قراءات نقدية
سعاد الراعي: التبني كخيار انساني.. قراءة في سردية " الخيار الاخر" للكاتب مازن الحسوني
مدخل: بحكم كونه أديبًا، يتلقى زوجي كتبًا مهداة من مؤلفيها، وعادةً ما تكون عناوين بعضها مثيرا لفضولي. أبدأ بالمقدمات، مؤمنة بأنها تكثيف لما في الكتاب من جوهر، ومحددة إياي، ما إذا كنت سأغوص في المتن أم أكتفي بالمقدمة.
كنت أول من يتفقد بريدنا حينها، وإذا به يحمل رواية بعنوان (الخيار الاخر/ سردية عائلية)، استهوتني مقدمتها، باشرت، مستأذنة زوجي بأن أكون السبّاقة إلى مطالعتها. كانت تلك نافذة البداية لاكتشاف مغامرة تأخذني في متاهاتها بشغف.
هنا، أقدّم قراءة تسعى لاستجلاء عمق الموضوع الذي تتناوله، محاولة الإحاطة بما أثاره من تميز وإثارة وجِدّة، مستعرضة أطيافه المستطرفة وأبعاده اللافتة بتمعن.
الأسلوب هو الإنسان:
النص الروائي الذي تتناوله هذه المقالة ليس مجرد حكاية تُسرد، بل هو نسيج حيّ ينبض بالأسئلة لقوة إرادة الإنسان لتوكيد ذاته وتحقيق طموحاته، مسلطة الضوء على التداخل العميق بين الذاتي والجمعي، بين الفرد وموروثه الثقافي والاجتماعي. إنها رحلة مكثفة في أغوار الأسلوب والمواقف، التي تُظهر بوضوح أن الأسلوب ليس مجرد أداة تعبير، بل هو مرآة تعكس شخصية الكاتب بكل ما فيها من أحاسيس وانفعالات. وكما قال أفلاطون،" كما تكون طبائع الشخص يكون أسلوبه" فالأسلوب هو الإنسان نفسه بكل ما فيه من احاسيس وانفعالات مرتبطة بالواقع، فكيف إذا كان النص هنا يحمل بصمات واقعية روحية وفكرية تجعله ينبض بحيوية فريدة.
يقول جوته" الأسلوب هو مبدا التركيب النشط والرفيع الذي يتمكن به الكاتب النفاذ الى الشكل الداخلي للغته والكشف عنها" وبالفعل فقد قرأت البواطن الداخلية للغة الكاتب ضمن مواقفه الجريئة والثابتة من جملة تحديات تعكسها ثنايا السردية، من خلال الأسلوب اللغوي السهل المتفرد الذي يحاكي التفاعل والتواصل الشفاهي المدار باللهجة الشعبية اليومية المتداولة. انه خطاب منبعث من ذاته ولذاته المتفاعلة مع الاخر.
ان تعامل النقاد مع النص الروائي باعتباره موضوع لغوي بحت، يجرده من حيويته في تحقيق فاعليته وهدفه، بل يضعه في إطار من السكون القاتل، والأكثر، تجريد الكاتب من حرية الابداع من خلال العلاقة التلقائية مع مفرداته ومصطلحاته الخاصة وبالكيفية التي يراها أكثر كفاءة في ابراز تفاعله وانسجامه مع احداث الرواية، والتوغل في القضايا الشائكة التي يتجنبها الآخرون.
الفضاء السردي والتجربة الشخصية:
تتجلى رواية الخيار الآخر كصوتٍ عالٍ في مواجهة الموروث الثقافي ونمط العلاقات الاجتماعية الجامدة الذي تقيد الإنسان وتجرده من حريته وإنسانيته، انها تتناول قضية (التبني). الكاتب يضع يده على جرح اجتماعي حساس ومعقد، الا وهو (التبني)، المحرم في الكثير من المجتمعات العربية والإسلامية، والذي يتحول هنا إلى رمزٍ للمقاومة والتحدي، كاشفًا وفاضحًا هشاشة القيم التي تعاقب الضحية بدلًا من انصافها. الكاتب لا يكتفي بتسليط الضوء على هذه القضية، بل يعريها تمامًا ليكشف عن عمقها الإنساني، مستنطقًا المصائر القيمية للتبني التي تتطلب حلًا من خلال احاطتها بوافر التفهم والرعاية والحب التي ينبغي أن تسمو فوق حدود القيم الاجتماعية والثقافية والدينية.
