قراءات نقدية

ميلود لقاح: الهوية المهددة في قصيدة "وقوع الغريب على نفسه في الغريب"

لمحمود درويش

مدخـــل: في بداية تسعينيات القرن الماضي دخل الشاعر محمود درويش مرحلة إبداعية جديدة حاول من خلالها تجاوز مرحلة سابقة جعلته "شاعر القضية الفلسطينية"، وهو ما لم يرفضه درويش، لكنه كان يرفض أن يُخنق في أفق إبداعي فلسطيني؛ فلطالما كان يلوم النقادَ على ذلك. وعَبَّر عن قلقه في عدد من حواراته من قَـرْنِ اسمه في كل مناسبة بقصيدته الخالدة "سجل أنا عربي"، التي تُمَثِّل مرحلة فنية متقدمة في تجربة درويش الثرة، والتي عمل جاهدا على تجاوزها على اعتبار أنها تمثل مرحلة البدايات؛ فانتقل إلى مرحلة إبداعية جديدة نستطيع القول إنها بدأت مع ديوانه (لماذا تركت الحصان وحيدا)(1)، واستمرت في عدد من دواوينه مثل (كزهر اللوز أو أبعد)(2) و( سرير الغريبة)(3) محافظا على النفس الشعري نفسه والهم الذاتي والغوص في التفاصيل الدقيقة للارتقاء بما هو يومي عابرٍ إلى مستوى الكونية الإنسانية؛ مع نهل عميق من شتى المعارف والمرجعيات بشتى ضروبها ومنابعها شرقا وغربا، واستطاع أن يحول (التغريبة الفلسطينية) إلى رمز للاغتراب البشريّ والكوني.

"إن الدفق الشعري الخلاق يكمن عند محمود درويش في قصائد هذه الدواوين التي تتميز عن سابقاتها بذلك الامتلاك المتميز للغة الاستعارية المتفردة، وذلك الانسياب الإيقاعي الساحـر." (4)

في ديوان (سرير الغريبة) يستنطق درويش الأنثى ويقَوِّلها ما لم تستطع قوله، يسافر في جوهرها الأنثوي وينبش في ذاكرتها ومشاعرها ورؤاها ويسبر أغوارها. ومهما فعل لن يرى كل ما يريد رؤيته في عالمها، لـذا تقول له "تخيل، ولو مرة أنك امرأة لترى ما أرى". إن المرأة عند درويش ليست امرأة نزار قبّاني، أو المرأة المشتهاة في شعر الغزل العربي، إنّها امرأة من إبداعه، يصورها كما يراها أو يشتهيها وهي، كما في جُلِّ أشعاره، متعدِّدَةُ المظاهـر فهي الأم حينا وهي الحبيبة وهي الأرض أيضا؛ إنها في فكر درويش تتسامى على الزمان والمكان؛ يتحدث عنها بكل شفافية وحذر من أن يخدش عالمها الساحر والآســر الذي يصنعه بأشعاره البهية مع نرجسية جلية، فبالرغم من كل ذلك تعشق أشعاره وتغار منها.

قصيدة (وقوع الغريب على نفسِه في الغريب) من روائع ديوان سرير الغريبة. يبدأها درويش بنَفَسٍ صوفي في قوله (واحد نحن في اثنين) يستحضر فيه "مسألة الحلول" التي قال بها المتصوفة مثل أبي منصور الحلاج الـذي يقول في بيتيه الشهيرين(7):

