قراءات نقدية
صباح بشير: قراءة في المجموعة القصصيّة "لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟"
للدّكتور نبيه القاسم
القصّة هي جنس أدبيّ نثريّ قصير الحجم، يهدف إلى تقديم تجربة قرائيّة مكثّفة ومؤثّرة في وقت وجيز، تتّسم بتركيزها على حدث أو مجموعة من الأحداث المترابطة، وشخصيّات محدودة ومساحة معيّنة، وغالبا ما تركّز على لحظة حاسمة في حياة شخصيّة ما، أو على صراع داخليّ أو خارجيّ تعيشه، وقد تطوّرت القصّة القصيرة عبر التّاريخ، متأثّرة بالثّقافات المختلفة.
لقد ترك العديد من الأدباء العالميين بصمات واضحة عليها، مثل الفرنسيّ "غي دو موباسان" والأمريكيّ "إدغار آلان بو" والرّوسيّ "أنطون تشيخوف"، الّذين يعتبرون روّاد هذا الجنس الأدبيّ، كما أسهم أدباء عرب مثل محمّد حسين هيكل، توفيق الحكيم، يوسف إدريس وغيرهم في إثراء هذا الحقل.
اعتبر "موباسان" أن القصّة القصيرة هي الأقدر على التّعبير عن اللّحظات العابرة والمشاهد السّريعة في الحياة، وهذا الرّأي يتّفق مع رؤية العديد من النّقاد للأدب القصصيّ. لعلّ هذا النوّع الأدبّي هو الأقرب إلى روح عصرنا السّريع، الّذي يتّسم بالسّرعة والتّكثيف.
في مجموعة "لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟" للدّكتور نبيه القاسم، تتجلّى هذه الخاصيّة بصورة واضحة، فهل نجحت هذه المجموعة في التقاط جوهر هذه اللّحظات العابرة ونقلها إلى القارئ؟
سأحاول في هذا المقال الإجابة عن هذا السّؤال من خلال التّوقّف عند بنية القصص السّرديّة وأحداثها ولغتها، تحليل شخوصها، دلالاتها الرّمزيّة، علاقتها بالسّياق العامّ، التنوّع الموضوعيّ فيها، والأسلوب والرّؤية الفنّيّة للكاتب.
تقع هذه المجموعة الصّادرة عن مكتبة كلّ شيء، في (178) صفحة من القطع المتوسّط، دَقَّقتها لغويّا كلّ من دلال عتيق وسحر أبو زينة، وتضمّ (22) قصّة، تصوّر لوحات واقعيّة حيّة من حياتنا اليوميّة، وتعكس الواقع السّياسيّ والاجتماعيّ المعاصر، تستعرض شظايا من الواقع المعاش، وتتناول اللّحظات الحاسمة الّتي تكشف عن أعماق نفوس شخوصها، مشاعرهم وأحاسيسهم المتشابكة.
تجدر الإشارة إلى أنّ بعض هذه القصص قد سبق نشرها، وقد تمّ التّنويه إلى ذلك في كلّ قصّة على حدة.
يفتتح الكاتب بقصّة "عودة الفارس من رحلة الضّياع" (ص7)، مستلهما أحداث صبرا وشاتيلا، راسما لوحة حزينة عن مأساة شعبنا ومعاناته، متّخذا من اللّغة الشّعريّة والرّمزيّة أداة لنقل معانيه، مُخَلِّقا بذلك أجواء من الحزن والشّوق والأمل المتداخل، جامعا الماضي بالحاضر، وكاشفا عن واقعنا الاجتماعي المعقّد، وعن الصّراع بين القويّ والضّعيف، وبين الظّالم والمظلوم.
يقدّم لنا سردا مؤثّرا، يثير التأمّل في معنى الحياة والموت والحبّ في ظلّ الظّروف القاسية، مجسّدا بذلك صورة حيّة عن شوق العاشق لحبيبته، وحنينه إلى أيّام مضت.
هذا النّصّ، لا يقدّم حكاية حبّ مأساويّة فقط، بل يتجاوز ذلك ليعبّر عن معاناة شعب بأكمله. تتجلّى هذه الرّمزيّة في صورة "النّوتي الأسمر" الّذي يعبر الأردن، فيبيّن من خلاله حالة الشّوق والحنين الّذي لا ينقطع، نرى كيف أنّ الضّفائر تتحوّل إلى قيد يربط العاشق بحبيبته، كرمز للأسر والحبّ الّذي يتحوّل إلى ألم: "وتتدلّى ضفائرُ شَعركِ لترسم على عنقي مشنقة، وأنا منذ اليوم الّذي أحاطتني فيه ضفائرُكِ أسير قيدِكِ" (ص7).
