قراءات نقدية
محمد عبد الحليم غنيم: امرأة وألف وجه من الواقعي إلى الفنتازي
للقاص الروائي محمد عبد الله الهادي
لعل الروائي محمد عبد الله الهادي أحد أبرز المبدعين الذين لم يلقوا الاهتمام النقدي الذي يليق بقيمة إبداعهم، ربما لأنه لم يمتلك منصبا ثقافيا أو يرأس صحيفة أو غيرها من المناصب التي تجذب إليه جوقة أدعياء النقد، أقول هذا انصافا للحق واحتجاجا على فساد الحياة الثقافية فى معظم بيئاتنا الثقافية. ومحمد عبد الله الهادي فوق هذا كاتب قصة قصيرة وروائي غزير الإنتاج ومع ذلك لم ينشر على امتداد عمره الإبداعي الذي تجاوز ربع قرن سوى تسعة كتب، أربعة مجموعات من القصص القصير، وأربع روايات، وكتاب نقدي وله من المخطوطات والأعمال الجاهزة للنشر ما يفوق هذا العدد.
وقد أصدر مؤخرا رواية مهمة بعنوان " ليالي الرقص فى الجزيرة " جـ 1 (العبد) وأنا أشير إلى هذا العمل قبل أن أتناول مجموعة "امرأة من ألف وجه"، لأن المؤلف يؤكد فى هذا العمل تماسك وتفرد عالمه الروائي، حيث يمكن ملاحظة التماسك بين معظم شخصيات قصصه القصيرة وشخصيات رواياته، إنه عالم خيالي خاص بالروائي محمد عبد الله الهادي، يتخذ من البيئة المصرية فى إقليم الشرقية منطلقا، وهى نفس البيئة التى انطلق منها الروائي يوسف إدريس عبقري القصة العربية بلا منازع، لذلك لن نعجب إذا ما وجدنا تشابها بين الكاتبين، وخاصة فى الأسلوب، كما سنشير فيما بعد.
أعود إلى المجموعة التى بين يدي "امرأة وألف وجه" فأبدي فى البدء ملاحظة شكلية تتعلق بحجم المجموعة، فأقول إن هذه المجموعة كان يمكن أن تقسم إلى مجموعتين، نظرا إلى التباين الشديد فى بناء القصص، ولا أقول المضمون. تنتظم المجموعة فى ثلاثة أقسام، يضم القسم الأول منها ست قصص هي على الترتيب: البلغة مرة أخرى ـ جولدن فينجرز ـ عروسة للأديب الأدباتي ـ خارج الخدمة ـ ابنان من رحم الليل ـ جمل حمدان) ويغلب على هذا القسم طول القصص وتعدد الشخوص فيها. والقسم الثاني مكون من جزأين الأول منهما يضم خمس قصص تحت عنوان "كفان" والجزء الثاني يضم عشرة قصص بعنوان " قصص قصيرة لحد ما "(إلى حد ما) وهذا الجزء فى مجموعه يشكل مجموعة قصص مكتملة يغلب عليها بناء القصة القصيرة جدا، حيث التركيز والتكثيف والمفارقة بوصفها سمات بارزة لهذه القصص، وكان الأجدر بالمؤلف نشر هذا القسم فى مجموعة أو كتاب مستقل أما القسم الثالث فيضم قصتين هما: صباح جديد على طائر أبيض صغير وصندوق الدنيا) وهاتان القصتان تعدان- من وجهة نظري - ذروة إبداع المؤلف فى هذا الكتاب.
على أية حال يمكننا أن نلحظ خطين متواصلين عبر هذه الأقسام الثلاثة، الأول على مستوى التيمة، وهو الاتكاء على موضوع المرأة، بداية من عنوان الكتاب "امرأة وألف وجه" والإهداء الذي يوجهه المؤلف إلى نساء حياته أو على حد قوله: إلى نساء حياتي، فيذكر اسم الزوجة واسم الأم واسم الابنة، فالمرأة تيمة قارة ومتربعة على العرش فى كل قصص المجموعة تقريبا، فهي الأم الحنون فى قصص: جولدن فنجرز، وعروسة للأديب، وكفا نبوية، وهى الزوجة فى البلغة مرة أخرى وجمل حمدان وغيرهما , وهي الأم الرمز المتعدد المعاني للوطن فى قصتي: صباح جديد وصندوق الدنيا، وهكذا أي نص تقرأ تجد فيه تلك المرأة فى وجه من وجوهها المتعددة.
