قراءات نقدية

نسرين ابراهيم الشمري: مفارقة التهكم والسخرية في شعر يحيى السماوي

يُعرف التهكم بأنه "إلباس الجد ثوب الهزل، والهزل ثوب الجد، والوعيد لفظ البشارة، وهو في الاستعمال عبارة عن الإتيان بلفظ البشارة في موضع الإنذار، والوعد في مكان الوعيد، والمدح في معرض الاستهزاء"(1)، وهناك من الدارسين والباحثين من جعل هذا المصطلح مقابل مصطلح المفارقة(2)، وباتخاذ الشاعر من التهكم وسيلة لإبراز المفارقة ينقل الألفاظ من سياقها الخاص إلى سياق آخر مناقض لها، إذ أنَّه يوحي من خلال القول بمعنى آخر مناقض لمعناه الحقيقي(3)، فضلاً عن هذا يُعد التهكم "مجاز معقد وجد معدول به إلى الهزل، يُلبس المعرفة صلة التجاهل، ويصب الذم في قالب المدح"(4).

هذا ويرتكز التهكم على قرينة لفظية تبينه، وهنا تكمن نقطة التعارض والاختلاف بين التهكم والهجاء في معرض المدح، وإذا ما شئنا التفريق بين التهكم والهزل الذي يراد به الجد قلنا: إنَّ الهزل الذي يراد به الجد يوحي ظاهرة بالهزل، وباطنه جد، أمَّا التهكم فيكون  ظاهره جدا وباطنه هزلا (5).

وتقف السخرية ضمن الفنون القديمة التي عرفتها المجتمعات البشرية، ومارسها الإنسان والأدباء بصورة خاصة على مر العصور مثل: كوميديات ارستوفان وسوفوفكيس وغيرها التي وصلتنا من تراث المجتمع الإغريقي والروماني، وفي العصر الحديث حاول الأدباء الغربيون معالجة الاضطرابات السياسية والاجتماعية وإصلاحها عن طريق السخرية كما هو الحال عند (مولير) الذي وظف سخريته لمعالجة موضوعات اجتماعية كالنفاق والبخل، فضلاً عن (برنادشو) الذي حاول عن طريق السخرية معالجة قضايا المجتمع وعاداته البالية، هذا وكان للأدباء العرب والشعراء بصورة خاصة دور في ممارسة هذا الأسلوب؛ للتعبير بصورة هادفة عن قضايا تخص المجتمع.(6)

وتعدُّ السخرية من الأساليب الفنية الصعبة، أساسها التلاعب بحقيقة الأشياء ومقاييسها تضخيماً أو تصغيراً أو تقويماً، ويتكئ هذا التلاعب على معيارية فنية هدفها تقديم (نقد لاذع) ضمن جو من الفكاهة والإمتاع، يجنح إليها الشاعر ليسخر من الظواهر السلبية والمتناقضة التي يرصدها.

والسخرية هي نوعٌ من الفكاهة، لا يعني بها الهزل والعبث، بل إنها ترقى إلى المستوى الأكثر ذكاء ولباقة، إذ تجعل لها دلالة معينة، وهدف خاص تعمل على خدمته وتحتال عليه، وتشحن اللفظة بدلالات تتناقض وطبيعتها فيقع على عاتق المتلقي التأمل والتأويل وصولاً للمعنى المقصود.(7)

وإذا أردنا تقديم مفهوم دقيق للسخرية في الأدب فيكون من الأنسب البدء بالرؤية الغربية للمفهوم (Irony) هو المصطلح الأدبي للسخرية أصله مشتق من كلمة يونانية (eironia) والتي تعني وصفاً لأسلوب كلام إحدى الشخصيات بالملهاة اليونانية القديمة، وتسمى بـ(إيرون(eironia، ومن التعريفات التي أدلى بها الكُتَّاب  الأوربيون لمفهوم السخرية(8) "أنها طريقة من التعبير يستعمل فيها الشخص ألفاظاً تقلب المعنى إلى عكس ما يقصده المتكلم حقيقة وهي صورة من صور الفكاهة"(9).

وهناك من أشار إلى تعريف آخر على أنها "طريقة في التهكم المرير، والتندر أو الهجاء الذي يظهر فيه المعنى بعكس ما يظنه الإنسان، وربما كانت أعظم صور البلاغة عنفاً وإخافة وفتكاً".(10)

ومن تعريفات الكتاب العرب وآرائهم حول مفهوم السخرية ما قدمه (جبور عبد النور) فهو يرى فيها "وهي نوع من الهزء قوامه الامتناع عن إسباغ المعنى الواقعي، أو المعنى كله، على الكلمات، والإيحاء عن طريق الأسلوب، وإلقاء الكلام بعكس ما يقال"(11)، أما شاكر عبد الحميد فقد ترجم السخرية عن كلمة (satire) والتي تعني  نوعا من التأليف الأدبي أو الخطاب الثقافي يُبنى على انتقاد الرذائل والحماقات والنقائض الإنسانية، الفردية منها والجمعية، ويتم ذلك من خلال الرصد والمراقبة، والاتكاء على وسائل التهكم والتقليل من قدرها، وقد توقعنا السخرية في فخ الأسمية، فمن الصعوبات التي تواجه الدارس تناوب السخرية ما بين الضحك الهزلي والفكاهة والدعابة والمفارقة(12).

ويقودنا هذا إلى الإدلاء بحقيقة مهمة وهي أنَّ هناك وجه تباين واختلاف بين (السخرية في المفارقة)، و(السخرية المجردة)، إذ أنها ــ أي في المفارقة ــ تأتي لتجلي الحقائق وتقرعها بعضها ببعض دون أن تحل احدهما مكان الأخرى؛ أي تتربع على المعنى الظاهر والباطن معاً(13)، ولهذا تنبني مفارقة السخرية "على موقف يتناقض مع ما ينتظر فعله تماماً، إذ يأتي فعل مغاير تماماً للوجهة التي يجدر بالإنسان أن يقوم بها"(14).

يرى (مويك) بأنَّ عدَّ السخرية ضمن حدود المفارقة أمر فيه نظر، فليس كل سخرية أو تهكم مفارقة، وليست كل مفارقة تهكما  وسخرية، إذ أنه يرى في السخرية (sarcasm) أكثر أساليب المفارقة قسوة(15)، وتعد المفارقة "أداة أسلوبية فعالة للتهكم والاستهزاء"(16).

