مقاربات فنية وحضارية
مصدق الحبيب: في نظرية الفن (7): ما بعد الحداثة Postmodernism
رغم ان هذا المصطلح كان قد ظهر لأول مرة في الأدبيات المنشورة عام 1870 حيث ذكره الرسام الإنكليزي جون واتكنز چابمن (1832-1903) John Watkins Chapman في معرض تقديمه لنوع من الرسوم تجاوزت نمط الانطباعية الفرنسية المعروف آنذاك، الا ان اول قاموس الذي أدرج معنى هذا المصطلح هو قاموس أوكسفورد عام 1916.، لكن المصطلح لم يتخذ معناه الذي نعرفه اليوم إلا بعد عدة عقود، وبعد تغيرات بنيوية نوعية شملت حقولا ثقافية مختلفة. وبالتحديد فقد تبلور هذا المصطلح ليمثل مفهوما فلسفيا بدأ في الظهور ثانية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، بل أصبح منهجا عمليا وجد له تطبيقات واضحة، ليس فقط في الفن، انما في حقول أخرى كالأدب والاجتماع وحتى في الدين.
قوام هذه الفلسفة هو ردة الفعل التحليلية التشكيكية للحداثة وما قبلها، والتي تجلت بالرغبة في زعزعة الأسس المعرفية ومساءلة المفاهيم السائدة والتقاليد المتبعة في الفن والحقول الأخرى. ومن هذه الزاوية فقد اتفق اغلب المنتقدين لهذا الاتجاه على انه يحاول ان يقتلع جذور ماعرفناه من الأسس الجمالية والأخلاقية ويستبدلها بمظاهر الاثارة والبهرجة والادعاء.
وليس بخافٍ فان فلسفة ما بعد الحداثة أحرزت بعض الشعبية في العقد الأخير من القرن العشرين من خلال اصطفاف مريديها، اجتماعيا وسياسيا، مع الطبقات المخذولة في المجتمع كالنساء والأقليات العرقية والدينية، فكانت عاملا أساسيا في تصاعد دعوات التعددية وتفعيل نشاط الأقليات المهمشة كما في صعود الحركات النسوية (الفمنست).
الأعلام البارزون لفلسفة ما بعد الحداثة:
- الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930-2004) Jacques Derrida
لمع نجم دريدا في سبعينيات القرن الماضي لما اشتهر بمنهجه الفكري التفكيكي في تحليل النصوص المكتوبة والمنطوقة ومحاولة الوصول الى معانيها الحقيقية المضمرة. وكان الهدف الأساسي من ذلك التحليل هو رفض المسلمات ومقابلة اليقين بالشك وتبيان ان ليس هناك حقيقة ثابتة وحيدة الجانب، وكشف مكامن التناقض واللاتوازن في معاني النصوص وما تؤول اليه. على انه ركز في هدفه على نقد المفاهيم التقليدية في الفلسفة الغربية حول اللغة والمعرفة مستثمرا مفاهيم فعالة كمفهوم ميتافيزيقيا الحضور الذي استعاره من الفيلسوف الألماني مارتن هايدكر (1889-1976) Marten Heidegger
- أما في ثمانينات القرن الماضي فقد برز تأثير الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926-1984) Michel Foucault الذي عُرف بنقده لنظام المعرفة والخطاب الثقافي الناتج عنه عبر ارتباطهما بطبيعة السلطة ومراكز القوى في أي مجتمع. كما انه انتقد المفاهيم التنويرية الأولى كالحقيقة الموضوعية والتبريرات العامة الشاملة التي تنطبق على كل الحالات دون النظر الى الخصوصيات السوسيولوجية والثقافية. وهنا أكد على ان السلطة ومراكز القوى المنضوية تحت لوائها هي التي تسهم بدرجة أولى، ولو بشكل غير مباشر، في صياغة المحتوى المعرفي والثقافي في أي مجتمع، وهي التي تقرر ماهو مقبول وماهو مرفوض ثقافيا، وتُعرّف ماهو طبيعي وما هو شاذ، وتُعلي أو تحط من شأن شغيلة الثقافة.