أما الخط الثاني الذى يربط قصص المجموعة، فهذا الوعي الفني الحاد الذي يسمو بالواقعي إلى درجة الرمز من خلال قصد واضح نحو التجريب، حيث يحاول المؤلف استخدام تقنيات سردية تبدأ بالتقليدي وتنتهي بالتجريبي، فيغلب على قصص القسم الأول البناء التقليدي، فى حين تنحو القصص فى القسمين الأخيرين منحى الأبنية غير التقليدية من استخدام شكل القصص القصير جدا إلى توظيف الفنتازيا والتراث الشعبي فى القسم الأخير. لكن تبقى هناك استراتيجية ثابتة فى معظم القصص وهى استراتيجية المقابلة ,سواء على مستوى الزمن أو المكان أو الشخوص، وهى استراتيجية ذات دور مهم فى بناء النص كما سنرى فى التحليل.
ولعله من المفيد أن نقف بالتحليل الفردي عند أبرز قصص المجموعة، ولنبدأ بالقسم الأول:
1 ـ البلغة مرة أخرى (أبو الوجوه):
لا أعرف لماذا التردد فى العنوان لدى المؤلف؟ فعلى الرغم من التوطئة التى صدر بها المؤلف قصته "أبو الوجوه" فأعتقد أنه كان يكفي أن يحدد العنوان مباشرة "أبو الوجوه" وتبدأ القصة هكذا، ولكن أنه يبدو أن المؤلف أراد أن تكون العلاقة أو الامتداد بين هذه القصة وقصة أخرى أبطالها تقريبا نفس الأبطال بعنوان "البلغة" نشرت عام 2002 م ضمن مجموعة "حلقة ذكر".
والقصة تبدأ من بعد غضب وصيفى من مصيلحى صديقه رافضا رفضا قاطعا انتعال بلغته الجديدة التي أخذها علي سبيل السلف، مفضلا العودة إلى المنزل وعدم الذهاب إلى عرس القنادلة، وهناك فى المنزل يلتقي بسعدية التى تحاول فى البدء الاختفاء بعيدا عنه، ثم تتطور الأحداث فى اتجاه آخر يجعل من البلغة هنا مجرد خلفية أو رمز يختبئ خلف الفكرة المركزية للنص الجديد (أبو الوجوه).
وأبو الوجوه هو المرض الذي أصاب "إدريس عبد العظيم" عمدة القرية الظالم والشهير باسم "أبو جريدة" نسبة إلى الدرويش أبو جريدة الذي بشر أمه زوجة عبد العظيم بولادته، فسمي بذلك على اسمه واشتهر بهذا الاسم، ولأن الدرويش ذكر العمدة بظلمه وأمره بالتقوى ضربه الأخير على وجهه ؛ ثم أصابه المرض بعد ذلك، وفى المنام يأتي الدرويش إلى العمدة يأمره أن يبحث عن بلغة قديمة لفلاح فقير يضرب وجهه بها، ويجد بسطويسى شيخ الخفر بغيته عند وصيفى، بالضبط عند بلغة وصيفى القديمة، تلك البلغة التى كانت محور الأحداث في القصة السابقة، وقد تطورت وظيفتها هنا، لتصير رمزا أسطوريا، فهي هنا علاج لمرض العمدة الظالم، إنها آلة تطهير لذنوب العمدة، حيث اقترح أبو جريدة الشيخ الصوفى فى المنام للعمدة أن يضرب وجهه ببلغة قديمة لكى يبرأ من مرضه.
2 ـ جولدن فنجرز:
البداية: نظرت بريبة التائه اللوحة الزرقاء المعلقة بأول الشارع، مرت عيناي ببطء على الحروف البيضاء المتشابكة عليها... يهز الرجل رأسه من أعلى لأسفل هزة عظمة:
هو يا سعادة البيه "(ص29)
وهذه فى الواقع أطول بداية لقصة قصيرة، ومع ذلك يمكن تلخيصها فى جملة واحدة وهي دهشة الراوي / البطل.