إنَّ تضاد مفارقة السخرية لكي يكون كذلك يجب أن يكون مؤلماً وكوميدياً في آن واحد، وهذا ما ذكره (أ. و.تومسن) في كتاب (الهزء الجاف)، إذ تتضارب العواطف في المفارقة تضارباً فكرياً وعاطفياً معاً، وعلى المتلقي أن يكون هادئاً متجرداً؛ ليدرك ويستوعب ذلك، فضلاً عن ذلك فالأذى والتسلية في المفارقة لا يمكن أن تصدر من الأساس ذاته، إذ يكمن العنصر الكوميدي في الخصائص الشكلية للمفارقة أضف إلى ذلك الغفلة المطمئنة فعلية أو مصطنعة، فالمرء يمكن أن يناقض ذاته عن قصد؛ كونه يسعى لحل تناقض على مستوى آخر، وينجم عنه تناقض مقصود مما يؤدي بدوره إلى نشوء توتر نفسي .

أما عنصر الألم الذي أشار إليه (تومسن) وسلَّم بوجوده في المفارقة فهو لا يمكن أن يصدر عن الخاصية الشكلية فيها، بل يكمن في التعاطف الذي نشعر به تجاه الضحية.(17)

وباستقصاء منتج السماوي الشعري نجد أنه غني بنصوص اتكأت على هذا الأسلوب في المفارقة، وكلُّ هذا نابع من روافد متعددة، ومنابع عملت على تفجير طاقة الإبداع لديه ففي الحقبة التي عاشها السماوي كان للسياسة الجائرة دور في ذلك، إذ حاول تمثيل هذه الاضطرابات وتعرية زيف السياسة وعيوبها في صياغة مفارقة ساخرة هادفة عملت على تنبيه المجتمع وإيقاظ وعيه، وهذا بدوره عمل على تحقيق توازن نفسي في دواخل الشاعر الذي كان يؤلمه واقع البلاد، فضلاً عن ذلك فقد كان لذات الشاعر أو شخصيته وما شهده من ظروف مليئة بالأسى والحزن دور في إنضاج طابع الحزن في داخله، ولهذا نرى السماوي يجنح إلى مزج الحزن بالسخرية في العديد من قصائدهِ، وقد يُعزى توظيف السماوي لهذا الأسلوب في المفارقة إلى دفاعه عن ذاته وآرائه إزاء من يهزأ بمبادئه وآرائه، فضلاً عن الدوافع النفسية التي تعد من أهم الأسباب لجنوح الشاعر لهذا الأسلوب، فالقلق والاحباط وإدراك التناقضات والاضطرابات في المجتمع لها دور فعَّال في التأزم النفسي للشاعر.

ولهذا جاءت الكثير من نصوصه الشعرية حاضنة ومشتملة لمثل هذا الأسلوب في المفارقة، إذ يقول في قصيدة "جلالة الملك":

جلالةَ الملك

قبلَ أن تُشيدَ لنا الجسرَ

شُقّ لنا النهر أوَّلاً

منذ أنْ نمتَ ولم تستيقظْ

ونحنُ

مستيقظون ولا ننام

في مملكتك المُخَلَّعةِ

الأبواب

جلالة الملك

من حقِّك أنْ تخرج للنزهةِ

راكباً سفينتك

ولكنْ

ليس من حقِّك

أنْ تجعلَ

دموعَ الشعبِ

نهراً للسفينة!(18)

يخاطب السماوي الحاكم أو السياسي بصيغة خطابية هي مزج بين التذلل والتبجيل والعظمة، لكن هذا التبجيل أو العظمة في خطاب السماوي مبطن يحمل في طياته سخرية مريرة هي أشد إيلاماً من التصريح المباشر، فجاء خطابه بهيئة يحاول من خلالها التماس الرحمة والرجاء، لكن لم تكن هذه التذللات والقداسة إلا سخرية من الحاكم وهذا ما نلمحه في قوله: "جلالة الملك"، فضلاً عن هذا هناك تحول مفاجئ في خطاب الشاعر إذ يلجأ في ثنايا النص إلى التصريح بغضبه وتمرده ورفضه، فيعود ليخاطب الحاكم أو السياسي في بلدهِ (العراق) قائلاً: "منذ أنْ نمتَ ولم تستيقظْ، نحنُ مستيقظون ولا ننام"، "مملكتك مخلَّعة الأبواب"، "ليس من حقِّك أنْ تجعلَ دموعَ الشعبِ نهراً للسفينة"، إذ أننا ندرك ما تعنيه العبارات من فقدان الأمان والسلام في البلاد، واستغلال الشعب وقوته لمصلحة الحاكم ورجالات السياسة، وأنَّ الشعب فاقدٌ للراحة، فيقف الشاعر موقف الرافض المتمرد، مطالباً برفع الظلم والمعاناة عن أبناء شعبه، مقدماً من خلال النص رقعة لفظية تبطن في أعماقها مدلولاً مغايراً مناقضاً، تعكس صورة نقيضة تحفل بالسلبية وتحاط بسخرية مريرة من الحاكم وإنجازاته. وتتجلى مفارقة السخرية في قصيدة "خليك في منفاك"، إذ يقول:

كلّ الذئاب اتحدتْ

واختلفتْ ما بينها الأنعامْ

*

على بقايا الزاد

في مأدُبة اللئامْ

*

دماؤها مهدورة ٌ..

فمرَّةً

تـُذبَحُ باسم جنـّـة ِ السلامْ

*

ومرَّةً باسم فتاوى

"حجّـة الإسلامْ"

*

ومرَّةً تُسْلَخُ

تنفيذاً لما رآه في منامِهِ

سماحةُ المفتي

وما فَسَّرَهُ وكيلُهُ الغلامْ

*

ومرَّةً

لأنها ترفضُ أَنْ تُهادنَ المحتلَّ

أو يكفرُ بالحريةِ التي بها بَشَّرَنا

مستعبد الشعوب ِ

جاحدُ الهدى

موزّعُ الأرزاق من بيدره الحرامْ.(19)

