قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: دراسة في رواية (صخرة طانيوس) لأمين معلوف
إغوائية لميا في مصير طانيوس وليدا، الفصل الثاني - المبحث (2)
***
توطئة: ﻻ تتوقف وظيفة التخييل في عوالم مرويات (أمين معلوف) نحو قيمة ذلك الاشباع السياقي ذي العلاقة التفاعلية النقلية من حدود حصيلة مرجعيات تأريخية ووثائقية مشحونة بما قاله (الرواة؟) بل العين التخييلية راحت تفتح ذهنية التلقي لأجلى مغاليق حكايا الاساطير والملامح والموروث الشعبي الحكائي، لذا يمكننا استشفاف أفق صناعة المتخيل والتخييل في تقديم مجاﻻت وعوامل دﻻلية مركزة في متعينات العلاقة الحبكوية في تضاعيف الحكي السردي، ولأجل أن يبقى السرد الروائي السياقي أثرا في الصورة والمشهد والمتواليات الوحداتية، أثرهُ معلوف ابقاء علاماته الاحتوائية الكثيفة اندراجا مسرودا في الجزيئات والكليات والهوامش والتفاصيل الأكثر جنوحا في الاكمال والهوامش والتقصي لإحساس تجليات وبواعث الواقعة السردية المتعددة في الإمكان والتمكين السياقي وتخييلي.
- العلاقة الإنتاجية بين فعل السارد وحديث مساحة المنقول.
تشكل الصورة السردية في محكيات العلاقة الإنتاجية للحكي تماثلا بين طرفي (فعل السارد مشاركا.... مساحة حديث الوظيفة التدوينية) وتزداد دائرة الوظيفة الصورية اجتيازا نحو ناحية الانفتاح التخييلي الذي راح يتعامل مع حدود العلامات والأسماء والمواقف والشخوص ضمن جملة وتيرة إنتاجية تنص بأن السارد المشارك هو الطرف الذي يستوح قابلية تحريك الصور والأفعال ضمن إشارات مدونة في دفاتر القساوسة والكهنوت وبعض من شواهد الأشخاص السابحين في فضاء الهامش من الوظيفة النقلية ذاتها.
1. الربط الزمكاني في واصلة الزمن الحاضري:
يحظى الفضاء الروائي في تجربة (صخرة طانيوس) بملاذات موروث (الحكاية المرجعية) عبر حياتها وزمنها المشرب ب(المسرود إليه راويا؟) لذا فإن مضمار الأهمية في السرد والمسرود، تتعدى ممارسة (الحاكي النمطي؟) اقترانا بذلك الشكل من وظائفية (السارد العليم = المسرود إليه راويا). لقد عانينا مرارا في مواضع عدة من روايات معلوف، بأن الدور الفعلي للسارد لم يكن في وحدة الفاعل السردي الأكثر استقلالا بسرده، إنما الأمر يمرر عبر تفاصيل (الحكاية المرجعية. المروى إليه ساردا) وهذه الآلية التي اعتمدها معلوف في رواية (ليون الأفريقي) والآن نجد لمثلها مع الاختلاف النسبي في صدد رواية (صخرة طانيوس). أود القول هنا ببساطة متوخاة حدود الدقة والإحاطة أن شكل الممارسة الروائية في عوالم معلوف تتطلب الشاهدية المرجعية في وسائل نقل الرواة أو حتى من خلال ذلك الأثر المدون، حتى تتاح للروائي خلق فاصلة وواصلة تمتدد من مساحة الزمكانية للسياق النصي، وحتى انعطافة ومعالجة صناعة التخييل السردي. لذا فلم يتبق للشيخة زوجة الشيخ الاقطاعي سوى حزم عدتها الى الرحيل من القصر، فيما ظلت لميا تتذرع لزوجها جريس أن يسمح لها بمرافقة الشيخة إلى مكان قصر ذويها: (لم خطر ببالها قط من ذي قبل مرافقة الشيخة، ولكنها استيقظت في ذلك الصباح، وقد راودتها هذه الفكرة بعد ليلة جديدة من السهاد. خطر لها الرحيل، والابتعاد قليلا عن القصر، وعن نميمة النساء، ونظرات الرجال وهواجسها. /ص٣٧ الرواية) من هنا يتضح لنا بأن هناك ما يستدع مخاوف لميا من حقيقة رحيل الشيخة وترك القصر نهبا لشهوات وغرائز زوجها الشيخ في خلواته الحمراء.