- جون فرانسوا لايوتارد (1924-1998) Jean Francois Lyotard
وهو فيلسوف فرنسي أيضا كتب عن الهدف الجوهري لفلسفة ما بعد الحداثة بانه التشكيك العميق بالخطاب الفلسفي والثقافي التقليدي المشتمل على الخطاب الديني والايديولوجي كالخطاب الماركسي وحتى فلسفة وثقافة عصر التنوير. يلوم لايوتارد تلك النظم المعرفية في شرعنة ما تعلمناه باعتباره غير مناسب بالضرورة لكل الظروف والازمان. وقد اعتبرالمعرفة بمثابة السلعة التجارية التي تختلف محليا باختلاف منتجها ومستهلكها. ولذلك فهو يشيد بدور ما بعد الحداثة في رفض نمطية وثبات الطروحات المعرفية ويعوّل على تعددية سياقاتها الزمكانية.
- جون بودريلارد (1929-2007) Jean Baudrillard
وهو فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي آخر اعتقد ان المعرفة بشكل عام انتقلت من المفاهيم التقليدية والثوابت الى ما يحاكيها ويعوّض عنها للحد الذي تحول الواقع الذي نعرفه الى ما يقلده ويحاكي مظاهره فينتج الواقع البديل. وهكذا فقد تضاءل واختفى الحد الفاصل بين ما هو حقيقي أصيل وبين ما هو مصطنع بديل، مما آل بمرور الزمن ان يكون المصطنع اكثر اعتبارا من الحقيقي، وان يكون الخيالي ابلغ واقوى حضورا من الواقعي. وطبيعي ان يكون للاعلام والنزعة الاستهلاكية وتقدم التكنولوجيا دورا حاسما في ذلك التحول.
- فردرك جيمسن (1934-2024) Fredric Jameson
هو فيلسوف ومنظّر ماركسي أمريكي كسر الطوق الفرنسي في صياغة فلسفة ما بعد الحداثة. يرى جيمسن ان ما بعد الحداثة تعكس الخطاب الثقافي للرأسمالية في أفولها والمتميز بصعود شعبية الاعمال الفنية والأدبية التي تفتقر للاصالة والهوية المعروفة وتقدم نفسها بطريقة تجميعية غير متناغمة. وهي حالة يصفها بانها وليدة العولمة وتغوّل رأس المال واتساع عالم المضاربات وازدياد النشاطات المالية الزائفة التي لاتستند على أصول مالية حقيقية ورصينة. وكل ذلك ساهم بتحويل كل شيء في الحياة الى سلعة لا ترتكز الا على قيمتها التجارية في السوق. وواضح ان جيمسن لا يرى أي صفة إيجابية في عالم ما بعد الحداثة. ومما تجدر الإشارة اليه ان جيمسن ليس الوحيد الذي عارض هذه الفلسفة ووضعها في الجانب السلبي لما يفترض ان تقدمه الفلسفة للإنسانية، فان ما بعد الحداثة كانت وما تزال مثيرة للجدل بل والاعتراض والرفض من قبل شخصيات ثقافية واوساط فكرية عديدة. وقد وصفت بانها فكرة فلسفية غير رصينة وغير متوازنة خاصة بعد ان تحولت اغلب تطبيقاتها ولاسيما في الفن والادب الى مظاهر منفلتة غير مسؤولة.
في كتابه الشهير الموسوم "فكرة وتاريخ ما بعد الحداثة" المنشور عام 1995، يقول هانز بيرتنز Hans Bertens الأستاذ المتميز في الادب المقارن والانسانيات في جامعة أوترخت الهولندية ومؤلف كتاب نظرية الأدب:
" ان فلسفة وتطبيقات مابعد الحداثة تعكس أزمة عميقة في التشخيص وشعورأصيل بفقدان قدرتنا على معرفة ماهو حقيقي وما هو زائف في مختلف الأصعدة المعرفية والجمالية والأخلاقية والسياسية. وهي بذالك خسارة فادحة لما كنا ندركه ونعوّل عليه في حياة متناغمة ومتوازنة"
ولئن تركيزنا هنا على حقل الفنون، يمكننا صياغة الهدف الجوهري الحاسم لفلسفة ما بعد الحداثة في الفن بأنه تحدي مفهوم اللوحة الفنية التي عرفتها الأجيال منذ قرون بشكلها ومحتواها وباعتبارها رسما على ورق او كانفس، وكذلك تجاوز اصولها وقيمها الجمالية. ويصح نفس الهدف اذا تكلمنا عن النحت بشكله المتمثل بتجسيد الاجسام عن طريق تطويع المواد المعروفة كالطين والخشب والصخر وما شاكل. هذا التحدي وهذه الرغبة المحمومة في التجاوز والاستبدال قادت الى ظهور أساليب وطرق وتكنيكات مختلفة بديلة تعوض عن شكل ومحتوى لوحة الرسم وقطعة النحت. فيما يلي بعض من تلك الأساليب والتقنيات التي قدمتها فلسفة ما بعد الحداثة في حقل الفن.
