قراءات نقدية
قلولي بن ساعد: أشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير
المنجز الشعري لمحمد بلخير بين الاستشراق النقدي وأسئلة المنفى الثقافي
عندما كان الأستاذ بوعلام بسائح بصدد جمع وتقديم بعض أشعار الهوى والوغى لشاعر الملحون الجزائري، محمد بلخير المنحدر من مدينة البيض الجزائرية. لم يغب عن ذهنه أبدا أن يستدعي رؤية المستشرق الفرنسي جاك بيرك المولود بمدينة فرندة بنواحي تيهرت خلال الحقبة الاستعمارية، لكتابة تصدير لنصوص محمد بلخير. لعلمه أن هذا المستشرق على معرفة عميقة بالسياق الثقافي والاجتماعي والسياسي الذي تشكلت فيه نصوص محمد بلخير، في أفق المقاومة الراديكالية للكولونيالية الفرنسية
لقد كانت العلاقة بين كاتب التصدير وهو جاك بيرك والنصوص الشعرية التي جمعها الأستاذ يوعلام بسائح، هي علاقة سوسيولوجي فرنسي ينتمي إلى ذلك الذي كان يسميه المفكر المغربي عبد الكبير الخطيبي بالسوسيولوجيا الكولونيالية مع نصوص من الشعر الملحون تنأى عن الإنصياع للرؤية الاستشراقية.
بينما هي تشكل مادة للدرس السوسيو نقدي في أفقه التاريخي المشحون بذلك اللقاء التاريخي بين الشرق والغرب وبين المركز والهامش / (الهامش اليقظ ) بمفهوم عبد الكبير الخطيبي الذي أنتج هذه النصوص الشعرية الذاهبة ذهابها العميق، لمحو آثار الإقصاء أو (إقصاء اللاحق) بمفهوم إدوارد سعيد أو الحد منه على الأقل.
وهي نصوص قسمها جامع هذه النصوص الأستاذ بوعلام بسائح إلى قسمين:
القسم الأول:
هو المتعلق بنصوص الهوى
فيما القسم الثاني:
فهو نصوص الوغى
النصوص الذي وضع لها الأستاذ بوعلام بسائح استهلالين:
هما أشبه بالخطاب الموازي أو الخطاب المصاحب الذي يشكل عماد فقه العتبات النصية كما تشكلت في المجهود النقدي العتباتي، الذي كرس له جهده ناقد فرنسي من حجم جيرار جينيت ضمن مشروعه النقدي عن (جامع النص أو جامع النصوص)
الاستهلال الأول:
هو للأمام عبد الحميد بن باديس القائل أن " لغة محمد بلخير عربية وشعره صافيا وكفاحه مثاليا "
أما الاستهلال الثاني:
فهو لمستشرق آخر هو إميل دومننغهام الذي لم يتردد في القول في أنه " لا أحد من شعراء هذه المنطقة من الجنوب الوهراني لديه شهرة سيدي بلخير منشد انتفاضة أولاد سيد الشيخ "
مما يعني في النهاية أن هناك علاقة تاريخية ومفهومية بين الاستشراق الفرنسي والأدب الشعبي الجزائري خاصة الشعر الملحون، تستوجب على طلبة وأساتذة الادب الشعبي البحث في هذه العلاقة التاريخية لتفكيك أسئلة النقد الإستشراقي للأدب الشعبي الجزائري واستنباط ما أمكن استنباطه من نتائح نصية أو (إنتاجية نصية) بمفهوم الناقدة الفرنسية البلغارية الأصل جوليا كريستيفا.
وهو مبحث أعتقد أنه لا زال بكرا وغير مطروق وفي حاجة ماسة لجهود بحثية تتطلب منا الإخلاص لها والسير في دروبها بما يعيد الاعتبار لماضي وراهن الشعر الشعبي الجزائري والتعامل معه، بوصفه نصا قرأ من طرف الآخر في لحظة تاريخية مفصلية هي اللحظة الاستعمارية.
وتحتاج هذه القراءة إلى قراءة أخرى هي قراءة الأنا ضمن مشروع نقدي يجمع بين نقد الاستشراق الشعري ونقد نص الأنا مشروع هو أقرب إلى روح (النقد المزدوج) بمفهوم عبد الكبير الخطيبي.