2. المنظور السردي والاستبعاد السردي:
لعل الانطباعات التي يتركها السرد الى محصلة تمحيصات القارىء،هو الأمر ذاته الذي تركه معلوف تحت طي وحدات مخاوف وقلق وهواجس لميا من وراء رحيل الشيخة من القصر، لو حاولنا معرفة مساحة الاختلاف ما بين وجود الشيخة وغيابها عن القصر وما الذي يشكله في حقيقة معنى لغز قلق لميا ذاتها. طبعا معلوف يترك فجواة كثيرة لم يداولها في الصورة الواضحة في أحداثه، فهو عرض لنا في وحدات سابقة من الفصول الأولى من الرواية بأن لميا كانت تجاهد في سبيل إرضاء الشيخ، لذا فإنها تقوم بخدمته دون تردد منها قيد أنملة، كما وإنها هي الوحيدة المطلعة على حاﻻت وهن الشيخ في تلك الأمسية التي قضاها الشيخ متوعكا، وفهي بدورها من فرضت طابع المبادرة لأجل تحريك مشاعر الشيخ بمدى اهتمامها به، ولكن الغريب هي الآن ممن تبحث لها عن مأوى يحفظها من مصائد ومكائد الشيخ بعد أعقاب رحيل الشيخة عن القصر في زيارة موسمية إلى قصر ذويها: (كانت لميا تكشف وجها كاملا من كل نهد. لوددت أن أضع رأسي على هاتين الهضبتين كل ليلة: تحنحنت وكيف تعلم كل هذه التفاصيل، ولم تراها قط في حياتك؟. إذا كنت ﻻ تريد أن تصدقني، فلماذا تسألني؟. /ص٣٨ الرواية) في الواقع هذا الحوار كان دائرا بين جبراييل والمروى إليه ساردا. وهذا بدوره مما ذكرته بمنظور السرد واستبعاد السرد، ذلك كون التفاصيل المذكورة عن لميا هي من رؤية النقل المرجعي المدون في أحدى كتب القساوسة التي تحكي عن حكايا الجبل والضيعة معا. أردت القول أيضا إن تفاصيل منظور السرد جاءت في حدود المرويات أيضا، إلا أن هذه المرويات لا تستبعد من أن تكون مرمزا الى مواضع خاصة من الإفصاح بدورها، ذلك لان لميا عند مغادرة الشيخة صارت تعتزم لذاتها عدم خدمة ذلك الشيخ مجددا وخصوصا كونه صار بمفرده الآن، ولو راجعنا بعض الوحدات في المتون الأولى من الرواية لفاجأتنا لميا في كونها كانت تحلم بجس بعض معالم الشيخ الخصوصية، إذن إن حدوث المواقعة كانت من قبل رحيل الشيخة وليس بعد زمن فراقها للقصر: (نهض الشيخ، وانتقى في أجمل عنقود أكبر حبة، ودنا بها من وجه لميا، فشقت شفتيها.. في الخارج، لا بد أن سحابة كثيفة قد حجبت الشمس لأن الغرفة أظلمت. /ص٤٣ الرواية) وعلى هذا النحو اقول أن ملحمات الإشارات ومواطن حجب المرمزات أقرت بقرار تلك العلاقة التخصيبية الحميمية، ولكنها لم تكن بدورها الأول في حدوثها، بل لعل المواقعة الملمح إليها هنا هي الثانية بدورها وزمنها الذي راح يفصح بعد فترة من الوقت عن حمل لميا من ذلك الشيخ.