بداية الأحداث / القصة ـــ رؤية لوحة مكتوب عليها "جولدن فنجرز " (ص30)
الماضي
صالون العروبة
راجي عفو الخلاق... الأسطى أنيس الحلاق
أما الحاضر
جولدن فنجرز
الراوي يدخل محل الحلاقة، فيتذكر، وهكذا نجد أن الأحداث قائمة على التقابل بين الماضي والحاضر، والماضي أكثر حضورا، ويزداد إيقاع القصة مع نهاية الأحداث، ويبقى الموقف الرئيسي هو موقف الأم (الماضي) عندما انتصرت للابن الصغير الراوي الآن(الحاضر)، فالراوي لا ينسى يوم أن جلس للحلاقة، ثم دخل وليد ابن الضابط المحل، فتركه الأسطى أنيس واتجه باهتمام وحفاوة إلى وليد ناسيا الراوي، فما كان من الأم التى كانت تراقب المشهد وتشعر بنظرة القهر فى عيني ابنها، إلا أن نهضت وعاتبت الأسطى أنيس وسحبت ابنها وخرجت من المحل. إن القصة هنا تمجد فعل الأم، على حين تمجد القصة السابقة فعل الزوجة، فهنا أم أيمن، وهناك سعدية زوجة وصيفى والجازية زوجة العمدة.
3 ـ عروس للأديب الأدباتي:
لعل هذه القصة تعد على المستوى الفني أقل من سابقتيها، ولكنها تبقى محتفية بالأم، والأم هنا تأتي مقابلا للزوجة أو بديلا لها، فالأديب يتزوج بعد موت الأم، إن هذه القصة على تلك المقابلة الخفية بين الأم والزوجة، الأم تقرأ الأعماق، فى حين الزوجة تقرأ السطح ففى نهاية القصة يكتشف الأديب راوي القصة أن الزوجة لم تقرأ كتابيه اللذين أهداهما لها، ولكن كانت تقرأ فقط الإهداء كل ليلة، فيما عدا هذه المقابلة بين موقف الأم وموقف الزوجة، يبدو ما جاء فى نسيج النص فيما بعد أشبه بالآراء الشخصية حول الأدباء والأديبات والزواج
للأم جملتان فى بداية النص يؤكدان صدق العلاقة ومتانتها
الأولى: نفسى ومنى عيني أشوف أولادك يا ابني قبل أن أموت " ص45.
الثانية: ربنا يعلى مراتبه وينجح مقاصده، ويرزقه ببنت حلال تسعده " ص45.
4 ـ خارج الخدمة:
يضع المؤلف عبارة لماركيز من قصته الأخيرة "ذاكرة غانياتي الحزينات" بديلا للبداية السردية، وخلاصة العبارة، أن استفزاز الفتيات الصغيرات للشيوخ بعبارات يعتقدون فيها أن الشيوخ خارج الخدمة أمر مثير أو مفتن من مفاتن الشيخوخة. ولم لا لا نضع مقتبس ماريز هنا كاملا: " خطر لي إن إحدي مفاتن الشيخوخة هي الاستفزازات التي تسمح لأنفسهن بها الصديقات الشابات اللواتي يعتقدن أننا خارج الخدمة ".
والقصة كلها تدور حول علاقة الأستاذ يحيي عبد الواحد مدير الإدارة وسط ثماني نساء وتاسعتهن (فتحية)، وكيف لعب المؤلف بلفظ "خارج الخدمة" بمعناها الرمزي والحقيقي معا، ففي الوقت الذي يكون فيه يحيي على وشك الخروج خارج الخدمة(التقاعد)، يدخل الخدمة، والخدمة بمعناها الرمزي وهو أن يكون شخصا مرغوبا فيه من قبل النساء.
لقد نجح المؤلف رغم تعدد الشخصيات بأن تدور كلها حول شخص واحد هو يحيي وحول نقطة محددة هي علاقة الرجل بالمرأة، وكيف استطاع بالفعل أن يوظف عبارة ماركيز التى صدر بها القصة، وقد وجد يحيي فتنة الشيخوخة فى فتحية العرجاء.