إنّ اختيار الكاتب لنهر الأردن؛ كحاجز فاصل بين الحبيبين، يحمل دلالات عميقة؛ فالحدود السياسيّة المفروضة، تفصل النّاس عن أحبّائهم وأوطانهم، تماما كما يفصل النّهر الحبيبين في القصّة، وهنا يتمّ ربط الأحداث الشّخصيّة بواقع أوسع وأعمق.
"النّوتيُّ الأسمرُ المُتحدّي تيّارَ الأردن بقاربه السّريع، يعود ليظهر مع كلّ حرف من حروف اسمكِ" (ص7).
على الرّغم من أنّ القصّة لا تُفَصِّل الأحداث التّاريخيّة بشكل صريح، إلّا أنّ القارئ يستشفّها من خلال الرّموز والأحداث الموصوفة، فالنّهر الّذي يفصل الحبيبين يرمز إلى الحدود المفروضة، والضّفائر الّتي تحيط بالرّقبة قد ترمز إلى القيود على الحرّيّات.
استخدم الكاتب تقنيّة التّضاد بين الحبّ والكراهية، بين الحياة والموت، ممّا يزيد من عمق النّصّ الذّي يغوص في أعماق النّفس البشريّة، ويصوّر مشاعر الخوف والحزن والألم والمعاناة، وكيف تتفاعل هذه المشاعر مع مشاعر الحبّ والأمل.
يصوّر أيضا لحظة الذّروة في الانفعال العاطفيّ لشخوص القصّة، ناطقا بمكنونات صراعها النّفسيّ مع الحياة، في مشهديّة تبرز تلك الانفعالات بكلّ عنفوانها، وتجسّد الصّراع الذّاتيّ المُكتمل، مع إبقاء بعض الإشارات مفتوحة، وتوظيف التّناقضات الصّارخة في مشاعر الشخصيّة الرّئيسة، الّتي تعكس الحالة الّتي تعيشها بسبب قسوة الواقع، فمثلا.. هو يحبّ حبيبته ويكرهها في آن واحد، يشعر بالسّعادة والحزن معا، ويضحك ليقاوم آلة القهر والموت:
"وأنا منذُ عرفتكِ أحسست بالموت، واستشعرت لذّة الحياة، تكبرين وأكبر، وتظلّ السّنون تفصل أكثر" (ص7).
" وأحببتكِ لحظة تملّكني كرهك، وحرموني إيّاكِ ساعة وجدتك" (ص8).
"قد لا يجد الواحد منّا غير الضّحك في حضرةِ الموت، الضّحك يقهرُ الموت، ويُفزع الجبان، ويُدمّر كلّ آلات الحرب" (ص12).
"لم نُعر الدّم النّازف اهتمامنا، لم نتألّم، كنّا نضحك رغم الجراح، ونضحك وسط بقع الدّم!" (ص15).
أيضا، يربط الكاتب بين الحياة والموت بشكل وثيق، فالموت يصبح أجمل من الحياة، والحياة تستمدّ قيمتها من الموت: "الحياة جميلة، لكنّ الموت أحيانا يكون أجمل، فحيث يكون الموت تكون الحياة" (ص8).
هذا التّرابط، يعكس الفلسفة الّتي تتبناها الشخصيّات في ظلّ الحرب والدّمار، فالشّخصيّة الرّئيسيّة ترى أنّ الموت قد يكون أفضل من الحياة بسبب الظّروف الّتي تعيشها.
يستمرّ الكاتب في ربط الحبّ بالموت والحياة؛ ليُظهر الحبّ قوة دافعة للصّمود في وجه الظّلم والقهر، يتمثّل ذلك في تمسّك البطل بالأمل، وبحبيبته رغم كلّ ما يحيط به من معاناة:
"وأنا منذ اللّحظة الّتي فصلني الأردن عنكِ، أدركت أنّني سأحبّكِ حتّى الشّقاء" (ص8). "وتبقين أنتِ بضفائرك المتراقصة على وجنتيك عزائي في الحياة، ودفقة أمل للمستقبل" (ص9).
