قراءات نقدية

علي سعدون: منازل العطراني والموقف من الحياة

يذهب جمال العتابي في روايته منازل العطراني إلى واحدة من القضايا المركزية في الأيديولوجيا العراقية – تداعيات السياسية المضطربة عراقيا وما ينتج عنها من اعتقالات وقمع وسجون وتصفيات تستدعي الهروب في معظم الأحيان - يجري ذلك في أوقات غابرة بتعدد الأنظمة السياسية التي تربّعت على سدة الحكم في بلاد مثل العراق -، بدءا من النظام الملكي الذي انتهى بفاجعة قتل العائلة المالكة، مرورا بالانقلاب الأول (ثورة 14 تموز)، وصولا إلى النظام الهزيل (الأخوين عارف) ومن ثم حكم البعث الشمولي وبداية عصر العسكرتاريا. نعم، تبدأ الرواية من العام 1963 لكنها تنشئ خيطا خفيا يمتد إلى ما قبله، حيث السلطات المتعاقبة التي تحتكر الحقيقة الأيديولوجية فتقمع كل ما سواها، فتنطلق احداثها الجوهرية منذ العام 1963: (أرى الموت يجثم فوقنا، هذه البلاد ما استراحت بأعوامها، المياه معمّدة  بالدماء طوال التاريخ / الرواية 34).

نحن إذاً نقف حيال رواية كاشفة لحيثيات تاريخية بالواقعي والمتخيل منها، رواية تعمل على سبر اغوار التفكير العميق بالتاريخ، فلا تنقله بتقريرية مباشرة، إنما تعمد إلى نوع من المكاشفة والمحاكمة لتاريخ معاصر يعيش بعض أبطاله بيننا إلى اليوم، وهو الأمر الذي يجعل من هذه الرواية فرصة لاستعادة حيواتهم التي يعلوها الغبار بعد التحولات الهائلة التي غلّفت تاريخهم المغيب بفعل عوامل التعرية السياسية إذا جاز الوصف!.

تتناول هذه الرواية شخصية رئيسة "محمد الخلف" اليساري المعتقل الذي تنقذه الصدفة في الهروب من السجن مع مجموعة السجناء الهاربين في فوضى انقلاب البعثيين الأول، الانقلاب الدموي في العام 1963 فيستثمر "الخلف" تلك اللحظة ليسترجع حريته بالتواري عن الأنظار. فيتجه بداية إلى أصدقائه من معلمي الكوت ومن ثم يتسلل إلى العمق الريفي في "قرية العطراني" فتبدأ أحداث الرواية بالتدريج متضمنة (بنية الاسترجاع والتذكّر والاستعادة النشيطة لكل مراحل حياته منذ الأربعينيات). وهو أمر يكاد يكون متوارثا في دراما من هذا النوع كانت الرواية العربية – المصرية على وجه التحديد – قد حفلت بإجراءات مثلها. 

هذه الرواية ذات الحبكة المتماسكة، تنطلق من ثيمة الهروب، وهي من بديهيات العمل السياسي السري في العراق على مدى عقود طويلة. الهروب والاختفاء خشية من الوقوع في براثن السلطة. إذ إنَّ كل الأحداث منطقية، إذا ما وضعنا في حساباتنا صورة الأنظمة الغاشمة والمستبِدة. فما الذي بقي للمخيلة السردية؟ وأي أحداث ستتشكّل أمام سيرة ذاتية وثّقت حياة "الخلف" في هروبه من الألف إلى الياء؟.. سرد استقصائي يتابع بدقة متناهية عملية الهروب والاختفاء ويصارع من أجل البقاء بعيدا عن قبضة السلطة الوحشية. وأعتقد جازما أنَّ أي إضافة للمتخيل السردي في رواية العتابي لم تكن تجري في حركة البطل الرئيس، ولا في حراك الشخصيات الأخرى، إنما جرت في اسئلته الشخصية إزاء مراجعاته لموقفه الأيديولوجي من الحزب والحياة والقياس الذي يجريه على حجم التضحية واستحقاقاتها. هذه على وجه التحديد خصيصة هذه الرواية في المكاشفة الحرجة لما يتعور عمقه الباطني ورؤيته للأحداث والأماكن بعد أن هدأت عاصفة الهروب واستقرّت مجسات بصيرته، متذكرين على الدوام مرجعياته الشخصية كمناضل ومثقف وفنان تشكيلي يحدوه التأمل والتفكّر بكل ما يحيطه من متغيرات وثوابت.