5 ـ ابنان من رحم الليل:
هذه القصة تمتح من الواقع الحقيقي لجزيرة مطاوع حيث تختلط التقاليد الريفية بالتقاليد البدوية على أرض الجزيرة، ولذلك تتماس أحداث هذه القصة مع أحد فصول رواية المؤلف الأخيرة "ليالي الرقص فى الجزيرة" التى كتبت قبل هذه القصة، فبقرة محيسن فى الرواية هي جاموسة أبو إسماعيل فى القصة، والعبد فى الراوية هو عصفور فى القصة، الجديد هنا هو الراوي، والراوي غفير الدرك الذي الذى ساعد فى إعادة الجاموسة إلى صاحبها (أبو أسماعيل)، وصديق عصفور منذ أن كانا صغيرين فى المدرسة، الأول صار لصا، والثاني صار غفيرا، فصار الاثنان معا ابنين لليل، فمن هنا كان عنوان القصة "ابنان من رحم الليل".
والقصة هنا تقوم على المقابلة بين شخصين من جنس الذكور والغريب لا ذكر للمرأة هنا بل إن الإشارة تكون بالسلب: " كانت داره التى لم تعمرها امرأة قريبة من سور البستان " ص81. طبعا هناك امرأة أخرى يكاد يكون دورها سلبيا وقليل الأثر ألا وهى زوجة أبو أسماعيل، حيث يقتصر دورها على الصراخ بينما الزعيق والكلام للرجل:
" كان الصراخ المستنجد مازاليجرح صمت الليل الكاذب، صراخ امرأة تستغيث، ورجل يزعق بصوت أجش: - يا خلق هوه.. أغيثوني.. جاموستي يا عالم ؟ " (ص75). ويؤكد هذه السلبية بقوة أن البطولة الحقيقية فى هذه القصة لعصفور ابن الليل، فهو من أنقذ الجاموسة من أيدى رفاقه الخونة من اللصوص، وبالطبع استكمل دور البطولة غفير الدرك راوي القصة:
يا أهل قريتي الكرام: حارسكم الشجاع يعترف أمامكم بالحقيقة..
يا أهل قريتي الكرام: هذا الرجل "عصفور"، ابن الليل، المثخن بالجراح على فراشه في هذه الدار، هو الذي أعاد الجاموسة لصاحبها " ابو إسماعيل يا أهل قرايتي الكرام.. يا أهل قريتي الكرام..
لم يسمعنى أحدٌ من أهلي أو ناسي الكرام بالقرية..
لم يسمعني سوى أبينا الليل..(ص82)
6 ـ جمل حمدان:
لعل المكان فى هذه القصة وسابقتها هو البطل الرئيسي، فثمة أسماء أماكن تردد فى العملين، وفى عالم محمد عبد الله الهادي كله (انظر عصا أبنوس، وليالي الرقص فى الجزيرة) مثل: كوبري الميزانية ـ ترعة بهجت ـ مصرف صان ـ جنينة الخواجات وغيرها.
والقصة بعد ذلك تؤكد هذا الدفء الإنساني فى الجزيرة بين البشر وخاصة بين الزوج وزوجته، فالمرأة هنا زوجة "شلبية" ولنلاحظ دقة الوصف والخبرة الكامنة لدي المؤلف بأحوال البشر فى الريف فى العبارة التالية: "... فتندس بجواره ترمي هموها عليه ويرمي همومه عليها، يسألها عن أشياء وتسأله عن أشياء، يتكلمان عن الجزيرة الواسعة وناسها الكبار، عن شغل الموسم وأحواله المستقبلية، عن آخر أجر دخل جيبه وشح أصحاب الأرض، عن أشياء شتوية ملحة يرغبان فى شرائها للطفلين من السوق.
تخمد الجمرات، يتسلل برد من عقب الباب. يتضامان أكثر. ياخذها بين ذراعيه تحت البطانية القديمة متلمسا منهادفء عز عليه فى ليل الشتاء الطويل.. " ص 89.
