مقاربات فنية وحضارية
كاظم شمهود: الاسلوب الاكاديمي في لوحات العباقرة

قبل الحديث عن الفنان هادي نعمان لا بد لي من استعراض مختصر جدا عن تاريخ الرسم الاكاديمي. وتأثيراته على مسيرة الفن والفنانين وعلاقة هادي بهذه المسيرة الجمالية.. يعرف الرسم الاكاديمي بانه اسلوب فني يتميز بالواقعية لرسم الجسم البشري وغيره من الاشياء الاخرى. وقد ظهر في القرن التاسع عشر وتاسست له مدارس فنية في كل انحاء اوربا. وقد وضعت مناهح ومبادئ صارمة لدراسة هذا النوع من الفن. والهدف من ذلك هو تعليم الطالب دراسة الاشكال الني توضع امامه من ناحية تقنيات الظل والنور والتناسب في الابعاد وتنظيم العناصر والمنظور ومن ناحية التشريح والواقعية وغيرها. وقد نشطت هذه الدراسات الاكاديمية بعد ظهور المدرستين الكلاسيكية الجديدة والرومانسية. وانتشارهما في اوربا. وكان عصرالقرن التاسع عشر بحق عصر ثورات وتحدي وكسر للاطر القديمة والتمرد على المدارس الكلاسيكية فكان عصرا للتنوير.
رسم ونحت الوجوه الواقعية كانت صناعة شائعة في الحضارات القديمة مثل سومر ومصر. فقد نحتت تماثيل للملك السومري كودا عام 2144 ق م. وكذلك للملك الفرعوني اخناتون عام 1365 ق م. وايضا ظهر رسم الوجوه الشخصية على جدران المعابد والمقابر والبلاطات وغيرها. وفي اوربا كان رسم البورتريت مهنة وحرفة يعيش من خلالها الفنان قبل ظهور الكامرة عام 1826. وكانت بلاطات الملوك والسلاطين والامراء تعج بالرسامين الذين يصورون الملوك وعوائلهم وحاشيتهم، حتى يصاحبونهم احيانا في الحروب والمعارك وتسجيلها وكانهم مراسلي ومصوري صحافة اليوم.
وكان سابقا تعلم رسم الصور الشخصية -البورتريت- يستغرق وقتا طويلا حتى يكتسب الفنان المهارة المتميزة لرسم الوجه. فعند سيزان يستغرق 100 جلسة وعند كويا يوما واحدا وعند غيرهم عدة سنوات كما حدث لدافنشي مع رسم موناليزا الذي يقال انه استغرق رسمها 4 سنوات. ولحد هذا اليوم فان رسم الصور الشخصة او نحتها يحتاج وقتا طويلا او عدة جلسات منظمة. حتى يتمكن الفنان من الغور في اعماق الشكل فيرسم ملامحه النفسية والعاطفية. وقد اشار ارسطو الى هذه الخاصية حيث قال (بان الهدف من الفن هو تقديم ليس المظهر الخارجي للاشياء بل اهميتها الداخلية لان هذا ما يحقق الحقيقة الواقعية وليس الاسلوب والتفاصسل الخارجية).
كما قال الفنان الانكليزي ادوار بورن جونز 1833 (التعبير الوحيد المسموح به في البورتريت العظيم هو التعبير عن الشخصية والجودة الاخلاقية وليس عن اي شئ موقت او عابر او عرضي). ولهذا كانت الرسوم الشخصية لها حضورا واسعا في المجتمع بمعانيها الفكرية والرمزية. حيث كانت ترسم احيانا باحجام كبيرة لاثارة الرهبة والرفعة بقيمها السلطوية والجمالية امام الناس. وكان الجريكو وغويا رسامي الكنيسة والبلاط اشتهرا برسم الصور الشخصية وكان معظمها باحجام كبيرة ارضاءا للطبقة الارستقراطية. مما يجعلها تمثل حضورا دائما في ذاكرة الناس ومفاهيمهم الفكرية والدينية.