أقول هذا وفي ذهني صورة الشاعر الشعبي أو الشاعر الملحون التي ما زالت تخضع لبعض النمطية الثقافية النمطية التي ترى في الشاعر الشعبي بوصفه شخصا أميا، لسبب بسيط وهو أن الشعر الشعبي مرتبط بالأمية وأن عددا من شعراء الشعبي وليسوا كلهم لا يحسنون الكتابة باللغة العربية الفصحى.
مع أنه هناك في الواقع وفي المشرق العربي على وجه الخصوص الكثير من الباحثين والأكاديميين الذين يجمعون بين الكتابة الشعرية بنوعيها الفصيح والملحون
وأن كتابتهم للشعر الملحون، لم تؤثر بالضرورة على قيمتهم العلمية ومكانتهم الأكاديمية والتراتبيات الاجتماعية التي يحرصون على التمسك بها.
بينما نحن في الجزائر وسائر بلدان المغرب العربي لا زال لدينا الانطباع السائد بأمية الشاعر الشعبي واعتباره قادما من البوادي والفيافي البعيدة.
ويتم في العادة التعامل معه بدونية وانتقاص أشبه ” بالحقرة ”.
والغريب في الأمر أن هذا التعامل الفوقي الاستعلاء يظهر أيضا بجلاء في علاقات بعض المثقفين النخبويين المنتمين إلى ما يسميه محمد عابد الجابري "الثقافة العالمة " مع نظرائهم من الشعراء الشعبيين على صعيد الاستعراض الأكاديمي والاستعلاء الخطابي الفوقي
لقد كان الراوي الشعبي أو الحكواتي الذي يتخذ من الحارات والأسواق الشعبية فضاء له لتمرير رسائله الرمزية لمن يهمه الأمر يمثل دور "المؤرخ الشعبي" الذي يروي التاريخ المغيب والمنسي أو " المسكوت عنه "، من خلال نص الحكاية الشعبية التي يرويها بمهارة في الأداء الفني مقابل " المؤرخ الرسمي " الذي يتبنى الخطاب السياسي الإيديولوجي الرسمي أي خطاب الدولة ويعبر عنه.
هذا ما جعل بعض الروائيين في السنوات الأخيرة يعودون للحكاية والحكاية الشعبية على وجه الخصوص كأحد المتكآت الفنية لقول ما لم تقله رواية الأطروحة الإيديولوجية التي استنزفت كل طاقتها في التعامل مع الواقع العربي وتحولاته المفصلية كمعطى إبداعي تعاملا ميكانيكيا، فوجدت في الحكاية الشعبية ملاذا لها عبر الراوي الشعبي أو "القوال" بوصفه قناعا أو مكونا من المكونات السردية أو الوظائف السردية التي يختبئ وراءها الراوي الفعلي أو يتبادل الأدوار مع عدد من الرواة والساردين بما في ذلك المؤلف نفسه وهو الروائي صاحب العمل الفني.
مثلما نجد أن بعض تجارب المسرح ومنها تجارب كاتب ياسين وعبد القادر علولة والطيب صديقي ومسرح الحلقة لا تتواني هي الأخرى في توظيف أداء الراوي الشعبي أو "القوال" لمخاطبة الشعب باللغة التي يفهمها.
فهل يمكن اعتبار هذا النوع من الرواة هم على درجة كبيرة من الأمية؟.
مع أن هذا الراوي أو "المؤرخ الشعبي" يؤسس في الواقع من خلال مروياته الشعبية بما تنطوي عليه من متعة فنية وأنماط خطابية وقيم رمزية وسياسية لوعي سياسي وثقافي يكاد يكون معدوما لدى الكثير من ممثلي " الثقافة العالمة "، حتى ولو كان لا يحسن الكتابة باللغة العربية الفصحى ولا يحسن التكلم بلغة أكاديمية ولا يحسن أيضا الاستعراض المشوه لبعض الملفوظات النقدية من دون وعي بها أو تمثل لها على صعيد القراءة والاستقبال على الأقل، واجترار المفاهيم النقدية و الاصطلاحية مفصولة عن سياقاتها التاريخية والمعرفية وعن الفضاء الابستيمي الناشئة عنه.