"أيّ حبّي أنتِ، وحدكِ بقيت لي في هذه السّاعة من الغسق الحزين، حيث أفقد في آن واحد خيط قصيدتي، وخيط حياتي والفرحة والصّوت" (ص9).
ثمّ يبقى التمسّك بالأمل بين ثنايا النّص، رغم الألم: "ووالدي يؤكّد أنّ كرسيّ الرّبّ سيُعلى، وأنّ الرّبّ سيظهر، فيُزهَق باطل ويخلّد حقّ" (ص13).
"إنّها لم تمت، وستعود" (ص14).
" وتبقين التّعويذة الّتي أحتفظ بها، واللّحن المردّد في خاطري، والاسم الّذي أنشر حروفه في كلّ بقعة من الوطن"(ص14).
يستخدم الكاتب رموزا سياسيّة ودينيّة لتعزيز معانيه، يربط بين جبل الحسين وجبل عرفات بالصّراع السّياسيّ الّذي يؤثّر على الحياة اليوميّة للأفراد؛ ليعكس عمق الجرح الفلسطينيّ، مركّزا على معاناة الأطفال كضحايا للصّراع، ناقلا معاناتهم بأسلوب يلامس الشّعور ويبرز الجانب الإنسانيّ للقضيّة.
تظهر المرأة كرمز للمقاومة والصّمود، فهي تواجه الألم والمعاناة بشجاعة، وتقدّم نموذجا يحتذى به: "وتبقين أنتِ بكلّ عنفوانك، تتحدّين الموت والحياة" (ص10).
كما يشبّه الوطن بالحبيبة، وبالحبّ الرّومانسيّ من حيث عمقه وتأثيره على النّفس، فكما يعاني العاشق من أجل حبيبته، يعاني أبناء الوطن من أجله، وكلاهما يتطلّب التّضحيّة والتّفاني.
يكتب: "الألم يطهّرُنا، الدّموع تغسلنا، والحزن قَدَرُنا، وليسَ من حبٍّ إلّا وغَذّاه الدّمع، ما من حٍبٍّ سعيد، سواء أكانَ حبّكِ أم حبُّ الوطن". (ص11).
إنّ ربط الحبّ بالوطن بهذه الطّريقة يضفي على النّصّ بعدا إنسانيّا وفلسفيّا، فالحبّ في هذا السّياق هو حبّ ممزوج بالنّضال، والمعاناة هي جزء من التّجربة الإنسانيّة، والألم وسيلة تطهير وتنقية للرّوح. الألم هنا ليس مجرّد عاطفة شخصيّة فحسب، بل هو رمز لوجع شعب، أمّا الدّموع فتعبّر عن حجم المأساة.
يستذكر الكاتب أسماء بعض الأماكن؛ كسهل البطّوف ومجد الكروم، مخيّم الوحدات وتلّ الزّعتر وجسر الباشا، وأحياء الشيّاح والرّمّانة، يستحضر شخصيّات بارزة كالشّاعر محمود درويش وأحمد العربيّ الّذي خلّدته قصيدة تلّ الزعتر، وعبد النّاصر وغيرهم، ولتعزيز رسالته يستعين بأسطورة "بروميثيوس" من الميثولوجيا الإغريقيّة (الثّائر الّذي تحدّى سلطة الآلهة، وسرق النّار ليمنح البشر شرارة التّقدّم والتّطوّر).
يستعرض أيضا الدّور الّذي لعبته الأحزاب السياسيّة في تلك الحقبة، وكيف تأثّرت مسارات الأحداث بتوجّهاتهم وآيديولوجيّاتهم.
القصّة الثّانية " لماذا فعلتَ ما فعلتَ يا صديقي؟" (ص23): يختلف عنوانها عن عنوان المجموعة الرّئيسيّة "لماذا فعلت ذلك يا صديقي؟" اختلافا طفيفا في الصّياغة، فعنوان المجموعة يشير إلى سؤال عامّ موجّه إلى شخص ما، ويعكس حالة من الاستغراب والحيّرة العميقة تجاه فعل ما، ويترك المجال للتّخيّل والتّفكير في الأسباب الدّافعة وراء هذا الفعل المجهول.
يُوَجَّه عنوان هذه القصّة إلى شخصيّة محدّدة، فضمير المخاطب يجعل القارئ يشعر بمشاركة أعمق في الأحداث، وكأنّه يتحدّث مباشرة إلى الشّخصيّة، ومن خلال النّصّ نستشفّ أنّ البطل يوجّه السّؤال لصديقه ليعاتبه على غدره بعد أن وثق به، وكأنّه يقول: لماذا خنت العهد ونكثته وأفشيت السّرّ.
