزال بحاجة إلى المطر؛ رغبة منهم في استسقاء أراضيهم التي هي الأخرى تنتظر ذلك المطر، فكل شيء فرِح به (الأرض، والشجر وسعفه، والشمس، وحتى القمر)، وجميع تلك الأشياء الجامدة تعبر عن فرح الإنسان، فالعلاقة بين الإنسان وبين محيطه علاقة جمال طالما أنَّ وشائج السعادة تمنحه ثمارها "ولعل المحاكاة الوجدانية بين الموجودات هي بذاتها تمثل الشعر الحي والتي منها تعلم الشاعر محاكاة الآخر" (الكون الشعري : 11) فالشعر هو"أعلى أشكال التعبير وهو يعبر عن سر اتصال الإنسان بالوجود، أنَّه طقس عقلي وروحي، وهو إفصاح جمالي متعال" (العقل الشعري:97)، ما يجعل الشاعر يعبر عما يعتريه، لذا يقول شاعرنا العقابي:

مضى بنا العمرُ

وصار الليلُ والنهارُ

والشروقُ والغروبُ

يُنذرُ بالسفرْ

أيقونةُ الليلِ على قيثارةِ النقيقْ

وصحوةُ الشمسِ على مزالقِ الطريقْ

ومشيةٌ على حَذرْ

صارتْ جميعُ تلكمُ الحكايا

تدعو إلى الضجرْ

مطرْ … مطرْ … مطرْ.

ويبدو في منحىَ آخر أنَّ الوجع يتأتي حين تزدحم على الإنسان مسؤوليات تراكمية بفعل التطور الحضاري، فيكون بحاجة إلى تلبية متطلباتها؛ لذا يرافقها تغير النوع النفسي، وهو كالنوع التشريحي مؤلَّف من عدد قليل من الصفات الأساسية الثابتة التي تتجمع حولها صفات ثانوية متغيرة متحولة، فهذه الصفات الثانوية هي التي تمكِّن البيئات والأحوال والتربية وما إليها من مختلف العوامل أنْ تغيرها بسهولة. (ينظر: السنن النفسية لتطور الأمم، جوستاف لوبون: 39-40) ومن ذلك نظرة الشاعر ولا سيما للمطر، فبعد دوره الفاعل في إخصاب الأرض حين كانت النوايا حسنة، والبساطة تنشر ضفائرها على وسائد الأمان والسلام، لكن كل شيء تغير حتى الفكر، ولعلنا نضيف أنَّ العولمة أيضاً ساعدت على تغيير الأفكار والأعراف، فأخرجت الإنسان من دائرة المألوف إلى اللامألوف، فكل شيء اليوم في تباب في رؤيا الشاعر، فالحياة لم تسلك طرق الأمس، بل ركائزها ما عادت تخلص لها النية في ثباتها وتجديد ديمومتها نحو خطى فضلى.

وفي نص آخر بعنوان (على أطلال الدرابين) التي يقول فيها:

الله يا تلك الليالي الماطرةْ …

يا مَوقِدَ التوتِ المُعتّق ..

بالمواويل الحنينة …

ياهزّةَ الرأسِ البريئة ..

حينَ تُطرِبُها ترانيمُ الرُّعاةْ …

وأزاؤها حَلَقٌ تطوفُ الأُمنياتْ…

فهو يتحدث عن بساطة الحياة التي كان يعيشها الناس، مستذكراً عمر الطفولة البكر الذي يمثل الفطرة الصالحة التي لم تدنسها الأدناس مثلما هو الآن في عالم الضجيج والمخاتلة في نيل ما لم يستحقة المرء في زمننا الديستوبي العجيب وسنينه العجاف؛ ما استدعى الشاعر أن يستحضر الماضي الجميل، فلفظة (الله) في السياق تدل على مدح ذلك الماضي بجماله وعذوبته وبراءته بقوله: (الله يا تلك الليالي الماطرةْ)، بينما الدفء على مواقد التوت وماحولها حيث يترنم الرعاة بمواويلهم المستمدة من الأسلاف، أمَّا(هزة الرأس البريئة) إشارة إلى الطرب المغموس بالبراءة والنقاء، وهناك حَلقٌ من الأمنيات كثار ينتظرها أولئك الرعاة الذين يحتفلون كلَّ حين أينما حلَّت عصيُّهم واشتاقت أرواحهم؛ لأن يعبِّروا عن سعادتهم بآمالهم المرجوة.

ثم يقول:

يا عطر حائطِنا المُرصَّعِ …

بالمناجلِ والسنابلْ …

حينَ ترشقُهُ شآبيبُ المطرْ ...

ولعل المطر لدى الزراع هو الأمل الكبير لريِّ سعادتهم بسقي زروعهم؛ ما جعله يومئ إلى ذلك بالمناجل والسنابل.

الله يا تنورنا الطيني …

في غَبَشِ الطّلوعْ ..

ودفيف أُمّي في الرُّقاق المُقمِره ..

والبُلبلُ الفتّان يبدأُ عزفَهُ …

حدَّ الدُّموعْ …

مستذكراً التنور الذي يصنع الرقاق المقمرة، إشارة إلى إيقاده بأطراف الليل (وقت السحر حين القمر يشع على أرغفة الخبز الحارة) كناية عن الخير العميم، بينما البلبل الذي يغرد على الشجر يوحي بالذكريات التي تبلل الخواطر، وتجني للذكريات سلسال الدموع، فكل ما في الذكرى عبق حلمٍ راحل، فمتعلقات الجسد راحلة، بينما سياحة الروح في أوجاق الماضي باقية تختزنها بنوك الذاكرة ذات الوعاء المترف بالرجع الخالد الجميل.

