قراءات نقدية

جبَّار ماجد البهادليّ: رِوايَةُ "شَارعُ بَاتا".. أرخنةُ الوَاقعِ الزَّمَكاني

وتَدوينٌ ثقافيٌّ لِمعاني الهُويَّةِ السِّيريَّةِ

تقديـمٌ: القارئ المُتَتبِّع الذي يُطالع مدوَّنة زيد الشَّهيد (شارعُ بَاتا) بِدأً من لوحة الغلاف العنوانية الأولى، أو من أول صفحة من صفحاتها التدوينية، سَيقرأ أنها وشِمَتْ بكلمة (رِوايةٌ) في تصنيف جنسها الأدبي. وسَيذهبُ بهِ المُعتاد التقليدي أو الظنِّي في التلقِّي القرائي المعرفي أنَّه إزاء عمل سرديٍّ روائيٍّ يقوم على فكرةٍ موضوعيَّةٍ مركزيةٍ تتوزَّع عليها أحداث الرِّواية من أوَّلها حتى آخرها. سواء أكان هذا العمل متواليةً قصصيَّةً سرديَّةً أمْ مجموعةَ حكاياتٍ فصليةٍ تراتبيةٍ تربطها فكريَّاً وحدةٌ موضوعيةٌ معيَّنةٌ ما، مهما اتَّسعت مِساحة هذه الحكايات والأفكار المتناسلة زمكانياً ونسقيَاً.

ولكنَّ المفاجئ واللَّافت الضوئي لأنظارنا بإدهاشٍ في هذا التلقِّي القرائي التدويني التاريخي الجديد لرواية (شارعُ باتَا) ذات الفصول السبعة المحتوى أنَّها لا تقوم في معمارية تأثيها الهندسي والفكري على نظام وحدةٍ موضوعيَّة واحدةٍ مُعيَّنةٍ ما؛ وإنَّما تقوم في مركزية اشتغالاتها التوثيقية على أفكارٍ تجدُّديةٍ ووحدات حكائيَّةٍ موضوعيَّةٍ مُتعدِّدةِ الفاعلية لها وجودها النسقي وأثرها الحياتي المجتمعي.

ويبدو واضحاً أنَّ المعادل السردي الموضوعي الذي قامت عليه فكرة مدوَّنة (شَارعُ بَاتا)، هو مجموع عناصر الرواية الأساسيَّة المكانية والزمانية وشخصيَّاتها الفواعلية، وسلسلة أحداثها الفعليَّة المتنوِّعة التي تشكِّل برُمَّتها وحدةً مركزيةً موضوعيَّةُ تقوم عليها حبكة أحداث الرواية في عصرنة صراعها القائم بهذا التشكيل التاريخي المِيتا سردي الحداثوي الذي يُفكِّك مركزيَّة البطل الواحد، ويمنح الأولوية لتعدُّديَّة الأصوات التي تدور في فَلكِ الرواية بوصفها أُنموذجاً تعبيريَّاً وفنيَّاً جديداً.

وتعدُّ البنية المكانية للرواية والشخصيَّات الرمزية (السَّماويَّة)من أكثر أدوات السرد الأساسيَّة إسهاماً وتأثيراً في بناء هندسة معمارية الوحدة الموضوعية الكبرى للرواية، وإحكام السيطرة جيِّداً على خيوط نسيجها التسريدي العام في ظلِّ هذا التحوُّلات الفنيَّة والجماليَّة الجديدة لسرد ما بعد الحداثة.

وعلى الرغم من أنَّ الرِّواية في خطِّ نسقها الثقافي الظاهر تبدو لنظر لقارئ من خلال تعاقب فصولها السردية السبعة مُتعدِّدة الأفكار والرؤى والحكايات بأنَّها رواية (بوليفونية)مُتعدِّدة الأصوات والشخصيَّات والرموز والوجهات المرتبطة زمكانياً بجذور واقعة الحدث الموضوعيَّة. بيدَ أنَّها في الوقت ذاته تبدو في نسقها الخفي المُضمَر وموحياتها الدلالية البعيدة بأنَّها روايةُ الصوت الواحد والبطل الأوحد الذي يُمثِّل نواة الحدث المُضيئة ويُشكِّل نقطةَ بؤرته السيريَّة الموضوعيَّة المهمَّة.

غير أنَّ ما يظهره نسقها البعيد أنَّها رواية الكاتب السارد أو المؤلِّف الحقيقي زيد الشَّهيد الذي يمكن أنْ نعده هو بطلها في النسق المضمر والظاهر وفي السرِّ والعلن وفي جدليَّة (الخَفاء والتجلِّي) التي امتزجت فيها صورته السِّيريَّة الذاتية وقناع هُويته الشخصيَّة والأدبيَّة الحقيقية في هذا التدوين مع شيء من الخيال الممتع بين انثيالات أنسنة السطور، وخلف معاني حركة مسارات واقعة الحدث.

ولا أدلُّ على ذلك الخلط التسريدي المُتوحدن لمثال الشخصيَّة البطولية لُغة التعبير السردي تتمُّ بلُغة إبراز ضمير تاء الفاعلية وتَكرار توكيده الحضوري القوِّي في بنية الخطاب السردي وتخليقه الإنتاجي الذي هو سرُّ صناعة الحدث ووحدته الكليَّة، على الرغم من أنَّ البطل كونه اللَّاعبَ الفاعلَ والممثَّلَ عن الحقيقة والمُحرِّك الأساس للحدث السردي؛ فإنَّه صار واحداً من بين أصواتٍ آخرين.

إنَّ من يحاول البحث والاستقصاء بجديَّةٍ عن شخصية بطل مدوَّنة (شَارعُ بَاتا) الرئيس، ويُمعنُ النظر مليَّاً بعين نقديَّةٍ واعيةٍ في فكِّ رموزها والكشف عن لُغة شفراتها الفنيَّة الموضوعيَة سيتراءى له بوضوحٍ تامٍ أنَّه أمام شخصيَّةٍ كاتبها الحقيقي المُبدع أو مؤلِّفها عَينهُ بِكلِّ أوصافها ومسمَّياتها الثقافية العامّةَ والخاصَّة، وإنْ كان الفرق ضئيلاً جدَّاً في التفريق بين معاني الحقيقة والخيال المُبدع.

إنَّ فعلَ هذا التداخل الصوري الجميل الذي يَمزج فنيَّاً بين الواقعي واللَّاواقعي، وبين الحقيقي والميلودرامي المفتعل يشي إليكَ أنَّك حقيقة تقف أمام صورة البطل الحقيقي الغالب زيد الشَّهيد في صفحات الرواية المُمتدَّة طولاً وعُرضاً. وحين تبحث عن شخصيَّة الشَّهيد، الإنسان أوَّلاً والمثقَّف المبدع ثانيَّاً في هذا اللَّون الاشتغالي من التَّسريد الجديد، ستجدها ماثلةً بكلِّ صفاتها في أروقة وشوارع ومكتبات ومثابات ومقاهي (شَارعُ بَاتا)وهذا ما سيكتشفه القارئ بنفسه في قراءته للمُدوَّنة.

لقد اختلط علينا صوت الراوي العليم (الكاتب) بأصوات الرواية الأخرى، ولا مناصَ من التفريق بين راويها العليم وبطلها الافتراضي (حمزة). فهذا هو اللَّون التعبيري من الكتابة الذي تمتزج فيه حيثيات الواقع وتشيُّؤاته التَّشكليَّة بمدخلات المخيال المُوسطرة سردياً.

والتي تَرى فيها صورة الكاتب الرائي بدمه ولحمه وهيأته وكأنَّ شَبَحُهُ يُحدِّثُكَ ويَسردُ عليك واقعة الحدث السردية بوثوقيةٍ وهدوءٍ، وشدٍّ وجذبٍ عجيبينِ؛ لَهوَ لونٌ من ألوان الإنتاج الإبداعي السردي الأثير الذي يُضفي على وقع الرواية إمتاعاً أُسلوبياً روحيَّاً شائقاً، ويمنحها ابتداعاً تفرُّديَّاً حداثويَّاً مُذهلاً يروي ظمأ القلوب العطشى للتلقِّي في جماليَّات النقد السردي واشتغالاته الكثيرة.

خاصَّةً وإذا كان زيد الشَّهيد يتحدَّث بهذه السردية من التدوين التاريخي عن خصائص وصفات ومزايا أبطاله الثقافية والمعرفية والعمليَّة في السَّماوة حاضنته الأرضية والوجوديَّة، إنَّما هو في الحقيقة يَتاً حدَّثُ عن طابع هُويته الشخصيَّة وحضوره الذاتي وتطلُّعه العلمي والثقافي والمهني والأدبي الثَّر. فهو لا يتماهى مع شخصيَّاته فَحسب، بل يُجسِّد فيها سيريَّاً وروحيَّاً ما في دواخله من مكنونات وإمكانات تفرديَّة طبعت شخصيَّته الثقافيَّة المُبدعة وحضوره الوجودي المتعدِّد الثقافات.

وبموضوعيةٍ حياديَّةٍ من يَودُّ معرفةَ الكاتب الشَّهيد، فَزَيدُ الشَّهيدِ هو الشاعر والمُترجم والقاصُّ والراوي والقارئ الناقد النابه والمُتذوُّق للسينما والمسرح وفُنُون التشكيل الجماليَّة، والمحبُّ للحياة والمُتطلُّع في أسلوبه إلى الجنوح الأدبي والانفتاح الذاتي على الجامعة الإنسانية.هذا هو زيد الشَّهيد الصوت المَحكِي المُتفرِّد ثقافياً لا الصدى الزائل، والذي نحت بإزميله السردي في الصخر ونقش معاني حروف تراسله القصصي على صفحات وأركان الحجر، وخطَّ آيات إبداعه الفنِّي والجمالي على موجات الماء وأوراق الشَّجر. وأنَّ عديدَ نتاجاته الإبداعيَّة في الترجمة والشعر والسرد -قصةً وروايةً- شاهدةُ إبداعٍ على قيام مشروعه الفكري والثقافي العام والتدويني لذاكرة الرموز الخاصّ.

إنَّ هذه المثابرة التي تحدَّتْ صَخرة سيزيف بالجرأة والشَّجاعة والإقدام لا بالتراخي والإحجام كي يكون زيد الشَّهيد الإنسان أولاً قبل أن يكون الرمزَ العنوانَ ثانياً. وهذا الثناء والإطراء الذي طال سيرته الأدبية ليس مدحاً أو نفخاً ناتجاً عن محاباةٍ أو انحيازاً عابراً لحدود الموضوعيّة وقوانين الحياديَّة؛ إنَّما هو في حقيقة الأمر شَذَرَاتٌ تعريفيَّة وإضاءاتٌ تنويريةٌ صادقة استمدَّتْ ثوابتها العلمية والاعتبارية من موهبته ونتاجاته الأدبيَّة المُبدعة. وهي أفياءٌ وظلالٌ عامرة من طيَّات وبواطِن ومُتون كُتُبهِ وشواهد مُدّونته السرديَّة (شَارعُ بَاتا) التي تعدُّ ذاتها شاخصاً عَيَّانيَّاً عن ذاته.

إنَّ كلَّ فصل من فصول هذه المُدوَّنة السبعة يروي بحكاياته العنوانية رافداً من روافد ثقافته التعدَّدية، ويكشف بتجلٍّ عمَقَ وسِعةَ جوانبها ومُدخلاتها وحُمولاتها الفكرية شعراً وسرداً وترجمةً وعملاً فنيَّاً ومعرفيَّاً ومهنيَّاً اجتمعت فيه كُلُّ هذه النتاجات الفكرية مشروعاً ثقافياً يترجُمُ مشروع سيرته الشَّخصيَّة وهُويته الذاتية. وانعكست في هذه المدوَّنة السرديَّة كلُّ مُخرجات مرآتها الضوئية اللَّافتة على جوانب كثيرة ومتعدِّدة من ثقافة شخوصه وتطلُّعاتها وفلسفتها الآيدلوجية تُجاه الآخر.