إذن، يكمن الاختلاف في درجة التّعميم والتّحديد، فعنوان المجموعة أكثر عموميّة، بينما عنوان القصّة الثّانية أكثر تحديدا وتركيزا على نوع الفعل.
تطرح القصّة سؤالا جوهريّا حول طبيعة الحبّ والخصوصيّة، والحدود الفاصلة بين توثيق الذّكريات والواقع الحياتيّ، تتناول حكاية حبّ سريّة تعيش في الظّلال، تغذّيها اللّقاءات المسروقة والهمسات الخافتة، لكنّ القدر، متخفيّا في ثوب الصّديق الغادر، يكشف هذا السرّ، فتتحطّم العلاقة على صخرة الخيانة، تاركة خلفها رمادا بدلا من جمر الغرام.
كما تقدّم القصّة شخصيّات متباينة ومتشابكة، ظهرت "سمر" كشخصيّة مركّبة تتّسم بالغموض والرّقة، تمثّل الجمال الأنثويّ والحبّ الرومانسيّ، وظهر حبيبها كشخصيّة مأخوذة بالعشق، يحاول توثيق لحظاته معها، لكنّه يقع في فخ التملّك والغيرة، وهو يمثّل صوت العاطفة.
أمّا الصّديقة الشّاعرة فتمثّل صوت العقل والحكمة والتّحذير، واختلاف وجهة النّظر بينهما يكشف عن طبيعة الإنسان الملتبسة والمركّبة، ويظهر الصّديق كشخصيّة مزدوجة، تحوّلت إلى الخيانة والغدر بشكل مفاجئ، ممّا غيّر مجرى الحدث، وكشف عن هشاشة العلاقات الإنسانيّة، وأهميّة الصّدق في بناء العلاقات.
غابت أسماء الحبيب والصّديقة الشّاعرة، والصّديق الخائن، إضافة إلى عدم تحديد الزّمان والمكان، وكلّها عناصر فنّيّة تعمّد الكاتب تغييبها لأهداف دراميّة، وذلك ما أضفى على القصّة صبغة عامّة وجعلها قابلة للتّطبيق على أيّ زمان أو مكان.
كما أنّ غياب التّفاصيل الخارجيّة يجعل التّركيز أكبر على جوهر القصّة وعلى المشاعر الدّاخليّة للشّخوص وصراعها النّفسيّ.
أضاف هذا الغياب طابعا رمزيّا على النّصّ، فالحبيب والصّديقة الشّاعرة رمز للحبّ والصّداقة والوفاء، والخيانة الّتي تعرّض لها الحبيب هي رمز لخيانة القيَم والمبادئ.
أمّا السّرد فهو ذو طابع شخصيّ، حيث يروي الحبيب قصّته بألم وحسرة، ويمثّل التّصوير رغبة الحبيب في تملّك لحظات الحبّ، والاحتفاظ باللّحظة الجميلة وذكراها الطيّب في تلك الصّور، لكنّه في الواقع يدمّر اللّحظة الحيّة، ممّا يؤكّد على أهميّة العيش في اللّحظة الحاضرة واغتنامها والإحساس بها.
يبرز الصّراع واضحا بين العقل والعاطفة، وتظهر الصّداقة كسلاح ذو حدّين، إذ يمكن أن تكون مصدرا للقوّة والدّعم، ويمكن أن تكون مصدرا للألم والخيانة، ممّا يكشف عن جوانب مظلمة من الطّبيعة البشريّة مثل الغيرة والحسد، أمّا النّهاية فتبقى مفتوحة، حيث لا نعرف مصير الحبيب بعد فقدان حبيبته، وهذا يترك للقارئ مجالا للتّفكير في العواقب المحتملة.
في قصّة "ليس لديّ غير الدّموع" (ص34)، نقرأ عن يتيمة الأب الّتي وَجدَت ملجأها في قلب أستاذها الحنون في الجامعة، مع مرور الوقت، تعلّقت به تطوّرت مشاعرها تجاهه من الإعجاب والتّقدير إلى مشاعر أعمق، ممّا زاد من حزنها عند فراقها له بالتّخرّج، حيث شعرت بالفقدان.
