قراءات نقدية
آمال بوحرب: أبواب المغارة المضيئة.. أنسنة السرد المكثف والانزياح الرمزي

في مجموعة حسن علي البطران - "مقاربة تفكيكية"
إشكالية القراءة والتأويل
تقف مجموعة “على باب مغارة” للكاتب" حسن علي البطران "أمام القارئ كبنية نصيّة مركّبة تتطلب أدوات تحليلية متشابكة ومقاربات متعددة المستويات، إذ لا تكتفي بكونها مجموعة من النصوص القصصية القصيرة جدًّا، بل تتحول إلى فضاء دلالي مفتوح على تأويلات لا متناهية. فكل نص فيها يُشبه شذرةً سرديةً تختزل العالم بأسره في بضع كلمات، ومع ذلك تحتفظ بعمقٍ فلسفيّ ووجوديّ لافت، يفرض على القارئ الانخراط في تجربة تأويلية مستمرة.
إن هذا النوع من الكتابة يضع القارئ في مواجهة إشكالية مركزية: كيف يمكن قراءة نصٍّ يُكثّف التجربة الإنسانية في ومضة لغوية، دون أن يُضحّي بالمعنى أو يُفرّط في الأثر؟ وهي إشكالية عبّر عنها أدونيس حين قال: “القصيدة العظيمة هي تلك التي لا تنتهي عند آخر كلمة فيها، بل تبدأ هناك.”، وهو قول يمكن إسقاطه على القصة القصيرة جدًّا بوصفها “قصيدة سردية” مشحونة بالدلالة يرى كذلك صلاح فضل أن “النص القصير لا يُقاس بطوله، بل بقدرته على اختزال العالم”، بينما يشير يوسف إدريس إلى أن “القصة الجيدة ليست تلك التي تحكي كثيرًا، بل تلك التي توحي كثيرًا”. ومن هذا المنظور، فإن قصص البطران تشتغل على منطق الإيحاء أكثر من التصريح، وعلى الاقتصاد اللغوي المكثّف الذي يفتح أبوابًا كثيرة لمعاني مركّبة ومتداخلة من هنا، تستدعي هذه المجموعة قراءة تأملية تتجاوز الظاهر النصّي إلى أعمق طبقاته الرمزية والفكرية، قراءةً تراهن على كشف ما هو مسكوت عنه في البنية السردية، وعلى تأويل ما يتخفّى خلف الصمت، والبياض، والاختزال.
عتبات النص: سيميائيات الغلاف والعنوان
تُعدّ العتبات النصية مداخل تأويلية لفهم البنية الرمزية للنص، ولعل أولى هذه العتبات هي الغلاف والعنوان، بما يحتويانه من رموز وألوان تحمل شحنة دلالية عميقة. ففي اللوحة البصرية، يتجلى صراع الأضداد بشكل واضح؛ إذ يهيمن اللون الأسود على الخلفية، وهو لونٌ يرمز في علم النفس التحليلي عند "كارل غوستاف يونغ "إلى اللاوعي الجمعي، حيث تستقر الرموز البدئية والأساطير المؤسسة للذهنية البشرية. تتخلل هذا السواد بقعٌ زرقاء متدرجة، تُفهم كأفق للأمل المحتمل وسط الظلمة، مما ينسجم مع مفهوم ميخائيل باختين عن “الكرنفالية”، حيث ينبثق الجديد من الفوضى ويولد المعنى من قلب العتمة.
أما اللون البني الذي كُتب به العنوان، فيحيل إلى الأرض والجذور، ما يربط المتن القصصي بأسئلة الهوية والانتماء، باعتبار الأرض رمزًا للثبات والعمق التاريخي.
وبالانتقال إلى العنوان ذاته، نجد أن لفظة “المغارة” تحمل أبعادًا رمزية متعددة؛ فهي عند أفلاطون رمزٌ لعالم الظلال والوهم، حيث يعيش البشر أسرى الجهل في الكهف الأسطوري إلى أن يتحرروا عبر المعرفة. بينما في التصوف، كما عند "ابن عربي،"تمثل المغارة محطةً من محطات الكشف والمعرفة الباطنية، حيث ينزوي المتصوف لبلوغ الحقيقة. أما عبارة “على الباب” فتُشير إلى لحظة مفصلية من الانتقال بين عالمين، بين الداخل والخارج، بين الجهل والمعرفة، وهي لحظة عبور تُذكّر بنظرية "فان جيب "حول “مراسيم العبور” التي تمثل الحالة الانتقالية في الطقوس الاجتماعية والثقافية.
البنية السردية: شعرية التكثيف
تتجلى في مجموعة “على باب مغارة” شعرية التكثيف السردي كأحد أبرز ملامح الكتابة القصصية القصيرة جدًّا، وهي شعرية تتأسّس على آليتين بارزتين: الحذف والانزياح اللغوي.