تحمل القصيدة مفارقات حادة، وتعالج واقعاً مريراً لشعب مغلوب على أمره، إذ تبرز المفارقة في أكثر من شطر في بنية النص، فنرى الشاعر يسخر من حالة الخنوع والاستكانة التي تسيطر على العراقيين، والتفرق فيما بينهم قائلاً: "كل الذئاب اتحدت، واختلفت ما بينها الانعام"، فيجد المتلقي نفسه أمام تصوير مفارق، إذ أن السياسين الذين أشار إليهم بلفظة (الذئاب) قد اتحدوا، في حين أن العراقيين الذي أشار إليهم بلفظة (الأنعام) لخضوعهم قد سادتْ التفرقة بينهم، فتتجلى من ثنايا النص نفثة غاضبة يعكسها امتعاضه من واقع بلاده المتردي، ولهذا فهو يسخر من حالة الذّل والهوان التي تُكبل شعب العراق، فهم يُقتلون بذريعة فتاوى يشرعها أدعياء الإسلام باسم الإسلام دين التسامح والسلام والأمان، إذ تبلغ المفارقة أقصاها فيوجه الشاعر إدانته إلى قاتلي الشعب وبأسلوب ساخر ونبرة تهكمية، ثم ينقلنا النص إلى مفارقة أخرى في قوله: "أو يكفر بالحرية التي بها بشرنا مستعبد الشعوب"، فالبشارة هي الخبر السار، لكنها في النص توحي بمعنى يغور في باطن اللفظة ليثير عقل المتلقي للتأمل في المعنى المقصود جاعلاً منه  شريكا مهماً في خلق النص، والكشف والتأويل في آنٍ واحد، حيث يتواطأ معه محاولاً الكشف عن الدلالة وتأويل اللفظة لإيجاد دلالة اخرى مقصودة حاول الشاعر الإفصاح عنها وبأسلوب ساخر، ولنا أن نقول: كيف لأعداء الحرية والسلام أن تحمل (بشارة الحرية) لشعب بات فريسة للمؤامرات فقد عكست البشارة الوعيد والجحيم والظلم والفساد الذي هيمن على البلاد.

وتتجسد المفارقة وبأسلوب ساخر ونبرة تهكمية في قصيدة "يا صاحبي"، إذ يقول:

هي أمةٌ أعداؤها منـــــــــــــها ... متى

من أين يأتينا الأمانُ و "بعضنـــــــــــا"

ومُدَجّجٍ بالحقدِ ينْخـــــــــــــــــرُ قلبهُ

حازَ العيوبَ جميعها فكــــــــــأنه

أعمى البصيرةِ فيهِ من خُيلائِـــــــهِ

إنْ قامَ يخطبُ فهو "عنترةُ" الفتــى

أمّا إذا شَهَرَ الحســـــــــــــامَ عدوُهُ

وهو "الأديب الفيلسوف" وفكرُهُ

*

طارَ الجناحُ وبعضُهُ معطـــــــــوبُ؟

لِعدوّنا والطامعينَ ربيــــــــــــــــــبُ؟

ضَغَنٌ إذا قادَ الجموعَ لبيـــــــــــبُ

مأوىً رأتْ فيهِ الكمالَ عيــــــــوبُ

مسٌ ومن صدأ الظنونِ رسيـــــبُ

و "الحارسُ القوميُّ" و "الرعبــوبُ"

عندَ النزالِ فإنهُ "شيبـــــــــــــوبُ" !

فلسٌ بسوقِ حماقةٍ مضـــــــــروبُ(20)

يعكس النص صورة لواقع الأمة الممزق، وصورة للتدخل في شؤون البلاد، إذ تفجر هذه المفارقة وجدان المتلقي وتُثير انفعاله وكأنها ثورة ضد أساليب الحكام وزعماء العرب، ساخراً من قسوتهم وجبروتهم وجهلهم وزعمهم بأنهم قادة الأمة، فالصورة الساخرة التي تتجلى في ثنايا النص قائمة على مفارقة أو مقارنة أو عرض حقائق واقعية مرتبكة المقاييس، واعني به التناقض والتضاد في المفردة التي تحمل ثنائية الدلالة الموجبة والسالبة، إذ يظهر طرف لهذه الدلالة في حين يكون الطرف الآخر كامناً في اللفظة، وبتأمل النص نجد أنه مبني على حقول دلالية تناقض حقيقتها كقوله: "الكمال عيوب"، "إن قام يخطب فهو عنترة الفتى الحارس القوميُّ والرعبوب"، "إذا شَهَرَ الحســـــــــــــامَ عدوُهُ عندَ النزالِ فإنهُ شيبـــــــــــــوبُ"، "هو الأديب الفيلسوف وفكرُهُ"، فمن المعروف أنَّ الكمال هو في التمامة والحسن في الأخلاق دون نقص أو عيب، لكن السماوي عمد إلى استخدامها في غير ما تأول إليه جاعلاً الكمال في العيوب والنقصان، ثم يطرح السماوي العديد من الصور الساخرة مستثمراً عبارات متضادة ومتناقضة، وإضفاء العديد من صور التقديس والتبجيل لهؤلاء الزعماء الذين يدعون بأنهم قادة عظماء، فتارة هو البطل الشجاع الفارس عنترة، وتارة هو العظيم الحارس القومي، وتارة هو المفكر والأديب، وكأن الشاعر عمد إلى توظيف سلاح التهكم من أجل الكشف عن حقيقة الآخر التي يراها المتلقي مفارقة ومناقضة تماماً لما هي عليه في الواقع، ثم يواصل الشاعر هجومه وبصورة مباشرة ليسخر من حقيقتهم فهم لا يتفوهون إلا بالحماقات والأكاذيب منشغلين بالخطابات، وبهذا احدثت المفارقة وبأسلوبها الساخر والنبرة التهكمية  مفاجأة للمتلقي.

ومن القصائد التي تتكئ على هذا الأسلوب في بناء المفارقة قصيدة "ما العُمر إلا ما تُعاشُ مسرَّة" فيقول:

تابَ الـلـصـوصُ وأرْجَـعـوا لحـقـولِـنـا

مـا كـان قــد ســرقــوا مــن الأنــعــامِ

والــفـاسـدون الــمُـرخِـصـون مَــروءةً

ثـابــوا الـى رُشــــدٍ وحُــســنِ خِــتــامِ

خلعـوا الـذقـونَ الـمسـتـعارةَ واسـتحى

مــن جُــرمِــهِ ذو خـــنــجــرٍ ولِـــثــامِ(21)

تأخذ نبرة التهكم والسخرية في العلو ابتداءً من مطلع النص حتى منتهاه، إذ تفيض الرؤية بالشكوى المقترنة بالخوف ممن اتخذوا من الدين والعمامة والذقون سلم سلّماً  للتحالف مع الشيطان من أجل السلطة والمال الحرام، فثمَّة تفسير على المتلقي أن يتأمله ويلتقطه من خلال القرائن الواردة، وهذا التفسير هو نقيض ما يطفو على بنية النص، وكأن الشاعر أراد أن يقول نقيض ذلك تماماً، جاعلاً من السخرية سلاحاً ضد كل من جعل الدين غطاء للصوصية والسرقة، وسلاحاً ضد من يخون العراق ويدفعه إلى الخراب من أجل اطماعه بالمال والسلطة وخيرات البلاد.

وفي قصيدة "هوامش من كتاب الحزن العراقي" يجنح السماوي إلى تأطير قصيدته بالمفارقة الساخرة ونبرة تهكمية، فيقول:

لا تـقـولـي: إنَّ جـرحَ الـيـومِ يـشـفـى فـي غـدِ

*

كلُّـهـمْ أقـسَـمَ

أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـالِ

باسـمِ الأحـدِ

*

سـادِنُ المـحـرابِ ..