هذا الارتباط الّذي تغذّيه الحاجة الإنسانيّة الأساسيّة للحبّ والدّعم، يجد جذوره في فراغ عاطفيّ تعاني منه الطّالبة؛ بسبب غياب الأب، فهي تعيش على المستوى النّفسيّ صراعا داخليّا، أمّا الأستاذ فيشعر بالمسؤوليّة تجاهها ويدرك حدود دوره كمعلّم، وضرورة الحفاظ على حياديّة العلاقة المهنيّة.
هذه العلاقة، تمثّل تداخلا بين الحاجات الإنسانيّة والدّيناميكيّات الاجتماعيّة والنّفسيّة، وتثير أسئلة مهمّة حول حدود العلاقات، وكيفيّة التّعامل مع المشاعر المعقّدة الّتي تنشأ في سياقات غير تقليديّة.
في قصّة "جدّو والهسهسة اللّعينة"(ص37)، يعاني الجدّ من إزعاج النّاموس الّذي يخترق طنينه سكون اللّيل، فيحاربه بكلّ ما أوتيَ من قوّة؛ ليدافع عن لحظات راحته، يشعل الأنوار باحثا عنه، مقلّبا كلّ ركن في المنزل، يرشّ المبيدات الحشريّة، مسبّبا الإزعاج لزوجته وأولاده الّذين يحاولون إخفاء المبيد، فلا يعرف النوّم ويخرج هاربا الى الحديقة.
في الصّباح، يستيقظ الجدّ على صوت حفيدته الصّغيرة التّي تخبّئ علبة المبيد، حين سمعت أنّ العائلة ستتخلّص منها، فيحتضنها ويقبّلها باكيا، مقدّرا براءة قلبها الصّغير.
تتميّز هذه القصّة بسردها البسيط، ما يجعلها قريبة من حياة القارئ، وهي تبرز بعض الجوانب الإنسانيّة كحبّ الجدّ لحفيدته واهتمامها به.
قصّة "موت الأستاذ" (ص43)، تثير فضول القارئ منذ بدايتها بمشهد مؤثّر ينتهي بصدمة مفاجئة، حيث تروي حكاية أستاذ جامعيّ مرموق، يغلق باب غرفة مكتبه في الطّابق الثّالث مستلقيا على الأريكة، وبعد ساعات، يُعثَرُ عليه جثّة هامدة تترك وراءها لغزا محيّرا بهذا الموت المفاجئ.
تساهم سلاسة السّرد وبساطته في سهولة تتبّع أحداث هذه القصّة، أمّا تقديم شهادات مختلفة عن الأستاذ، بعضها مضيء وبعضها مظلم من قبل زملاء الأستاذ وطالباته وزوجته، فيضيف طبقات متعدّدة لشخصيته، ويجعلها أكثر عمقا. نهاية القصّة تُركت مفتوحة؛ لتمنح مساحة للتأمّل والتّفسير، ولتعكس فكرة أنّ الحقيقة قد تكون أكثر تعقيدا ممّا تبدو عليه.
تستكشف قصّة "أمّي" (ص51) معنى الحياة والموت من زوايا متعدّدة، تعرض تأثيراته النّفسيّة والجسديّة على الفرد والمجتمع، وتناقش الرّؤية الدّينيّة للحياة والموت وما بعدهما، تدفعنا إلى التّفكير في ماهيّة الوجود وعبثيّة الحياة، وتركّز على دور الأمّ في حياة الطّفل، وكيف يؤثّر فقدها على تكوينه النّفسيّ وصورته عن العالم.
تتجلّى هذه الفكرة المؤلمة بوضوح في قصّة "أنا لا أحبّ أمّي" (ص58)، الّتي تركّز على عمق تأثير فقدان الأم على الطّفل، الّذي يعاني بصمت، مصارعا مشاعر الحزن والضّياع.
تتبعها قصّة "وأخيرا ماتت أمّي" (ص61)، في سرد مؤثّر عن عالم اليتم، لكن.. هذه المرّة تشرق شمس الأمل بفضل الأخت الكبرى الّتي تحتضن الأسرة بحنان، فتكبر مع إخوتها، تسقيهم من عطفها وتغدق عليهم بحبّها، لكنّ القدر يشرع في كتابة فصل جديد من الألم، لترحل الأخت الكبرى مخلّفة وراءها فراغا هائلا في قلب الرّاوي، الّذي اعتبرها أمّه ومصدر قوّته، فيشعر بقسوة اليتم مرّة أخرى، بعد أن فقد أخته الّتي كانت بمثابة أمّه الثّانية.