وخلاصة قولنا التنويري في مُدوَّنة (شَارعُ بَاتا) هذه الرواية الجديدة في إيقاعها الأسلوبي ونظامها الفنِّي السردي لم تعد لِتقولَ لقارئها هذه هي الحكاية المركزية، ولم تجرؤ التلويح بالتنبيه أو الإيحاء بأنَّها وحدة الحدث، بل تقول إنَّها فكرة لأكثر من حكايةٍ واحدةٍ من مجموع حكاياتها. أي أنَّها واحدة من الحكايات المتناسلة عن فعل شخوصها وفعليَّاتها الحدثية. فهذه هي رسالة زَيد السرديَّة لقارئه.

عَتباتُ النَّصِّ الروائيِّ السَّرديَّة:

لا شكَّ أنَّ أولى عتبات النصِّ الموازي الرئيسة هي عتبة (العنوانُ الكُليَّةُ) التي تُعدُّ نقطة التحوُّل التعريفي المُهمَّة، ومفتاح الدخول الضوئي إلى إقفال النصِّ ومغاليقه البنائية المُحكَمَةِ الانْسدادِ. والَّذي من خلال هذا المفتاح يُمهَّدُ الطريقُ لِبابِ وحِفريَّاتِ النَّصِّ الموازي وإلى لُقاه الأثرية، فتُفتَحُ دَرْفِتِاهُ الدخوليَّة على مصراعيها الواسعين. ويُسمحُ في الوقت ذاته لعتبات النصِّ وشبابيكه الفرعية معرفة فعل التهوية السردي الذي يُغذِّي مُكوَّنات العمل الروائي، ويَملأ رِئتَهُ بِسردٍ النقاء الطبيعيٍّ.

فهذه المقدِّمة التمهيديَّة المُيسَّرة تقودنا بشكل مباشر إلى أنَّ (شَارعَ بَاتا) هو العنوان الرئيس لهذه الرواية، والذي ظهرت لافتته الضوئية على صورة ولوحة الغلاف الأولى التي تُمثِّل واجهةَأَيقونتهِ المكانيَّة المُتفرِّدة، وعلامته السِّيميائية البارزة، ومَعْلَمَاً من معالم مدينة السَّماوة التجارية التي هي مدينة الكاتب الرائي زيد الشَّهيد ومَنبَتُ عَيشِهِ الوجودي الضافي على نهر الفرات شريان الحياة الذي يروي صحراء هذه المدينة، ويتوسَّد وسادتها الرُّوحية الهانئة التي تغفو عليها بأحلامها اللَّيلية.

لم يأتِ اختيار زيد الشَّهيد لـ (شَارع بَاتا) عنواناً لافتاً ومُميَّزاً لروايته من فراغ عابر على المدى الزمكاني، بل إنَّ علامة (باتا) هي الماركة العالميَّة لشركة الأحذية الإنكليزية ذات الأصول التشيكية والتي مقرها الرئيس بِمدينة (لُوزان) السويسريَّة، والمعروف عنها تاريخياً بتصنيع وتوزيع جميع أنواع الأحذية ولوازمها الأخرى عبرَ تَعدُّد فروعها التجاريَّة المنتشرة في المَعمورة من دول العالم.

إنَّ هذه التسمية تستند إلى الدلالة الأيقونيَّة التعريفية التي تُثير لدى القرَّاء والمتلقِّين صوراً ذهنيةً تأمليَّةً عن طبيعة جماليَّات المكان السردي وتكويناته. والتي هي في الحقيقة ترتبط ارتباطاً مباشراً بموضوعات الرواية وشخوصها وأحداثها الوقائعية. هذا من جهةٍ، ومن جهة أخرى فإنَّ للعنوان موحياته الدلالية المتعدِّدة، منها الارتباط الروحي بالذاكرة الجمعية المشتركة للقُرَّاءالَّذين لهم معرفة زمنية مُسبقةٌ بـ (شركة بَاتا)للأحذية التي لها تاريخ وحضور طويل على المستوى العالمي والدَّولي.

وأنَّ هذا التاريخ يشي بارتباط صلتها الروحيَّة الوثيقة بذاكرة القُرَّاء وشخصيَّات الرواية ورموزها الحقيقية التعدُّدية. ومنه أيضاً الدلالة الرمزية الكبيرة والمهمَّة لشارعٍ باتا الذي ترمز مكانته العالمية والمحليَّة إلى الكثير من الأشياء والمقاصد الذاتية مثل، التحوُّل والتغيِّر والسفر والهجرة والتُّرحال والاغتراب والانتقال إلى فضاءات العالم الخارجي من خلال سعة دلالة ماركته الرمزية الشهيرة.

أمَّا العَلاقة البينية الوثيقة بينَ العنوان والرواية فهي عَلاقةٌ جمعيةٌ ترابطيةٌ وتكامليَّةٌ بين واقعة موضوعات الرواية وشخصيَّاتها الفواعلية.وقد تجسَّدت عُرَى هذه العَلاقة فعليَّاً بمكانة هذا الشارع المهمَّة، (شَارعَ بَاتا) المذكور في لوحة العنوان الذي يشكِّل موقعه مكاناً مُميَّزاً وفريداً وفارقاً في عتبات الرواية؛ كونه مكاناً ودالةً بينيةً حُضوريَّةً لتجمُّع شخصيَّات الرِّواية الفاعلة، والتي هي في الحقيقة ذاكرة زمانية ومكانيةً سيرية توثِّقُ تاريخياً لحركة الشخصيَّات وصراعها الإنساني الطويل.

وقد حفلت عتبات رواية (شَارعُ بَاتا) وخطابها السَّردي النصِّي بالعديد من الشخصيَّات الثقافية المغيَّبة والمهمَّشة من المسكوت عنها عن قصدٍ أو غيرِ قَصدٍ، والتي كان لها حضورٌ كبيرٌ ونصيبٌ وافرٌ في هذا الشارع وهذه المدينة ذات التقاليد العشائرية المُوروثة المَتينة والضاربة بُعداً في الأثر المديني مثل، شخصية (ناطور المَكِّي، وجَوادين، وهاشم المُسافر، وفارس رشيد، وياسر، وعقيل، وهاشم عبد الكريم، وشهلاء، وحيدر، وشاهين، وفالح عواد، وليلى، ورشيدة، وأزهار، وجميل)، فضلاً عن شخصية حمزة البطل وولَدَيهِ (حارثٌ وميمونٌ). البطلُ الذي يلبس قناعه (الراوي العليم). وغيرهم من الشخصيَّات الأخرى التي أسهمت في تفعيل أحداث الرواية وصنعها تاريخيَّاً ومكانياً.

لم تقف عتبات النصِّ الروائي لدى زيد الشَّهيد عندَ هذا الحدِّ من العنونة الكبرى، بل تعدَّت إلى ما يسمَّى بعتبة التصدير التالية للعنونة، والتي افتتحها المؤلِّف الكاتب بعبارةٍ موجزةٍ وبليغةٍ للفيلسوف والمُفكِّر والأديب الرُّوحي الفرنسي (هنري برجسون)، والذي يؤكِّد مكانية العقل البشري وأهميته في حفظ شذرات من الماضي وتاريخه التنويري إذ يقول: "هُنَا وَهُناكَ في العَقلِ صَناديقٌ أمينةٌ لِحفظِ شَذراتِ المَاضِي". (شارعُ بَاتا، ص 5).

وبالتأكيد فإنَّ اختيار السارد زيد الشَّهيد لهذه العبارة الفكرية الأمينة للحفظ في ذاكرة العقول ترتبط ارتباطاً كليَّاً باختيار سردية عنونة الرواية المكانية لـ (شَارعُ بَاتا) ذي التاريخ السيميائي الدلالي والتأصيلي لماضي المدينة وحاضرها الآني والمستقبلي الذي لايُموت مهما طالته يدُ الزمن.

ومثلمَا أنَّ بناء الحضور التصديري له أهميته الفكرية والموضوعية في سرديَّات زيد الشَّهيد واشتغالاته الحكائيَّة قصةً وروايةً، فإنَّ مثل هذا الإجراء النموذجي والتطبيقي شجَّعه على القيام بخطوات أخرى أكثر نضجاً وبلاغةً وإقداماً في فنيَّة التعبير السردي وفي أسلوبيته الإبداعية والإنتاجية لهذه الرواية وغيرها من السرديات المكانية التي تمثَّلُ ارتباطه الروحي والثقافي بها.

فقد ارتأى أنْ يكون لكِّ فصلٍّ من فصول روايته السبعة عتبةً عنوانية فرعيةً صغيرةً تُماهي وتُناظر وتُحاكي متون الرواية وفصولها المُتعدِّدة في موازاتها للنصِّ. فضلاً عن أنَّ هذه العتبات الثانوية الترتيب والمهمَّة التركيب البنائي في نسج سردياته الحدثية تتَّصل بسيرته الشخصيَّة وتُلخص بقصديةٍ تامةٍ ثقافته الأدبية وإبداعه الفني شعراً ونثراً سرديَّاً. على الرغم من أنَّ حكاياتها وشخوصها وحُمولاتها الفكرية والجماليةليست بمعزلٍ عن تاريخ حياته الشخصيَّة وثقافته المعرفية.

هذه هي الغاية والمغزى الحقيقي لاستحضار هذه العنوانات الفرعيَّة ونسجها بإحكامٍ مع واقعة الحدث السردية وإن كانت جزئيةً؛ لكنَّها مهمَّة في توثيق حياة أشخاص ومدنٍ ومثاباتٍ ذات أهميةٍ في سجل وتاريخ وجوده التكويني في خريطة الإبداع الإنتاجي والثقافي كرمزٍ من رموزها العديدة.

جاء الفصل الأول من الرواية يحمل العنوان التالي: (التَّرجمةُ وبَاتا والرَّحيلُ)، وقد حرص جدَّاً زيد الشَّهيد على إسناد وتعضيد هذا العنوان بما له عَلاقةٌ أو صلةٌ بالمكانية الأولى للإنسان، وأعني بذلك المأوى أو البيت الذي يضمُّ وجوده وكيانه الشخصي وتكوينه الحياتي والروحي المُستقل.

وقد استهل زيدُ الشَّهيد مطلع هذا الفصل للحديث بمشهد ميلودرامي عن إزالة تمثال الصنم صدام، وسقوط النظام البعثي الذي حكم العراق خمسةً وثلاثين سنةً عجافاً، وعن دخول القوات الأجنبية لبغدادَ عام2003م، والذي اعتبر بعضهم دخولها تحريراً، وحسبه بعضهم تغييراً دون علم. ثم تفرغ للحديث عن شخصَّيات (شَارعُ بَاتا) المحليَّة والتي آثرت الرحيل لأُوربا بعيداً عن ديارها.

وبوعيه الثقافي وموهبته المعرفية المُكتسبة اختار الشَّهيد زيد هذه المرَّة قَولاً مَائزاً للمفكِّر والفيلسوف الفرنسي المعرفي الظاهري (غاستون باشلار)الذي يُخبر فيه متلقِّيه وقارئه عنه قائلاً: "يَنقلُنا الإحساسُ بِالهناءةِ إلَى بِدايةِ المَأوَى، مِنْ نَاحيةٍ جَسديَّةٍ فإنَّ الكَائنَ الَّذِي يَمتلكُ المَأوى يَتكوَّر وَيَتَستَّرُ، وَيَختفِي، ويَرقدُ يَتلذَّذُ، وَهوَ غَائبٌ عَنِ الأنظارِ". (شارعُ بَاتا، ص 7). وهذا يؤكِّد أنَّ فعل الترجمة وباتا والرحيل من أولويات زيد الشَّهيد الثقافيَّة السرديَّة المُمكنة في مُتبَنَّيَات خطابه.

أمَّا الفصل الثَّاني من الرواية فقد وظَّف له زيد الشَّهيد عتبةً ثلاثيةً الأبعاد، (الثقافةُ تَجسيداً.. الرفقةُ والافتراقُ..فِعلُ الترجمةِ)ِ، وهي موضوعات حيويَّة مُستمدَّةٌ أولاً من الذات وثانياً من الذات الجمعيَّة للواقع الحياتي المعيش لشخصيَّات (شارعُ بَاتا)القلقة التكوين الفكري الوجودي. وخاصَّةً الشخصيَّات والرموز التي ما زالت حَيَّةً أو باقيةً تنعم بقيد الحياة وتُمارس حياتها الثقافية والمهنية بأمنٍ وأمانٍ.

