مقاربات فنية وحضارية
عبد القادر الرسام الميساني.. مؤسس الفن العراقي المعاصر (5)
سبق وان ذكرنا في الحلقة السابقة بان الحكومة العثمانية قد ارسلت نخبة صغيرة من الشباب العراقي للالتحاق بالكلية العسكرية الحربية في اسطنبول للتدريب والتأهيل ليكونوا ضباطا في المستقبل، وكان ضمن مناهج التدريس مادة الرسم حيث كان هؤلاء الطلاب يمارسون الرسم بالاساليب والتقنيات الاوربية الحديثة باشراف اساتذة مرموقين وحديثي الثقافة . وكان من هؤلاء الشباب عبد القادر الرسام ومحمد سليم علي الموصلي (والد جواد سليم) ومحمد صالح زكي وغيرهم. وقد تخرج منها عبد القادر عام 1905. وقد اطلق اسم على هؤلاء الخريجين– فنانون عثمانيون -
الاوضاع الاجتماعية ايام عبد القادر الرسام
في القرن التاسع عشر كانت هناك محاولات من بعض المثقفين العرب للثورة على السلطات العثمانية الجائرة وعلى الاوضاع المزرية والمتخلفة التي سادة الدول العربية وسميت هذه الحركة - بحركة التنوير- وكانت قد ظهرت بعد الثورة الفرنسية عام 1798 . ورفعت شعاراتها وكان هؤلاء قد ابهرهم التقدم الحضاري والفكري والفني في اوربا حيث شاهدوا انتشار الطباعة وظهور الصحف ودور النشر وانشاء المدارس والجامعات . كما تأثر هؤلاء بالنهضة الادبية الرومانسية وفلاسفة ذلك العصر، وادى ذلك الى تفاعل الادب العربي مع الادب الغربي وقامت هناك حركة للترجمة الى اللغة العربية خاصة في مجال الرواية والفلسفة والمسرح والفنون الاخرى . وكانت هذه المظاهر الحضارية مفقودة في البلدان العربية . ومن ناحية اخرى لما اطلع المغتربون العرب على الآثار العراقية والمصرية التي تعج بها المتاحف الاوربية شعروا بمقدار الكارثة العظمى التي لحقت ببلدانهم والاهمال المتعمد من قبل العثمانيين . كما انتبهوا الى عمق مكانة حضارتهم وتاريخهم المجيد في العالم .. ويمكن الاطلاع على كتاب (اربعة قرون من تاريخ العراق الحديث) للكاتب الانكليزي لونكريك حيث يشرح الاوضاع المأساوي والكارثية التي كان يعيشها العراق ايام الحكم العثماني . وقد كتبه عام 1925 .
نيازي وعبد القادر الرسام
لم يذكر عن احوال العراق الثقافية والفنية في اواخر القرن التاسع عشر ايام العثمانيين ولم تدون الاحداث الا شذرات قليلة . وكيف يسمح بالتدوين والبلاد خاوية والتخلف يسود البلاد كلها الا اللهم الاجانب الرحالة الذين حلوا بالعراق في ذلك الوقت مثل الرحالة الفرنسية جين ديولافوا 1881 -1882 . حيث كانت تدون كل شئ تراه ومعها كامرة تصوير ضخمة فصورت واقع المجتمع العراقي في ذلك الوقت واظهرت الصور ان البلاد فقيرة والناس متعبة واكثرهم حفاة والشوارع متربة ووجوه كالحة وعليها غبار التعب واليأس ... اما من ناحية حركة الفن والثقافة فتكاد ان تكون غائبة او معدومة او مجهولة . وقد ذكر شاكر حسن في كتابه (فصول من تاريخ الحركة التشكيلية في العراق) بان نيازي مولوي بغدادي يعتبر من رواد الفن العراقي الحديث واستشهد بوجود محاولات للرسم الاكاديمي نشر منها تخطيطا في كتابه يمثل رجلا يعزف . ومن جانب أخر ذكر الخطاط وليد الاعظمي في كتابه (خطاطي بغداد المعاصرين / ج1) بان نيازي قدم من اذريبيجان في بداية القرن التاسع عشر واستقر في بغداد وكان رجلا صوفيا مولويا (مولوي يعني مولانا او ملا) فسمي نيازي مولوي بغدادي وكان خطاطا ومزخرفا ومصورا ماهرا (في الفن الاسلامي). وعندما حل في بغداد اخذ يدرس فنون الخط والزخرفة والتذهيب لبعض وجهاء بغداد خاصة خط التعليق ومن تلاميذه الذي اشتهر بعد ذلك عبد الوهاب عبد الرزاق الشقاقي والذي تزوج زوجة استاذه نرجس خان بعد وفاة نيازي عام 1907 .
وبالتالي اعتقد اننا لا يمكن ان نقارن خطاطا ومزخرفا مثل نيازي بمصور مثل عبد القادر الذي درس الفن الاوربي في اسطنبول وبعث الى الدول الاوربية للدراسة والاطلاع على المدارس الفنية الحدبثة، وكان معلما وابا للجيل الثاني من الفنانين العراقيين، وحتى لوا ان نيازي عنده بعض الرسوم الاكاديمية فهي لا تثبت ريادته الحقيقية في تأسيس الفن العراقي المعاصر على اسس واساليب المدارس الاوربية الحديثة . ولهذا فان البعض يحاول التقليل من اهمية عبد القادر ودوره في المناخ الفني العراقي المعاصر ولا نعرف الدوافع الحقيقية لذلك، هل هو جانب عاطفي او مذهبي او كون الاثنان شاكر ونيازي على نفس المذهب الصوفي؟.
تلاميذ عبد القادر
ذكر بان عبد القادر كان دائم اللقاء مع احد وجهاء بغداد من مواليد مدينة خانقين يدعى احمد القيماقجي وكان له ثلاثة اولاد قد تتلمذوا على يد عبد القادر الرسام وتعلموا اصول الرسم وهم احسان واكرم وانور، وقد اقيم لاعمالهم معرضا فنيا من قبل نجل الفنان انور القيماقجي في قاعة الاورفلي في عمان عام 2019، ويذكر ان اعمالهم تقترب من مناخات استاذهم من حيث الاسلوب الواقعي والمعالجات التقنية وتدرج الالوان واشراقها ورسم المناظر الطبيعية والرسوم الشخصية وغيرها . وكان لظهور هؤلاء الرسامين الثلاث تلاميذ عبد القادر يكشف لنا اولا مدى الغبن والاهمال الذي لحق بمئات الفنانين والرسامين العراقيين وعدم ذكرهم في كتب المؤرخين المعاصرين . ثانيا ان هناك على طول الاربعة قرون الماضية من الاحتلال العثماني كان العراق مليئا باهل الفن والثقافة والعلم ولكن لم تذكر او تدون اسماءهم او اعمالهم، ثالثا ان جماعة اصدقاء الفن التي تأسست عام 1941 هي ثمرة جهود وعطاء الرواد الاوائل وعلى رأسهم عبد القادر الرسام الميساني . ..
د. كاظم شمهود