قضايا

صباح خيري: منظومة القيم والانضباط التربوي

خط الدفاع الأول في مواجهة الغش والمعلومات المضللة

تعد منظومة القيم والانضباط التربوي جوهر العملية التعليمية وأساس بناء الإنسان الصالح الذي يميّز بين الحق والباطل ويهتدي بنور العلم والأخلاق، فالقيم هي الإطار الذي يوجّه السلوك ويهذب الضمير ويمنح الفرد القدرة على اتخاذ القرار الصحيح في عالم تتزاحم فيه المعلومات وتكثر فيه المغريات، وإنّ التربية التي لا تقوم على القيم تكون جسدًا بلا روح لأن القيم هي التي تحفظ للعلم مكانته وللمتعلم كرامته، وقد أكد القرآن الكريم على أهمية الصدق والأمانة في قوله تعالى ﴿وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا﴾ [طه: 114] فالزيادة في العلم لا تُطلب إلا بنية صافية وسلوك مستقيم، كما قال سبحانه ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾ [الأنفال: 58]، وهذه الآية تؤكد أن الغش في أي صورة من صوره خيانة للأمانة العلمية والإنسانية

أما في الفكر الإسلامي، فإن القيم التربوية تمثل منظومة من المبادئ الأخلاقية التي تُستمد من القرآن والسنة، وهي أساس تكوين الشخصية المؤمنة الواعية التي تتعامل مع الآخرين بالعدل والإحسان، فالقيمة في الإسلام ليست مجرد فكرة مجردة بل هي سلوك عملي متجذر في الإيمان، وقد بين الله تعالى في كتابه العزيز أن غاية التعليم هي تزكية النفس لا مجرد جمع المعلومات، قال تعالى ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ [الشمس: 9]، فالتزكية هنا هي أسمى صور الانضباط القيمي، إذ تعني تهذيب النفس وتطهيرها من الميل إلى الخطأ والغش والخداع، كما أن النبي (ص) جعل من الصدق ميزانًا للإيمان بقوله «عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر وإن البر يهدي إلى الجنة» رواه البخاري، فالقيمة الأخلاقية في الفكر الإسلامي ترتبط بمصير الإنسان الروحي والاجتماعي

أما الانضباط التربوي في الفكر الإسلامي فهو نظام متكامل يهدف إلى تنظيم السلوك وضبطه وفق الشريعة ومقاصدها، لا على أساس القسر والعقاب وإنما على أساس الوعي بالمسؤولية أمام الله والضمير، فالمتعلم في الإسلام مسؤول عن علمه وسلوكه، مصداقًا لقوله تعالى ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38]، والانضباط بهذا المعنى هو التزام ذاتي ينبع من الإيمان بالله والخشية منه، كما جاء في الحديث الشريف «اتق الله حيثما كنت واتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن» رواه الترمذي، فالانضباط في الإسلام ليس مجرد التزام شكلي بالقواعد المدرسية، بل هو تربية داخلية على المراقبة والمحاسبة والإحسان في العمل

وفي ظل الانتشار الواسع للمعلومات عبر الوسائط الرقمية أصبح المتعلم عرضة للمعلومات المضللة التي تُبنى على التضليل والخداع، وهنا تتجلى أهمية المنظومة القيمية في تعزيز التفكير النقدي والتمييز بين المعلومة الصحيحة والزائفة، فالقرآن الكريم يدعو إلى التثبت قبل تصديق الأخبار قال تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا﴾ [الحجرات: 6] وهذه الآية تمثل قاعدة ذهبية في التربية الإعلامية المعاصرة إذ تربي المتعلم على التمحيص قبل النشر أو التبني لأن الانخداع بالمعلومات الكاذبة نوع من الغش المعرفي الذي يتنافى مع القيم الإسلامية

ومن الروايات التربوية التي تبرز أهمية القيم في التعليم ما ورد عن الإمام علي عليه السلام قوله «قيمة كل امرئ ما يحسنه» وهذه المقولة تختصر فلسفة التربية القيمية، فالقيمة الحقيقية للإنسان ليست بما يملك من مال أو جاه وإنما بما يتحلى به من خلق وعلم نافع، كما قال أيضًا «العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل» في إشارة إلى أن العلم المنفصل عن القيم والانضباط لا يثمر ولا يبقى

إن الغش والمعلومات المضللة لا يُمكن مواجهتهما بالرقابة الخارجية وحدها بل بالرقابة الذاتية التي تُغرس في النفس منذ الصغر، فحين يتربى المتعلم على الصدق والأمانة يصبح هو الرقيب على نفسه ويعي أن الغش لا يضر غيره فقط بل يسيء إلى ذاته وضميره، ومن هنا فإن المؤسسات التعليمية مطالبة بترسيخ القيم من خلال المناهج والأنشطة والتفاعل الإيجابي بين المعلم والمتعلم، كما يجب على الأسرة أن تكون شريكًا في هذه العملية التربوية لأن القيم تبدأ من البيت وتنمو في المدرسة وتترسخ في المجتمع

وبذلك يمكن القول إن منظومة القيم والانضباط التربوي تمثل خط الدفاع الأول في حماية التعليم من التلوث الأخلاقي والمعرفي، فهي السور الذي يحفظ نقاء العلم ويمنع الغش والخداع، وهي في الوقت نفسه البوصلة التي توجه الأجيال نحو الصدق والنزاهة والإتقان، مصداقًا لقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، فالعمل المتقن القائم على الصدق والانضباط هو التعبير الأسمى عن الإيمان بالله وعن عمق الانتماء الإنساني والحضاري وبه تزدهر الأمم وتسمو النفوس وتعلو القيم

***

د. صباح خيري

 

في المثقف اليوم