وأفصح السارد الشَّهيد في هذا الفصل الحديث عن أثر الفعل الثقافي لدى أصدقائه من المُثقَّفين والأدباء ممن كان لهم رفقةٌ وحضور واسع، وأثر كبير بالواقع الثقافي والحضاري لمدينة السماوة، وخصَّ منهم بالذكر سيرة حياة صديقه المُقرَّب فالح عواد الثقافية والعسكرية، والذي كان يلتهم الكتب الثقافية التهاماً، ثمَّ عطف الحديث عن اهتمام الكثير من أبناء المدينة بالقراءة والكتب الثقافية.

وفِي مَعرضِ حديثه السردي عن أثر الترجمة وفعلها الأسلوبي الفنِّي في حياته السيريَّة المتماهية مع شخوصه الثقافية التي تشاركه الرأي والقول والعمل والتجريب السردي للترجمة.ولأنَّ الترجمة لها مكانة كبيرة وارتباط نفسي وروحي مُهمٌّ في حياة زيد الشَّهيد العامَّة والخاصَّة من حيث تمكنه من اللُّغة الإنكَليزيَّة اللغة الثانية الأمِّ واطِّلاعه على الأدب العالمي المقارن نالت اهتمامه، إذ يقول:

"التَّرجمةُ عَلَّمتنِي أساليبَ الكِتابةِ لَدَى الكٌتَّابِ مِثلمَا تَعَّرفتُ عَلَى اللُّغةِ الِّتي يَكتبُونَ بِهَا كَوسيلةِ تَعبيرٍ.. فَمنهُم مَن يَرَى فِي الجُملةِ القَصيرةِ الخَاليةِ مِنْ حُرُوفِ التَّشبيهِ والكَثافةِ مِنْ خِلالِ التّخلِّي أوْ التَّقليلِ مِنَ الوَصفِ والإسهابِ تَفِي بِالمعنَى وَتَتَّسمُ بِالعُذوبةِ؛ وِمِنهُم مِنْ يَكتبُ بِتراكيبَ تَطولُ وَتَقصرُ تَتجَلَّى عِندَهُ اللُّغةُ مِطواعةُ وَمُستعدةُ لَلاستطالَةِ، وَمُتهيِّئةً لِلتشكُّلِ مِنْ أجلِ جُملةٍ تَختزِنُ داخلَهَا الصُّورُ وَالشَّفراتُ، وَحَسبِي أنَّ القُرَّاءَ يَتفاوتونَ فِي رُؤاهُم تُجاهَ أساليبِ الكُّتَّاب فَمِنهُم يَقفُ مَعَ الأوَّلِ عَلَى حِسابِ الثَّاني وِمنهم يَرَى الثَّاني خَيرَ مُعبِّرٍ عَنْ ذَاتِهِ...". (شَارعُ بَاتَا، ص 162).

وقد عكف زيد الشَّهيد أنْ يكون لهذا العنوان السردي له ما يوازيه من الشعر والمنثور الذي يتغنَّى بالإنسان؛ كونه القيمةَ العُليا التي تملأ فراغ الطبيعة الكونية الجامدة والمتحركة وتسدُّ وحشتها المكانية بحركته الفواعلية واندماجه الرُّوحي. فآثر الكاتب الشَّهيد أنْ يختار لتأثيث هذا الفصل إحدى قصائد الشاعر اليوناني الشهير (يانيس ريتسوس)، وهي من القصائد التي ترجمها الأديب المصري خالد رؤوف والمُفكِّر الشاعر السوري أدونيس ضمن عشرين قصيدةً من قصائد الشاعر ريتسوس ذات الأثر الشعري الذي يهتمُّ بتفاصيل ومألوف سَرَيَانِ الحياة اليومية المَعيشة.

وربَّما أراد زيد الشَّهيد من هذا الاختيار النصِّي من شعرية ريتسوس أنْ يكون تحاكياً شبيهاً بآثار شخصياته البطولية، وشبيها بذاته الشعرية التي اهتمت فعلياً بآثار الترجمة وحفظت للرفقة مكانتها الاجتماعية الوطيدة. ولعلَّ من أبرز شخصيَّات هذا الفصل التي اهتمت بأثر الفعل الثقافي الأجنبي والتراثي العربي شخصيَّة حمزة بطل الرواية التي تُقابل شخصيَّة السارد أو الراوي العليم، فضلاً عن شخصية رفيقه القديم والمقرَّب فالح عواد، وشخصيَّة زميلتهما ليلى ورشيدة الذين هم جميعاً من أبرز مُثقفي وشخصيَّات (شَارعُ بَاتا) العديدة والفاعلة أثراً وعملاً وفكراً بِمدينة السَّماوة.

ويَستمرُّ هاجس تقديم التقانات الفنيَّة بمقدِّماتٍ عنوانيةٍ لافتةِ الأثر عند الكاتب الشّهيد زيد في تدشين فصول روايته، فيأتي الفصل الثَّالث حاملاً عنوانَ (الحكاياتُ) التي تتَّصل بالواقع الشعبي المديني لشخوص رواية (شَارعُ بَاتا) السَّماوية، ويختار لهذا الفصل قصيدةً شعرية نثريةً من ديوانه الشعري الخاصّ (أشجانُ الغُرباء) كفاتحةٍ للخوض في أعماق هذه المدينة الجنوبية الضاربة شخصيَّاتها عمقاً بالتقاليد والأعراف الشعبية والتراثية المعبِّرة عن حياة الناس وثقافاتهم التأصيليَّة منذ عهود زمنية.

واهتمَّ زيد الشَّهيد في هذا الفصل بالفعل السردي للحكايات الغريبة والخُرافات الشعبية التي يسودها الجهل والفقر والفاقة التي كانت سائدةً، ثم سار في التعريف بهوية شارع باتا الضِّيقة في المدينة. والتفتَ إلى الحديث عن مِثلية أوائل القرن الحادي والعشرين، وعن المِثلية السائدة في الستينيَّات. وفصَّلَ الرائي التسريد بالحديث عن ثلاث حكايات شعبية تتصل بثقافةشَارع باتا ومروياته الشعبيَّة.

وفي أعقاب الانتهاء من فصل الحكايات المُتعدِّدة تُطالعنا فاتحة الفصل الرابع موسومةً بعنوان يجمع بين الذاتية والجمعية المشتركة، ذلك هو (صَدى الرحيلِ، وضَجرُ الشَّاعرِ) الذي يعبِّر فيه عن مدى أسفه وانكساره عن أصداء هذ الرحيل المفاجئ والشعور بضجره المُميت. وكان لأثر الترجمة الروائية فعلها الأدبي والثقافي الكبير عند الشَّهيد في تأثيث سرديَّات هذا الفصل الثقافي السِّيري.

آثرَ الشَّهيدُ في هذا الفصل الحديث عن الخبر الذي مفاده عودة صديقه جميل وزوجته من روسيا إلى السَّماوة، والإشادة بجرأته ومغامرته بالهجرة والعيش في بلادٍ غريبةٍ جداً عن ثقافة مجتمعه. وأشار بحديثه عن سردية دخول العراق للكويت عام1991م، وعن آثار الحصار الاقتصادي الظالم والذي دام (12)عاماً. ثُمَّ عَرجَ بالحديث عن قيام الانتفاضةالشعبانية في العراق ضدَّ النظام وآثارها.

وفضَّلَ زيد الشَّهيد أنْ تكون مُقدِّمة هذا الفصل قصيدةً شعريةً مختارةً لأبرز شعراء قصيدة النثر في العالم العربي للأديب والشاعر السوري المُميَّز (مُحمَّد المَاغُوط)، والتي يقول فيها هاجساً بالبوح:

أُريدُ أنْ أضمَّ إلَى صَدرِي أيَّ شَيءٍ يُعِيدُ زَهرةً بًريَّةً

أو حِذَاءً مُوحِلَاً بِحجمِ النَّسرِ

أُريدُ أنْ آكلَ وَأشرَبَ وَأمُوتَ

وَأنَامَ فِي لَحظةٍ وَاحدَةٍ

إنَّنِي مُسرِعٌ مُسرِعٌ

كَغيمةٍ أُصيبَتْ بِالجَرَبِ

كَمَوجَةٍ وَحِيدةٍ مُطارَدَةٍ فِي البَحرِ (شَارعُ بَاتا، ص 123)

وتتابع خطى العنونة عند الشَّهيد فيأتي الفصل الخامس معنوناً للحديث عن (الإرهاب.. يدُّ القتلِ.. الكراهيةٌ السوداءُ). وجاء ت مسرودات هذا الفصل مؤكدةً الحديث عن أثر الإرهاب والأيادي الخفيَّة للقتل على الهَوية. وما تولّد هناك من كراهيةٍ سوداءَ؛ نتيجة ما خلفته أفعال داعش الإرهابية.

وقد آثرَ السارد زيد الشَّهيد أنْ تكون فاتحة هذا الفصل الدامي قولاً مأثوراً للشاعر والمُفكِّر السُّوري علي أحمد سعيد المسمَّى بـ (أدونيس)مُستلة من كتابه (الكتابُ، الخِطابُ، الحِجابُ)، أراد الكاتب من هذا القول أنْ يكون تأكيداً قوياً لسرديَّات هذا الفصل وموضوعاته الطارئة على حياة شخصياته، التي لا قرار ثابت لها في أبجديات مجتمع آمن لا يؤمن بفعل الإرهاب والكراهية:

"كلُّ عَالمٍ ضَيِّقٍ اليوم، هُوَ عَالَمٌ ثَانويٌّ، كُلُّ ثَانويٍّ هَامِشٌ لَا شَأنَّ لَهُ، وَلَا فِعلَ، لَا حَاجَةَ كِيانيَّةً لَهُ مُهدَّدُ بِالانقِرَاضِ". (شَارعُ بَاتا، ص 169).هكذا يرى الشَّهيد زيد هذا العالم الوجودي الضيِّق منبوذاً لا حاجة لوجوده أبداً؛ كونه عالما مُنقرضاً زائلاً بزوال فعله ومحو أثره في خريطة الحياة الحيَّة.

أمَّا مُفتتح الفصل السادس فقد جاء تحتَ مُسمّىً عنوانيٍّ ثنائيِّ التركيب مثير هو (الارتماءُ في العَبثِ..الهُجرةُ المُرَّةُ). وتحدَّثَ فيه الكاتب عن ظاهرة العبث والارتماء في أحضانه القاتلة، وفضَّلَ أيضاً الحديث عن أثر الهُجرة المريرة والتمرُّد والعَبث في أوربا إثر سقوط المفكِّرين بلا جدوى.

وقد اتَّشحت مقدِّمة صفحة هذا الفصل بمشهدٍ سَرديٍّ وارتحاليٍّ عن شخصية (بيدرو بارامو) التي تعدُّ من أشهر روايات الأدب المَكسيكي الأجنبي في القرن العشرين لمؤلِّفها الأديب والرِّوائي الممكسيكي (خوان رولفو)، رولفو الأديب المعروف بواقعيته السِّحرية، والَّذي عُرِفَ عنه أيضاً بتشابه مسيرته الإبداعية بخطِّ مسيرته الحياتية العملية الواثبة.

ويمضي تواتر العنونة الفصليَّة حثيثاً حتَّى يقف عند خاتمتها أو فصلها السابع والأخير الذي فضَّلَ زيد الشهيد أنْ يكون بناء عتبته النصيَّة ثلاثية الثيمات (المَرآةُ.. الرحيلُ.. التشبُّثُ). فالمَرْآةُ هيَ الأداة الضوئية الكاشفة والفاصحة عن حياة أبطال شارع باتا الدفينة والمجهولة، وأمَّا الرحيل فهو الحُلُمُ المنشود لهذه الشخصياَّت الثائرة والحالمة بالرحيل والارتحال والهجرة والاغتراب والابتعاد الاضطراري عن أثر المخاطر المُحدقة بمدينة السَّماوة وبمكانية (باتا) شارعها العتيد.

