قراءات نقدية

كوثر بلعابي: الكتابة بمواصفات تونسيّة

في تجربة "حسونة المصباحي" الأدبيّة

** في المستهلّ: منذ انشغل الأدباء العرب مع منتصف الق 20 وحتى قبل ذلك بمسألة التّجديد والتّحديث والحداثة كلّ بطريقته الخاصّة وانطلاقا من مرجعيّاته الخاصّة؛ منذ ذلك الحين وهم ملاحَقون بهاجس إشكالين أساسيّن:

- الأوّل هو أيّةَ حداثة تناسبنا ونحن نعيش تحت وطأة حضارة متهالكة انهكتها الاعتداءات والانحدارات على جميع المستويات وفي سياق ثقافة متّهمة بالانغلاق والتّحجّر وحتّى لغتها متّهمة بالقصور عن استيعاب عصرها بعلومه ونظريّاته ومظاهر تمدّنه وسرعة تحوّلاته وتقلّباته؟

- الثّاني هو كيف نواكب حداثة الآداب العالميّة وخاصّة منها الغربيّة التي فرضت نفسها علينا بحكم تلك العوامل والتّعاملات الاستعماريّة التي حكمت ولاتزال علاقتَنا بالغرب فتستفيد منها حداثتُنا دون أن تنسلخ عن ذاتها الثّقافيّة اوتُهَجّن فتصبحَ لقيطة؟؟

هذان الإشكالان كانا وراء ارتباط ابداعات الأدباء بالموروث التّاريخيّ والثّقافيّ القوميّ والمحلّيّ على حدّ سواء وهي تختبر في الأثناء مسارات مختلفة للحداثة . تناولت هذه الإبداعات الموضوعات الوجوديّةَ والإنسانيةَ والإجتماعيّةَ والسّياسيّةَ المعاصرةَ برؤيا تواشجت فيها المدارسُ الأدبيّة والنّظريّات الفلسفيّة الأوروبية والرّوسيّة مع النّصّ القرآني والموروث الأدبي شعرا ونثرا وأسماء الشخصيّات التاريخية وحتى الأنبياء فضلا عن الأحداث خاصّة ما تعلّق منها بالثّورات والانتصارات فكانت أعلاق من القصائد في الشعر مثل: المسيح بعد الصّلب للسّيّاب ومأساة الحلّاج لصلاح عبد الصّبور... وفي النّثر وخاصّة في السّرديّات مثل أهل الكهف للحكيم ومغامرة رأس المملوك جابر لسعد الله ونّوس وصولا إلى عزازيل يوسف زيدان (2008)..

وهنا لا يمكن أن نستثني حركةَ الأدب في تونس وحرصَ روّادها على مواكبة المجرايات الأدبيّة العربيّة والعالميّة لذلك كانت مؤلفات المسعدي (مثلا من أيام عمران) وكانت (مراد الثالث) للحبيب بولعراس ثمّ (ديوان الزنج وثورة صاحب الحمار) لعزّ الدّين المدني... هذا الارتباط بالموروث وفي سياق حداثيّ يندرج ضمن ما سمّاه غالي شكري ب(حفظ الأمن الثّقافي) الذي بدأت تتغيّر رؤيا الأدباء تجاهه وتجاه مفهوم الحداثة في حدّ ذاته مع مستهلّ القرن 21 وخاصّة بعد أحداث ما سُمّي ثورة 2011 وتبعاتها..

