قراءات نقدية
محمد مرزوق: زَهْرة الحوَاشي.. زَهرة البرسيم الحمراء
طلعت على الساحة الثقافية، في الأيام القليلة الماضية، زُهرة الحوَّاشي ـ المتخصصة تخصصَا مهنيا في علم الأحياء ـ بثلاث مجموعات شعرية في آن معا، لا يفصل بينها مؤشر منهجي يذكر. ومن أوجه الطرافة في الحدَث، أن هذه الثلاثية الشعرية، في شكل إصدارها، هي ثلاثيتان بما تحمله دفتا كل كتاب في العنونة: فمن اليمين إلى اليسار هي تباعا بترتيب الناشر: " رأسي في قفص الاتهام "، و "حرف ودمعة "، و" حديث الروح ". أمّا من اليسار إلى اليمين ـ كما تُقرأ الكتبُ بالأبجدية اللاتينية ـ فتسمّى تباعا : " Confidence" و " Nostalgie " و " Etat d esprit ". وهذه العناوين المتمايزة تنسحب ـ مَثْنى ـ على كلٍّ من الإصدارات الثلاثة ، بشكل يتيح للقارئ ، منذ البدء، خيارا في أن يقرأ المجموعة الواحدة من أوّلها إلى آخرها من الجهة التي تستهويه. إلا أن القارئ يتفاجأ، عند المتابعة، بأن المجموعات الشعرية الثلاث ليست باللغتين العربية والفرنسية ، بل وباللغة التونسية الدارجة أيضا . ويَفهم أن كل نص من نصوص المجموعة نص في لغته الأصلية ، وليس منقولا بالترجمة، من لغة إلى لغة، الأمر الذي يضع قارئ هذه الثلاثية ، في محتوى إصدارها، أمام ثلاث ثلاثيات شعرية متمايزة في ثلاثية واحدة، لا ـ فقط ـ أمام ثلاث تراجم لنص وحيد.
هذه الثواليث المتمايزة المتزامنة المتحاذية في الإصدار المتوحِّدة في الشكل ، تنبّه القارئ إلى ما لمحتوياتها من خصوصيات التعدّد والتنوّع ، كما لو أن إصدارها متزامنة متحاذية متّصلة منفصلة، مؤشِّر على ضرورة توَخّي مقاربة مخصوصة بها عند قراءتها، يصبح بها قارئ الشعر في وضْع باحث بالمخبر، مَعْنيٍّ بأطوار تجربة مجهرية في علم الأحياء، يرصد تطورات اكتشاف نسيج خلويّ خلاياه تتفرّد وتمتزج، قادت إليه أبحاث بيولوجية في كائن حيٍّ جميل فسيفسائي التركيب. ذلك أن النص الفني ـ والشعري على وجه الخصوص ـ عمل تشكيلي مادّته اللغة، وتقنيات تشكيله وآليات تحليله مرهونة بميكانزمات تركيبه.
ويعزّز هذا المنزعَ في التعاطي مع هذه الثلاثية ، مؤشِّر ثان طريف هو الآخر؛ وكأنه بمثابة مدخل من المداخل التي قد تعزز القراءة، وقد يكون من المفيد أن يقارَب القارئ بها هذا العمل . ولا إخال التنصيص عليه إلا إحالة مقصودة. ويبدو في ظاهره من حواشي الطباعة وهوامشها. إلا أن التنصيص المشدَّد عليه، من داخل صفحات العناوين الستة، ومن خارجها، يجعل تجاهله عند القراءة إخلالا أدواتيّا يشوِّه مردود القارئ. هذا المؤشر يتعلق بصاحبة المجموعات الشعرية الثلاث نفسها زُهرة الحَوّاشي: فالشاعرة بهذا الاسم هي مجرّد شخص مدنيّ تدخل على الساحة الأدبية من باب الشعر. إلا أن لهذا الاسم المدني الذي تتسمّى به الشاعرة على وجه الصدفة، مسمًّى آخر على سبيل المجانسة. ذلك أن لنبتة البرسيم المعروفة زَهرةٌ، هي الأخرى، تسمّى زَهرة الحوَاشى. ولا يبعد أن يكون بين المسمَّييْن استعارة مّا، ذات معنى بلاغي، مطلوب من القارئ الوقوف عنده أو الوقوف عليه، من خلال ما بين المستعار منها وبين المستعار لها، من ممْكِن دلالات التَّكَنّي.