وفكرة التشبُّث، هي إصرار بطل الرواية حمزة وراويها العليم زيد الشَّهيد على البقاء بهذه المدينة مركز الرفض والاحتجاج التحرُّري والمجابهة. المدينة التي صنعت منه بطلاً حقيقياً مبدعاً على الرغم من أنَّ فكرة الإغواء بالرحيل والتلويح بالهجرة أسوةً برفاق الدرب من روَّاد ومثقفي شارع باتا السَّماوي الراغبين بتحقيق حياة أبهى وأحسن وأفضل من حياتهم الحالية بهذه المثابة.

وفي ضوء هذا الرحيل والهجرة خصَّ زيد الشَّهيد في طيَّات هذا الفصل الحديث الخاص عن خبر وصول صديقه جَوادين إلى ألمانيا وإقامته فيها. ثم تحوَّل الحديث عن الحياة بشارع باتا السَّماوي الذي ضاقت به سبل العيش، وخَلَّفهُ الحديث عن الرؤية البصرية في المرآة والتشبُّث بعدم الرحيل.

وقد رأى الكاتب زيد الشَّهيد أنْ تكون مُقدِّمة الفصل الأخير الذي هو خاتمة الرِّواية عن الحُلُم الذي يثير في نفوسنا الإغواء بالشيء الجميل. ومثلما اختار الكاتب مُقدِّمةَ (غَاستون باشلار) التي أثَّث بها الفصل الأوَّل عَمدَ إلى أنْ تكونَ مُقدِّمَةَ فصله الأخير حُلُميَّةً إغوائيةً محبَّبةً لذاتِ الكاتب والفيلسوف الفرنسي الشهير التي يقول فيها: "إنَّ عالمَ الحُلُمِ يُومِئ لَنَا بِالإغِوَاءِ". (شَارعُ بَاتا، ص229).

إنَّ هذا الإغواء الذي يشي به الحُلُمُ ويُومِئُ به هو شيء رغائبي لا بُدَّ منه لكلِّ إنسانٍ يَحلمُ بأنْ يكون إنساناً حُرَّاً لنفسه لا ذليلاً أو عبداً لغيره؛ لأنَّ الحُريَّة تؤخذ بالدم والكفاح والمواجهة ولا تُوهَبُ أو تُعطى مجاناً، هذه هي أبواب الحصول على الحريَّة الحمراء مُضرجة بالدماء لا بالسَّلمِ.

إنَّ التخطيط المعماري لأقانيم هذه العتبات السبع الداخلية بهذه الشاكلة التنظيمية والإجرائية أمرٌ في غاية الأهمية الفكرية والموضوعيَّة في الإمساك بأحداث الرواية مرتبةً ترتيباً حداثوياً يُمَكِّنُ الكاتب الرائي من السيطرة والتحكُّم بتقاناته الموضوعية والفنيَّة مَتى ما يشاء المنتج السارد.

وأعني بذلك التحكُّم، حُريَّةَ الكاتب الأسلوبية في فنيَّة التعبير، وميله المنضبط في توظيف تقنيتي (الاستقدام والاسترجاع) السرديتين اللَّتينِ تُحفِّزانِ القارئ على معرفة أحداث الرواية بظمأٍ واشتياقٍ كبيرين وفق هذا الترتيب اللُّغوي السردي الواثب الخُطى، والدال على تَمَكُّن الكاتب الشَّهيد من أدواته التعبيرية في فنيَّة الخطاب السردي الذي له عناصره واشتراطاته وآلياته التعبيرية الخاصَّة.

أبنيةُ المَكانِ السَّرديَّةُ للروايَةِ:

من يتطلَّع بتأمُّلٍ وتدبُّرٍ فاحصين إلى لافتة عنوان الرِّواية الكلي (شَارعُ بَاتا)، حتماً سَيَستَقْرِئُ ويفهم أنّه يشكِّلُ الشاخص المكاني المحلِّي الأول أو نقطة البداية التي انطلقت منه شرارة أحداث الرواية المكانية المتشابكة، وانعطفت منها الأحداث في تأثيث أبنيتها السردية المتواصلة، وأقامت عليها أسس مثاباتها الوجودية وحضورها المَحلي والدَّولي والعالمي حتَّى نهاية أحداث الرواية.

فشارع باتا يُعدُّ مَعلَمَاً أيقونياً تجاريَّاً لافتاً، وكان إيذاناً تواصلياً لشوارع محليَّةٍ داخليَّةٍ أخرى في مدينة نابضة بالحياة كالسَّماوة مثل (شارع العيادات، وشارع السوق، وشارع الجسر، وشارع المُتنزه)، فضلاً عن شارعي الرشيد والجمهورية في بغدادَ. ويتبعها من المُدن المحليَّة العراقيَّة تحديد وظيفة الأماكن لهذه المدن كقوَّةٍ فاعلةٍ في تطوُّر الحدث السردي وبناء شخصيَّاته الفاعلة.

تلك المدن التي كان لها حضورها الروحي البارز وارتباطها المكاني الحقيقي الضارب بالعمق مع جذور وتاريخ شخصيات هذه الرواية وسير حركتها الانتقالية الدراميَّة المتواثبة السريعة، مدنٌ مثل، (السماوة وبغداد والبصرة والديوانية وشمال العراق والمنطقة الغربية)، وغيرها من مدن العراق التي تتَّصل بسرديات الحدث وتكون جزءاً من مثاباتها البنائية في متن الخطاب الروائي:

"شَارعُ بَاتَا اِسمٌ أو مَكانٌ لَا يُمكنُ لِأحدٍ تَجاوزهُ. إنَّهُ قَلبُ المَدينةِ. شَارعٌ مِضيافٌ دَائمٌ؛ يَفرِدُ ذَراعيهِ اِستقبالَاً لِلزائرينَ. هُوَ ذَاكرةٌ مُنفتحةٌ كَبحرٍ يُريكَ فَضَاءَهُ ويَدعُوكَ لِلإبحارِ. حِفرةٌ لآلئ كُلَّمَا أخذتَ مِنهَا وَحَمَّلتَ كَبُرتْ. هُوَ أيضَاً صَديقٌ يَبتسِمُ لَكَ عَلَى الدَوامِ. يَمُدُّ كَفَّهُ لِمصافحتِكَ فَيَأخذُ بِكَ إلَى حَيثُ دُرُوبِ الإِمتَاعِ. يَتجوَّلُ بِكَ دُونَ أنْ تَتِيهَ. يَأخذُكَ فِي فُرجَةٍ عَلَى السُّوقِ المُسَقَّفِ فَيَجعلُكَ تَدخُلُ عَالَمَاً مِنَ البَهرجَةِ كَأنَّكَ فِي اِحتفاليَّةٍ كَرنفاليَّةٍ لِبضاعةٍ وَنَاسٍ، لِظلٍّ وَضَوءٍ وَحَركاتٍ". (شارع بات، ص 47). فالنصُّ المكاني يكشف عن نفسه ويُعرِّفُ عما يتَّصل به من حياةٍ وأثر.

ومع تنامي أحداث الرواية الحثيث وتصاعد وتيرتها السرديَّة السريعة نحو الهرم السردي، وتزايد أصوات شخوصها وكثرة تعددها الحركي، تتَّسع ميدانياً رقعة المِساحة المكانية وتتضاعف أُس مثاباتها التأصيليَّة تأسيساً وتأثيثاً وحضوراً لافتاً مع حركة إيقاعها السردي البنائي السريع.

فتبدأ بوصلة الحدث السرد المحليَّة والدوليَّة والعالميَّة المكانية في الرواية مؤشراتها البينية أفقياً وعمودياً، وتتَّجه شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً. وإنْ كانت مؤشِّرات هذا التحوُّل والانتقال السردي الكبير افتراضيةً وليست واقعيةً على سبيل التوصيف المكاني الذي يُعطي للبنيَة السرديَّة المكانية قوَّتها التفرديَّة الظاهرة، ويهبها مِساحةً تعبيريَّةً من الجمالية وأُفقاً بعيداً من التعبير الفنِّي الإنتاجي.

وعلى وفق ذلك التراسل السردي الحقيقي والافتراضي المخيالي المفتعل تظهر سرديَّاً على خريطة رواية (شِارعُ بَاتا) بلدان عربية وأوربية تتناسل فكريَّاً وموضوعيَّاً مثل، (ليبيا وتونس والكويت وألمانيا وأمريكا والدنمارك وروسيا وهنكَاريا وفرنسا والنمسا وتركيا وإيران)، فضلاً عن المهجر الشمالي والجنوبي الأمريكي ونحوهما من الدول الأوربيَّة التي شكَّلت من الأهمية مَحطَّ أنظار أبطال شخصيات الرواية وحلمهالتحقيق إرادتها الذاتية من أجل العيش بكرامة وعزةٍ وسلامٍ:

"الرَّحيلُ... الرَّحيلُ! عَادتْ بِي الذَّاكرةُ إلَى رَحيلِ هَاشمٍ فِي بِدايةِ السَّبعينيَّاتِ. عَادتْ رسائلُهُ المُتواصلَةُ تُخبرُنِي بِوجودِهِ مُستقرَّاً بَعدَ اِجتيازِ عَقباتٍ وَتجاوزِ مُعوَّقاتٍ. يُعلمُنِي أنَّه آثرَ العَيشَ فِي وَسطِ سَلٍام، وَأمنٍ، وَحُريَّةٍ. تَذكَّرتُ تِلكَ الأيامَ قَبلَ مَا يَربُو عَلَى الأربعينَ عَاماً...أيامَ كَانتْ حُمَّى السَفرِ شَمَالاً تَتَعَالَى فِي المَدينةِ، وَسَريانُ عُشبةِ حُبٍّ تَركَ البِلادَ وَالبَحثَ عَنْ مُستقبلٍ أجملَ تَسرِي فَي قُلُوبِ الشَّباب. وَكَانتْ وَسائلُ الاِنفضاضِ وَالرَّحيلِ تَتَّخذُ المَناحِي، وصُولاً إلَى الخَلاصِ كَمَا يُجاهرونَ". (شَارعُ بَاتا، ص221).والعيش الآمن الذي يُنبِئ به نصُّ الكاتب إشارةَالرحيل لبلدان أوربا الغربية، أو البلدان الاشتراكية التي يُفضِّلُها من انضم من الشباب إلى صفوف الحزب الشيوعي.

وقد رأى الكاتب المُتوهُّج زيد الشَّهيد أنْ يكون وقع هذا التمثيل المكاني الخارجي تمثيلاً حقيقياً تأصيلياً نابعاً من إيمانه وحريَّة وثقافة شخصيَّات الرواية التحرُّرية التي ترى في الهجرة إلى العالم الأُوربي الغربي عالماً آخرَ مُختلفاً عن ثقافة وتقاليد شعبها ونظام وجودها الشرقي.

ويشكِّل الحضور المكاني نقطة تحوُّل مهمَّةٍ وفارقةٍ في تكامل هُويتِها وتاريخها الحضاري والثقافي والعلمي المستقبلي الواعد. على الرغم من أنَّ توظيف بعض هذه الأمكنة والمثابات الكونية الخارجية في بنائه السردي المتراتب قد يكون افتراضياً تخيُّليَّاً معنوياً تعضيديَّاً عن أثر الواقع الحياتي المحيط، وإسناديَّاً من أجل استكمال عناصر السرد الداخلية للرواية وإتمامها كليٍّاً.

"فِيمَا فَضَّلَ بَعضٌ الرَّحيلَ إلَى بُلدانِ أوربَا الغَربيَةِ بَعدَ الحُصولِ عَلَى تَأشيرةِ دُخولٍ أوْ دَعوةٍ تُوجهُهَا إليهِ مُؤسسةُ ثُقافيَّةٌ أوْ عِلميَّةٌ فَيختارُ فَرنسَا أوْ بِريطانيَا. وَمَنْ يَجدُ لِديهِ الحَظَّ الأوفرَ فَسيدخُلُ ألمانيَا. لِذَا صِرنَا مَعَ تَوالِي الأيامِ نَسمعُ بِسفرِ مَنْ كَانَ يَسبقُنَا بِمرحلتينِ دِراسيتينِ أوْ أكثرَ، وَقدْ بَلغَ العِشرينَ مِنَ العُمرِ إلَى تِلكَ البُلدانِ سَفَرَاً لَا عَودةَ مِنهُ...". (شَارعُ بَاتا، ص 222).