والـنـاطـورُ

ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ

قـاضـي الـعـدلِ والشَّـرْعِ

إمـامُ المـسْـجِـدِ..

*

فـلـمـاذا ازدادتِ الــفـاقـةُ

واسْـتـشـرى وبـاءُ الـفَـسَـدِ؟

*

ولـمـاذا كـلَّـمـا يُـوعِـدُ بـالـخـبـزِ

أمـيـرُ المـؤمـنـيـنَ

ازدادَ جـوعُ الـبـلـدِ؟(22)

يفاجئنا النص بالهوة السحيقة بين ما يقوله الشاعر في أول النص من فكرة معينة، وبين ما تصل إليها الفكرة في نهاية النص من معنى مناقض تماماً ومخالفاً لما ذكره الشاعر في البداية، فالتكامل الصوري في النص الذي يتكئ على مفارقة السخرية يكون أساسه التضاد والتناقض في المعاني والنتائج وهذا بدوره  يُكسي  النص صفة المفاجأة  والدهشة، وهو ما يجعل المتلقي مندهشاً من غرابة الصورة، بدأ السماوي نصه الأنف الذكر بقوله: " كلُّـهـمْ أقـسَـمَ أنْ يـحـرسَ بـيـتَ الـمـالِ باسـمِ الأحـدِ، سـادِنُ المـحـرابِ والـنـاطـورُ، ربُّ الـدَرَكِ الـسِـرّيِّ، قـاضـي الـعـدلِ.." والمتوقع بعد هذا أن يُذكر ما يؤيد ما بدأه الشاعر، ولكن ما قامت به السلطة المسؤولة من أفعال لا تصب في المعنى الذي بدأته القصيدة، بل تعاكسه وبذلك كانت النتيجة تناقض البداية تماماً، فالبداية هي التعهد بصيانة ثروة البلاد والمال العام والكل أقسم بهذا، لكن النهاية وحقيقة الأمر المستقاة من الواقع هو أنَّ الفساد قد دبَّ وسُرق المال وثروات البلاد باسم الدين والوطنية، وهنا تكمن المفارقة الكبيرة بين طرفي الصورة، وهذا بدوره نقل النص إلى مجال السخرية، ففي الحقبة الزمنية التي ادركها السماوي مارست الحكومة التي تدعي الوطنية أشكال الظلم والجبروت ضد شعبها باسم الحرية والديمقراطية والدين، ولهذا انبرى الشعراء والمفكرون إلى مقارعتها بالكلمة المقاتلة، فقد شكَّل السماوي صوراً رائعة في نصوصه الشعرية عن أساليب السلطة الجائرة، وهو يتحدث عن وقائع عاشها العراقيون، وثمَّة تضاد وتناقض آخر في بنية النص في قوله: "كلما يوعد بالخبز أمير المؤمنين"، فالمتوقع من لدن المتلقي أن يصنع الشاعر ما يقابله بأن يزداد الخير وتوزع ثروات البلاد، لكن تعود النتائج لتكسب القصيدة صفة الدهشة والغرابة، إذ أنها ناقضت ما  بدأه الشاعر، وبدل أن يفي (الأمير) بوعده، ازاد الجوع وتفشى الفقر في البلاد.

وثمَّة قصائد أخرى في منتج السماوي اتكأت على هذا الأسلوب الساخر في المفارقة، ففي قصيدة "مقاطع من قصيدة ضائعة" يقول:

الناطِق ُ الرَّسْـمِيُّ باسم ِ القصْـر ِ

يُطـْنِبُ في الحديث ِ عن الرفاهِ..

ونعمةِ العصر الجديدِ ..

وما تحققَ من وئامِ

*

ورسائِلُ الأصحاب ِ

تسـألُ عن جوازات ٍ مُـزَوَّرَة ٍ

وعن سُـفـُن ٍ

مُـهَـيّأة ٍ لِشـَحْـن ِ الهاربينَ

إلى جنائن ِ كـَهْـف ِ مُـغْـتـَرَب ٍ

وفِرْدوس ِ الخِـيام ِ!؟

*

مَنْ ذا أُصَـدِّقُ ؟

ما يقولُ الناطق ُ الرسـميُّ باسمِ القصرِ؟

أو

ما قالـهُ الكوخُ المُـهَـدَّدُ بالضـَّرام؟(23)

تحمل القصيدة مفارقة  وتناقضا كبيرا  وفي الوقت ذاته تعالج واقعاً مريراً يعيشه العراقيون، إذ يبدأ الشاعر القصيدة بنقل خطابات الساسة والحكام وفئة المتنفذين بأمور الدولة، وما قدموه للشعب من حياة تنعم بالرفاهية في ظل الحكومة الجديدة، ولم يلبث الشاعر حتى يناقض ويفارق ما قاله في بداية النص، فيقول: "رسائل الأصحاب تسأل عن جوازات مزورة عن سفنٍ مُهيأة لشحن الهاربين إلى جنائن كهف مغترب وفردوس الخيام" فما ابتدأه السماوي والذي تمثل بخطابات المسؤولين حول منجزاتهم في البلاد، تنتظر من الشاعر أن يقدم ما يتلاقى مع هذا المعنى، ولكن يتضح للمتلقي وبإكمال النص أنه عمد إلى طرح نتائج تناقض البداية، إذ أنَّ ابناء الشعب اتخذوا من الهجرة والهروب من الوطن وسيلة لحياتهم وهو ما يؤكد أنَّ سُبل الحياة معدومة في وطنهم، ولنا أن نقول: إنَّ التفاوت بين الطرفين دفع الشاعر للتساؤل أيهما يصدق؟ ادعاءات الساسة والمسؤولين أم واقع البلاد الذي تتجلى منه صورة واقعية تعكس سياسة الأنظمة القمعية وأساليبها الاستبدادية التي يتبعها  المتنفذون في الدولة والتي تنعكس بدورها على الواقع المرير، فضلاً عن ذلك يتجلى لنا حشد من المفردات المتنافرة المتضادة والتي كان لها دور في تأجيج الدلالة وتكثيف الحدث، (جنائن، كهف مغترب)، و(فردوس الخيام) فالمغترب الهارب من الوطن يرى في ظلمة الغربة ووحشتها وقسوتها جنائن الفردوس، فأي جحيمٍ كان يأويه، وبهذا تمكن السماوي من تقديم صورة واقعية ممتزجة بالسخرية من واقع البلاد.