أنا مَنْ أهْوى ومَنْ أهْوى أنا **** نَحْنُ روحانِ حَلَلْنا بَدنا

فَإذا أبْصرتَنــي أبْصَرتَــهُ  ***  وَإذا أبْصَــرْتَـــــــه أبْصَرْتَنا

وهو تعبير يشكل مدى ارتباط الشاعر بأنثاه حدَّ التماهي والحلول، ولا حلول إلا من قِبَل عاشق متفانٍ في عشق مولاه/ معشوقته، إنه عشق صوفي عميق، وليس عشقا شهوانيا لأنه الشاعر الشفيف الذي يؤثث ملامح المرأة السامية لديه بأشعاره. وصفة التوحد هذه تُنبئ القارئ بما يشترك فيه الطرفان؛ بدءا باعتماد ضمير الجمع المتكلم؛ إنهما من دون هوية (لا اسم لنا((8( وغريبان، متى؟ عندما يتأمل الغريب نفسه في المكان والزمان الغريبين يكتشف الهوية المشتركة الضائعة. ولم يبق من الأرض سوى الظلِّ "ظلِّ الحديقة/ الأرض والوطن" ذاك الظل الذي يشكل الخيال، بالرغم من أنه يشتبه بالأصل فهو شيء آخر غير حقيقي، له جماله الخاص وحضوره المميز في الذاكرة، إنه ظل لشيء بعيد متوغل في الكيان؛ وهو ما تَبَقّى من الهوية، لكن الظل سرعان ما يبهت تدريجيًا، لكنه يبقى الملجأ الوحيد للبحث عن الذات. واللجوء إلى الظلال سبيل لإثبات شرعية الوجود وامتلاك الأرض وتسلية النفس بالبحث عن ("العناوين"/ الأمكنة) الضائعة خلف الظل. يدعو الشاعر أنثاه إلى البحث عن الهوية المفقودة بتتبع الظل للوصول إلى الجغرافيا التي تؤكد شرعيتَها وهويَّتها الكتُبُ المقدسة و"نشيد الإنشاد" :

"........وبحثنا مَعا

عن عناوينِنا: فاذهبي خَلف ظلكِ،

شرقَ نشيدِ الأناشيد، راعيةً للقطا،

تجدي نجمةً سكَنَت مَوتها، فاصْعدي جَبلا

مُهمَلا تجدي أمسِ يُكْمِلُ دَوْرَتَهُ في غَدي.(ص36)

كعادته درويش ينهـل من الكتب المقدسة ويستحضر نصا من (العهد القديم) وهو (سفر نشيد الأناشيد) أو (نشيد أنشاد سليمان)(9) وأهم ما أخذه درويش من هذا "النشيد" شخصية امرأة تدعى (شولميت) كانت راعية غنم، ورجل يذكر في بعض الروايات اليهودية والمسيحية أنه الملك سليمان، يتحاوران حوار غزل شفيف ينتقل بهما إلى مرحلة تحقيق الزواج.

يدعو الشاعر أنثاه (شولميت) إلى اقتفاء أثر الظلِّ، ظل الأمكنة الساكنة في الوجدان للوقوف على حقيقة الهوية واكتشاف الجبل/ فلسطين وهو المكان الذي وحَّدَهُما وجعلهما (واحدا في اثنين).

يتوقف الصوت الذكوري ليفسح المجال للأنثى لتؤكد ارتباط الهوية بالمكان المفقود؛ فبعد الجبل هناك البحر والحشائش الخضراء والسماء وما تحمله من دلالات عن الحياة والارتباط بالهوية المهددة بالضياع.

وتكرار اللازمة في النص (واحد نحن في اثنين) له دلالاته المتعددة إنه تأكيد التوحد والبحث المشترك عن إثبات الذات والهوية والغربة وهي قاسمها المشترك (ياغريب / ياغريبة).. ولاسترجاع حياتهما في المكان قبل ضياعه ينقصهما العناق الحقيقي الذي لا يكون على إلا على الأرض بعد عودتهما إلى اثنين والخروج من الاحتواء على مستوى الذاكرة والعاطفة.

لكن ذلك لن يتحقق فقد ضاعت الهوية/ الاسم حين يبحث عنها الغريب في البلد الغريب .

" لا اسم لنا يا غريبة

عند وقوع الغريب على نفسه في الغريب ! "

***

ميلود لقاح

.................

الهوامش:

1-  رياض الريس للكتب والنشر -2001

2-  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت: 2005

3-  رياض الريس للكتب والنشر، بيروت: 1999

4-  ميلود لقاح-(محمود درويش في كتابات بعض مؤبنيه) موقع المثقف -العدد: 2411 المصادف: 2013-04- 12

5-  سرير الغريبة 35

6-  سرير الغريبة : ص35

7-  ديوان الحلاج – جمع المستشرق الفرنسي لويس ماسينيون – ص26/ نسخة pdf

8-  سرير الغريبة ص 35

9-  ويكيبيديا/ https://ar.wikipedia.org/wiki

في المثقف اليوم