إنَّ جنوح الكاتب الرائي الشَّهيد وميله الكبير إلى ثقافة سرد الاغتراب المكاني الخارجي وإيلائه الأهمية الكبيرة لم يكن في حقيقته الحكائية التسريدية أمراًعرضياً طارئاً لا أساس له، وإنَّما هو جزء لا يتجزَّأ من السيرة الذاتية والأدبية لشخصيَّات روايته وحياة أبطالها المحوريَّة التي تسعى لتحقيق أحلامها وآمالها وتطلُّعاتها الذاتية والجمعية المشتركة على المستوى الإنساني الاجتماعي والثقافي المهني والعلمي الذي هو حقٌّ ومطلبٌ من حقوقها المَنشودة، ومسعى شخصي وجمعي من مساعي إرادتها الحياتيَّة؛نتيجةَ يقظة رغبتها الفكريَّة ووعيها الثوري الحُرِّ ونمو ثقافتها الشخصيَّة المُكتسبة.

ويتناهى إلى ظنِّي كثيراً أنَّ مغزى هذا الاستحضار المكاني وتحديد وظيفة الأمكنة بوصفها قوةً مؤثرةً وفاعلةً في تطوُّر الحدث السردي، وبناء الشخصيَّة، والاستقدام الدؤوب للمثابات الدَّوليَّة لأصوات الرواية المُتعدِّدة، وخاصَّةً المُثقَّفة منها والواعية الطامحة لتحقيق مقاصدها الاحتجاجية والآيدلوجية هو في الحقيقة البعيدة والقريبة مِهمازٌ تَعبيريٌّ سرديٌّ صادقٌ، وتلويحٌ إيجابي نسقي وأسلوبي ظاهر في مركزية توهُّج اشتغالات زيد الشَّهيد لمتواليته السرديَّة في مدوَّنته (شَارعُ بَاتا).

وكلُّ ذلك يحدث إجرائياً للتعبير عن قناع شخصيته الأدبية ورمزيته الثقافية وهُويته السيريَّة التي تظهر دلالاتها ومعانيها السرديَّة الصادقة واضحة في جماليَّات خطابه التعبيري وفي بروز وارتفاع صوت الأنا السرديَّة للكاتب السارد عالياً، والتي هي صوت ولغة البطل الراوي العليم المترائية ظلال صورته الحقيقية لك واقعيَّاً، والتي لا يمكن أنْ تشكَّ بها، ولو لِلَحظةٍ واحدةٍ في مناطق اشتغالات تسريده المكاني بهذا الظلِّ الأسلوبي الشخصي البوفوني للكاتب نفسِهِ.

وقطعاً أنَّ مثل هذا التماهي والتحاكي فيما بين لُغة الرواية وهِجسِ الكاتب السارد أو الراوي العليم دليل على التشابه السيري والثقافي النسقي الظاهر والمضمر لكلا الصوتين المُتوحُّدين سياقيَّاً وفنيَّاً وسيريَّاً. وهذا لا يُضعف من هيبة السرد الحكائي وقوته التعبيرية، أو يُقلِّلُ من وقع قيمته النوعية والفنيَّة، بل على العكس من ذلك سيَهبهُ صفاتٍ من الجِدَّة والحداثة والارتقاء الفنِّي؛ كونه تعبيراً أخلاقياً وروحيَّاً وإنسانياً صادقاً عن مجريات تفاعل واقعة الحدث السردية، وعن مظاهر تمثُّلاتها ومدخلاتها الفكريَّة الضافية على فضاء الواقع الأرضي الكبير، فَلنُصغِيَ لِصوتِ الرَّحيلِ:

"تَعالَ يَا عَمُ حَمزةُ.. هَاجِرْ وَالتِحقْ بِنَا.. تِرَيَحْ.. تَعالَ، يُردِّدُهَا جَوادينُ، وَمعَهُ هَاشمٌ يَّهزُّ رَأسَهُ تَوافقَاً، وًيًكملُ، أَنتَ آخرُ مَنْ بَقِيَ مِنْ رَعيلِ شَارعِ بَاتَا الَّذينَ فَكَّروا بِالرحيلِ، وَرَحَلُوا". (شَارعُ بَاتا، ص 237).والنصُّ السردي يكشف عن تشبُّث الكاتب بالبقاء في مدينته وعدم تركها رغم المطالبة بذلك.

إنَّ شخصيَّاتٍ روائيةً بالغةَ الأثرِ احتلَّت مِساحاتٍ مَكانيةً من فضاء الرواية وخطابها السردي، وتبوأت نوافذ ثقافيةً قصصيَّة مُهمَّةً من مناطق اشتغالاتها المكانية على سبيل الحصر، شخصيَّات مثل، (هَاشم المُسافر وجَوادين وحمزة وفارس رشيد وغيرهم)، ما هي إلَّا أنساق ثقافية مُتجليَّةً وخفيَّة، ومصادر حكائية عديدة تمثَّل نسخةً طبقَ الأصل مُعدَّةً عن وعي وثقافة ومَلَكَةِ زيد الشَّهيد المعرفية وتدويناته التوثيقية التي تشي بصدقٍ وتؤكِّد بتجلٍّ زمكاني عن شروع مشروعه الثقافي الفكري والروائي السردي وتوثيقه التاريخي لمذكراته السيريَّة وهُويته الأدبية والثقافية المُتعدِّدة.

وكلُّ ما يتَّصل بها من رموزٍ وأصواتٍ ثقافيةٍ حُرَّة لها الأثر الكبير في قرار صناعة الحدث السردي وتخليقه الإنتاجي على مدى عُقودٍ طويلةٍ من تعاقب الزمن . وقد أسهمت وَسَتُسهِمُ إبداعيَّاً وفنيَّاً في بناء مُستقبله الإبداعي والفكري كاتباً مُتألِّقاً وإنساناً واعداً بما هو أصيلٌ وجميلٌ في فُنون وميادين الشعر والسرد والترجمة والتدوين والإبداع الذي يُناسب رؤى وأفكار عصرنة الحداثة وتَطلُّعات ما بعد حداثة التفكير؛ لكسر وتحطيم جُدُرِ قِيم المألوف الثقافي والأدبي من الأفكار المُستهلكة والأطر الثقافية الصنميَّة التالفة التي أكلَ الدهر عليها وَشَرِبَ من غبار الزمن مكانياً.

وأنَّ نتائج قيام هذا المشروع الثقافي المُستقبلي لا يمكن أنْ تحدثَ وتظهر نتائجه الأوليَّة شاخصةً على أرض الواقع تنظيراً فحسب، بل ما لم يكن أثره فِعلاً حدثياً إجرائياً وتطبيقياً بأنساقٍ ثقافيةٍ بديلةٍ تقوم مقام تلك النَّمطيَّات المؤسساتية التقليدية الصارمة وتتجاوزها مكانياً على مستوى الإبداع والتفكير الثقافي والإنساني المُتجدِّد الحُرِّ. وأنْ تمنحَ العقل والفكر مِساحةً ثرَّةً من حرية التعبير.

تأصيلُ بِنيةِ الخِطابِ السَّرديِّ لِلمدوَّنَةِ:

السُّؤال القائم الذي بحاجة إلى إجابةٍ نقديةٍ وافيةٍ مُنصفةٍ، كيفَ تَمَّ تَأصيلُ بنية الخطاب في الروايةِ؟ الكتابُ الذي نحن بصدد تحليل وتفكيك عناصره الأوليَّة وأجزائه الأساسيَّة المُهمَّة التي تشكِّل بنية النصوص السرديَّة الكُليَّة للخطاب في المُدوَّنة، هو مُدوَّنة (شَارعُ بَاتا) الروائية لِمؤلِّفها الهُمامِ الجَادِ، وكاتبها الشاعر والقاصِّ والرِّوائي والمُترجم المتنوُّع الإبداع زيد الشَّهيد. والصادرة بطبعتها الأولى عام 2017م عن دار أمل الجديدة للطباعة والنشر والتوزيع في دمشق بسوريا، وبِكَمٍّ عددي طباعي من فئة القطع المتوسِّط الذي بلغ نحو (238) صفحةً اكتملت بها صفحات الرواية وتوثَّقت.

وعلى وفق ذلك الكم النوعي والعددي المُتَّحد تُوحي عتبته العنوانية الكليَّة الأولى (شَارعُ بَاتا) بأنَّنا أمام نصٍّ روائيٍّ طويل التسريد يتحدَّث من خلال متواليته الحكائية المكوَّنة من سبعة فصولٍ قصصية وحكائيَّة فاعلة مع عتباتها الثانوية وتصديراتها المفتاحية عن كثير من الأحداث الخَطيَّة التي توالت وقائعها الحدثية في الزمن القريب الماضي أو الفائت. واستمرَّت خطى آثارها الواقعية إلى الزمن الحالي أو الحاضر.

وربَّما يعيش بعض أبطال قصصها وحكاياتها الآنَ وقع حلاوة فعلها الحدثي الإيجابي، ويتذكَّر بمرارة أبعاد أثرها الذهني والنفسي السلبي على حياته وكفاحه الروحي الذاتي وشعوره بالحزن والندم والأسى الشديد، على الر غم من أن المستقبل الزمكاني كفيلٌ بنسيان ذلك الأثر العصيب وقادر في الوقت ذاته على إخفاء أثر الأحداث والذكريات المُحزنة الأليمة وتلاشيها أثراً بعد أثرٍ .

ومن اللَّوافت السرديَّة لهذا العمل الأدبي أنَّ زيداً الشَّهيد في روايته (شارعُ بَاتا) لا يقوم خطابه السردي على حكايةٍ مركزيةٍ واحدةِ -كما مرَّ بنا التنبيه إليه سلفاً في دارستنا- تخصُّ ثيمة الشارع المذكور ونواة موضوعيته البؤرية السيمائيَّة الرمزيَّة، وإنَّما تقوم على عدة حكاياتٍ إخباريةٍ مَنطقيَّةٍ مُتسلسلةٍ الأحداث في مشاهد ميلودراميتها الحركية المتصاعدة الأثر.

ويبدو أنَّ الرائيَ الشَّهيدَ بوصفه قارئاً نقديَّاً ذكيَّاً واعياً ولمَّاحاً بارعاً قد أفاد كثيراً من الملاحظة النقدية اللَّافتة التي توصَّل إليها الناقد الفرنسي جيرار جينيت في صفحات كتابه النقدي (عودةٌ إلى خطابِ الحكايةِ) التي يروي فيها من أنَّ الحكاية بالأساس لا تقوم على خطاب واحدٍ، وإنَّما تقوم على عدة خطاباتٍ. (جيرار جينيت، عودة إلى خطاب الحكاية، ترجمة وتقديم: محمَّد المعتصم ، المركز الثقافي، بيروت، 2000م، ص 9).