وفي قصيدة "سوء المنقلب" صورة أخرى من صور المفارقة الساخرة، إذ يقول:

مـا الـعـجَـبْ

أنْ يـكـونَ الـزِّفـتُ مـسـؤولاً عـن الـيـاقـوتِ فـي سـوقِ الـذَّهَـبْ ؟

*

نـحـنُ فـي عـصـرٍ بـهِ الـلـصُّ أمـيـنُ الـمـالِ ..

والـنـاطـقُ بـاسـم الـدِّيـن مَـجـهـولُ الـنَّـسَــبْ  !

*

مـا الـعـجـبْ.(24)

يبدأ السماوي نصه بعنوان "سوء المنقلب" الذي يوحي بانقلاب موازين الحياة إلى الأسوأ، ثم يعود لمزج بين السخرية وعناصر الهجاء، إذ امتلأ النص بكلمات لاذعة غامزة (الزفت مسؤولاً عن الياقوت)، (اللص أمين المال)، و(الناطق باسم الدين مجهول النسب)، فالتقابل بين طرفي العبارات المتنافرة والمتضادة يوحي بتوتر وانفعالية كبرى، وحتى لا يبادر المتلقي بالاستهجان سبقه الشاعر بقوله: "ما العجب" لأنه لا مجال للسؤال أو الاستهجان في عصر انقلبت فيه الموازين.

وفي قصيدة "ربنا قد أظلم الصبح" يستثمر السماوي المفارقة وبأسلوبها الساخر للتعبير عن رؤيته الخاصة، فيقول:

ربَّـنـا إنّـا سَـــمِـعْــنـا

هـاتــفــاً يـهــتــفُ بـالـعـدلِ الإلـهـيِّ

فـصَـدَّقـنـا كـلامَـه ْ

*

فـمَـحَـضـنـاهُ خـطـانـا ...

ومـفـاتـيـحَ بـيـوتِ الـمـالِ ...

بـايَـعْـنـاهُ لـلأمـرِ ولِـيَّـاً..

وخَـصَـصْـنـاهُ بـمـيـراثِ الإمـامـةْ

*

ثـمَّ لـمّـا أكـمَـلَ الـبَـيْـعَـةَ

بـاعَ الـصُّـحُـفَ الأولـى

وأرخـى لـلـيـواقـيـتِ ولـلـدولارِ والـجـاهِ لِـجـامَـهْ

*

ربَّـنـا قـد أظـلـمَ الـصـبـحُ

فـلا نـعـرفُ

هـلْ أنَّ مـلاكَ الـعـدلِ فـي الـقـفـطـان ِ؟

أم "إبـلـيـسُ" أخـفـى فـي الـجـلابـيـبِ غُـلامَـهْ؟

*

كـلُّـهُـمْ يـحـفـظُ آيـاتٍ

وفـي جـبْـهَـتِـهِ مـن أثـر "الـحَـكِّ" عـلامـةْ.(25)

يبدأ السماوي نصه بـ(سمعنا هاتفاً يهتف بالعدل الإلهي) ويُنهي النص بقوله: (كـلُّـهُـمْ يـحـفـظُ آيـاتٍ وفـي جـبْـهَـتِـهِ مـن أثـر "الـحَـكِّ" عـلامـةْ) إذ نلحظ مفارقة وتناقضا بين دفتي النص في بدايته الاطمئنان والسلام والسكينة، ولكن ما يُقابل هذا هو الخيبة والإحباط والذُّعر والوقوع ضحية لأدعياء الدين الذين خدعوا الشعب بطمغات جباههم وباللحية والمسبحة وسياسة يكسوها لباس الدين، لكن في حقيقتها كانت معبأة لتحقيق أطماعهم بالثروات والمال والسلطة، إذ يتجلى من ثنايا النص واقع مرير اختلت فيه الموازين وتداخلت المقاييس وفُقِد العدل والسلام، فتفيض الرؤية بالمعاناة المقترنة بالخوف ممن اتخذوا من الدين سلماً للائتلاف مع الشيطان من أجل السلطة والمال، يحدث الاستفهام الوارد في النص (هل أنَّ ملاك العدل في القفطان أم "إبليس" اخفى في الجلابيب  غلامَهْ ؟) أثر دلالي لما يوحيه من معاني ليؤكد حقيقة قائمة، كونه استفهام انكاري.

ومن صور مفارقة السخرية قوله في قصيدة "فصل من كتاب العشق":

أ سـمـاحـةَ الـشـيـطانِ شـكوى حـنـظـلٍ

يــشــكــو إلـــيــكَ مَـــرارةَ الإيــمــانِ

أ سـمـاحةَ الـشـيـطانِ واخـتـلـطَ الـصـدى

مـــا بـــيـــنَ صــوتِ ربــابــةٍ وأذانِ

الـقـائــمـون الـى الـصـلاةِ جـبـاهُـهُــمْ

كـالــقــائــمـيــن الى كـهـوفِ غــوانِ

أ ســمـاحـةَ الـشــيــطـانِ تـدري أنــنـي

ضِــــدُّ.. .. وأدري أنِــــنـــا نِــــدّانِ

مـا لــ" ابـن آدمَ " يــتَّــقــيـكَ لــسـانُــهُ

أمّــا الــفِــعــالُ فــأنــتـمــا صــنــوانِ(26)

يستهل شاعرنا نصه بكسر أفق التوقع للمتلقي، وذلك بمعارضة ما هو متعارف عليه بقوله: "أ سماحة الشيطان"، إذ تقف هذه العبارة على طرف نقيض للأصل في اللغة؛ كون مفردة (سماحة) لقب يسبق  اسماء رجال أصحاب المقام، بينما عمد الشاعر إلى اطلاق هذا اللقب على الشيطان، ومنبع هذا التناقض يكمن في واقع الشاعر فلم يعد يميز بين الشياطين والملائكة في ظل نظام المحاصصة واحزاب السياسة، فلم يرَ الشاعر من مجتمعه إلا الاستكانة والخنوع، تُملي عليه إرادته من قوى عُليا متسلطة؛ ولهذا حاول الشاعر أن يستفزهم بقلب المقدس إلى مدنس، ورفع الشيطان إلى منزلة القداسة، وكأنه أراد بهذا تحفيز عقولهم وحثها على التفكير والثورة لتغيير الواقع، ولنا أن نقول: بأنَّ عبارة (أ سماحة الشيطان) تحمل في أعماقها تضاداً مبطناً يوحي بالسخرية المريرة كانت أشد إيلاماً من التصريح المباشر، فالتحول المفاجئ والمزج بخطاب الشيطان أراد من خلاله القول: إنَّ الشياطين ساسة الصدفة وأحزابهم التي تدعي الإسلام زوراً هم الذين تسببوا في كلِّ الخراب الذي يعمُ العراق، فضلاً عن ذلك قد نلمح في ثنايا النص  حشداً من المفردات المتضادة المتنافرة والتي عملت على منح الدلالة تأثيراً أعمق وتكثيفا للحدث كقوله: "مرارة الإيمان"، "ربابة، أذان، "القائمون إلى الصلاة، القائمون إلى كهوف غوان"، ثم يعود ليعترف بأن الموازين قد قُلبت، فقد أتى الشاعر بالحقيقة المرَّة بعدما أصبح المتلقي على توافق معه، إذ أضحى يعرف أنه من المفترض أنْ يكون الشيطان ندَّاً لنا، لكن الواقع المفارق يكشف أنَّ ابن آدم هو نظير للشيطان بأفعاله.