سردية الخيار الاخر تنسج أجواء مليئة بالصراع المشحون بالأحداث، التي تجعل القارئ يتماهى معها في رحلة آسرة بكل تفاصيلها، حيث ان الرواية كانت ترافقني حتى خلال روتيني اليومي. على الرغم من بعض التكرار في المواقف والتصورات تبقى الرواية ممتعة كمدونة تاريخية وسياسية عميقة تعكس أحداث الماضي القريب بانسجام متناغم، يمزج الواقع بخيوط روائية متقنة، تفيض بالشغف، وتمنح النص حضورًا حيويًا بعيدًا عن الرتابة أو النشاز.
ان الانسجام السردي الواضح للرواية يأتي من محور الشخصيات الحية للرواية مما يوسمها بمصداقية مرجعيتها للواقع وطريقة التفاعل التام في انسجام وتصارع وتضاد بين الفرد ومحيطه.
يأتي النص كانعكاس لتجربة الكاتب الذاتية، لكنه يتجاوز إطارها الفردي إلى رحابة الشأن العام. العلاقة بين الشخصيتين الرئيسيتين تمثل صراعًا وجوديًا عميقًا، حيث يتشابك الحب مع التحديات الاجتماعية والثقافية. هذه الثنائية تجعل السرد أقرب إلى ملحمة إنسانية تتشابك فيها الأحلام والمآسي، مما يمنح الرواية عمقًا يجعل القارئ يشعر وكأنه شريك في الحكاية.
التقاطع بين الزمان والمكان:
تدور احداث السردية في فضاءات مكانية وزمانية متناقضة، بدءًا من العراق وسوريا كبيئتين عربيتين مثقلتين بالحروب والصراعات الثقافية والاجتماعية، وصولًا إلى أوروبا كفضاء يرمز إلى السلم والحرية والاستقرار. هذا الانتقال بين الشرق والغرب يعكس تعقيد التجربة الإنسانية، ويطرح تساؤلات حول الهوية والانتماء، وكيفية التكيف مع تحولات الزمان والمكان. الشخصيات لا تعيش فقط في هذه الفضاءات، بل تتفاعل معها وتعيد تشكيلها، مما يبرز ديناميكية السرد ويجعله مشحونًا بالحركة والصراع.
يقدم الكاتب عبر شخصية البطل "باسم" نموذجًا فريدًا يتجاوز الحدود الذاتية، متغلغلًا في فضاء أوسع من التفاعل مع الواقع بكل تحدياته. يتحرك البطل ضمن صراع وجودي ديناميكي، حيث يشكّل الواقع ويتشكّل به، في شبكة معقدة من التناقضات والعُقد التي يواجهها بحزم وإصرار، فارضًا شخصيته المتفردة دون أن يختزلها في "الأنا" المنعزلة، ساعيًا بحيوية فائقة إلى مزج الخاص بالعام في تناغم متقن لا يشوبه صدع أو تنافر.
المعنى الإنساني في الخيار الجريء:
الخيار الاخر، تُجسد علاقة حب تتأرجح بين التحديات وتعقيدات تخللتها ثلاث عقود زواج وانفصال لنفس الزوجين، حيث يسعى الحبيبان بمحاولات استثنائية لنسج رابط أعمق يعزز علاقتهما: الأبوة والأمومة، ذلك الحلم النبيل الذي يتجاوز كونه غريزة إلى كونه رؤية لإكمال الثنائي الا انه يصطدم بعقبات متكررة اثناء الحمل، تحرمهما من تحقيقه، فيلجآن إلى خيار جريء وشائك في آن!
ان تبني أطفال مجهولي النسب في مجتمعات عربية وإسلامية ترى في التبني قضية معقدة ومحرمة يعاقب عليها الضحية بدل الجلاد، والتي تظهر هذا الخيار كحقل ألغام يخوضانه بشجاعة واصرار. الكاتب يُعرّي هذه القضية، سعيًا منه في توكيد بعدها الإنساني العميق، مُتحديًا المحظورات ومبرزًا في الان ذاته جمال المغامرة التي تكشف جوهر الرحمة الإنسانية رغم صعوبات ومعوقات الواقع.
السردية العائلية هذه تغوص في عمق التحولات الجذرية التي عصفت بالمجتمع العراقي، بدءًا من حروب الطاغية إلى سنوات الحصار القاسي والجوع، وصولاً إلى الاحتلال الذي قوض أسس الدولة وحولها إلى كيان بلا قانون، تديره مؤسسات هشّة تخضع لإرادة المحتل المهيمن على كل مفاصل الحياة. وسط هذا الخراب، نشأت بيئة طائفية ومناطقية تفترس حقوق المواطنين، لتجعلهم أسرى لمنظومة تكرس التبعية وتفرض نمط حياة استهلاكي تحت رحمة قوانين السوق.