وفي الوقت ذاته إنَّ الخطاب السردي بدوره يقتضي عند جينيت وجود تمثُّلات حضورية للأحداث والأفعال في حين أن مُصطلح (الوصف) يُشير إلى أنه تمثُّلات وصفيَّة للأشياء والشخصيَّات الناتجة عن فعل الوصف. وهذا يشي من حيث تلقي الأمر أو القيام بالعمل، إلى أنَّ الوصف عنده يكون دائماً رهن إشارة السرد وتحت حكم أمره. أي متى ما طلبَ السرد أمراً لبَّى الوصف فعله الطلبي وامتثل بحسن الطاعة والقبول لأمره. أي أنَّ الفعل السردي يأتي أولاً والوصف في المحل الثاني؛ لأنَّ الوصف إمَّا أنّ تكون وظيفته تزينية جمالية، وإما أنْ تكونَ رمزيةً توضُّحُ نفسيةَ شخصياته:

"اِتَّخذنَا الطَّريقَ خَارجينَ مِنْ شَارعِ بَاتَا بِاتجاه ِشَارعِ الجِسرِ، ثُمَّ اِنعطفنَا شَمالاً فَجلسنَا عِندَ أولِ مُقهَى تَتوزَّعُ كَراسيهَا عَلَى الرَّصيفِ المُحاذِي لِلنهرِ. تَأتينَا رَائحةُ دُخانِ النَّراجيلِ (إنَّها النِّعمةُ الأُولَى الَّتي حَلَت فِي المَدينةِ بَعدَ سُقوطِ النِظامِ)، وَتَشيعُ فِي الفَضاءِ رَائحةٌ مُلازمةٌ (هِيَ رَائحةُ الحَشيةِ الَّتي ظَهَرَتْ إلى العَلَنِ بَعدَ أنْ كَانَ حُكمِ اِستخدامِهَا وَالمُتاجرةِ بِهَا الإعدامَ دُونَ رَحمةٍ؛ ظَهَرتْ بَديلاً عَنْ خُمُورٍ كَانتْ شَائعةً لَا اِعتراضَ عَليها مُنِعَتْ بِفتَاوى الأحزابِ..". (شَارعُ بَاتا، ص 62).

وإذا ما أردنا في هذا المقام النقدي التحليلي والتفكيكي من سَمت هذه الدراسة أنْ ندرسَ نظريَّاً وإجرائيَّاً بنية الخطاب السردي لمُدوَّنة (شَارعُ بَاتا) التي تشكِّل بِرُمَّتِهَا بنية النصوص السرديَّة في هذه الرواية التوثيقية المُهمَّة، لا بُدَّ وأنْ نفهمَ وَنُدركَ جيَّداً في هذا السياق من المبنى المعرفي ما معنى مفهوم التأصيل السردي؟ وما جدواه إبداعياُ؟

والتأصيل، هو بالتأكيد يعني البحث والتقصِّي اللُّغوي المعرفي بتأنٍ مُتَّئِدٍ عن الجذور الأولى أو الأصول الأساسيَّة المُهمَّة التي بها تتشكَّل بنية الخطاب السردي للعمل الروائي وتكتمل موضوعيَّاً وجماليَّاً0ومن ثمَّ تحليل العناصر المُهمَّة والأدوات الرئيسة التي تُسهم فعليَّاً في إنتاج تشكيله وتوجيه مساراته وخطوطه الأفقية والعموديَّة الفنيَّة وتقاناته السرديَّة الصحيحة.

وفي ضوء ما تقدَّم من تحليل، لقد نجحَ زيد الشَّهيد في تحويل عتبة (شَارعُ بَاتا) إلى بنيةٍ سرديَّةٍ فاعلةٍ ومتكاملةٍ داخل العمل الأدبي، وبالضبط كتلكَ البنية السردية التي يُعرِّفُهَا اللِّساني مؤسس السيميائيَّات البنوية جوليان جريماس في كتابه (سِيميائيَّات السَّردِ)، والتي يرى بأنها "شبكة من العَلائق المُحاثة للتمظهر، تُصبحُ الفضاء الوحيد الذي يتحدَّد داخله التفكير حول شرط انبثاق الدلالة". (أ.ج جريماس، سيميائيَّات السرد، ترجمة وتقديم: عبد الحميد نوسي، المركز الثقافي العربي ، الدار البيضاء، 2018م، ص 38).

عَناصرُ بِنيةِ الخِطابِ السَّرديِّ:

ويترتَّب على مفهوم ذلك الإجراء، أنَّ بنية الخطاب السردي للمُدوَّنة الروائية تشتمل على مجموعةٍ من العناصر الأساسيَّة التي تكوُّنها فنيَّةُ السرد التعبيري، والتي من أهمها معرفة ما يأتي من العناصر الأربعة المهمَّة التي تُسهم في صنع بنية الحدث وإنتاجه فنيَّاً. وتتمثَّل هذه العناصر بـ (الخطُّ الزمني، والشَّخصيَّاتُ، والحِبكةُ، والوصفُ)، وما يتَّصل بها من مُلحقاتٍ حقليّةٍ دلالية مُهمَّة:

1-الخطُّ الزمني.

يُعدُّ الخطُّ الزمني من أوَّل العناصر الأساسيَّة التي تنتجها بنية الخطاب السردي الموضوعية في رواية (شَارعُ بَاتَا)، والذي يُقصدُ منه الوقوف عند التسلسل الزمكاني لأحداث الرواية؛ وذلك من خلال متوالياته القصصية والحكائيَّة المتنامية. وقد عكف وعي زيد الشَّهيد على الاهتمام بالمفارقة الزمكانية لخطِّ التسلسل الزمني لسير الأحداث؛ وذلك عبر توظيفه الإجرائي لتقنيتي (الاستباق والاسترجاع) الحَدثي الذي يتطلَّبه فعل البناء السردي الإخباري والحكائي القصصي والروائي.

وقد كانت البنية السردية الزمانية للرواية بنيةً خطيَّةً ثقافيةً تراتبيةً منذُ خطِّ الشروع الأوَّل، ولم تكن بنيةً دائريَّةً مُغلقةً، أو بنيةً تتداخل فيها الأزمنة التاريخية وتتشابك أحداثها أسلوبياً إلَّا القليل منها؛ لأنَّ مُهمَّة البنية السردية الأولى هو بناء سرد الأحداث وضبط إيقاعها التعبيري المُتعاقب للمحافظة على ميزان السرد وتأكيد توازنه التاريخي والنأي به عن الخلل أو الوهن الناشز الاهتزاز.ومن خلال أرخنة الإحالات الزمنية للنصِّ حدَّدَ المؤلِّف النابه الشَّهيد بنية الزمن النفسي عند شخصياته في أحداث روايته وكشف عن خطِّ تواترها النفسي والروحي والاجتماعي القلق:

"فِي ضُحَى يَومِ مُنتصفِ آذارَ/ مَارس 2015م حَلَّقَتْ، مِثلَ عِقابٍ أسودً بًهديرٍ طًويلٍ، طَائرةٌ حَربيةٌ فِي السَّماءِ .. دَارتْ حَولَ المَدينةِ عِدةَ دَوراتٍ قَبلَ أنْ تَتَوَارَى، مُعيدةً تِلكَ اللَّحظةَ لَدَى اللَّذينَ رَفَعُوا الرُّؤوسَ يُتابعونَهَا أيامَ الحَربِ الَّتِي أسقطتْ صَدامَاً مُنهيةً حِقبةً حَكَمَ فِيهَا البَعثيونَ خَمسَاً وثَلاثينَ سَنةً، وَتفَاوتَ النَّظرُ بِيومِ دُخولِ القُواتِ الأجنبيَّةِ بَغدادَ وإسقاطِ تِمثالِهِ المَنصوبِ فِي سَاحةِ الفِردوسِ بِذلكَ المَشهدِ المِيلودرامِي الَّذي نَقلتهُ فِضائيَّاتُ العَالمِ أجمعَ". (شِارعُ بَاتا، ص9).

2- الشَّخصيَّاتُ

وتأتي مهمَّة الشخصيات أو القوى الفواعلية الرئيسة والثانوية ودورها الحركي المناط بها في كلِّ قصة من قصص الرواية وحكاياتها التتابعية. وكانت أولى خطوات الراوي زيد الشَّهيد في هذا المقام التطبيقي للرموز والأصوات الفاعلة اختياره لنوعين مُهمَّين من أصناف الشخصيات الروائية وتحديد وظائفها، وتحديد ما هو مُرسل منها ومُرسل إليه على مستوى الإبداع النصِّي والتلقِّي.

النوع الأول هو الشخصيَّات الرئيسة المؤثِّرة في الرواية، والتي عرف عنها بأنَّها من أكثر أنواع الشخصيَّات التنويرية والمعرفية والعلمية التثويريَّة والميَّالة في طموحها الشخصي والجمعي إلى ثقافة الاحتجاج والمواجهة للآخر. ورفض َكل ما هوَ قميء له صلة قُربى بديستوبيا الفساد وظُلم الاستبداد ، ومن يؤمنُ بفوضى كبح اليوتوبيا والحُريَّات التحرُّريَّة ذات الموقف الآيدلوجي الثابت.

وقد تمثَّلت نماذج هذا الصنف من الرموز والأصوات بأسماء كثيرة مرتْ بنا في تحلينا السردي مثل شخصَّية: (حمزة وهاشم المُسافر وجَوادين وفالح عواد وفارس رشيد وهاشم عبد الكريم)، والتي أخذت حركتها الدراميَّة والتَّمثُّليَّة السرديَّة المتنامية مِساحاتٍ كبيرةً وواسعةً من سرديَّات الرواية؛ كونها شخصياتٍ تأصيليةً مهمَّةً لها حضورها وارتباطها الميداني الروحي المائز في أقبية مثابات شارع باتا ومحيطه الخارجي. وقد كشفت نصوص زيد الشَّهيد عن طبيعة الحوار ووظائفه التي يتمُّ من خلالها التعرُّف على الشخصيَّات المُتحاورة وطبيعة العلاقة الخطيَّة فيما بينها:

"سَادتْ فَترةَ السِّتينيَّاتِ مَوجةُ رَحيلٍ عَنِ البِلادِ وَشَهِدَ شَارعُ بَاتَا غِيابَ عَدَدٍ مِنْ شَبابهِ المُفعمينَ بِأملِ التَّغييرِ وَالحاَلمينِ بِالخُروجِ عَنْ رِقعةِ الشِّطرنجِ؛ اِبتدأهَا فَارسُ رشيدٍ، الشَّابُ العَاشقُ لِكُتبِ الفَلسفةِ مَدفوعَاً مِنْ عَمهِ الَّذي سَكَنَ بَغدادَ، وكَانَ مُغرمَاً بِقراءةِ الكُتُبِ المُترجمَةِ، إذْ لَا يَكادُ يَدخُلُ مَكتبةَ مَكنزِي وَيَجدُ كِتاباً جَديدَاً يِقرأُ عَليهِ اِسمَ كَانتَ أوْ دِيكارتَ؛ هِيجلَ وَماركِسَ أو نِيتشة أو هَايدجرَ، أو أرسطو أو أفلاطونَ إلَّا وسَارعَ لِشرائهِ لِيلتَهِمَ فَحواهُ اِلتهامَاُ...". (شَارعُ بَاتا، ص 19)0.

أمَّا النوع الثاني فهو الشخصيَّات الثانوية والتي يقتصر دورها الحقيقي على أنَّها تكميليةٌ مُساعدة على إتمام فِعليِّات الحدث السردي وترابطه زمكانياً مع واقعة الحدث السردي، وإنْ كان دور بعض هذه الشخصيَّات قد فَاقَ في حجم فاعليته الحركية السردية دور الشخصيَّات الرئيسة الأولى في الرواية مثل، شخصيَّة (نَاطُور المَكِّي) الذي يعدُّ من بين الشخصيَّات المحليَّة المُهمَّة والمضيئة بفعلها الحدثي المميَّز. والتي أسهمت إسهاماً مضيئاً في تَأرَخَةِ هُويَّة شخصيَّات شارع باتا وتوثيقها:

"لَقَدَ نَدِمَ نَاطورُ المَكِّي وَهوَ يُدوُّنُ وَفيَّاتَ أهالِي السَّماوةِ فِي دَفترهِ الَّذي اِمتلَأ وَتَناسَلَ إلَى دَفاترَ، نَدِمَ عَلَى تَكريسِ دَفترٍ يُدَوُّنِ فِيهِ أسماءَ مَنَ هَاجرُوا مِنْ شَارِعِ بَاتَا أوْ المَدينةِ بِرُمَّتِهَا. فَهُم لَيسُوا بِالعدَدِ القَليلِ، وَليسَ مِنَ البِّرِ تَفادِي غِيابِهُم وَعدَمِ تَأرخَتِهِ". (شَارعُ بَاتا، ص 233). هكذا وُصِفَتْ شخصيته.