لقد سقت هذا المثال أيها القراء، لأقول لكم بأن تقييم النقد الاستشراقي ممثلا في ما كتبه المستشرق الفرنسي جاك بيرك لبعض نصوص محمد بلخير الشعرية واعتبار الشعر في نظر جاك بيرك هو ذاته في جوهره من امرئ القيس إلى محمد بلخير ينبني ويترابط على أشكال مختلفة ومتقاربة في آن واحد، على الرغم من بعض التحيز الثقافي المضمر الذي ينحاز فيه جاك بيرك للشعر الممثل للثقافة الرسمية أو الثقافة العالمة بمفهوم الجابري التي حملتها رياح الحداثة الغربية إلى الفضاء الثقافي العربي الفضاء الثقاقي بوصفه " سوقا للثروات الرمزية والثقافية " (01) على ما يرى عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو.
التحيز الذي لم يمنعه من التفريق بين نوعين من أنواع البداوة الشعرية كما تتجلى في المنجز الشعري لمحمد بلخير، واضعا فرقا بين البدوي وليد الاقتصاد الرعوي الذي يقتفي حسبه اثر الغيم الحامل للمطر ولكنه يعني أيضا في نظره رجل الحرب واللعب وصديق الفرس الذي يرق ويعطف على الخرفان الحديثة الولادة.
وهو يضع نصب عينيه تشكل الكثير من جماعات الحضر في إفريقيا الشمالية التي تنتشر فيها أشعار منشديهم السحرية كنماذج حية لثمرة التعددية اللغوية واللهجية التي تغذيها حركة الاستشراق الفرنسي لضرب وحدة اللغة العربية عبر ما يسميه بالانقسام اللهجي.
وهنا لا بد من القول بأن القارئ لجاك بيرك الممثل للدرس الاستشراقي في قراءته للمنجز الشعري لمحمد بلخير لا يعدم في بعض الأحيان بعض النزوع النقدي للخطاب التاريخي الكولونيالي في تعامله مع انتفاضة أولاد سيدي الشيخ التي كانت كما يرى " تثقل كواهل التصرفات الفردية والجماعية " (02).
وهذا المستشرق لا يتجاهل بالطبع أن يذكر القارئ بأن العصر الذي عاش فيه شاعرنا هو العصر نفسه الذي كان فيه الأمير عبد القادر الجزائري في دمشق يضع الشروح لابن عربي في مؤلفه (المواقف).
وهو نموذج كان جاك بيرك يرى بأنه يبين لنا بوضوح كيف تتآلف وتختلف هذه النماذج في ثنايا التاريخ المضطرب للجنوب الغربي الجزائري، عندما استغل الفرنسيون نفوذ بعض النبلاء وهيبتهم لغزو الصحراء والسيطرة عليها مشيرا إلى ذلك النوع من التواطؤ الذي يثير الاستنزاف والغضب الأمر الذي اثار أحد هؤلاء الأجواد ويعني بهم محمد بلخير.
ورغم عدم تكافؤ القوة بين المستعمر والمستعمر فجاك بيرك لا يتردد في استخلاص بعض العبر من التاريخ الأليم، عندما يعمل على تجديد ذاته عبر جدلية التاريخ التي ينبثق منها بناء الإنسان العربي على أنقاض ماضي بلاده الاستعماري القريب.
في عمل هو أشبه بالنقد مابعد الكولونيالي أو النقد الديكولونيالي الذي يمارسه هذه المرة الآخر على ذاته ضمن أفق خاص هو أفق المثاقفة أو المثاقفة بالقوة بوصفها وجها من أوجه المرجعيات المستعارة المرجعيات التي خصص لها ناقدا ثقافيا هو الدكتور عبد الله إبراهيم كتابا مهما هو كتاب (الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة) ضمن لحظة خاصة هي اللحظة الاستعمارية الماثلة داخل الخطاب وخارجه.
الخطاب الذي لا يقول لنا متى ولد محمد بلخير غير أن بوعلام بسائح يعثر باعترافه الشخصي على بعض القصائد المكتوبة بعد انتفاضة سنة 1864 التي تسخر من عساكر العدو وتسخر من النقيب الفرنسي برين دوبيسون الذي كان حينها قائدا لحامية البيض.
ومن هنا جاء افتراض بوعلام بسائح بأنه في سنة 1864 كان محمد بلخير في الثلاثين من عمره.
وليست هذه المرة الأولى التي يسخر فيها محمد بلخير في نصوصه الشعرية من العدو ومن عساكر العدو وغباء العدو برأي بوعلام بسائح.