المكاشفة التي نوّهنا عنها تأتي بمثابة محكمة ينصبها الخلف لنفسه فيراجع من خلالها اعترافاته الشخصية إزاء الوقائع والأحداث. فيتعزز انكساره بالعزلة وهو اليساري المؤمن بمبادئ اليسار، بل المنبهر بثقافة اليسار وتقدميته ووقوفه في مقدمة الاصطفافات الأيديولوجية التي تنتظم في بلد مثل العراق منذ تأسيسه، بل لايمكن تخيل بقعة جغرافية منه لا يحدوها الاصطراع الحزبي الذي يخوض غماره على الدوام اليسار العراقي على وجه الخصوص. أقول يتعزّز انكساره بالعزلة، فتضعف الثورة في روحه وتخفت شيئا فشيئا ويصل في نهاية المطاف أن ليس بوسعه أن يقوم بأي فعل مع أقرانه اليساريين (ص207).

وثمة ما يشير إلى العيوب النسقية التي تستتر وراء فكرة الثقافة السياسية في هذه الرواية، فتحمل بين طياتها نوعا من العثرات في هاجس التحرر الأصيل لا الدعائي الذي غالبا ما يتشكّل في روح ووجدان جماعات النزعة الثورية. هذه الثيمة ستكون مختصة بالزوجة – زوجة بطل الرواية – بوصفها واحدة من أبطال الهامش لا المتن. 

فهو وإن كان يشيد بصبر زوجته وتحمّلها للمشاق، يصطرع في نفسه حجم المحنة التي تسبب بها إلى أقرب الناس إليه. واعتقد جازما أنّ مبحثا يذهب باتجاه النسوية كهاجس حيّ في الدراسات الثقافية، سيفضح هذه الرواية ذات الانساق المضمرة الكثيرة وبمقدمتها نسق النسوية المستلبة والمقموعة التي لا تقع ضحية المجتمعات الأبوية والمحرضات القبلية والدينية وغيرها، إنما هي تصطرع أيضا مع المحنة التي يتسبب فيها أيضا دعاة الفكر الجديد والحرية من معتنقي الليبرالية والأفكار التحررية. وهذه بتقديري الشخصي واحدة من مفارقات تعضلات فكرة اليسار نفسها أسوة بما تشيعه الأفكار الأخرى اليمينية والشوفينية. حيث إنّ هذا النسق يتراجع إلى الهامش في الرواية امعانا من السارد في تعميق الهوة التي يريد لها أن تذهب باتجاه هامشية المرأة بقطع النظر عن تضحياتها وقوة حضورها في الحياة. بل إنّ تعاطفه مع الزوجة في اعترافاته المتأخرة لم تكن لتدخل في ثيمة للندم أكثر من كونها حدثا من أحداث الرواية التي تنشغل بالمراجعات الفكرية والأيديولوجية التي افرد لها الروائي جمال العتابي مساحات واسعة في منازل العطراني، الرواية التي تأخذ بيد القارئ إلى نوع من التعالق الممتاز بين هواجس التاريخ وبين الواقعي والمتحقِق منها. 

فضلا عن التجريب بمستويات السرد والذي يفلت من بين يدي العتابي فيتسبّب بالإرباك الذي سيتنبّه إليه القارئ وهو يضيع في مستويات السرد التي تتأرجح بين سارد عليم وآخر جزئي المعرفة أو العلم، وصولا إلى تعدد الرواة في سرد زواية نظر واحدة. هذا الارباك نعده من إجراءات التجريب الذي يحدث في الرواية المعاصرة في محاولة منه إلى خلخلة طرائق البناء السردي التقليدي في الرواية العربية المعاصرة. وهو ارباك يشير إلى نوع من الوعي في بناء الرواية والتعامل مع شكلها بما يضمن التجديد والمعاصرة.

بتقديري أنّ هذه واحدة من الروايات المهمة في السرد العراقي.. رواية تذهب إلى حفريات خصبة في موضوعة تهتم بالتاريخ الشخصي المعاصر الذي يخضب فكرة الحياة بكل ما هو حيوي وفاعل في حالتي التذكّر والنسيان لقضايا مصيرية صنعت تاريخ البلاد وما تزال تأثيراتها ماثلة للعيان.

***

علي سعدون - رئيس تحرير مجلة الافلام

في المثقف اليوم