في هذا السّياق، تقدّم لنا اللّغة العربيّة بعض المفردات الّتي تصنّف حالات اليتم بدقّة، فاليتيم هو من فقد أباه، بينما يُطلَق على من فقد أمّه "العجيّ"، أمّا من حرم من كلا والديّه فهو "اللّطيم".
نُطلّ مع قصّة "رجل فقد العلاقة بالحياة" (ص68) على واقع معاش يلامس حياة الكثيرين، فهي تصوّر بأسلوب واقعيّ حالة الفراغ الوجوديّ الّتي يعاني منها الرّجل، وانفصاله التّدريجيّ عن العالم من حوله؛ ليصبح كائنا آليّا يتحرّك دون هدف أو شغف، ينسحب إلى دوّامة من الرّوتين المملّ بين جدران البيت ومكتب العمل وواجباته الأسريّة، وفي زحمة الأيّام المتشابهة يتلاشى شغفه بالحياة، يشعر بفقدان كبير في طاقته الحيويّة، وكأنّه يتآكل من الدّاخل، ممّا يؤدّي إلى فقدان اهتمامه بكلّ ما يحيط به، حتّى يصل إلى نقطة يصبح فيها غريبا عن ذاته.
أمّا قصّة "الزّوج العبيط" (ص73)، فتجسّد مأساة كلّ من رضخ إلى قيود المجتمع وتقاليده الّتي تسحق أحلام الفرد، وتجبره على التّضحية بسعادته في سبيل رضا الآخرين وأحكامهم، مقدّما على مذبح ذلك أحلامه وحبّه ومشاعره، في تضحية أبديّة لا تنتهي، تدفعه إلى ارتداء قناع لا يعبّر عن شخصيّته الحقيقيّة، وتمنعه من أن يعيش حياة مليئة بالمعنى. هذه القصّة تثبت أنّ العواقب النّفسيّة لرضوخ الفرد لضغوط المجتمع باهظة جدّا.
وبطابع واقعيّ تقدّم قصّة "اللّيل المخيف" (ص86)، دراما نفسيّة عن صراع الإنسان وكبار السّن مع الوحدة والفقد بعد فقدان شريك الحياة، من خلال رحلة بطل القصّة "سمير" بعد وفاة زوجته "سميرة".
يوظّف النّصّ الأحلام والكوابيس كرمز لحالته النّفسيّة، حيث تعبّر الأحلام عن ذكرياته السّعيدة مع زوجته، بينما تجسّد الكوابيس مخاوفه ووحدته، أمّا استخدام اسم الزّوج "سمير" والزّوجة "سميرة" فيضفي رمزيّة على العلاقة بين الزّوجين، يشير إلى التّرابط العميق بينهما ويعزّز فكرة الوحدة الّتي يشعر بها الزّوج بعد فقدان زوجته، وكأنّه فقد جزءا من روحه.
قصّة "وحدث أن مات بعد أن نشر خبر انتقاله إلى رحمته تعالى" (ص95)، تثير الأسئلة حول طبيعة الموت، العنوان ذاته يشكّل مفارقة عندما يتحوّل الموت إلى خبر ينشر ويعلن عنه كأيّ حدث عاديّ.
في قراءة سلسة تلامس مشاعر القارئ وتستحضر في ذهنه ذكريات الطّفولة والعلاقات الأسريّة الدّافئة، تقدّم قصّة "حفيدي أشطر دكتور" (ص99) حكاية إنسانيّة مفعمة بالدّفء والطّرافة، حيث يعاني الجدّ من ألم شديد في رجله، فيندفع كلّ من حوله لتقديم النّصائح الطّبيّة المستندة إلى تجاربهم الخاصّة، ممّا يضفي على السّرد نكهة فكاهيّة.
في هذه الأجواء، يظهر الحفيد الصّغير؛ ليقدّم علاجا بسيطا وعفويّا للجدّ، وهو "الموت" الّذي يريح من كلّ الأوجاع، وعلى الرّغم من براءة الحفيد، إلّا أنّ كلامه يحمل في طيّاته حقيقة وجوديّة عميقة، وهي أنّ الموت هو النّهاية الحتميّة لكلّ آلام الحياة.