فقد سبق له أن فعل ذلك عندما تناهى إلى سمعه بأن القائد العسكري لمدينة البيض طلب من قاضي المنطقة المسمى عطالله اصدار فتوى تهدف الى ضرب مصداقية المقاتلين واعتبارهم مجرد خارجين عن القانون، وما أن علم بلخير بمضمون الفتوى كما جاء في مقدمة بوعلام بسائح حتى رد عليه بقصيدة جاء فيها:
الي بغا الجنة يضاد الكافرين
والي يبغي الهنا ابغي التبزان
قولو لعطالله واش كلفك ياحزين
لا تشمت في الي ما لداهم قران
ويستنتج بوعلام بسائح بأن بلخير رسم صورة كاريكاتورية لشخصية القاضي عطالله فقال بأنه عديم التأثير في صفوف المقاتلين وبأنه لا يساوي شيئا عندما اختار الحياة الزائلة
وينبغي أن يكون واضحا بأن هذا النوع من النقد وهو النقد الثقافي الذي نمارسه ونحن نواجه بعض النماذج من المنجز الشعري لمحمد بلخير لا يستكمل غايته ولا يثمر بعض النتائج النصية او (الإنتاجية النصية) بمفهوم الناقدة الفرنسية من أصل بلغاري جوليا كريستيفا مالم تشمل المعاينة النقدية بعض أسئلة المنفى الشعري أو المنفى الثقافي كما حاول شرح دواعيه وملابساته التاريخية والنصية جامع هذه النصوص الشعرية وهو الأستاذ بوعلام بسائح عندما خصص قسما من المقدمة التي كتبها لأشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير.
وهذا القسم اطلق عليه اسم (شعر المنفى).
أسئلة المنفى والمنفى الثقافي في شعر محمد بلخير
لا أعتقد بأن إدوارد سعيد كان مخطئا عند ما حاول الربط بين أسئلة المنفى والنقد في الجزء الأول من كتابه (تأملات حول المنفى)، فوضع لهذا الكتاب المهم مدخلا أعطاه عنوان (النقد والمنفى).
فمن أجل تقويم الأدب لابد من الأخذ بعين الاعتبار بأن النص موضوع النقد هو "عمل فردي لكاتب فرد مشتبك في ظروف يسلم بها المجتمع مثل الإقامة والجنسية واللغة والهوية " (03).
وعلى هذا الأساس يطرح إدوارد سعيد السؤال التالي:
" كيف يقرأ النص الإبداعي في شرطه الدنيوي " (04).
والشرط الدنيوي هو الحجر الأساس الذي ينبني عليه التحليل الثقافي لنصوص محمد بلخير المكتوبة في أفق المنفى الثقافي والجغرافي الذي عاشه عندما أجبره المستعمر الفرنسي على النفي إلى قلعة كالفي بكورسيكا بعد ان أفرج عن شقيقه واستقبل من طرف القائد العسكري الفرنسي لمدينة البيض الذي أحاطه بحسب رواية بوعلام بسائح بتقدير واحترام كبير.
وفي رواية أخرى يرويها بوعلام بسائح يقول أنه استقاها من شيوخ عاصروه في الأيام الأخيرة من حياته تقول بأن الضابط الفرنسي قدم له فنجان قهوة وبادره بالقول بأن فرنسا أمه قوية تقر بشجاعة خصومها.
لقد كنت خصما شجاعا إننا نعرض عليك أن تتعاون معنا وستكون من كبار الأعيان معززا بالتشريفات.
وبالطبع رفض بلخير هذا العرض السخي وبعد قليل سأله الضابط قائلا:
لوتتوفر لك الإمكانيات غدا فهل كنت ستقاتل ضدنا..؟
فكان الرد:
نعم سأقاتل ضدكم.
وهي الجملة التي يرى بوعلام بسائح أنها هي التي أدانته فنفي على إثرها إلى قلعة كالفي بكورسيكا كرد عقابي على طبعه الحاد والعنيف في مواجهة القائد العسكري لحامية البيض ليس هذا فقط، فبوعلام بسائح يرى بأن " المنفى في تراب فرنسي على غرار ما حدث للأمير عبد القادر له فائدة البعد الذي قد يؤدي إلى النسيان بمرور الزمن " (05).
وشخصيا لا أرى بأن لأي استعمار كان أخلاقيات حتى ولو تعلق الأمر بأخلاقيات الإقصاء والمنفى على الجواب الصارم والقاسي لمحمد بلخير على سؤال قائد الحامية العسكرية لمدينة البيض.