البُدع الفنية التي تمثل تطبيقات فلسفة ما بعد الحداثة في الفن:
- Collage, Bricolage, and Pastiche
أصل مصطلح الكولاج هو الكلمة الفرنسية Coller ومعناها "يلصق" ولذا يراد بالكولاج هو تقنية قص ولصق المواد المختلفة كالورق والقماش والمعدن بعد تنظيمها بشكل معين على سطح مستوي. أما البريكولاج فيراد به نفس عملية الكولاج ولكن بدلا من المواد الثنائية الابعاد يصار الى استخدام المواد ثلاثية الابعاد، أي المواد المجسمة. وأخيرا الپاستيش الذي يشبه الكولاج والبريكولاج بكونه عملية تجميعية ولكن برؤى متعددة بدلا من رؤيا واحد منسجمة. يتحقق ذلك بمزج مواد مستعارة من أعمال فنية موجودة وبأساليب فنية مختلفة وعصور مختلفة. وفي اغلب الأحيان يدور العمل المنجز في فلك تقليد الأعمال الاصلية المتوفرة ولكن بطريقة تجميعية غير متناغمة تفتقر للعمق التاريخي والروحي.
- Installation art
يتمثل هذا الاسلوب بنصب هياكل من مواد مختلفة كالورق والخشب والبلاستك والحديد والحبال ومواد مستعارة من الحياة اليومية وتقديمها بشكل تجميعي كعمل فني. وقد يدخل فيه الصوت كعنصر من عناصرالعمل الفني. لكن الأهم من ذلك هو الحجم الكبير لتلك الهياكل واستثمار فضاء قاعة العرض وجعله عنصرا آخر من عناصرالعمل الفني بدعوى خلق جو عام يكون فيه المتلقي حاضرا داخل العمل ومتفاعلا معه، وليس فقط كزائر لاتجمعه مع العمل الفني الا المشاهدة العامة المتمثلة بالنظر الى اللوحات كسطوح منفردة متفرقة.
- Performance art
بدلا من ان يقدم الفنان لوحة رسم او قطعة نحت، يصبح هو ذاته العمل الفني أما بأداء دور بالطريقة المسرحية أو باستخدام جسمه ككانفس للرسم والكتابة ووضع العلامات والرموز والشعارات. قد تكون هذه الطريقة مقبولة في الفنون المسرحية الا انها ليس فنا تشكيليا مما يثيرالاستهجان والسخرية من قبل الجمهور.
- Appropriation
ينطوي هذا الأسلوب على استعارة واستنساخ او تصوير مشاهد واشكال من صور واعلانات وكتابات موجودة أصلا في مصادر معروفة ولكن إعادة انتاجها بطرق مختلفة وتقديمها كأعمال فنية جديدة. اشتهر بهذا الأسلوب الفنان الأمريكي أندي وارهول (1928-1987) Andy Warhol الذي اصبح نارا على علم.
- Juxtaposition and Fragmentation
لا يأتي هذا الأسلوب بأي جديد لأنه يعيد تدوير صور ونصوص يتم استنساخها وتقطيعها وإعادة ترتيبها مع مواد أخرى لتقديم عمل جديد. الفرق هنا هو التركيز على وضع تلك المواد مجزءة وبشكل يعارض بعضها بعضا مع ادعاء ان في ذلك معانٍ معينة.
- Conceptual Art
البدعة الكبرى هنا هي الأدعاء بأن الفن التشكيلي هو مفهوم وفكرة وفلسفة ومعنى قبل كل شيء! أما الشكل والتنفيذ فهما عناصر ثانوية أما ان تكون مختزلة او مهملة.
- Image and Text Interaction
الفكرة الأساسية هنا هو تفاعل الصورة والصوت والنص المكتوب كعناصر أولية في العمل الفني الذي قد يحتوي على صور مرسومة او مطبوعة ونصوص مكتوبة على هذه الصور او ترافقها وقد يختصر كل ذلك بعرض فديو اوفلم مع التعليق حوله.