قصّة "حالة" (ص102)، تمزج بين الواقع والخيال، حيث يقع أستاذ الجامعة في حبّ طالبته "هند"، الّتي تطلب مساعدته؛ ليجد نفسه عاجزا عن مقاومة سحرها وجمالها، فيعيش صراعا بين واجبه كأستاذ، ورغبته بمساندتها في مواجهة ظلم أستاذ آخر.
يوظّف الكاتب رمز "القط الأسود" ليجسّد الظّلم الّذي يهدّد براءة "هند" ومستقبلها، هو رمز للشّر والإغواء؛ كشخصيّة غامضة تحاول استدراجها والتّلاعب بها.
من خلال هذا النّصّ يمكن مناقشة قضايا مهمّة، مثل صورة المرأة النمطيّة في المجتمع، وسوء استخدام السّلطة.
أمّا قصّة " آه يا زمن" (ص111)، فتسافر بنا عبر سرد تاريخيّ لأهم الأحداث الّتي شهدتها المنطقة، تمزج بين الذّكريات الشخصيّة والأحداث السّياسيّة المؤثّرة؛ وبين الوصف والحوار والسّرد الذّاتيّ، تطرح رؤية نقديّة لواقعنا، ويعبّر "العلم" فيها عن الهويّة، ويجسّد الصّراع بين الذّات والآخر والاندماج.
ترسم قصّة "مشاهد كلّ يوم" (ص121)، لوحة واقعيّة نابضة للحياة في بلادنا، من خلال عيون طفل يرافق والده في جولة عبر شوارع مدينة نهاريا، ليشهد على التّفاعلات بين الشخصيّات، والتّناقضات في علاقاتهم وسلوكيّاتهم وتصرّفاتهم في واقع معقّد متشابك.
يشكّل الطّفل نافذة على الواقع المعاش، فهو يلاحظ التّفاصيل الصّغيرة ويطرح أسئلة تكشف عن حقيقة الأمور ببراءة، ليحمل وصفه للمَشاهِد دلالات عميقة، تشير إلى الظّلم والتّمييز وتعبّر عن صراع الهوية. تُختَتَم القصّة بمشهد دالّ على الظّلم وانعدام الأمان.
أمّا قصّة "وتكون لنا راية"(ص126)، فتبرز التّمييز والقمع، تشكّل "الرّاية" رمزا مركزيّا للهويّة، حيث يمرّ بطل القصّة بصراع داخليّ بين رغبته في المواجهة، وبين خوفه على نفسه وأحبّائه.
في قصّة "العمّ فندي التّركيّ" (ص132)، نجد صورة لغربة الإنسان وصراعه مع الهويّة من خلال شخصيّة العمّ فندي، المجاهد الّذي قرّر البقاء في البلاد بعد عام (1948م)، ليعيش غربة مركّبة عن وطنه وأهله وعن المجتمع الّذي يعيش فيه.
تشكّل هذه القصّة وثيقة أدبيّة وشهادة على واقع الحياة بعد النّكبة، وهي تحمل في طيّاتها الكثير من الألم والحنين والأمل، فيها العديد من الرّموز الّتي تضفي على النّصّ بعدا فنّيّا، مثل "الشبّابة" الّتي تعبّر عن الشّوق إلى الجذور والحنين إلى الوطن والأهل والماضي الجميل، و"اليانصيب" الّذي يمثّل الأمل في التّغيير واللّجوء إلى الأوهام هربا من الواقع المرّ. أمّا العمّ فندي فيمثّل البطل الّذي خاض معركة من أجل قضيّة يؤمن بها، لكنّه مُنِيَ بالهزيمة، ممّا أدّى إلى شعوره بالضّياع وفقدان الهدف.
تُسقِط هذه الشّخصيّة ظلالها على الهزيمة الّتي تشعر بها الشّعوب العربيّة، وحالة الضّياع والتّشتّت الّتي تعيشها في ظلّ التّحدّيات السّياسيّة والاجتماعيّة المعاصرة، كما يرمز العمّ فندي إلى جيل كامل عاصر أحلام التّحرّر والوحدة، لكنّه اصطدم بواقع مرير مليء بالإحباطات والانكسارات، هذه الأجيال الّتي شهدت تبدّد الأحلام وتلاشي الآمال، وأصبحت رهينة لليأس والقنوط.