أما الحذف، فهو يشمل حذف الروابط النحوية والتفاصيل السردية التقليدية، حيث تعتمد الجمل على الاختزال الحاد، وغالبًا ما تُقدَّم كجُمل قصيرة جدًّا، مشحونة بالدلالة. وهو ما يجعل من “البياض” عنصراً بنيوياً أساسياً في التلقي، يفتح النص على تعدد القراءات. هذا ما يتقاطع مع رؤية إمبرتو إيكو في مفهوم “العمل المفتوح”، حيث يُستدعى القارئ ليكون شريكًا فعليًا في بناء المعنى، من خلال ملء البياضات واستكمال الفراغات التي يخلّفها النص عمدًا. كما يُولّد هذا النمط السردي ما يُعرف بـ”صدمة التلقّي” كما نظّر لها هانس ياوس، إذ يُفاجَأ المتلقي ببنية متوترة ومقتضبة تجبره على إعادة ترتيب أفق انتظاراته، وتفعيل أدواته التأويلية
الأبعاد الرمزية: مستويات التأويل
تزخر مجموعة “على باب مغارة” بثقل رمزي كثيف، يتيح قراءات متعددة عبر مستويات تأويلية متداخلة، تبدأ من البعد الوجودي، مرورًا بالاجتماعي، وصولًا إلى النفسي. على المستوى الوجودي، تتجسد الرموز بوصفها إسقاطات على أسئلة الكينونة والعبث والمصير؛ فـقصة “مرآة مشوشة” تقدّم الحذاء كرمز ثقيل الوقع، يتقاطع مع أطروحة سارتر: “الجحيم هو الآخرون”، حيث يتكثف فيها ثقل النظرة الخارجية على الذات وتشويهها. وفي قصة “منى”، يصبح الغصن المنفصل استعارة عن انفصال الإنسان عن الإله، في استحضار لفكرة نيتشه حول “موت الإله”، وما يترتب عليها من وحدة الوجود وقلق المعنى. أما قصة “نتيجة”، فيرتفع فيها القفص من مجرد أداة مكانية إلى استعارة فوكوية بامتياز، تجسّد تصوّر ميشيل فوكو عن المجتمع كمؤسسة رقابية ضخمة، حيث يتحول الأفراد إلى سجناء ضمن شبكة من الضوابط والمعايير الخفية.
على المستوى الاجتماعي، تتكرّر ثنائية الرجل/المرأة، لا بوصفها صراعًا جنسانيًا سطحيًا، بل كتمثيل عميق لجدلية الهيمنة والخضوع. ففي هذا السياق، تُستعاد رؤية جان بودريار حول الجسد بوصفه فضاءً للسلطة والتشييء، كما تتجلى المرأة بوصفها “علامة دالّة” داخل نظام أبوي صارم، وفق تحليل جوليا كريستيفا، حيث يتحول الجسد الأنثوي إلى معبر دلالي يُحاصر بالخطابات الذكورية.
أما المستوى النفسي، فينبثق من الرموز الأكثر حميمية: فـ”المرآة المشوشة” تعكس أزمة الهوية وانقسام الذات، مستلهمة نظرية جاك لاكان حول “مرحلة المرآة”، حيث يرى الفرد صورته الخارجية مشوهة وغير مكتملة. كما تعبّر “العصفورة المحبوسة” عن الخوف العميق من الحرية، وهي صورة سيكولوجية معقدة ترتبط برؤية إريك فروم، الذي اعتبر أن الإنسان قد يهاب الحرية أكثر مما يرغبها، لأنها تضعه أمام مسؤولية وجوده الكامل.
بهذه التوليفات الرمزية، تتحول القصص القصيرة جدًّا في هذه المجموعة إلى شظايا من واقع مشحون بالألم، واللايقين، والتمرد الصامت، حيث يعمل الرمز كسلاح جمالي حادّ يكشف هشاشة الكائن في مواجهة ذاته والعالم.
التناصات الثقافية وجماليات التلقي
تنبني مجموعة “على باب مغارة” على شبكة كثيفة من التناصات التي تُغني الدلالة وتضاعف مستويات التأويل، فتتداخل فيها المرجعيات الدينية والأدبية، لتنتج نصًا شديد الانفتاح على الذاكرة الثقافية الجماعية. ففي المستوى الديني، نجد توظيفًا لرموز ذات طابع قرآني وشيعي بامتياز، كما في كلمة “القوارير” في قصة “نتيجة”، التي تستدعي قوله تعالى: (إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها)، في إحالة رمزية إلى هشاشة الوجود الإنساني وزوال المظاهر. وفي الإهداء، تظهر “الصخرة” كعلامة قوية على الصلابة والمواجهة، تتقاطع دلاليًا مع قول الإمام علي: “كن كالصخرة لا تحركها الرياح”، مما يضفي على النص بعدًا أخلاقيًا وصوفيًا مستترًا.
