مقاربات فنية وحضارية

كاظم شمهود: سحر الضوء والظل في اعمال كارافاجيو ورمبرانت

يلعب الضوء والظل في الآثار الفنية دورا كبيرا ومهما في جمالية الاعمال وتأثيرها على المتلقي. حتى ان الرسام الانكليزي الكبير كونستابل يرى انه ليس هناك قبح في الطبيعة مادام الضوء والظل موجودا. بينما كان رمبرانت الهولندي وفيلاسكس الاسباني يؤثران القبح على الجمال لانشاء روائعهما.267 رمبرانت 2

ويذكر بعض المحللين ان الضوء ينتج احسن اثاره عندما يكون النموذج قبيحا ويظهر ذلك في احد اعمال فيلاسكس -غلام من فاليكاس 1656 – كما سجل الفنان بريشته صور ذوي العاهات والمضحكين الذين جرت عادة البلاط باتخاذهم وسيلة للتسلية.268 رمبرانت

ومن ذلك كانت تلك الانواع من البلهاء والمساكين مصدرا هاما من مصادر وحي الفنان. وكانت لوحة -غلام من فاليكاس – التي ذكرناها سابقا تعرض صورة غلام حيث امتزج فيها نبض الضوء بالابتسامة البلهاء على نحو قوي خارج عن الصفة الطبيعية فنشات بذلك قيمة فنية انسانية.

اما كرافاجيو 1573-1610 الفنان المتمرد فهو اسطورة فريدة في عصرة، فقد ابتكر شكلا للضوء والظل تميز به عن غيره من ناحية القوة والحدية والتجسيم البارز الذي يتناسب مع سلوكه الحاد وشقاوته.269 كرافجيو

وقد اهتم بالناحيتين المادية والروحية للتعبير عن الواقع وان يرقى محاولا بهذا اللون من الاسلوب الى مستوى الكمال. وكان كارافاجيو قد فاق كل معاصريه واختلف عنهم باسلوبه الفني اذ اضفى عليه صفة الشعبية كما طبعها بمظاهر حياة ابناء الطبقة الفقيرة.

وكان يختار موديلاته من تلك الطبقة المسحوقة لانه كان قد عاش حياته الاولى واحدا منهم مشردا. ولهذا وصف بعض النقاد اسلوبه بالسوقية. وقد طرح كارافاجيو اسلوبا تمتاز اشكاله بابراز الحجوم على نحو من التحديد الدقيق وفي وضوح. وقد حاول تبسيط الاشكال والالوان الجذابة التي مارسها السابقون. كما عمل على ابراز حياة مشرقة بمملكة الضوء، وأثار النفس الانسانية في ادق ثناياها. وكانت قدرته الغنائية تكمن في مقدرته على تحويل الخفايا الى محسوس.270 كرافجيو

اثر كارفاجيو بفنه على فناني عصره في ايطاليا وفرنسا واسبانيا ووهولندا خاصة الرسام رمبرانت 1606- 1669 الكبير الذي يعتبره البعض من رواد الضوء وسحره. والحديث عن رمبرانت واعماله المضيئة نحتاج صفحات من التحليل والمتعة. ويكتب احد النقاد عنه (ان كل شئ بلوحاته تغشاه الظلال – بما في ذلك الضوء – على انه يبدو وكأنه يخترق الظلال ليظهر من خلال اكثر بعدا واوفر اشعاعا. كما تحدق موجات من الظل الداكن بالمواضيع المضيئة من صوره اظهارا لاعماقها وسموها.. ولكن الضوء عند رمبرانت يختلف عنه عند كرافاجيو حيث كان عند رمبرات اكثر تلطيفا وهدوءا ونعومة. كما جرى على تحرير المرئيات من التحديدات الصارمة والتي نراها في اعمال كرافاجيو.271 سورويا

و تبدو الاجسام في لوحات رمبرانت اقرب ما تكون اثيرية تقمصت صورا من الواقع. فالاضواء التي نراها في اعماله توحي بالظلال. اذ تغشاها اجواء ضبابية تنشط احساسنا بما يتردد فيها من نبض وحركة، حتى لو كانت تلك الاجسام في حالة من السكون. والضوء عند رمبرانت يسيطر على مشاهده حيث يثير احساسنا بتحرره واشعاعه. كما تثير الوانه الغائمة احساسا بنبض من نوع خاص.. والحركة فيها ليست الا انغاما توحي بالظلال. وينتشر هذا النغم بين مختلف اجزاء المشهد ليهزها بما في ذلك العناصر الصامته كالحائط.. كما ان صور الحركة لا تظهر بمعالمها الطبيعية في لوحات التصوير، بل تتكشف تلقائيا بالايحاء. وفي هذا تحديد للفرق بين الفن والطبيعة. وتنعم اعمال رمبرانت بتاثيرات الضوء فحسب.272 سورويا

في اسبانيا ظهر فنان اسمه خواكين سورويا 1862 – 19223 اطلق النقاد على اسلوبه- بالاعمال المضيئة – وكان يرسم بفرشة انطباعية طلقة حيث تميزت اعماله بالالوان الساطعة المضيئة وفرشة حرة سريعة الحركة. بعض النقاد اعتبروا اعماله ضمن المدرسة الانطباعية ولكن البعض الاخر عدوا اعماله تمثل مدرسة منفردة الخصوصية. وكانت مواضيعه مناظر للصيد على شواطئ البحر وكذلك رسم البورتريتات لبعض الشخصيات المرموقة.. ويذكر انه في بداية حياته عمل مع مصور فوتوغرافي وكان اثناء عمله يعطي تحسينات للصور الفوتغرافية واضائتها بتقنيات الفوتوشوب واعطائها انارة. وعندما اخذ يرسم لوحات زيتية استفاد من تلك الحرفة والتجربة في اضاءة اشكاله وسطوعها..

ان تجربه عمالقة الفن الاوربي بمخترعاتهم واكتشافاتهم وما سجلوا من حضور دائم في الساحة العالمية الفنية طيلة التاريخ، تعتبر مرجعا ونبراسا تستضيئ به اهل الثقافة والفن.

***

د. كاظم شمهود

في المثقف اليوم