تتسم السخرية بأنها نوع من التهكمية التي تبدو ذماً في ثوب المدح مع اتباع أسلوب عدم المباشرة(27)، إذ يخال للمتلقي بأنَّ الشاعر يمدح ممدوحه، لكن حقيقة الأمر أنه يذمه، ويتضح هذا بصورة جلية في قصيدة "يا أولي الأمر ببغداد علام الارتجاف"، إذ يقول:

يـا أولـي الأمْـرِ بـوادي الـنـخـلِ

نـامـوا مُـطـمـئـنـيـن نـشـاوى لا تـخـافـوا

*

الـجـمـاهـيـرُ الـتـي تـفـتـرشُ الـسّـاحـاتِ

لا تـحـمِـلُ غـيـرَ الـعُـشـبِ والـوردِ عـلامَ الارتجافُ ؟

*

لا تـخـافـوا

عـهـدُكـمْ مَـنِّ وسـلـوى وسُـلافُ

*

عـجَـبـاً !كـيـفَ يـخـافُ الـجـائـعَ الأعـزلَ

مَـنْ لـيـسَ مِـنَ الـلـهِ يـخـافُ ؟

*

فـعـلامَ الـحَـرَسُ الـجَـرّارُ ..؟ والأقـبـيـةُ الـسّـريـّةُ

الأحْـزِمــةُ الإسْـمـنـتُ؟ والقناص والغازات

ظِـلُّ الـلـهِ فـوق الأرضِ أنـتـم ..

والـوصِـيّـونَ عـلـى الـواحـاتِ والأنـهـارِ أنـتـم

فـلـمـاذا غـضِـبَـتُ هـذي الـضِّـفـافُ

*

زحـفـتْ فـي حَـربـهـا تـطـلـبُ خـبـزاً

خـيـلُـهـا لحن وأعلام هُـتـافُ

*

فعلامَ الارتجافُ ؟

*

صـادقاً كـان إمـامُ الـقـصْـرِ فـي فـتـواه

كُـفْـر أنْ يُـنـادي بـرغـيـفٍ بَـطِـرٌ أتْـخَـمَـهُ جـوعٌ وقـهْـرٌ ..!

كـلـكـمْ راعٍ ..

وهـذي الأرضُ مـرعـىً ..والـجـمـاهـيـرُ خِـرافُ

*

فاقسموها بـيـنـكـم قـسـمـةَ ضـيـزى

وتـصـافوا

*

لـكـم الـبـسـتـانُ ..والـبـيـدرُ والأعـنـابُ والـنـفـطُ ..

ولـلـشـعـبِ الـكـفـافُ!(28)

تؤطر المفارقة وبأسلوبها الساخر والنبرة التهكمية القصيدة بأكملها بدءاً وختاماً، إذ تحدث أثراً قوياً في ذات المتلقي، فيوزع السماوي مفارقاته على مدارات أساليب الطلب والتعجب والهجوم المباشر، ومن الجلي أنَّ صيغة أفعال الأمر التي اتكأت عليها بنية النص في قوله: "ناموا، لا تخافوا، اقسموها، تصافوا" لتبدو مفارقة في مضمونها وكأنها تؤدي مهمة توجيه سهام الشتيمة والهجوم على الآخر (الخصم) لتعريته والسخرية منه، فنظرة السماوي إلى ولاة الأمر نظرة استصغار وكأنهم الأدنى، وهو الأعلى؛ لذا أصدر أوامره سخرية منهم وتشهيراً لفسادهم؛ أي أنَّ هذا التوظيف لأفعال الأمر لم يكن توظيفاً صدفوياً، فهي أبعد ما تكون أن يطلب السماوي من ولاة الأمر (أصحاب السلطة) النوم أو أن لا يخافوا أو حثهم على أنَّ يتقاسموا خيرات العراق، وأن يتصافوا بينهم،وقد تقودنا قرائن المفارقة لتعلل الطلب، هذا وعمد شاعرنا استعمال اللغة بطريقة توحي بمعنى باطن يقتضي من المتلقي أن يكشفه، إذ استثمر عبارات توحي بالظاهر على المدح، لكن القصد منها هو السخرية وتعرية الآخر، وهذا ما يتضح في قوله: "عهدكمْ منٌّ وسلوى وسُلاف"، و"ظل الله فوق الأرض أنتم"، و"صادقاً كان أمام القصر في فتواه"، قد يظهر من خلال الأبيات أنها تحمل في ظاهرها إحساس الشاعر بالرضى والأمان والخير في ظل حكم ولاة الأمر في العراق، لكن حقيقة الأمر أراد أن يقول نقيض ذلك تماماً، ولكن السماوي لا يكتفي بمجرد الإشارة والتلميح، إذ يعمد أحياناً في ثنايا النص إلى الهجوم المباشر والتصريح بغضبه وتمرده، فيقول متسائلاً مندهشاً: "عـجَـبـاً! كـيـفَ يـخـافُ الـجـائـعَ الأعـزلَ مَـنْ لـيـسَ مِـنَ الـلـهِ يـخـافُ؟"، و"لكم البستان.. والبيدر والأعناب والنفط، وللشعب الكفاف"، ثم يعود الشاعر ليصور حالة الشعب المضطهد تحت سياط جلاديه ساخراً من حالة الاستكانة والتبعية التي تسيطر على الشعب قائلاً: "هذه الأرض مرعى.. والجماهيرُ خِراف".

إلى جانب هذا نجد مفارقة السخرية أخرى في قصيدة "نقوش على جذع نخلة"، إذ يقول:

آخرُ ما تناقَلَتْهُ نشرةُ الأخبارْ

*

أنَّ العَدُوَّ دكَّ بالمدافعِ "الكوفة"

واسْتَدارَ "للأنبار"

*

وحضرةُ "الإمامِ" ما زال على فَتْواهُ

أَنْ نُطْفِئَ نارَ حِقْدِهم

بِكَوْثَرِ الحوار!(29)

صور لنا الشاعر ردة فعل الحاكم في صورة ظاهرها المدح، وذلك جلي في قوله: "حضرة الإمام" لكن باطنها مثير للعجب والدهشة والسخرية من استكانة الحاكم والصبر والحوار دون مقاومة مقابل استباحة الدماء وتدمير البلاد.