الاهتمام بالتفاصيل من أبرز سمات هذه القصة ومعظم قصص المجموعة، والاهتمام بالتفاصيل يجعلك تلهث وراء الراوي، فكان يمكن للقصة أن تنتهي بذهاب شلبية إلى المنزل مع حمدان الجمل، ولكن المؤلف لهدف آخر يؤجل النهاية ليوم آخر عندما يأتي الجمل إلى دكان مشرف ويوجه إهانة بالغة للشيخ تهامي، وذلك الرجل المستغل، حيث يقول له أن حيوانه (ما بين فخذي) هو الذي أرجع شلبية إلى دارها.
القسم الثاني: يضم هذا القسم خمس عشرة قصة قصيرة جدا من حيث الحجم على الأقل بالنسبة لقصص القسمين الأول والثالث، وقد وضع المؤلف الخمس الأولى منها تحت عنوان "كفان" كفا أم ـ كفا قناص ـ كفا نبوية ـ كفا آل طعمة ـ كفا الحلبي. ووضع للعشرة الأخيرة عنوانا شاملا هو "قصص قصيرة لحد ما " وهذه القصص هي: الأخرس ـ شجيرات حب صغيرة ـ سيمفونية الغروب ـ الجائزة ـ فى عز الليل ـ آخر الخط ـ هواء يرد الروح ـ القلعة ـ آجال ـ عود.
وسأتوقف من هذا القسم عند قصتين الأولى "الأخرس" والثانية "شجيرات حب صغيرة".
1ـ الأخرس:
هذه قصة مأساوية تستحق أن تترجم إلى معظم لغات العالم، تبدأ القصة بجملة تقريرية تبدو بريئة فى ظاهرها، إلا أنها تخفى مضمونا مختلفا " لأنه الأخرس الوحيد بالقرية، فإنه كان دائما ما يحاط من أهلها بنوع من الحب والشفقة " ص 117.
الحقيقة أن هذا النوع من الحب والشفقة عندما يتعرض للاختبار الحقيقي تكتشف أنه حب مزيف وشفقة مفتعلة، فالقرية ترفض تزويج الأخرس من إحدى بناتها، وعندما يتزوج وينجب ابنه يموت تحت عجلات الجرار، يجلسون حوله فى البداية، ولكنهم ينفضون عنه رويدا رويدا تاركينه وابنه وزوجته تحت سطوة الليل البارد، وفى الصباح تكتشف القرية كلها هروب الأخرس وزوجته بجثة الابن. " فقط كانت هناك كومة قش مبللة، وبقعة دماء مختلطة بالوحل، ومصباح من الصفيح، ورماد نار بللته قطرات المطر.. وبحثت القرية عن اخرسها فى كل مكان ولم تجده " ص 122.
2 ـ شجيرات حب صغيرة:
هذه قصة طريفة يوظف فيها المؤلف طقسا شعبيا كان شائعا فى الريف وهو رسم المحبين شجرة الحب على منتصف جبهته، وكان الفلاحون يفعلون ذلك بطرف الطاقية الصوف، وشجرة الحب أو الحب عامة فى الريف كان دليل الرجولة والنبل، وكان الآخرون يشفقون على المحب دائما، والقصة تكاد تخلو من الصراع الدرامي ومن ثم تشحب فيها الحكاية، فثمة أم وابنها يذهبان إلى السوق فى القرية، البنت جميلة جدا واسمها كوثر، تشيع الدفء والحب فى السوق، يلاحقها الشباب ويتمنى كل واحد منهم أن يفوز بحبها.
وينهي المؤلف القصة، بأن أهل السوق لم يلتفتوا لغياب كوثر وزوجها، لأنهم كانوا منشغلين بكوثر أخرى، وكانه يريد أن يقول أن الجمال ضروري لحياة البشر فى هذا الريف رغم الفقر والجهل، إن القصة فى النهاية دعوة لتقدير الحب وتقديس الجمال.
القسم الثالث: يضم هذا القسم قصتين(صباح جديد على طائر ابيض صغير ـ صندوق الدنيا)، فيهما يعتمد محمد عبد الله الهادي الفنتازيا استراتيجية فى السرد، والفنتازيا هنا عمادها خيال قوي، يبعث الروح فى الأشياء والحيوان فيصيران شخوصا سردية محملة برؤية جمالية هي فى الأخير رؤية المؤلف، فالطائر الأبيض الصغير فى القصة الأولى يجعلنا نلهث خلفه وهو يقودنا من مكان إلى آخر داخل المدينة، حتى يستقر فى نهاية الحداث عند كوخ العجوز وسط كتاكيتها الصغيرة، يلتقط الحب ويشرب الماء بعد رحلة عذاب ومطاردة من الجنود / الغرباء، فوق الأشجار وعند سوق المدينة وغيرها من الأماكن العامة، تراه العجوز فتناديه: تعالى يا إبراهيم.