في هذه المرحلة أصبح الاهتمام منصبّا أكثر على التّعامل مع الموروث ليس كمادّة موضوعات يتمّ توظيفها فنّيّا ودلاليّا فقط إنّما كأبجديّة ثقافيّة تمكّن من فتح أمداء لا حدّ لها من طرق تجديد الخطاب الأدبي بأنواعه فنّا ومعنى والتّصرّف فيه على قاعدة المحاورة المستمرة مع الأدب العالمي.. وعلى قاعدة التفاعل الإيجابي مع الواقع الرّاهن بقضاياه ومشاغله الانسانيّة والقوميّة والمحلّيّة وتفاصيل المَعيش اليومّي في بعدَيه الفرديّ والجماعيّ.. ولعلّ هذا ما أدركه في فترة متقدّمة بعض الرّوائيين العرب أمثال السّوري هاني الرّاهب في رواية الوباء (1983) والتّونسيّين حسنين بن عمو خاصّة في رواية " باب العلوج " (1988) وحسونة المصباحي في قصصه منها "ليلة الغرباء" وخاصّة رواية " هلوسات ترشيش" (1995) وما جاء بعدها.. واللّافت أنّ هذه الطريقة في توظيف التّاريخ والمورث في الخطاب الأدبيّ والسّرديّ خصوصا بقدر توسّعها تاريخيّا لدي ادبائنا اليوم انحسرت جغرافيّا منصبّة على ماهو محلّيّ لتشمل إلى جانب التاريخ والموروث العربي ما كان سابقا له في تونس وما لحق به من أحداث القرنين 19 و20 في إطار رؤيا أدبيّة حداثيّة قوامها الاختزال الفنّي لأكثر ما أمكن من المادّة التاريخيّة في أقلّ ما أمكن من اللّحظة الإبداعيّة المنصبّة في مجملها على الواقع التّونسي المحلّيّ وذلك لا يعني البتّة أنّ هؤلاء الأدباء يكتبون بمبادئ المدرسة الواقعيّة إنّما هي كتابة جديدة وليدة رؤيا جديدة تجاه الوجود والحياة عموما وتجاه الذّات والإبداع خصوصا وهي في سرديّات العديد من ادبائنا اليوم؛ وعلى رأسهم المرحوم حسونة المصباحي؛ كتابة اعتبرها بمواصفات تونسية ربّما نستطيع أن نعتبرها من وسائل (حفظ الأمن الثّقافي التّونسي) لذلك أمكنني أن اشرّع لنفسي تناول تجربة الكتابة لدى الأديب حسونة المصباحي من هذا المدخل .

** في تجربة حسونة المصباحي الأدبيّة من حيث مُواصفاتُها التّونسيّة:

من ضمن ما قرأته عن المرحوم حسونة المصباحي ما كتبه الأديب المصري يوسف إدريس عمّا ترشح به كتابات أديبنا من ملامح الرّوح التونسيّة والشّخصيّة التّونسيّة قوله: (يكفي أن تقرأ قصّة واحدة لحسونة المصباحي لكي تعرف كيف يعيش الإنسان التّونسيّ وكيف يفكّر وما هي حكاياته وأساطيره الخاصّة كما لو أنّك عشت في تونس عشرات السّنين)