وهذا المنفى في تصوري لا يختلف كثيرا عن المنفى الذي عرفه الفيلسوف العربي ابن رشد عندما نفي إلى الأسيانة سنة 1195 بعد حادثة تكفيره من قبل فقهاء الظلام في الأندلس والأسيانة كما يقدمها لنا المفكر التونسي فتحي المسكيني نقلا عن مؤرخ عربي كبير هو الإدريسي "مدينة اليهود أو مدينة الملة، وهو مكان به حدود قاسية بين من هو منا وبين من هو ليس منا " (06).
أسوق هذا النوع من المقايسة وفي ذهني ما يشبه الفرق بين الخطرين الخطر الذي يشكله محمد بلخير على الوجود العسكري الفرنسي ليس فقط الخطر النابع من مشاركته العسكرية في التصدي للعدو بالسلاح، وإنما ايضا الخطر الذي تشكله الكلمة والقصيدة التي يكتبها محمد بلخير كنوع من أنواع المقاومة الثقافية التي نذر لها نفسه محمد بلخير منذ أن كتب أول نص شعري في حياته.
المقاومة الثقافية التي تشكل حافزا مهما من حوافز الكتابة النقدية عند ادوارد سعيد بوصفها "الأسلوب الوحيد لتفكيك الترابطات القسرية بين التمثيلات الذهنية للغربي عن الشرقي أو بتعبير آخر تحرير معرفة الغربي من سطوة القوة الاستعمارية " (07)
ثم الخطر الذي شكله ابن رشد على العقل الأوربي بأكمله بوصفه الشارح الأكبر لأرسطو لكون شخصية ابن رشد كما يراها فتحي المسكيني " أكبر من مجرد شارح كبير لأوربا الخارجة من عصرها الوسيط نحو الأزمنة الحديثة فهو الذي تجرأ على أن يفكر في أفق دولة الملة بواسطة العقل البشري كما قرأه في نصوص أرسطو " (08).
وشخصيا لا أعلم بوجود قصائد أخرى غير ما هو مدون في النصوص التي عثر عليها الأستاذ بوعلام بسائح باستثناء قصيدة أخرى نشرها الروائي مصطفى نطور ضمن مواد الكتاب الذي نشر بعد رحيله عن الدنيا ضمن أعماله الكاملة الكتاب الحامل لعنوان (الأعمال الكاملة) وهذه القصيدة تحمل عنوان (يربح من صلاو عليه) (09) ويبدوا مما يحيل إليها العنوان الدال عليها (يربح من صلاو عليه) ومن مضمونها ايضا أنها قصيدة في مدح خير البرية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم ولا صلة لها بحالة المنفى أو المنفى الثقافي.
وهي القصيدة الوحيدة التي اختارها مصطفى نطور كنموذج شعري من نماذح كثيرة لشعراء آخرين من ممثلي ما يسمى بالشعر الملحون على غرار ابن مسايب ولخظر بن خلوف وعبد الله بن كريو ومحمد بن سهلة وبن قيطون ومصطفى بن براهيم وسيدي أسعد المنداسي والشيخ عبد القادر الخالدي ومحمد بن طيبة وغيرهم من الشعراء الّذين نشر لهم مصطفى نطور بعض نصوصهم ضمن القسم الأول من كتابه تحت عنوان (نصوص من الشعر الشعبي).
خلافا لماهو منشور، من نصوص المنفى على وجه الخصوص على غرار قصيدة (ياسيدي عار الله) القصيدة التي يقول بوعلام بسائح بأنها نظمت في المنفى وهذا صحيح فهو يعبر فيها بأنه يخشى من الموت في المنفى عندما يقول:
يا سيدي خايف لا نموت في ذا الحبس النصراني
لا طلبة لا تأذين لاصلاة عندو لا تشهادي.
وقصيدة (في كالفي) وهي قصيدة كما يبدوا من عنوانها بوصف العنوان (عتبة نصية) بمفهوم جيرار جينيت أو (ضرورة كتابة) بتعبير محمد فكري الجزار، أنه كتبها في منفاه بجزيرة كورسيكا وهو الأمر الذي يؤكده أيضا بوعلام بسائح في الهامش الذي يضعه لهذه القصيدة.