وإبراهيم هو ابنها الذي قتله الجنود الغرباء، وهم قساة لا يرحمون، فنجدهم يهاجمون العجوز بحثا عن المقاومين الهاربين الذين يقاومون الجنود، وعندئذ يصيبون الطائر الصغير فينكسر جناحه، وفى اليوم الثاني يعود ليكتشف أن الغرباء حطموا كوخ العجوز وقتلوا الكتاكيت الصغار. إن هذه القصة حكاية رمزية عميقة مركبة لقهر العدو المحتل لكل أرض محتلة بشعبها وأرضها وخيرها، فما الطائر الصغير وما الكتاكيت وما العجوز وما إبراهيم الشهيد إلا مفردات هذا الوطن المحتل المقاوم الذي قد يكون فلسطين أو العراق أو اي بقعة فى الأرض يدنسها الدخلاء الغزاة المحتلون. إن قوة التخيل تجعلنا نحن المتلقين نصدق مع العجوز أن الطائر الأبيض الصغير الجائع هو إبراهيم ابنها الذي قتله العدو.
فى القصة الأخيرة "صندوق الدنيا" يوظف المؤلف الموروث الشعبي توظيفا أكاديميا أي توظيفا واعيا مقصودا على خلاف البلغة مرة أخرى وشجيرات حب صغيرة " حيث لا يتوارى الموروث الشعبي فى خلفية الأحداث، ولكنه هنا يبرز فى المقدمة ويعتبر المحفز السردي الأول فى العمل.
فى هذه القصة يعيد المؤلف إنتاج حكاية ست الحسن والشاطر حسن من خلال لعبة سردية مشهدية اقرب غلى العرض المسرحي، أداته موتيفة تراثية مشهورة هي " صندوق الدنيا" حيث يحمل فى الأسواق ويعرض من خلال الصور المدهشة التى كانت تأخذ بألباب النظارة فى الريف والقرى.
وحاملة الصندوق هنا امرأة عجوز تتفاعل مع النظارة أو المتلقين وتقترح عليهم الحكاية التى ستعرضها، فيجمع النظارة ومعظمهن من البنات الصغيرات على رواية حكاية ست الحسن والشاطر حسن. وهنا لا يروي لنا السارد حكاية، ولكن يروي مأساة وبالتحديد دراما، فهناك صوتان يتناوبان السرد أو قل العرض، صوت الراوي وهو صوت العجوز، فالعجوز تمثل الشخصية الرئيسية على المسرح حيث تحكي حكاية فتاة جميلة يحبها ابن الملك، ولكن الحب لا يدوم، فالملك الظالم يقتل الأب ويسجن الأسرة بما فيهم ست الحسن، وعندما يتولى الابن / الحبيب الملك يسير على نهج أبيه ويتنكر لحبه القديم فيواصل تعذيب وإهانة ست الحسن، وها هو يطاردها فى الأسواق حيث تحمل صندوقها أو قل همها على كتفها.
أما الراوي فبمثابة الجوقة فى المأساة الإغريقية، يردد بعض الجمل الأساسية التى تبرز الفكرية ويهيء المسرح للمثل الأول العجوز يسرد ما لم تستطع سرده، إن أجمل ما فى هذه القصة هى النهاية التى تؤكد مغزى القصة فعندما يهجم جنود الملك على العجوز يساعدها الغول فتتحول إلى طائر أخضر يطير فى سماء السوق، ثم ينبه النظارة على المشهد وكأنهم فاقوا من حلم، يلقون بالفواكه الفاسدة والتراب والطوب على جنود الملك، إن القصة ببساطة تجعل من ست الحسن والجمال رمزا واسع الدلالة للمثقف الذي تطارده قوى الظلام والجهل فى كل مكان وزمان.
***
د. محمد عبد الحليم غنيم