في ظل هذه الفوضى، شُكّلت قيم جديدة بنيت على التأقلم القسري مع واقع معقد ألقى بظلاله على هرم العلاقات الاجتماعية والفكرية. بمهارة سردية يتتبع النص انعكاسات هذه الأحداث، مُظهرًا كيف تحول الأفراد إلى أدوات في سياق أكبر، حيث التناقضات تصوغ المصير. ومع ذلك، يبرز النص إرادة مواجهة التحديات، والانغماس في خضم الأحداث لإنجاز ما يبدو مستحيلًا، في صورة نضال إنساني عميق للبحث عن أفق جديد للحياة.
لم يغفل الكاتب في سرده عن إبراز المشاهد السلبية التي تتناقض مع قيم وأعراف المجتمع العراقي، مسلطًا الضوء على ظواهر دخيلة كالرشوة وغيرها، التي لم تكن مألوفة سابقًا لكنها تحولت إلى سلوك اجتماعي شبه طبيعي.
حينما يتحدث الكاتب خلال السطور عن تجربته السياسية بين العراق والمهجر، ثم العودة إلى الوطن، فانه يكشف عن شخصية تتسم بالصبر والإصرار والتحدي التي تظهر روح الكاتب التربوية كمعلم ومربٍّ من خلال ليونة صلبة تستمد قوتها من مرونة الرياضي النابعة من مهنته، ما جعله قادرًا على فرض قناعاته بثبات. في هذا السياق، يبرز نجاحه في إنقاذ مولود بريء. يؤكد الكاتب ببراعة تلاحم الخاص والعام في إطار ملحمي مؤثر وعبر حبكة محكمة تتناول متابعة قضية التبني وتعقيداتها كشأن عام، يجعلك الكاتب تعيش الأحداث وكأنك تتابع فيلمًا سينمائيًا ينبض بالحياة.
شجاعة غير نمطية:
هذه السردية تفيض بإشراقات إنسانية تجسد تجربة شجاعة تتحدى قيود التقليد والنمطية، لتقدم صورة خير نمطية، متفاعلة ومتناغمة مع المحيط الاجتماعي والعائلي، وخاصة الشخصية المحورية التي تبدو كمنارة مضيئة، تتواشج طاقتها في نسيج العلاقات الإنسانية، خصوصًا مع الزوجة، التي نالت عبر اللقاء الأول دفعة حقيقية من قبله لتتحول، من فتاة خجولة، محجبة، نشأت في بيئة دينية محافظة، الى امرأة، مليئة بالثقة والثبات، وذات تأثير محسوس في محيطها. ان ما يميز هذه العلاقة هي العفوية التي تكشف عن معدن الرجل الحقيقي، وتؤكد على انسجامه الداخلي بين قناعاته وسلوكياته، حيث رسخ العلاقة بينهما على مبدأ التكافؤ. إن افتخاره بزوجته ووصفه لصفاتها وجمالها بمودة وفخر يكشف عن حس إنساني عميق واحترام نادر
هذه التجربة الشجاعة ليست مجرد قصة شخصية، بل هي تحدٍ للقيود المجتمعية التي تحاول خنق الحرية الفردية. في وسط نسيج اجتماعي متخلف ومنغلق. تبدو هذه الشخصية كاستثناء، وكأنها نجمة مشعة في ليل حالك. يكاد المثل القائل ان (الجبناء يهربون من الخطر والخطر يفر من وجه الشجعان) ان يصفه. إنها دعوة للشجاعة لمواجهة المستحيل، متجسدا بالحب والاعتزاز بالشريك، وفي بناء العلاقة المتزنة معه والمرتكزة على تعزيز الثقة المتبادلة وتوطيدها.
خاتمة وتأمل
يمكنني ان اختم قراءتي لهذه السردية بما ذهب اليه المؤلف في نهاية مقدمته الى انه يتمنى "... لمن يقرأها ان يعي بان الطفل مهما اختلف المنشأ الذي جاء منه فان البيئة التي يتربى بها هي من ستساعده على النمو بشكل صحيح، وليس طبيعة العلاقة وشكلها بين الشخصين الذين أنجباه قبل التبني/ ص18".
السردية ليس مجرد رواية تُقرأ، بل تجربة تُعاش وتترك القارئ أمام رحلة تأمل طويلة في ذاته وفي العالم من حوله.
***
عنوان الكتاب: الخيار الآخر/ سيرة عائلية
المؤلف: مازن الحسوني
تحتوي على اهداء، شكر خاص ومقدمة
عدد الصفحات:455
تحتوي على اهداء، شكر خاص، مقدمة وعشرين فصلًا
سنة الطباعة: 2024
**
سعاد الراعي