ومن الشخصيَّات الثانويَّة التي أظهرت تمثيلاتها الحركيَّة دراميتَهَا على بساط الواقع السردي للرواية بحضورٍ جميلٍ مثل شخصية، (ليلى ورشيدة وشهلاء وأزهار وكاترينا وغيرها). ويلحظ أنَّ أغلبها يُعدُّ من الشخصيَّات الأنثوية التكميلية المُشاركة لإتمام وقائع الأحداث. ويمكن القول إنَّ زيداً الشَّهيد من خلال نصوصه السرديَّة لهذه الشخصيَّات قدَّم تحليلاً نفسياً وعاطفيَّاً وشعوريَّاً وجدانيَّاً عالياً لشخصياته الفاعلة. كما قدَّمتْ نصوصه السرديَّة توصيفاً تحليليَّاً للبعد الاجتماعي لشخصياته من خلال تتابع أوصافها الخارجية وحركتها الداخلية في محيطها المكاني العملي والعلمي الخاصّ:

"تَسألُنِي لَيلَى عَنْ مَشروعِي المُنشغلِ بِهِ وَتَنظَّمُ إليهَا رَشيدةٌ فِي السُّؤالِ فَأنبرِي أُحدِثهُّنَ عَنْ الشَّاعرةِ الإنكَليزيَّةِ (أدِثِ لِويسَا سِتوَل) وَرَغبتِي بَعدَمَا قَرأتُ لِعديِدِ المَرَّاتِ قَصيدتَهُ الشَّهيرةَ (مَا يَزال المطر يَهطُلُ) فٍي تًرجمتهٍ إلى العًربيَّة[...]وتَسبقُنِي بِمعلومةٍ أنَّ السَّيَّاب تَأثَّر بِهَا وَكَتَبَ رَائعتَهُ (أُنشودةُ المَطرِ) بَعدَمَا حَصَلَ عَلى مَجموعةِ سِتوَل مِنْ أُستاذهِ جَبرَا إبراهيم جَبرَا الَّذي كَانَ يُلقِي مَحاضرةً عَنِ الشِّعر الإِنكَليزِي كَمنهجٍ مُقرَّرِ فِي الجَامعةِ؛ وَكَيفَ أنَّ، السيَّابَ أدخَلَ الأُسطورةَ فِي شِعرهِ بَعدَ ذَلكَ تَأثَّر بِمَا جَاءَ فِي قَصيدةِ سِتوَل عَنِ المَسيحِ المَصلوبِ عَلَى خَشبةِ الصَّليبِ". (شَارعُ بَاتا، ص87). وتكشف ثيمة النصِّ السردي عن سعة الثقافة الأجنبية لهذه الشخصيَّات الثانوية في حوارها مع البطل واهتمامها الجم برموز الأدب العالمي والعربي الثقافية والإبداعية.

3- الحِبكةُ السَّرديَّةُ

ومن العناصر الأساسيَّة الأخرى والمُهمَّة جداً في تأثيث بنية الخطاب السردي وتدشينها في مُدوَّنة (شَارعَ بَاتا) هو عنصر الحِبكة السرديَّة المُتمثَّلة بالإطار العام للرواية، والتي تشتمل في مفهومها العام والخاص على جميع الأحداث والمواقف السردية التي تمرُّ بها حركة الشخصيات في الرواية أو القصة بدأً في أوَّلها وحتى نهاية خاتمتها بشكل تواتري متصاعد في تتابع الأحداث:

"اِنتهيتُ قَبلَ ثَلاثةِ أيامٍ مِنْ تَرجمةِ فَصلٍ كَاملٍ بَعدَمَا أكملتُ تَرجمةَ الفَصلِ الأولِ الَّذي يَدورُ حَولَ عَائلةِ أوكونُور الَّتي تَتألفُ مِنْ ثَلاثِة أنفارٍ: تُومُ، وأمُّهُ وَأختُهُ فيودورَا تَكبرُهُ بِثلاثةِ أعوامٍ. كَانَ الثَّلاثةُ يَعملونَ كَخدمٍ فِي حَانةٍ صَغيرةٍ قُربَ أحدِ مَوانِئ الجَزيرةِ. مَالكُ الحَانةِ يُدعَى سَنيور لُوبيز... وَكَما هُوَ شأنُ شَبابِ شَارعِ بَاتَا عِندَنَا فِي المَدينةِ وَتَطلعُهُم لِحياةٍ مُتغيَّرةٍ تَهبَهُم فَضاءً أوسعَ يِبنونَ مِنْ خِلالِهَا مُستقبلَهُم وَتَجعلُهُم يَعيشونَ الأملَ الَّذي رَسمُوهُ فِي مَخيلتِهُم وَعَزمُوا عَلَى تَطبيقهِ وإحالتهِ واقعَاً يَوميَّاً فَإنَّ تُومَ أوكونور فِي رِوايةِ خَاتِم الأميرِ العَبدُ هُوَ أيضَاً كَانَ يَسعَى مِنْ أجلِ التَّخلُّصِ مِنْ هَيمنةِ سَنيور لُوبيز صَاحبِ الحَانةِ...". (شَارعُ بَاتَا، ص 95).

وقد تجسَّدت الحِبكة السرديَّة لواقعة الحدث الروائية لبنية (شَارعُ بَاتا) بجملةٍ من العناصر والأدوات التكميلية التي تقوم عليها وتستمرُّ الأحداثُ موضوعياً وفنيَّاً. وقد تمثَّلت هذه العناصر بخمسةٍ محدَّدات هي: (البدايةُ والصراعُ والَتَّطوُّر والذروةُ والنهايةً الختاميةُ). وقد ارتأى الرائي زيد الشَّهيد أنْ تكون البداية الأولى لمسروداته الخبريَّة من نقطة اشتغاله المركزي (شَارعُ بَاتا).

وتتضمَّن بداية الرواية التعرُّف على الشخصيَّات والمكان والزمان، وأنَّ زمان الرواية يمتدُّ تأريخيَّاً من الحِقبَات الزمنية التي سبقت أحداثها المجتمعية والدَّولية والإقليمية عام التغيير السياسي لنظام الحكم في عصرنا الحديث وما بعده تاريخياً من تجليَّات وأحداث وتغيَّرات شكلية وجوهرية مُهمَّة.

أمَّا العنصر الثاني من عناصر الحبكة فهو (الصِّراعُ) فقد حدَّدَ الكاتبُ علاقته التواصلية التي واجهت شخصيَّاته في مسألة حُريَّة الفكر والعمل وتحقيق هُوية الذات في صراعها مع الآخر. تلك الأفكار التي جعلت من قصص الرواية أنْ تكون مُثيرةً للمتلقِّي كونهُ صراعاً بين الخير والشرِّ.

ويَعقِبُ بُنيةَ هذا الصراع الدائر بين ثنائيتي (الخير والشرِّ) عنصر (التطوُّر)، وأعني به تطوُّر حركة الأحداث السردية وتناميها وتقدُّمها بشكلٍ منطقيٍ سلسٍ فيه من الدهشة اللَّافتة والذهول النفسي والانجذاب والتشويق للقارئ والرائي.والتطوُّر الذي يسير على خطواتٍ ثابتةٍ صحيحةٍلا فكاكَ عنهُ.

ونصل بسلسلة هذا التطور إلى عنصر (الذَّروةِ)، وهي النقطة الضوئية العُليا التي وصلت فيها مسرودات (شَارعُ بَاتَا) الحكائية إلى أقصى لحظة من لحظات ودرجات التوتر النفسي والذهني الانفعالي والوجداني للمتلقِّي من لذَّة التشويق الإمتاعي الروحي لهذه الذروة الفائقة في ترغيبها وترهيبها، والتي تمثِّل المفارقة السرديَّة لتلك اللَّحظة الهاربة من هرم واقعة الحدث الموضوعيَّة.

ولا بُدَّ لهذه الذَّروة العاليَّة الجودة من نهايةٍ تُحدِّدُ الواقعة القصصيَّة للرواية التي تحلُّ فيها عقدة المشكلة الحدثية وتنتهي استمراريَّة الصِّراع بنهايةٍ توقعيَّةٍ فجائيةٍ تكسر إيقاع المألوف السردي وتهزُّ جوانبه الاعتبارية بالجدِّة والموضوعيَّة التي تُهيمن على فكر القارئ وتُمتِّع نواظره النفسيَّة.

وفي ظلِّ هذا السياق لا يمكن أن ننسى وظيفة (العُقدَة السرديَّة)التي تُعرَفُ بـ (الوحدةِ السَّرديَّةِ)التي وضع لها الناقد رولان بارت تعريفا بأنها" تتألَّف من كلِّ مقطعٍ من القصِّة يُقدِّمُ نفسه كتعبير عن تعالقٍ ما". وتُعدُّ العُقدةُ أداةً تعبيريَّةً تأزُّميَّةً من أهمِّ أدوات السرد القصصي وأكثرها تأثيراً في بنية العمل السردي وجودة خطابه من جهة، وفي عملية التلقِّي النفسي الذهني للقارئ من جهة أخرى.

ويمكن أنْ نعدها نشاطاً ذهنيَّاً وفكريَّاً ذكيَّاً عاليَّاً يُمارسه الكاتب السارد في اِتقان لُعبته السرديَّة والموضوعية مع المتلقّي من أجل تمريرها كفعلٍ سرديٍّ لا بُدَّ منه في التخليق الروائي. والعُقدة جزء لا يتجزأ من الحبكة ودورها المُساعد في دفع أحداث الرواية إلى الأمام وجعلها لُعبَةً مثيرةً في البناء السردي من أجلِ حلِّها حلُاً تدريجياً يقنع المتلقِّي من الناحية السايكولوجية والموضوعية. وقد بذل زيد الشَّهيد جُهداً كبيراً بِحلِّ عُقدَهِ السرديَّة في كلِّ مقاطع حكاياته القصصيَّة في الرواية.

وأنَّ هذه العناصر الخمسة للحبكة السرديَّة لها أهميتها العملية؛ كونها تُساعد على انجذاب القرَّاء للرواية واهتمامهم بها، وتُمكِّن من نقل رسالة الكاتب الإبداعية وإيصالهاإلى القارئ، وتحقِّق الغرض الروحي المقصود من الرواية. وأنَّ الغرض الانزياحي الذي يتوخَّاه زيد الشَّهيد منها إثارة الفكر بالمؤانسة والترفيه والإمتاع واكتساب فُنُون المعرفة العلميَّة والأدبيَّة وأصول التعليم الحديثة:

"غَادَرَ بِزمالةِ قَصدِ الحُصولِ عَلَى شَهادةِ البكلوريوسِ فِي التَّاريخِ وَاضعَاً فِي ذِهنهِ أنْ يَكونَ يَومَاً مَا مُنقِّبَاً لَا سِيَّمَا وَأُوروكُ لَا تَبعدُ عَنْ السَّماوةِ غَيرَ ثَلاثينَ مِيلاً، وَجلجامشُ يَنامُ هُناكَ.يَحلمُ أشرفُ بِهمسةٍ كُلَّمَا وَضعَ رَأسَهُ عَلَى الوِسادةِ وَتَساءَلَ مَتَى تَتَحقَّقُ أُمنيةُ اِرتقائِهِ مُنقِّبَاً يَدخلُ عَلَى شَعبِ أُوروكَ وَيَدورُ في شَوارعَ وَأزقةِ المَدينةِ. يَخرجُ إلَى بَساتينِهَا، ويُصاحِبُ الصَّيادينَ فِي زَوارقِهُم وَهيَ تَجوبُ الفُراتَ، وَتَطَأُ قَدَمُةُ سُلَّمَ الزَّقورةِ لِيرتقيَ إلَى إنليلَ وآنو وإينانا، هنا حيث سَينحنِي بِتحيةِ السُّومريينَ وَيضعُ الكّفَّ عَلَى الصَّدرِ عَلامةَ التُّقَى وَالخُضوعِ لِلآلهَةِ". (شارعُ باتا، ص 83).