نعمان هادي ومسيرته الفنية
نعمان هادي فنان مرموق هادي الطبع والاخلاق ومثقف تقدمي عانى كغيره من قسوة النظام السابق ورعونته ودكتاتوريته. وهو من الفنانين العراقيين الذين برزوا في مرحلة الستينات والسبعينات في رسم الوحوه والمواضيع الاجتماعية باسلوب اكاديمي واقعي. وقد بقى نعمان هادي وفيا ومخلصا لهذا اللون من الاتجاه الى اليوم، ويذكرنا باستاذه الكبير فائق حسن في اسلوبه وغنائيته اللونية الجمالية. وهو يرسم الاشياء بمتعة كبيرة وتمثيلها برؤيا جديدة، حيث يغور في كينونة الموديل واظهار معانية النفسية الخفية. ويذكرنا ذلك يقول جلال الدين الرومي (الصورة الظاهرة انما هي لكي تدرك الصورة الباطنة والصورة الباطنة تتشكل لاجل ادراك صورة باطنة اخرى على قدر نفاذ بصيرتك). وكان الفيلسوف كانت يؤكد على الفصل بين ظواهر الاشياء وحقائقها لان ما وراء الاشياء حقيقة مطلقة،
كما نجد هادي يمتلك من التصور الحسي ومن التنظيم الشكلي ما يثير المتعة والبهجة بمدلولاتها الفكرية والتعبيرية وبنائها الفني الراقي. وقد نرى في اعماله جمالا حسيا قائما على معاني وحدة العلاقات الشكلية بين الاشياء التي تدركها حواسنا. فهو يصور ليوظف اشكاله الظاهرية باتجاه مطامح الوعي الانساني. وقد نادى بعض المفكرين بنظرية ان الفن متعة وجمال مثل المفكر الانكليزي راسكين والالماني غوتيه والفرنسي بودلير. هذا المنحى الجمالي يذكرنا بحالة الفنان الفرنسي سيزان حيث بذكر انه كرر احد مواضيعه اكثر من 250 مرة ؟، وهذا يعني اولا حالة الوعي لدى سيزان بادراك الجوانب الحسية للواقع الموضوعي الذي يراه. ثانيا طموحه في كشف اسرار جمال الموضوع والطبيعة فيتمتع بها. ولهذا اننا نجد انفسنا امام فنان يبحث عن المتعة والجمال (باتساق كما اتسقت انابيب القناة). وهو بهذا يلبي نداء النفس الانسانية بطبيعتها الفطرية الجمالية ويستلم خطاب الييئة بفعل المحسوسات الموضوعية ومدلولاتها الفكرية.
ونرى عند هادي العمل الفني او الموضوع يتميز بضرباته الانطباعية والعفوية والوانه الاخاذه الموزعة على مساحات اللوحة. حيث يعتبر اللون في العمل الفني شيئا جوهريا. وكان سيزان يؤكد على ان الفنان عليه ان يعتمد لا على رؤيته البصرية وانما على احاسيسه. (حينما يحصل اللون على ثرائه يحصل الشكل على كماله وسموه) كما نرى في اعمال الفنان هادي غنائية ورمزية وقد تحرر من الاكاديمية التقليدية الصارمة. اذ اصبحت اعماله تعبيرا عن الواقع الاجتماعي وما ينطوي عليه من مفاهيم وتقاليد باسلوب جميل راقي يذكرنا باعمال مونخ. واعتقد ان الفنان ادرك اكثر من غيره ان الجمال التشكيلي له القدرة على ايصال خطابه الفكري الى المتلقي، مؤسسا بذلك فلسفة للوجود بمدلولاتها الفكرية والفنية باعتبار ان الفن مظهر العقل والتفكير وهو نداء النفس البشرية التي تبحث عن ذاتها.
اذا كنا اصحاب حوار على شكل فريقين كل واحد له وجهت نظر يحرص على دعمها بمبررات علمية واخلاقية. نقول ان هادي لم يستطع ان يقتحم موجة الفن الحديث او انه غير مقتنع بها اطلاقا ؟، وعادة اصحاب المدرسة الاكاديمية الواقعية لهم (القدرة على رسم اي شئ من الاساليب الحديثة). ولكن تبقى مسالة التذوق والقناعات الشخصية للفنان هي سيدة الموقف. وكانت نظريات الفن للفن والفن للمجتمع قد سادت العصور السابقة ونظر لها كبار المفكرين والفلاسفة خاصة المدرسة الاشتراكية. ولكن بعد ظهور المدارس الحديثة، سقطت هذه النظريات ونادت بالفن من اجل الحقيقة حيث كانت الصور الابتكارية الحديثة للعمل الفني المعاصر تعبر عن مضامين الاشياء، ومحاولة الفنان ان يعطي المشاهد تلك الصور الوجدانية العميقة التي يحس بها.
نعمان هادي ولد في بغداد عام 1943 وتخرج من اكاديمية الفنون الجميلة عام 1967 ودرس مادة الرسم في احد مدارس بغداد. اقام اول معرض له عام 1970 قي قاعة كولبنكيان. انظم الى جماعة الاكادميين التي تاسست عام 1971 ثم غادر الى باريس لدراسة الفن في البوزار. له اعمال منتشرة في كثير من المتاحف في العراق وخارجه. ولازال الفنان حيا وفي تالق وعطاء دائم.
***
د. كاظم شمهود