إحدى إحالات دلالات التكنّي هذا، أوالشبه بين الزهرتين، زُهرة الحوّاشي و زَهرة الحواشي، هي أنّ من فصائل نبات البرسيم، فصيلة ذات زهر أحمر ثلاثي البتلات، تتخذ منه الشاعرة ـ على وجه مقصود ـ كنية فنية لها، ورمزا، بكل ما يعنيه الترميز، يتصدّر كل مجموعة من مجموعاتها الشعرية الثلاث بشكل بارز على دفَّتيْ كل مجموعة. ومن ثَمّ فالمتعيِّن على القارئ ألّا يُغفِل، عند مقاربة نصوص كل مجموعة، هذه الأبعاد، وأن ينصت، في كل نص، إلى صوت المرأة الشاعرة صاحبة الذات الوجودية المدنية المنفعلة الفاعلة، وصوت الشاعرة المُنشِدة ذات الرؤية الفنية الخصوصية الطريفة، وصوت الفنانة الرمز التي تراوح بين الواقع المحدود والأمل المنشود.
إن زَهرة البرسيم الحمراء ـ زَهرة الحوَاشي ـ التي تتكنّى بها زُهرة الحوَّاشي ، في أوقات الضيق بمغاليق الوجود، والانحباس في متاهات النفس الهائمة، وأحوال اللجوء إلى استغفال قوَى الشر الخفيّة الغاشمة، وتلهية الهموم باستقراء آثار الحظ العاثر والثائر، والمرور إلى عوالم نشدان النوافذ والشرفات، على ضوء ألعاب الورق، هي زهرة التسلّي، يَستشْرِف بها ـ دون مُنازع ـ صاحبُ المحنةِ سوءَ الطالع أو الفألَ الناجز. وعلى قدر ما هو عليه من التفاؤل أو التشاؤم، يقرّر منذ البدء من أيّ طبيعة إيجابية أو سلبية تكون نتيجة التشَوُّف. فإمّا نعم ـ لا ـ نعم، وإمّا لا ـ نعم ـ لا؛ أو ما شابَهَ مِن ألعاب العُشّاق في الحدائق المغلقة، حدائق الخلوة إلى النفس الجريحة النازفة، أو في مروج مرابع الصبى والتصابي، مروج الدهماني الخضر الرحيبة في الهواء الطلق: يحبّني ، لا يحبني ، يحبني. ومن هذا المنظور فإن قراءة هذه المجموعات على غرار قراءة زَهرة البرسيم الثلاثية، هي قراءة الفأل الحسن والاستبشار بالسعد الطالع، لأن الشاعرة العاشقة الحالمة اختارت أن تَسٍمَ مجموعات التلاثية الثلاث بزهرة برسيم أحمر على وجه التحديد.
وفي هذه الثلاثية الشعرية مُحايٍثات أشبه ما تكون بالمقام الذي يتنزّل فيه المقال، أحدها أن القارئ، إذ يدخل على نصوص المجموعات من واجهة العناوين الناظمة لمحتويات المجموعات في معنى واحد هو معنى العنوان الدالِّ على موضوع كل مجموعة من مجموعات الثلاثية، يخرج من تَصَفُّحِ محتوى تلك المجموعة تحت عنوان ثانٍ يُغايِرُ في المعنى معنى العنوان الذي دخل منه، لا هو بالضدِّ المقابل ولا هو بالمُرادف له ؛ بل هو معنى نظير تـنتظم فيه نصوص كامل المجموعة بلغاتها الثلاث من الجهتين. وإذن يذهب إلى أنّ كل مجموعة شعرية من المجموعات الثلاث ـ بحدّ ذاتها ـ معمارٌ فنيّ تشكيلي ذو واجهتين كبرَييْن، يدخله القارئ من إحدى بوّابتيْه العربية أو الفرنسية التي يشاء. والمطلوب من قارئ أعمال زُهرة الحوّاشي الشاعرة، ألا يخطئ القـَرْءَ بين أجزاء ما يقرأ، فيقع في محظور، ويربط بين أطراف تلك الأجزاء من حيث لا تحتمل الربط. أو يدمج المباشر في غير المباشر دون ما يَلزَم من التروّي والحيطة. وعليه أن يوجد للموضوعات أو المواضيع المعابر والجسور الكفيلة بالعبور والعودة، بين " رأسي في قفص الاتهام " ونظيره الفرنسي " البوح "، أو بين " حرف ودمعة " وبين نظيره " حنين "، أو كذلك بين " حديث الروح"، و " معنويات ".