وثمَّة نصوص أخرى تحمل في ثناياها ذلك الأسلوب الساخر، وهذا يتمثل في قوله:

ولم يَزلْ سعادةُ العُمْدةِ  في مجلسهِ

يُطْنِبُ في الحديث عن كرامة الشعب

وعن تكامُلِ  السيادةْ

خاضع وهو الذي يعرفُ أنَّ رأسَهُ

بات رهينَ صاحب  الوسادةْ

فوق سرير سلطة مُحتلَّةِ  الإرادةْ.(30)

إِنَّ التفاوت واضح بين بداية المقطع وختامه، إِذ أنَّ شاعرنا يبدأ حديثه بمدح (سعادة العُمدة)، كونه يبدي في خطاباته اهتمامه بكرامة شعبه، وتأكيده على تحقيق السيادة ومراعاة مصلحة البلاد، لكن يفاجئ المتلقي بأنَّ يقول الشاعر نقيض ذلك تماماً، إِذ أنَّ (سعادة العُمدة) مسلوب الإرادة لسلطة المحتل والدخيل، فيمسي المدح هجاء  وهجوما مباشرا  لسعادة العُمدة، وبذلك يتضح من خلال النص إدانة السماوي للسلطات الحاكمة وموقفه الرافض لسياستهم، فالاهتمام الذي يبديه (العُمدة) بكرامة أبناء شعبه وتحقيق السيادة، هو من قبيل التهكم والسخرية لحقيقة شعب مسلوب السيادة والكرامة، وبذلك يُعد "التهكم والسخرية سلاحاً  فعالاً من أسلحة المفارقة اللفظية التي تدلُّ عليها وتبشر بها، ولذلك يبدو الخطاب التهكمي والساخر أرضاً خصبة لنمو المفارقات وتكاثرها"(31)، ومثال ذلك ما ورد في قصيدة "رفقاً بالعصافير"، إذ يقول:

أيُّها الآمرون

بإطلاقِ القنابل المُسيلة

للأرواح

العصافيرُ لم تتظاهر

في

ساحةِ التحرير

نـعـرفُ أنَّ قـلـوبـكـم لا تـتـرفّـقُ بالإنـسـان

فـتـرفّـقـوا بـالـعـصـافـيـر.(32)

تخترق هذه المقطوعة نبرة تهكمية ساخرة، تحتم على المتلقي إعادة تفسير العبارات حين يتحسس وجود مفارقة، وهذا ما يوجب عليه إعادة إنتاج البنية النصية، والبحث عن الدلالة النقيضة، ممَّا يعمل على ولادة مفارقة لفظية يقدم فيها الشاعر دلالة ويريد نقيضها، إذ أنه يطلب من "الآمرون بإطلاق القنابل المُسيلة للأرواح" على سبيل التهكم، أنْ يرفقوا بالعصافير، وكيف للذين لم يرفقوا بالإنسان أنْ يرفقوا بالعصافير؟ وكأَنَّنا نلمح صورة تعكس تناقضات تستفز وعي المتلقي، وتوقظ روح الثورة، والتمرد لمحاربة قوى الظلم والطغيان.

وفي مقطع من قصيدة "نقوش على جذع نخلة" يقول السماوي:

ذكية قنابل التحريرِ

لا تصيبُ إلَّا الهدفَ المرسومَ

من قبل ابتداءِ نزهةِ القتالْ

*

ذكيَّة... ذكيَّة

تُمَيِّزُ الوَحْلَ من الزُلالْ

*

ونغمةَ القيثار من حَشْرجَةِ السُعالْ

*

ذكيَّةٌ... ذكيَّةٌ

لا تُخْطيءُ الشيوخَ والنَّساءَ والأطفالْ

*

ولا بيوتَ الطينِ ... لا أماكنَ الصلاةِ

أو مشاغِلْ العمَّالْ!(33)

من الواضح أنَّ عبارة (ذكيةٌ) والتي كررها السماوي أكثر من مرة على طول بنية النص لا يمكن قراءتها من خلال المعنى السطحي القريب لذهن المتلقي؛ أي أنَّ هناك ثمَّة معنى أعمق وأقرب إلى رؤية الشاعر الخاصة، وهو معنى يناقض تماماً المعنى المذكور، وهنا تتجلى المفارقة اللفظية، إذ أنَّ المحتل الأمريكي يملك قنابل ذكية تحدد الهدف وبدقة، ولكن هذه القنابل لا تميز الشيوخ والنساء والأطفال والمساجد!؛ أي أنَّ قنابل التحرير هذه وتطبيق الديمقراطية وشعاراتهم، ما جاءت لتحرير العراق كما زعموا، بل جاءت لاحتلال الوطن، فضلاً عن هذا يعكس تكرار لفظة (ذكية) في بنية النص الحالة الشعورية التي تُكبل الشاعر إزاء احتلال الوطن وما يعانيه  شعب العراق تحت ظل الاحتلال الأمريكي، إذ أوحت هذه القطعة الشعرية الساخرة بالواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب العراقي، والحزن والدمار الذي خلَّفه الاحتلال باسم الحرية المزيفة، فمفردة (ذكية) لا يقصدها الشاعر بقدر ما توحي بالإدانة والاستنكار للأساليب الوحشية التي يتبعها المحتل الأمريكي ضد الإنسانية.

وفي قصيدة "جلالة الدولار" يسعى السماوي إلى بناء مفارقة لفظية تنتج أسلوباً ساخراً وبصيغة لفظية تُحتم على المتلقي أنْ يجد البديل لها؛ للوصول إلى المعنى القريب من رؤية الشاعر:

جـلالة ُ الدولارْ

*

حـاكـمُـنـا الجـديــدُ ...ظـلُّ اللهِ فـوقَ الأرض ِ...

مـبـعـوثُ إلـهِ الحـربِ والتـحـريــر ِوالـبـنـاء الإعمارْ

*

لـه يُـقـامُ الـذِكْـرُ..

تـُنـّحـَرُ الـقرابيـنُ

وتُقـرعُ الـطـبـولُ

تُرْفـعُ الأستــارْ

*

وبـاسـمِـهِ تـكـشـفُ عـن أسـرارهـا الأسـرارْ

وباسمِـهِ تـمـتـلـئ .. الـحـقـولُ بـالـسـنـبـل ِ

أو يـُصـادرُ الـرغـيـفُ

فـهـو صـاحـبُ الـعِـزَّةِ فـي الـمـدائـن ِالـمـذبـوحـةِ الأنـهـارْ

*

جـلالـة ُالـدولارْ

*

مـنـقـذُنـــا...