وكذلك ما كتبه النّاقد علي قاسم في أحد أعداد صحيفة العرب عن أصداء الرّيف التّونسي التي لا تكاد تخلو منها مختلف كتابات المصباحي ليس من منظور رومنسي يحفل بما ميّز المشهد التونسي من جمال الطبيعة وتنوّع تضاريسها ولكن من منظور الوعي بعذابات الأنسان التّونسيّ الذي يكابد قسوة ظروف العيش الأجتماعيّة والمادّيّة والمناخيّة ومن بين ما كتبه علي قاسم: (حمل حسونة المصباحي هموم التّونسيين وأصواتهم خاصّة الذين يعيشون بشظف في الأرياف القصيّة وفي هامش المدن والأحياء الشّعبيّة أينما كتب وكيفما كتب قصصَه ورواياتِه وحتى مقالاتِه ناهيك عن رحلاته وترجماته. فشفّت كتاباته عن مثقّف تنويريّ وكاتب ثَوريّ آثر أن يكون ابن بيئته بكلّ طباعها وتقلّباتها بجرأة ملهمة وبروح مثقّف أخلص حتّى النّهاية للأدب ولذاته) قد يتبادر إلى الأذهان من خلال هذا الرّأي أن أديبنا كان يكتب بمبادئ المدرسة الواقعيّة وهو الذي عُرف بتمرّده على القيود والقوالب وحتّى الأنماط وبإيمانه العميق بحرّيّة الكتابة وقد أكّد ذلك بنفسه في عدّة تصريحات ومناسبات؛؛ ومن بين ما أثِر عنه قوله: (الكتابة حرّة أو لا تكون وأنا حرصتُ منذ بدايتي على ان أكون دائم التّمرّد على كلّ أشكال التّقيّد في الكتابة مهما كانت) ذلك أن الكتابة عن ملامح التّونسيّين وعن واقعهم عند أديبنا لم تكن مجرّد انعكاس لمعالم الرّيف في القيروان أو غيرها من الجهات ولا لتراثه الفلكلوري بل كانت صورة لتونس الحقيقية بزواياها المعتّمة.. تونس التي كما كتب عنها على لسان إحدى شخصيّات روايته ألأخيرة : أرصفة الشّتات (تحتاج ان يخضلّ فيها العيش الكريم وتشرق فيها شمس الحريّة.. والعبارة لأديبنا أوردها على لسان إحدى شخصيات رواية حكاية تونسيْة) صاغها أديبنا مشاهد مستفزّة تثير في ذهن القرّاء الأسئلة (لماذا نحن هكذا ولسنا على صورة مخالفة ؟؟) لذلك انصاعت له وبجودة فنّيّة عالية تلك اللغة الاحتجاجيّة الحادْة المنسجمة مع مزاجه النّافر بلا تلطيف او تخفيف هي لغة المزاج التونسي حين يسخر وحين يغضب وينقم كما انصاعت له تلك الأساليب السّرديّة المتهادية بين التدرّج والتّلولب فكتب بشاعة الواقع ومرارة العيش وانهيار القيم في تونس وبعض المدن العربية منها الدّار البيضاء (خاصّة في كتاب " التّيه " وهو وإن كان من صنف أدب الرّحلة لا يخلو من سرد روائيّ) بجمالية فنّيّة فائقة تخرج بالقارئ من مجرّد النّفور الانطباعي تجاه تلك الظواهر السلبيّة إلى تأمّلها بوعي عميق بفعل جماليّة تلك الصّياغة الفنّية المؤثّرة للممجوج من المظاهر والوقائع والسلوكات.

فجاءت الأحداث خاصّة في رواياته ومؤلّفاته السّرديّة عموما متجذّرة في سياقاتها التاريخيّة ومحيطها الجغرافي ومرجعياتها الثقافية المعرفية حتّى أنّه عمد إلى حشد المعلومات المتنوّعة حولها حشدا وأساسا ما تعلْق منها بتاريخ تونس وطبيعة الثّقافة التونسيّة ومستجدّاتها السّلبيّة قبل الإيجابيّة وأنواع المثقّفين وهنات البعض منهم (رواية: لا نسبح في النّهر مرّتين)

فحتى وهو يرسم شخصياته الرّوائية نجده يرسم ملامح الفلّاح التونسي والعامل والموظف والمثقّف (رواية: ليلة حديقة الشّتاء التي تحدّث فيها عن الشّعر والفلسفة وتجلّت في شخصياتها خاصّة ملامح الصغيّر أولاد احمد والعفيف الأخضر) والمرأة في علاقتها بالرّجل وبالعرف الاجتماعيّ السائد بين الرّيف التونسي والمدينة (كما هو الحال في رواية: حكاية تونسيّة) بل ان اغلبها نماذج استقدمها من محيطه الاجتماعي والثقافي وحتى العائلي (مثلا قصّة: حكاية ابنة عمّتي هنيّة) ونجده في الأثناء يسلّط الضّوء على تاريخ الفرد ويحيطه بالأحداث التاريخية والظواهر الاجتماعية عبر تقنية الاسترجاع حينا وعبر تقنية الاستبطان آخر ليكشف من خلاله عن تاريخ جيل وسياسة دولة وقيم مجتمع بأسره (مثلما فعل في رواية: محن تونسيّة) ليتأمّلها ويحلّلها ويبدي موقفه تجاهها دون تورية حتّى باتت قصصه ورواياته حمّالة رؤى فلسفية وإيديولوجية وأحيانا مسرحا لتصفية حساباته مع بعض القوى السّياسيّة والأطراف التقافيّة في تونس (منها رواية: الآخرون مثلا وجزء هامّ من روايته الأخيرة: على أرصفة الشّتات التي عالج فيها أوضاع المثقف التونسي في تونس وفي المهجر وكذلك حياة التونسيين في المهجر بعد أحداث 2011) ولا ينبغي أن ننسى هنا الأماكن المشهور منها والمغمور وخاصة في القيروان وريفها وفي مدن الوطن القبلي وتونس العاصمة خاصّة والتي تحضر باسمائها ومعالمها التّونسيّة وهي تحتضن سرّ هذا الكيان المجتمعي الملغز الذي يحمل فسيفساء من الجينات من حقب تاريخية تمتدّ فتتعدّد من عهود انطالاس وحنّبعل إلى عهود الكاهنة وإبراهيم بن الأغلب والعهد الحفصي والمعز الفاطمي وصولا إلى عهود الدّغباجي وبن غذاهم و" تورة 2011 " وتبعاتها .. علما وأنّ مختلف الأحداث والأسماء التي عرفتها تونس على امتداد هذه العهود حاضرة في كتابات المصباحي سواء بِسِماتها التّاريخيّة او بما التبست به روائيّا من سمات خياليّة وفنّيّة كما في رواية: (هلوسات ترشيش).