- Irony and Parody
هنا يكون هدف العمل التشكيلي هو السخرية والطرافة والاستهزاء والتصنيف ولا يهم كيف يقدم الفنان عمله من ناحية الشكل، فقد يحقق هدفه باتباع أي من الأساليب المذكورة أعلاه.
بعد هذا العرض السريع لتاريخ وطبيعة وتطبيقات فلسفة ما بعد الحداثة، يثار السؤال التالي: هل في تلك الفلسفة وتلك الأفكار والأساليب المبتكرة أي فائدة لمسيرة وتطورالفن التشكيلي؟ يجيب مريدو ومؤيدو هذه الفلسفة بما يلي:
- توفر هذه الفلسفة الفرصة والامكانية لتحدي ونقد السلطة والثقافة الفنية التقليدية التي هيمنت على العقول لقرون.
- توفر الفرصة والامكانية للاحتفاء بالتعددية واحترام الاختلافات وإعطاء صوت لمن لا صوت له في حقول الفن والادب.
يبدو لي وكأن هذه الفوائد هي نصوص مستلة من خطاب سياسي في الوقت الذي يفترض ان تكون ترجمة للفائدة الفنية. فاذا كانت مثل هذه الأهداف سامية من الناحية الاجتماعية فان من الصعوبة إيجاد أي معنى لها على الصعيد الفني العملي. فمثلا يمكننا التساؤل: من هو الفنان المهمش فنيا(وليس اجتماعيا او سياسيا)؟ هل من المحتمل ان يكون هذا الفنان هو الشخص الذي لايجيد الرسم او النحت؟ ولهذا فان ما بعد الحداثة توفر له العديد من الأساليب والتقنيات التي تنقذه وتبقيه فنانا دون ان يحتاج المهارة والخبرة الفنية!
حسناً، فما هي سلبيات أو مضار ادخال هذه الفلسفة في حقل الفن؟
يورد معارضو هذه الفلسفة ثلاث نقاط:
- Nihilism and Moral Relativism
أي انها تفتح الباب على مصراعيه لشرعنة الفوضى والعدمية واللاجدوى عن طريق نكران الحقائق الموضوعية والقيم الجمالية، وتساعد على تبني النزعات التشاؤمية والمواقف السوداوية وإشاعة أفكار الاستهزاء بمعاني الجديّة والاجتهاد والرصانة، وكذلك معاني الحياة والحب والصداقة، وتدفع الفنانين للتعبيرعن ذلك كيفما شاءت لهم رغباتهم وتشجعهم على تقديم منتجاتهم كأعمال فنية ودحض كل من لا يراها كذلك، بل اقناعه بقصور معرفته بالفن وضيق ادراكه وضآلة حسه الفني. كما تعوّل هذه الفلسفة على تنسيب الاحكام الفنية والأخلاقية والادعاء بان هذه الفلسفة هي ما تتطلبه روح العصر حيث ان التشبث بالماضي اصبح شيئا مشينا.
- Elitism and Inaccessibility
أي ادعاء ثقافة النخبة التي لايتمكن من حيازتها وفهمها أي احد. نرى ذلك جليا في إضفاء التعقيد المتعمد في لغة النقد الفني، وذلك من اجل جعلها غير مفهومة لتعضيد فكرة الثقافتين العليا والدنيا اللتين تنتجان الفن الراقي والفن الواطيء.
- Erosion of Standards
أي رفض السرديات التقليدية التي درجت على فرز الحقيقة من الوهم وتشخيص القيم الجمالية التي عرفتها البشرية منذ قرون واستبدالها بأفكار دخيلة، مما يقود الى ضياع أسس التقييس وتخفيض المعايير الفنية والاجتماعية والأخلاقية الى درجاتها الدنيا.
ختاماً، أقول: ان أفكار ما بعد الحداثة قد تكون مقبولة في حقل الفلسفة النظري، وقد تكون مقبولة كتطبيقات في حقول أخرى، إلا انها في الفن لم تجلب سوى الاسفاف والتردي والانحطاط. ومن المؤسف انها لم تواجه بالمعارضة والرفض من قبل اكاديميات الفنون واساتذتها.
***
ا. د. مصدق الحبيب