والـمرشــدُ الـفـقـيـــهُ ...

يُـفـتــي فيُـطـــاعُ

لا كـمـا كـانـت فـتـاوى الـسـيـد الـديـنــارْ

*

لِـحيـتـهُ الـخـضـراءُ صـهـوةُ الـمـضـاربـيـن

فـي مـصــارفِ الـحــــوارْ.(34)

تأطر القصيدة بالمفارقة اللفظية بدءاً وختاماً، إذ أنَّها أوَّل ما تصادف المتلقي وآخر ما يقرؤه، ومن الجلي أنَّ الشاعر لا يقصد ما يقوله بعبارة (جلالة الدولار، ظلُّ الله، إله الحرب والتحرير والبناء والأعمار، منقذنا، المرشدُ الفقيه)، وفي تضاد مبطن يقدم السماوي العديد من الصور التي توحي بالرضى والقبول والتقديس للدولار، ورفعه إلى مصاف إله التحرير والإعمار، إذ أنَّه المنقذ وكذلك المرشد والمفتي الذي يُطاع أمره، وإذ ما تجولنا في ثنايا النص قد نصل إلى تأويلات عدَّة تقترب من رؤية الشاعر، فالدولار قد أغوى اللصوص والساسة الفاسدين على السرقة والعمالة والخنوع للأجنبي، ولذلك فهو يُقدس ويُعظم، فضلاً عن هذا تُبين لنا القصيدة الخنوع العربي والتسلط الأمريكي، وما يرمز له بالدولار من الظلمة والواقع السياسي المرير للعراق، والتهتك الاجتماعي، وهذا بدوره يناقض تماماً القراءة الحرفية للنص، مما يعمل على ولادة مفارقة لفظية ساخرة من الواقع الذي يعيشه الشاعر

ولنا أن نقول: إنَّ أساليب المفارقة الساخرة التي اكتظت بها نصوص السماوي كانت نتيجة المفارقات التي افرزتها أزمات الفرد العراقي الذي وجد نفسه خاضعاً فاقداً الإرادة؛ أي أنَّ توظيفها لم يكن اعتباطياً أو بغرض تزيين الكلام، لكن الواقع المرير قلب الموازين في رؤى الشاعر وجعلته يتراوح بين نقيضين محاولةً منه استشراق النور وسط هذا الظلام، وبتوظيف بنية المفارقة وبأسلوبها الساخر تمكن السماوي من عرض مشكلات سياسية واجتماعية واقتصادية وإنسانية، وعالج موضوعات هادفة وفي الوقت ذاته عمل على تأجيج روح الثورة والرفض في ذات المواطن العراقي.

***

نسرين ابراهيم الشمري

...........................

المصادر والمراجع

(1) لغة التضاد في شعر أمل دنقل، د. عاصم محمد أمين بني عامر، دار الصفاء، ط1، عمان، (2005م): 39.

(2) ينظر: المفارقة في الشعر العربي الحديث: 31.

(3) ينظر: مواكب التهكم، عادل العوا، دار الفاضل، دمشق، (1995م): 12.

(4) لغة التضاد في شعر أمل دنقل:39.

(5) ينظر: المصدر نفسه:39.

(6) ينظر: سيكولوجية الفكاهة والضحك، زكريا إبراهيم، دار مصر للطباعة، (د.ط)، (د.ت): 9.

(7) ينظر: جماليات مفارقة السخرية في رواية "البحث عن العظام" لطاهر جاووت، (بحث)، حسينة بوعاش، مجلة علامات، العدد(5)، جامعة أمحمد بوقرة بومرداس، الجزائر، (2017م): 261 ـ 263.

(8) ينظر: الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج، فاطمة حسين العفيف، العدد(3)  مج(43)، (2016م): 2436.

(9) المصدر نفسه:2436.

(10) الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج، فاطمة حسين العفيف، العدد(3)  مج(43)، (2016م): 2437.

(11) المصدر نفسه: 2437.

(12) ينظر: الجانب النفسي للسخرية في الشعر العربي المعاصر "محمد اﻟﻣﺎﻏوط، وﻣﺣﻣود درويش، وأﺣﻣد ﻣطر" انموذج: 2438.

(13) ينظر: شعرية السخرية عند عز الدين مهيوبي "ملصقات" انموذجا، (رسالة ماجستير)، جواهر كزيز، بإشراف: روفيا بوغنوط، جامعة العربي بن مهدي (أم البواقي) /كلية الآداب واللغات، الجزائر،(2015م): 44.

(14) جمالية مفارقة السخرية في رواية "البحث عن العظام" لطاهر جاووت: 261.

(15) ينظر: موسوعة المصطلح النقدي (المفارقة وصفاتها): 27.

(16) المفارقة القرآنية: 17.

(17) ينظر: موسوعة المصطلح النقدي (المفارقة وصفاتها): 50.

(18) ديوان "حديقة من زهور الكلمات": 169 ــ 170.

(19) البكاء على كتف الوطن: 57 ــ 58.

(20) البكاء على كتف الوطن: 55 ــ 57.

(21) ديوان "ثوب من الماء لجسد من الجمر": 26 ــ27.

(22) لماذا تأخرت دهراً، يحيى السماوي، دار الينابيع، ط1، دمشق ــ سوريا، (2010م): 124.

(23) البكاء على الوطن: 37 كتف

(24) عيناك لي وطن ومنفى، يحيى السماوي، دار الظاهري، ط1، جدة ــ السعودية، (1995م): 23.

(25) الاختيار، يحيى السماوي، دار الرفاعي، ط1، الرياض، (1994م): 7.

(26)  قلبي على وطني، يحيى السماوي، الناشر: عبدالمقصود محمد سعيد خوخة، ط1، جدة، (1992م): 61

(27) ينظر: شعرية المفارقة في خطاب بشرى البستاني السياسي، (بحث)، عزت ملا إبراهيمي، علي باقر طاهري، حسين الياسي، مجلة اللغة العربية وآدابها، العدد(1)، (2015م): 150.

(28) الأفق نافذتي: 39

(29) نقوش على جذع نخلة: 104.

(30) المصدر نفسه: 108.

(31) المفارقة في الشعر العربي الحديث: 108.

(32) ديوان (ملحمة التكتك)، يحيى السماوي، دار الكتب والوثائق، ط1، بغداد، (2020م): 109.

(33)  نقوش على جذع نخلة:122.

في المثقف اليوم