بالنظر للمجهود البحثي الذي بذله الأستاذ بوعلام بسائح ليس فقط على صعيد جمع هذه القصائد بل أيضا تحقيقها التحقيق العلمي باستخدام منهجية التحقيق المعمول بها في النقد الفيللوجي في ما يعرف بمنهج مقارعة النصوص والتحقق منها، التحقيق الذي قاده صراحة إلى الاعتراف بأن النصوص التي وصلته عن طريق الرواية الشفوية تطلبت منه جمعها أولا واستغرق ذلك سنة كاملة (1951 / 1952).
ثم أربعة فصول صيف متتالية خصصها لهذا البحث.
وسيقودنا هذا المنحى في الكتابة النقدية والتحليل الثقافي النقدي إلى ضرورة الانتباه إلى ذلك المنظور النقدي الذي يدعوا له ناقد مهم هو الناقد الجزائري الدكتور أحمد يوسف عندما يعتقد بأننا سنكون في أمس الحاجة إلى عمل أنطولوجي دؤوب لرسم التضاريس المختلفة لأدب المنفى الذي كتب في المنافي وفي أقبية السجون على امتداد العالم العربي ثم القيام بتحليل حفري لمضامينه العامة وأشكاله التعبيرية المتنوعة، بعد أن تضطلع الدراسات الأنطولوجية بعمليات التوثيق العلمي.
من منطلق أن " المنفى لا يتعلق بأمزجة أفراد فقط بقدر ما يتعلق بأنساق ثقافية تهاجر من مرابعها إلى حواضر جديدة فتتفاعل معها سلبا وإيجابا، وهذا التفاعل هو إكسير أدب المنفى والأوكسجين الذي يتنفس منه الكاتب المنفي " (10).
وهو المنظور الذي كان سيقدم إضافة مهمة " للنصوص الغائبة " بمفهوم كريستيفا أو الضائعة من المتن الشعري لمحمد بلخيرولغيره من الشعراء والكتاب، فمجهود كاتب واحد على أهميته الكبرى ممثلا في شخص الاستاذ بوعلام بسائح لا يكفي.
لكن لا بأس من القول أن الأستاذ بوعلام بسائح وضع أمام القارئ الباحث اللبنة الأولى في التوثيق الثقافي لنصوص مجمد بلخير، وهو المثقف الملتزم بمهام أخرى في السلك الدبلوماسي الجزائري، وما على الباحثين من الأجيال الجديدة سوى مواصلة السير على منوال ما قدمه بوعلام بسائح وغيره من أساتذتنا الأجلاء ومضاعفة الجهد المعرفي الإستقصائي لهم والله الموفق.
***
قلولي بن ساعد - كاتب وناقد من الجزائر
..........................
مصادر
01) قواعد الفن بياربورديو ترجمة براهيم فتحي ص 200 الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 2013
02) أنطر نص التصدير الذي كتبه المستشرق جك بيرك لكتاب أشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير ص 11 جمع وتقديم بوعلام بسائح ترجمة نور الدين خندودي منشورات الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007
03) تأملات حول المنفى الجزء الاول إدوارد سعيد ترجمة ثائر ديب ص 20 دار الآداب بيروت الطبعة الطبعة الثانية 2007
04) نفس المصدر ص 20
05) أنظر مقدمة بوعلام بسائح لكتاب أشعار الهوى والوغى لمحمد بلخير ص 44 جمع وتقديم بوعلام بسائح ترجمة نور الدين خندودي منشورات الجزائر عاصمة الثقافة العربية 2007
06) الهجرة إلى الإنسانية فتحي المسكيني ص 11 منشورات الاختلاف وضفاف الطبعة الاولى 2016
07) الطباقية أسلوب للتواجد والمقاومة في فكر ادوارد سعيد / سامية بن عكوش ضمن كتاب إدوارد سعيد الهجنة السرد والثقافة ص 216 إسماعيل مهنانة وآخرون منشورات القرن 21 / 2016 / الجزائر
الهجرة إلى الإنسانية مرجع مذكور ص 16 08)
09) يمكن العودة إلى هذه القصيدة (يربح من صلاو عليه) للشاعر محمد بلخير إلى كتاب الأعمال الكاملة لمصطفى نطور منشورات دار المدار الثقافية / البليدة الطبعة الأولى 2013
10) علامات فارقة في الفلسفة واللغة والأدب أحمد يوسف ص 154 / 155 منشورات الاختلاف وضفاف ودار الأمان بيروت / الجزائر / الرباط الطبعة الاولى 2013