أما على صعيد التناص الأدبي، فإن الحيوان الرمزي في القصص يُفعّل من خلال مرجعيات درامية وفكرية؛ فـ”الكلب” في قصة “غنوة” لا يظهر كعنصر ساذج، بل يذكّر بمسرحية “كلب الهراسة” لسعد الله ونوس، حيث يتحول الحيوان إلى أداة رمزية لتفكيك بنية السلطة والعنف. كذلك، فإن “القرد” في “موز وقفص” يفتح باب التفسير على مقولات الداروينية الاجتماعية، التي تقرأ الإنسان من منظور التطور والغريزة، مظهرة كيف يتحول التهريج إلى قناع للمأساة.
وتُستكمل هذه الشبكة الرمزية من خلال جماليات التلقي التي تحوّل القارئ إلى فاعل نصي حقيقي. إذ تتجلى بعض القصص كبنى مشفّرة، تعتمد على التشفير الرياضي، كما في الأرقام المضمنة ضمن “الإضمامات”، التي توحي بنظام مغلق، يستدعي أطروحة إيمانويل ليفيناس حول “الكلي والمطلق”، حيث يُحبَس المعنى داخل شكل هندسي دقيق يُجبر القارئ على فك شيفراته. كما أن التوترات الداخلية بين العلامات تخلق ما يشبه التنافر المعرفي، يظهر بشكل حادّ في قصة “نتيجة”، التي تمزج بين الرقص والوباء، مما يُحدث “صدمة تأويلية” تجبر المتلقي على مراجعة مسلماته الإدراكية، مستحضرًا بذلك مفهوم ياوس عن تلقي النص بوصفه تجربة انفعالية معرفية.
بهذا التمازج بين التناصات العميقة وجماليات التلقي النشطة، تتحول القراءة إلى مغامرة وجودية وثقافية، تجعل من النص القصير جدًا حقلًا تأويليًا لا نهائيًا.
المغارة كبنية ميتاسردية
في مجموعة “على باب مغارة”، تتحول “المغارة” من مجرد عنوان إلى بنية ميتاسردية تتجاوز فضاء الحكاية لتصبح تمثيلًا رمزيًا لانغلاق العالم وتشظّي المعنى. فهي من جهة فضاء سيميائي بالمعنى الذي طرحه تشارلز ساندرز بيرس، حيث لا تنفصل العلامات عن دلالاتها بل تولّد بعضها البعض في سلسلة لا نهائية من الإحالات. ومن جهة أخرى، تشكل استعارة كبرى للعالم باعتباره نصًا قابلًا للتفكيك، على نحو ما بلوره جاك دريدا في مشروعه التفكيكي، حيث لا وجود لمعنى نهائي، بل فقط طبقات من الدلالة المؤجلة. أما المغارة بوصفها مرآة مكسورة، فهي تعكس أزمة الإنسان المعاصر في بحثه القلق عن الحقيقة، في عالم تنهار فيه الثوابت وتذوب الحدود بين الذات والعالم.
بهذا المعنى، لا تقدّم القصص نهاية مغلقة أو أجوبة حاسمة، بل تفتح “أبوابًا” على أسئلة جديدة، كما لو أن كل قصة ما هي إلا مدخل رمزي إلى مغارة أكبر، حيث لا يُتاح للقارئ سوى المزيد من التوغل في العتمة بحثًا عن بصيص من المعنى. وهنا تتجلى جمالية النهايات المفتوحة، حيث يتشارك الكاتب والقارئ في لعبة التأويل، في بنية سردية لا تتوقف عن إعادة إنتاج ذاتها.
***
الباحثة والناقدة العربية
د. آمال بوحرب
............................
المراجع والمصادر
1- محمد السعيد (2019) سيميائيات العتبات، منشورات ضفاف
2- علي حمدان (2018) جماليات القصة القصيرة جداً: البنية والدلالة، اتحاد الكتاب العرب
3- خالد الزهراني (2021) الرمز والسرد في الأدب المعاصر، المركز الثقافي العربي
4- آمال بوحرب (2020) هيرمينوطيقا النص القصير، دار عزة للنشر والتوزيع
5. نادية العبودي (2017) تأويل الخطاب القصصي الحديث، دار الفارابي
6. صلاح القاسمي (2022) سرديات ما بعد الحداثة في الخليج العربي، دار مدارك
المراجع الأجنبية مترجمة للعربية
1. موريس بلانشو (1955) الفضاء الأدبي، دار غاليمار
2. أمبرتو إيكو (1989) العمل المفتوح، جامعة هارفارد للنشر