إن نصوص زُهرة الحوّاشي بلغاتها الثلاث لا تـُقرأ في مجموعاتها الثلاث قسما قسما، كلًّا على حدة، على سبيل التحاذي والتوْليف في كل مجموعة، وإلّا لكان لزاما أن تتخذ النصوص الواردة في كل مجموعة من المجموعات الثلاث باللغة الدارجة التونسية،عنوانا تنفرد به ضمن كل مجموعة، على اعتبار أن للنصوص باللغة الفرنسية ـ على أولى الغلاف، من اليسار، عنوانا مخصوصا لها، لا يتعدّاها، شأنها شأن النصوص الواردة فيها تحت عنوان بالعربية الفصحى، على دفّة الكتاب اليمنى. هكذا، كل مجموعة شعرية هي تشكيلة ثلاثية التركيبة تندرج في سياقين منتظمين متناوبين يتباينان ويلتقيان في حركية دائبة ضمن المجموعة الواحدة، يُنْشئان مسارَها ومدارَها . وينضاف إلى هذه الحركية البنيوية الداخلية الثابتة في المكان، حركية متزامنة أخرى تـَنْشأ من تزامن المجموعات الشعرية الثلاث في الصدور، وتُنشِئ لنفسها ـ بنيويّا ـ زمانها ومداها ما دام لا يُعرف لنصوصها من داخل المجموعات أو خارجها لا أوّل ولا آخر.
ثلاثية زُهرة الحوّاشي الشعرية تتراءى للقراءة ـ من هذا المنظور البنيويّ الديناميكي ـ تشكيلةً إنشائية مركّبة، لا تشكيلة بسيطة خطّية. وقد يقود البحث المتأنّي المعمَّقُ فيها إلى الكشف عن فرادة أسرار بِنْيَتها الداخلية التي استَحدَثتْ لمضامينها شكليّـتَها الخارجية، هذه التي طَلعتْ بها على الساحة الشعرية. وسواء من باب الصدفة أو القصد، فإن تشكيل هذه الثلاثية الشعرية تشكيلا واعيا أو عفويا، على هذا الوجه من الانتظام، مَبْصوم بوجدانٍ شعريّ مُرْهَفٍ هَنْداس مُعَقْلـَن، يَجْنَح إلى مقارَبَةِ كينونةِ الشعر وعوالمها، بعين المَجاهر والمناظير المعتادة على التبصّر في التناسج الخَلـَوي وتراصفه وتناضده في عوالم البحث في الجُزيْئات الحيوية الدقيقة اللطيفة اللّا ـ مرئية، عجائبيةً أو غرائبية كانت ...
كذلك، من المحايثات الحافّة بنصوص هذه المجموعات الشعرية الثلاث أيضا، ثلاثة إهداءات بالفصحى من جهة، وثلاثة تصديرات بالفرنسية من الجهة الأخرى. وتفصل ـ أو تربط ـ من الجهتين، بين نصوص الفرنسية ونصوص الدارجة التونسية، في أواسط المجموعات الشعرية الثلاث، صورتا قطعتَيْ مصوغ تراثيّ شعبيّ ريفيّ تونسيّ؛ لعلّها مؤشِّر على التجسير بين الأغراض الشعرية تجسيرا تشكيليا فنيا، بين لغات الثلاثيات الثلاث، ولِمَ لا مؤشّر كذلك على طابع تلك النصوص المحلّي وسياقها الشعبي؟ للعبور بتلك النصوص من الثقافي المحلّي إلى الحضاري الكوني. هذه الأصناف الثلاثة من المحايثات الحافّة بنصوص المجموعات، تؤطّر وجهة القارئ في مقاربة النصوص بالسياقات التي تندرج فيها، لعلّه بتلك الحوافِّ يدرك مَراصد رؤية زهرة الحوّاشي الفنّانة الشاعرة، وهموم مساراتها ومسيرتها الاجتماعية ـ التاريخية.