تعرض قصّة "أمّ عوّاد تصفع الضّابط وترميه على الأرض" (ص148) صورة اجتماعيّة حيّة لبلدة الرّامة في فترة ما بعد النّكبة، مستندة إلى ذكريات الكاتب وواقع حياته في بلدته، ليقدّم حكاية منسوجة بخيوط الواقع والخيال، ولا بدّ أنّ شخصيّة "أمّ عوّاد" مستوحاة من شخصيّة حقيقيّة عرفها الكاتب، إلّا أنّه يضيف إليها ملامح خياليّة؛ لتصبح رمزا للمرأة الفلسطينيّة الشّجاعة.
يركّز النّصّ على مجموعة من الشّخوص، كلّ منها يحمل رمزيّة خاصّة، ويظهر أهميّة التّضامن الاجتماعيّ في مواجهة الصّعوبات، كما يضفي استخدام اللّهجة المحلّيّة في السّرد طابعا من الواقعيّة والحميميّة، ويساعد في بناء شخصيّات قريبة من القارئ، تُعبّر عن بيئتها وثقافتها.
استُخدمت العبارات العاميّة أيضا في القصّة الأخيرة "سيّدنا نمر" (ص159) الّتي تتمحوّر حول صراع الإنسان من أجل البقاء والتمسّك بهويّته، واعتمدت فيها الرّمزيّة للتّعبير عن المعاني العميقة.
يتمثّل ذلك في الصّراع على الأرض، الّتي تعتبر في هذا النّصّ أكثر من مجرّد مكان، فهي رمز للهويّة والوجود والكرامة.
تقدّم القصّة رسالة قويّة عن أهميّة الوحدة والتّضامن في مواجهة الظّلم، وتبرز دور الرّموز في إلهام الشّعوب، وتحفيزها على النّضال من أجل الحرّيّة والكرامة.
الخصائص والأساليب الفنّيّة:
وظّفت في هذه المجموعة تقنيّة تيّار الوعي؛ لكشف تناقضات الشّخصيّات وأفكارها، كما تشكّل الرّمزيّة فيها لغة ثانية، حيث تتجاوز الكلمات دلالتها المباشرة؛ لتغدو إشارات تحمل المعاني، وتخفي بين ثنايا السّرد صرخات مكبوتة وانتقادات لواقع مرير.
أمّا اللّغة فموجزة، سلسة وواضحة، تستعين بصور فنّيّة تعكس رؤية كاتبها، تحمل في طياتها الكثير من المعاني والمشاعر، وهي في الوقت ذاته، لغة اقتصاديّة لا تبذل أيّ كلمة عبثا.
يتمتّع هذا العمل أيضا بوحدة أثر قويّة، كما وصفها "إدغار آلان بو"، حيث تتضافر جميع عناصره لتحقيق تأثير كلّيّ على القارئ، تتمحور مواضيعه حول صراعات الإنسان في الحياة، وتتناول قضايا وجوديّة واجتماعيّة وسياسيّة، مما يخلق ترابطا موضوعيّا واضحا.
يظهر ذلك من خلال شخوصه الّتي تصارع الواقع بحثا عن الهويّة والسّعادة في ظلّ ظروف قاسية، ولا ننسى نهاياته المفتوحة الّتي تترك للقارئ مساحة للتّفسير وإعادة صياغة المعنى، أمّا بنية القصص فتتنوّع بين قصيرة ومتوسطة، مُكَوِّنة تشكيلة سرديّة، تضفي حبكاتها المتنوّعة ديناميكيّة على السّرد.
وبعد.. يجيب هذا العمل الأدبيّ عن سؤالنا المطروح في بداية المقال، يكشف عن عمق القصّة القصيرة وقدرتها على حشد معانٍ عميقة في سطور قليلة، والتقاط اللّحظات الحيّة وتحويلها إلى نصوص أدبيّة مكثّفة، مثيرا تساؤلات جوهريّة تحفّزنا على تأمّل ذواتنا والعالم من حولنا.
نجح أيضا في نقلنا إلى عالم الكاتب الإبداعيّ الخاصّ، ولا شكّ في ذلك، فالدّكتور نبيه القاسم، هو صاحب الإنتاج والرّصيد النّقديّ والأدبيّ الثّريّ، الّذي أسهم في إغناء مشهدنا الثّقافيّ بمشاركاته النّقديّة، وبالكثير من دراساته، ومقالاته الّتي نشرت في العديد من الصّحف والمواقع الإلكترونيّة، على مدى سنوات عطائه الطّويلة.
***
صباح بشير