أما في قصيدته (ليل بغداد) التي يستذكر فيها جمال بغداد حين كان طالباً، فقد درس في جامعاتها ما جعله يجد الفرق بين العالمين وعلى الرغم من أيام الحصار التي عاشها في تسعينيات القرن الماضي ككل العراقيين إلا أنَّ يوتوبيا الماضي ظلت عالقة في ذاكرته، إذ يقول:

يا أُنسَ روحي إنَّ هجرَكِ موجعي

ما كانَ في خُلدي بأنْ تتمنعي

ما زالَ سفرُ العشقِ تحتَ وسادتي

والذكرياتُ تمورُ بين أضالعي

ما زلتُ بين دفاتري مستلقياً

كيما أشمَّ عبيرَها بمدامعي.

نجده يحنُّ إلى بغداد العبقة بمواسم الحب والجمال، فهو العاشق لها، بينما هي الآن تتمنع عليه؛ لأنَّها تغيرت، فصارت ليس كما كانت عليه بالأمس، فما بقي من بغداد غير عشقها اليوتوبي الأثير وذكرياتها التي طبعت بين أضالعه، أي في قلبه العاشق الرؤوم ذلك الحب العميق. ولعل الدفاتر إشارة إلى مذكراته التي وثَّق فيها كلَّ موقف جميل أو مشاهدة عذبة.

وفي قراءتنا الدقيقة للنص نجده يقارن بين ماضيها وحاضرها وحركة الأحداث التي انتابتها فجعلتها حطاماً خائراً ولاسيما بعد احتلالها عام 2003 م وما تلاها من أحداث قاهرة، دمرت كلَّ معالمها الجميلة كما تغيرت نفوس أهليها بعدما اشرأبت بما أصابها من فداحة القهر والظلم والتقتيل والتشريد، فانهارت حتى منظومة القيم فيها، واستوطن الأغراب وحكمت المادية والأنانية والمحسوبيات الحزبية البلاد، فصارت منزعاً للطائفية المقيته؛ ما جعل الشاعر يهرع لاستجلاب الماضي الذي لم تقرع الفتنة فيه أبوابه مثلما يحصل اليوم؛ ومن ذلك قوله:

حتى هوى صرحُ الجمالِ مُهشَّما

والقبحُ والهذيانُ صكَّ مسامعي

ماذا جرى لا النيراتُ حواضرٌ؟

والشمسُ في ميقاتها لم تطلعِ

أينَ النوارسُ؟ لم تعدْ سوّاحةً

أينَ الرياض؟ تناسلتْ معْ بلقعِ؟

أينَ الزهورُ؟ ألم تعدْ فوّاحةً؟

والنرجسُ الفينانُ لوحةُ مبدعِ.

إنَّ الذي أصابها حطَّم صرح كلِّ ما هو جميل فيها، بينما القبح والهذيان صكَّ المسامع في حين أنَّ النيرات اختفت، إشارة إلى حواضنها الثقافية والفكرية، بل أنَّ آفة الغي هي التي تسلطت بدلاً من المؤسسات العلمية وتراثها المجيد في عصر أنهكته الأفكار الرجعية، ثمَّ يقول:

أينَ (المضايفُ)؟ لم تعد أبوابها

مهوى الجياع، ألمْ يعد من جائعِ؟

أينَ الطبول؟ ألم يغرد لحنُها

يوما لتوقظَ صائماً من مهجعِ؟

الليلُ أليلُ والصباحُ ممزقٌ

والسائرونَ كلحنِ نايٍ موجعِ

كلٌّ تبعثرَ واستكانَ بضدِّهِ

والناسُ بينَ مخاصمٍ ومنازعِ.

فحين يسأل عن المضايف، فهو ينسف بقاءها اليوم، وكأنَّه يقول لامضايف تشرع أبوابها للجياع، كما أنَّه يخبر بأنَّ الطبول غادرت، ولم يغرد لحنها؛ لإيقاظ الصائمين للسحور، إشارة إلى غياب ممارسة شعائر الدين الحقَّة. فالليل أمسى أليَلاً، والصباح أضحى ممزقاً، بينما السائرون صاروا مثلما هو لحن موجع؛ لما يحملون على ظهورهم من كتل الهموم المضنية، وأنَّهم صاروا متخاصمين متفرقين لما يحملونه من توجهات فكرية، وسبل غرقت في فوضى الخلافات، ما جعل الخصومات والنزاعات تلتهب فيما بينهم.

وهكذا حملت نصوص الشاعر عبق الماضي، إذ علقت في ذهنة روعتها، وهو يتذكر ما كانت عليه الحياة بالأمس حيث الجمال الباسق بالنيات الصافية وبالفطرة النقية التي تستطيب بها النفوس، بينما الحاضر يراه ممثِّلاً لفوضى صارخة، تُشعره أنَّ الحياة لم تعد إلا جحيماً لا يطاق.

***

بقلم: د. رحيم عبد علي الغرباوي

في المثقف اليوم