تجمع زَهرة الحوَاشي / زُهرة الحوّاشي، هذه الباقات من أزاهير عمرها، وتهدي منها باقة "حرف ودمعة " إلى أبيها الحبيب، مَرْفوقة ـ على شاكلة الباقات المُرْسَلة ـ من الجانب الأيْسر " حنين"، ببطاقة عليها تصديرٌ مفادُه إقرارُ البشرية بالفناء، واعترافُها بمحدودية البقاء على قيْد الحياة. غير أنّ ذلك لا يُعْفي أحدا مِن اعتبار كل مَن لا يسعى وراء الحقيقة، قد قضّى حياته ميْتا بين الأحياء. ومن هذا المنظور تتجلّى ميلودْراميّة الحياة، ومنزلة الإنسان التراجيكوميدية، وأصالة صراعه البطوليّ ومَصْرَعِه في الوجود، على نعت ما بدا لهذه الشاعرة المتحفّزة قلبا وقالبا على أعتاب الحياة.
الباقة الثانية "حديث الروح" من جهة، ومن الجهة الأخرى "معنويات "، مُهداةٌ من اليمين إلى حرائر تونس نبراس الحرية، ومُصدّرة من الشِّمال بعبارة تعرّف بها الشاعرةُ الأمومــةَ على أنها ـ في كلمةٍ ـ الموتُ عِشْقا لا غير. بل هي ـ الأمومة ـ ذوبانُ الوالد في الموْلود بالمعني الصوفي، وحلولٌ فيه. أو هو انعتاق الذات الحبيسة في ملكوت الحرية الرحيب. غير أنّ العبارة بقدر ما فيها من نفَس ملحميّ، واستعداد للمصالحة مع الذات و الغير، والانسجام مع الكون، فيها من عناء اقتحام الوجود والمصير، و قسوة الغربة، ومرارة الاستِلاب، ما لا شافع منه لأنثى، إذا ما حاق بالإنجاب مجتمعٌ عاقرٌ بليد. الموت عشقا مفهومٌ مثْقـَل بالمعاني الحافّة، في الثقافة الغنائية والسينمائية الفرنسية والكونية. وهو لحن تُنشِدُه الإنسانية المعذّبة، وآفاقٌ تَنْشَدّ إليها وَ تَنْشُدُها، في العالَم، منذ سبعينيات القرن الماضي، أبصارُ الأجيال المتعاقبة، كلما رزحتْ غريزةُ حفْظ النسل لديها تحت نعال الهمجيّين الحكّام.
أما ثالِثة الثَلاث " رأسي في قفص الاتّهامَ / بَوْحٌ "، المهداة إلى شهداء الوطن الأبرار، فتُصدِّرها عبارة مَفادُها أنّ المحتالين ينتهي بهم أمرهم إلى مُغَفَّلين، وتلك هي القاعدة في مثل تلك المعتمَلة. أو بعبارة عربية " كما تدين تُدانُ ". ولا يَخْفى مِن وراء ذلك القصْدُ. ومن يَضْحَكُ الأخير يكون خيرَ الضاحكين. وبهذا التواشج والانتظام بين حوافّ المجموعات الشعرية الثلاث، تكتمل دائرته، وتدور، ويكتمل تربيعها، وتتّضح للقارئ أكوانها الشعرية ومداراتُها وأبعادها.
إن هذا التعريف بثلاثية زهرة الحوّاشي الشعرية هذه، من خلال الحَوافّ التي حفّتْها بها صاحبتُها، يكتفي من عرْضها، بالكشف عن بعض فحواها، حتى لا يُهْدِر استمتاع القارئ بنصوصها، ويهتك أسرار نكهتها ويزهّده في الإقبال عليها قبل استبطانها. وفي كلمة فإن هذه الإصدارات الثلاثة المتزامنة تعكس واقع الشاعرة ـ على غير المعتاد ـ بعين امرأة تتدامج في وجدانها حميمية الفتاة الحالمة، ومجالدة الشابّة المتحفزة، ومكابدة المرأة المثقّفة الملتزمة التزاما معرفيا سياسيا أخلاقيا بقضاياها النسوية الأصيلة، و وظائفها الاجتماعية التاريخية، وظائف المؤمنة ـ في محيط عدواني ـ بفجر غد أفضل. يُطِلّ من وراء مسارب " بير ماطر" أو على سنابل القمح والقمْع في " مروج الدهماني " أو " ربوع سليانة ".
***
الشاعر والنّاقد محمد مرزوق