العبور الزمني وإشكالية دﻻلة التسمية
لعل من أكثر الفقرات الوحداتية في الفصول الاولى من الرواية، يتلخص في ذلك الجانب العلائقي من كيفية حصول الظواهر التي بدت عليها حاﻻت الشخصية لميا بعد إصابتها بنوبات غثيانية، والبحث في الأسباب التي جعلت الزوجان ومنذ قرابة السنتين ام يحصلا على ذلك الوليد المنتظر:(في الأسابيع التالية، شعرت لميا بأولى نوبات الغثيان، كما كان وجهها شاحبا وناحلا بعض الشيء. كانت قد تزوجت منذ قرابة السنتين، وأهلها قلقون لأن بطنها لم يتكور بعد./ص٤٧ الرواية) غير أن لميا في غضون هذه الفترة قد بانت عليها علامات الحمل المفاجئ (ولم تلمح أية نظرة مرتابة، أو تسمع أي تلميح جارح. / ص ٤٧ الرواية) إلا أن ما كان مفاجئاً فعلا، هو بعد عودة الشيخة من رحلة ذويها الطويلة إلى قصرها غدت متقلبة الأطوار متوترة في كافة سلوكها إزاء الخدم من النساء، مما جعلن أغلب الخادمات يتحاشن مواجهتها عن قرب. لعل ما أثار حفيظة الشيخة هو علمها بعد غيبتها بمسألة حمل لميا، وهذا الأمر في تصوراتها لا يعفي الشيخ بدور من تدخلة العضوي في هذا الجنين، خصوصاً وإن علاقة الود صارت شائعة على كل لسان في الضاحية بين لميا وذلك الشيخ الشبق. يدخل زمن الشائعات في رواية الوحدات من خلال اشارات وتلميحات ترتبط بواقع كون ذلك الوليد هو الأبن الأكيد للشيخ، لذا ظلت عملية تسمية الوليد من اختصاصه. اي الشيخ. صحيح أن الأسم الذي اختاره لم يلق قبوﻻ لدى لميا: (لاحظ جريس، اذ جال بنظرة المبتهج على الحاضرين لاستدرار عبارات الاستحسان المعهودة. تلكأت نظرة جريس برهة، وفجأة، أدرك ما يجري، كيف قبل بهذا الأسم، وما الذي يدفع الشيخ لاقتراحه على وجه الخصوص؟. / ص٤٩ الرواية) لعل الغريب في أمر جريس هو امتعاضه من تسمية الشيخ للوليد الذي يعتبره بصفة رسمية ولده المنتظر، وهو لم يبحث في إشكالية تقلب أحوال الشيخة وكلام الناس في الضيعة حول مدى شرعية هذا الوليد من والده الاصل جريس، والذي كان مؤكداً هو الأبن الحقيقي للشيخ بعد مواقعة لميا عدة مرات سرا. أقول من هنا قد ساد الإشكال في الضيعة حول مقترح تسمية الشيخ للمولود باسم (عباس!) ولكن المشكلة الكبيرة تكمن في معتقدات أهل كغريبدا وخصوصا أنهم يطلقون الأسماء على أولادهم تيمنا بأسماء القديسين والأسماء الواردة في الأنجيل والتوراة: (ان لميا أقسمت سرا. ماذا تودين ان تسمي هذا الطفل يا لميا؟. طانيوس. /ص٥٢. ص ٥٣ الرواية) تخبرنا الرواية عبر وحداتها بأن ردود فعل الشيخة كانت كبيرة جدا، لذا أقسمت بأنها ستكون قد رحلت عن هذا القصر المشؤوم، في فجر اليوم التالي، مع أبنها، وقد عزمت في دخيلتها ثأرا بأن ترسل أشقائها إلى قصر زوجها الشيخ بالعنف والسلاح لاسترداد ماء وجهها بعد مقاطعتهم للشيخ الذي أطلق نزوته مع امرأة تعيش تحت سقفهما، فقد أنجب هذا الشيخ طفلا من امرأة تشاركهم المكان والزمان وهي لميا ذاتها.
تعليق القراءة:
ربما من الواضح أن المتخيل الروائي في حدود حقيقة الحكاية المرجعية، يزداد تألقاً ورؤية سردية تتجمل بأقصى مستويات التحبيك المسوغ بالوعي الذاتي للمادة السياقية في الرواية، وعلى كونها رواية ذات ملازمات وعلاقات وأحوال مدهشة إلى أبعد ما تقتضيه مواقف وحالات الأوضاع التراتيبية في متطلبات المتخيل وفردية محكيات توليد المقاصد الارتباطية بلحظات خاصة ومخصوصة من خلفيات وابعاد جناية إغوائية لميا في مصير ولدها طانيوس الذي غدا يشكل في محور الرواية مركبا من الحكي يتجاوز آلة وأداة المتخيل والواقعي.
***
حيدر عبد الرضا – كاتب وناقد