إنّ المتأمّل في كتابات المصباحي أنها جميعها بما في ذلك حتى بعض مقالاته تتقاطع فيها أنماط الكتابة شعرا ونثرا يُلقي عليها التّرحالُ بظِلالِه لتعكس ذاتا هائمة في الوجود هامية كالماء تجري وهي تجوب الأزمنة والأمكنة؛ لذلك أعتبرها النّقّاد خاصّة من أصدقائه المتابعين لتجربته الأدبيّة عن كثب (اعتبروها) سفرا متواصلا متعدّد الأبعاد نحو أعماق الذاكرة التّونسيّة في الأرياف القصيّة (خاصّة في جهة القيروان) وفي المدن وأحيائها الشّعبيّة (خاصّة تونس العاصمة) ونحو أمداء الحضارة الإنسانيّة بشكل مكّنه من بلوغ ضفاف العالميّة خاصّة نحو ضفاف ذاته المفكّرة والباحثة دون هوادة عن كتابةٍ لم تتحقّق له أو لم يَظفَر بها بعدُ .

** في المنتهى:

لقد صاغ حسونة المصباحي في كتاباته بأنواعها روحه المسكونة بتونسيّتها وان شئنا بمزاجها القيروانيّ المشاكس صياغة ادبيّة أغناها رصيد ثقافيّ ضخم ومتنوّع وصاغ في الأثناء وجدان التّونسيّين في نخوتهم وأفراحهم وانكساراتهم وأحلامهم ونضالاتهم.. وقد جعل لوحاته السّرديّة تسع الأماكن من جبال وبحر وحقول وطرق موحلة وأحياء بائسة وأزقّة ومقاه وو جعلها تسع كلّ تلك الأماكن الطّافحة بالمواجع والنّابضة بالحياة.. وتحضرني في هذا السّياق تدوينة قرأتها في " الحساب الفيسبوكي" لكمال العيّادي (الأديب المشاكس ابن القيروان بِدَوره) منذ بضع سنوات ذكر فيها أنّه لم يعرف أحدا كتب ذاته كما هي بمختلف أحوالها المتناقضة مثله غير حسونة المصباحي؛ وأذكر من بين هذه الأحوال المتناقضة التي تحدّث عنها: العَته والعقل / الحدّة واللّين / المرارة والحلاوة / قلّة الأدب وكثرة الأدب... فنخلص إلى أنّ هذا الانغماس في الذّات بالنسبة إلى المرحوم المصباحي هو في الأصل انسياق وراء كتابة ذاته بجيناتها التونسيّة كما هي إذ لم يؤثر فيها الغياب المادّي والعيش في المهجر بعيدا عن تونس التي كتبها كما كانت وكما آلت بما فيها وبمَن فيها مدفوعا بشعور الحنين وعفويّة الكتابة النّابعة من عمق التّجربة الحياتيّة والثقافيّة أكثر منه خيار فكريّ وفنّيّ بدافع (حفظ الأمن الثّقافيّ التّونسيّ) ...

***

بقلم الأدبية: كوثر البلعابي

في المثقف اليوم