4- الوَصفُ أو (التَّوصيفُ)

ونقف عند آخر عنصر من عناصر بنية الخطاب السردي المُتمثِّلة بعنصر الوصف أو التوصيف التفصيلي والواقعي لوحدتي المكان والزمان والشخصيَّات المرتبطة فاعليتها بأحداث الرواية. والوصف التسريدي التفصيلي المُيسَّر الذي أقامته أسلوبية وموهبة زيد الشَّهيد الواقعية والتخيُّليَّة في فرش مدوَّنة الرواية (شَارعُ بَاتا) ساعدت وظائفه الميدانية في الفضاء السردي لبنية الخطاب في التعرُّف على شخصيَّات الرواية من الناحية النفسية والاجتماعيَّة والثقافيَّة.فضلاً عن التعرُّف الدقيق على المثابات والأمكنة التأصيلية لمسرح وقائع أحداث الرواية وأبعادها التكوينية الأخرى، فلنقرأ في هذا السياق كيف يصف الشَّهيد السيرة الذاتية لتاريخ وهُوية (شَارعُ بَاتا) التأصيليِّة قديماً وحديثاً:

"شَارعَ بَاتَا .. سِيرَةٌ ذَاتيةٌ. الزَّحامَ وَكَثرةُ النَّاسِ، كَمَا أبصرُهَ الآنَ ظَاهرةً لًافتةً؟ وَشَارعُ بَاتَا اليومَ لَيسَ كَشارِعِ بَاتَا قَبلَ خَمسينَ عَامَاً.. فَهوَ يَمُورُ بِمَنْ جَاءَ لِيتبضَعَ فَامتَلَأ كَكُلِّ الَّذينَ اِبتدَأُوا فَقراءَ فَجاهَدُوا، حَتَّى اِغتنُوا وَتَشبَّعُوا بِالغِنَى. فَقبلَ خَمسينَ عَامَاً كَانتِ الحَوانيتُ فِي الشَّارعِ قَليلةَ العَدَدِ وِبائسةً تَترَاجعُ أمامَ عَددِ البُيوتِ أبوابُها خَشبيةٌ بِنوافذَ عَاليةً؛ والنَّاسُ مِنْ سَكنةِ الشَّارعِ لَا يَتعدُّونَ العَشَرَاتِ، والسَّماوةُ بِرُمَّتِها لَا تَتجاوزُ الآلافَ..." . (شَارعُ بَاتَا، ص 40).

ومن نوافل القول الختامية المُستحبة في مضمار هذا المجال السردي أنَّ اهتمام الكاتب بتأصيل وتفعيل بنية الخطاب السردي لشارع باتا ساعدنا كثيراً على فهم نظام البنية السردية لهذه الرواية، وكيفية بنائها القصصي وتشكيلها الفنِّي، وأفادنا في تحليل موضوعاتها الدلالية وسماتها الفكرية المشتركة. وقدَّم لنا المساعدة السرديَّة المرجوة في فهم مهارات فنيَّة زيد الشَّهيد التعبيرية والكتابية، وكيفية بنائه لحكاياتٍ نصيَّةٍ روائيةٍ فعَّالةٍ وماتعة الأثر على مستوى الخطاب النصِّي والفكري.

خَاتمةُ الرِّوايةِ وَفَجائيةُ السَّردِ التَّدوينِي

تُشكِّلُ مُدوُّنةُ (شَارعُ بَاتَا) للسارد المُتألِّق زيد الشَّهيد مع مدونتيهِ السابقتينِ رواية (أفراسُ الأعوامِ)، و(تَراجيديا مَدينةٍ) إحدى ثالوث مشروعه الثقافي الميتا سردي التدويني لتوثيق تاريخ مدينة السَّماوة وذاكرة الحياة الإنسانية فيها مُتخذاً من هذا المِيتَا تَاريخ الَّسردي الزمكاني مرتكزاً من مرتكزاتها البنيوية في الحديث عن الذات الإنسانية وعن نتاجها الثقافي والعلمي وعن الهمِّ المستقبلي والأمني والاستقرار والتهديد والظلم والحصار والتهميش، وعن التحرُّر من نقرة السلمان، وجميع مفاصل الحياة.وقد أفرغ زيد في هذه الرواية خلاصة ثقافته المعرفية والأدبية عامة والترجمة بشكلٍ خاصٍّ.

فإذا كانت هذه المسرودات النصيَّة تُمثِّل حُمولات الرواية وعصب رسالتها الفكرية في فصولها السبعة، وكان الرحيل أو الهجرة الهمَّ الأول لساردها زيد الشهيد، والشغل الشاغل لمطامح وآمال وتمنيَّات شخصياتها المُهمَّشة على مدى أحداث الرواية بأجمعها، فإنَّ الأمل بتحقيقها حُلماً قد تبدَّد وتعطَّلَ إجراؤه عند بطل الرواية (حمزة الأب)، أو عند ساردها (العليم) زيد الشَّهيد في منتهى خاتمتها الفجائية الصادمة والمُدهشة لتوقُّعات القارئ وكسر جداره الذهني المألوف.

وأنَّ مغزى قصديَّات ذلك التعطيل رُبَّما كان تعبيراً صادقاً عن مدى حُبِّه السرمدي وتشبُّثه الأبدي بمدينته الأُمِّ السَّماوة ووفاء لوطنه الأبِّ الكبير العراق، وإيثاراً لافتاً منه بها لِوَلديهِ الشَّابينِ (حارث وميمون) رمزي الغد والمستقبل الحياتي الواعد. وقد تَرجمَ الشَّهيد إحساسه بوحاً فأضمَّرَ:

"وَأنَا أنتهِي مِنْ كِتابةِ هذهِ الكَلماتِ، مُتذكرَاًآمالَ وَرغباتِ وَخُططَ تَوم أوكُونور الفَاشلةَ فِي الهُجرةِ وتَغييرَ الحَالِ دَقَّ جَرسُ البَابِ الخَارجيَّ.. قَليلاً وًدخلَ عَلَيَّ مَيمونُ... لَمْ يَكُنْ قَدْ زَارَنَا مُنذُ شَهرٍ. بَعدَ التَّحيةِ وَتَلقِي التَّحيَّةِ رَأيتُ فِي رَأسهِ شَيئاً يَمُورُ..عَيناهُ وَشَتَا بِذلكِ.بَعدَ لَحظةٍ وَلَحظاتِ فَجَّرَ مَا جَاءَ مِنْ أجلِهِ بِتصميمٍ وَحَماسةٍ:أبي.. أُفكِّرُ بِالهُجرِةِ مَعَ المُهاجرينَ.. هُمُ لَيسُوا بِأفضلِ مِنِّي. َوبَعدَ سَاعةٍ؛ سَاعةٍ لاَ غَيرَ دَقَّ جَرَسُ البّابِ مِنْ جَديدِ..أسمعُ صوتَ وَلَدِي الأكبرَ حَارثٍ يَدخُلُ.. يُلقِي التَّحيَّةَ عَلَى أُمِّهِ وَيَسألُ عَنِّي.. وِأسمعُهٌ يٌكلِّمُها قَائِلاً: (أُمِّي، أُفكِّرُ بِالهُهْ.....)". (شَارِعُ بَاتا، ص 238).

إنَّ قراءة أسلوبيةً لموضوعة الهجرة والارتحال تؤكِّد بما لا يقبل الشكَّ مما صرَّح به السارد أو الرائي في خاتمته الفجائية، أنَّها مجرد آمال ورغبات ذاتية فاشلة قد لا تُحقِّقُ الهدف أو المبتغى القصدي المنشود منها. وقد شبَّهَ الكاتب والروائي زيد الشَّهيد قضية الهجرة بمحاولة شخصية البطل الدنماركي المندفع (الفتى أوكونرو)، والتي باءت بالفشل الذريع كلُّ محاولاته ومغامراته وخطِّطه مع صاحب الحانة المُحتكِر لوبير لتغيبر واقع الحال مع أفراد عائلته الثلاثة الذين هم شخوص وأفراد رواية (خَاتمُ الأميرِ العَبدُ) الدنماركية الأصل التي ترجمها السارد أو الراوي العليم.

هذا من جانب سردي تناصِّي توافقي وتحوَّلي، ومن جانب فكري وتحليلي آخر أنَّ الهجرة التي وردت على لسان وَلَدَي البطل (ميمون وحارث) كانت مُجردَ فكرةٍ (أُفكِرُ بِالهُجرةِ...)، وليست قراراً قطعيَّاً نهائياً لا رجعة عنه اُتُّخذ بها. إذن التفكير بالأمر شيء والقرار الحاسم شيء آخر لا بدَّ منه.

وهذا التحليل المنطقي لسرديَّة الهجرة يُحيلنا فنيَّاً إلى أن الخاتمة ليست مجرد خاتمةٍ فجائيةٍ تتَّسم بالإمتاع والإدهاش لذائقة المتلقِّي فحسب، وإنَّما هي أيضاً خاتمة موضوعيَّة تتَّسم بالانفتاح لإشراك القارئ الواعي أو المتلقِّي النابه وتوجيه رغبته وإبداء رأيه الشخصي إلى الإسهام جديَّاً في التفكير التواصلي بإيجاد حلٍّ إيجابي أو سلبي مُناسب لخاتمة موضوع الهجرة. وهذا ما كان يسعى إليه الشَّهيد بجدٍّ في مشروعه التدويني لأرخنة وتوثيق الميتا سرد الحداثوي بلُغةٍ جديدةٍ وأُسلوبٍ واعٍ.

وتشي أسلوبيَّاً قراءة بواكير هذه الخاتمة النصيَّة إلى أنَّه عندما تكون شخصَّية بطل الرواية السارد هي نفسها شخصيَّة الروائي الكاتب بضمير الـ (أنا) الحاضر والفاعل وتأكيد أثر فاعليته الحَدثِيَّة والموضوعية فيصبح شاهداً عينيَّاً بَصَرِيَّاً على دراميَّة مسرح واقعة الحدث السرديَّة.

ومما يُضفي على هذه التجربة التدوينية وأرخنتها التوثيقية مصداقيةً عاطفية وموضوعيةً في ذاكرة سرديَّات المدن التاريخية. وأنَّ فعل هذا النموذج من الإبداع يظهر تداخلاً بين التوثيق التاريخي والتجربة الشخصية حيث يكون الكاتب سارداً وشاهداً حيَّاَ يعكس صور حِدَّة الصراع البيئي بين الاثنين في (شَارعُ بَاتا). بقي أنْ نذكر أنَّ ارتباط الكاتب المبدع زيد الشَّهيد بالواقع الزمكاني التاريخي وبالشخصيات الفواعلية كان ارتباطاً روحيَّاً عميقاً يَمُتُّ بصلة رَحِمٍ كبيرةٍ لهذه المدينة التي خلَّدها في نتاجاته الشعرية والنثرية لتكون شاهدةً تاريخيةً على فعله الإبداعي والثقافي.

فَائدةٌ سرديَّة

لم تكن مُدوّنة (شَارعُ باتا) مجرد مشروع سردي تدويني، وتوثيق تأريخي دقيق للحكايات والمدنٍ والمثاباتٍ واشتغال للأدوات السردية الفاعلة الأثر، وإنَّما احتفت صفحات هذه الرواية بمجموعة كبيرة ثرَّةٍ من القيم المعرفية والأفكار الفلسفية والأدبية والشعرية والمرويَّات الشعبية والسير الذاتية والتراجم اللُّغوية والآثار الإبداعية والفنيَّة للأصوات والرموز الثقافيَّة المَحليَّة والعربيَّة والعالميَّة.

تلك الثقافات والمعارف والفنون التي وظَّفها زيد الشَّهيد وسعى لها أن تكون فناراتٍ ضوئيةً لافتةً التوهج تتوزَّع بعفويةٍ وتخطيطٍ مُتقنٍ على فضاءات الرواية، وتضيء بأحداثها السرديَّة التنويريَّة مفاصل وحدة العمل الأدبي السردي، وتُضفي عليه نسغاً روحيَّاً جديداً من عناصر القوُّة وجماليَّات الإبداع والابتداع الفنِّي الذي يُميُّز العمل الأدبي المكين ويحفظ له خلودَهُ الزمني. وهذا ما يُميَّز أُسلوبية زيد الشَّهيد الانزياحيَّة التعبيريَّة المُقدَامة وتوهُّج معجمه التسريدي في كتاباته الإبداعيَّة.

***

د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيٌّ

في المثقف اليوم