قراءات نقدية
نورالدين حنيف: الأنا الشعرية الناعمة والمفترسة

في ديوان (تراتيل على حافة البوح) للشاعرة المغربية حورية خرباش
تمهيد: سنرجئ مقولة الافتراس الناعم إلى حينها ريثما يستدعيها السياق، ونقول: إن قراءتنا الموضوعاتية لديوان (تراتيل على حافة البوح) للشاعرة حورية خرباش تدخل في ثلاثة أنساق ثقافية:
1 - نسق ثقافي مغربي يعانق تحولات الحداثة الشعرية من موقع الإسهام الفني الناضج والمسؤول.
2 - نسق انخراط الشاعرة في هذه الحساسية الشعرية الحداثية حيث تُدلي بدلوها الشعري وببصمتها الخاصة.
3 - نسق نون النسوة الذي لا يميزها عن الكتابة الذكورية، فهذا لا يشكل همّاً من همومنا النقدية وإنما نقصد أنّ كتابتها الشعرية تحمل مشروعا فنيا في سياق هيمنة ذكورية أنصفها التاريخ فوق التصور، وما ديوان (تراتيل) إلا صرخة في وجه هذا التاريخ لانتزاع الحق أو بعض الحق من هذه الهيمنة الموهومة.
و لتوضيح ذلك نستطرد عبر السؤال التالي: لِمَ يؤرّخ الدارسون مثلا لظهور الرواية في الحقل الأدبي العربي تأسيساً برواية (زينب) للكاتب المصري حسين هيكل التي صدرت عام 1914 في حين أن باكورة الظهور الروائي العربي تعود إلى نهاية القرن التاسع عشر مع عائشة التيمورية في روايتها الموسومة بـ (نتاج الأحوال في الأقوال والأفعال، عام 1885 – مصر) ومع أليس بطرس البستاني برواية (صائبة، عام 1891 – لبنان) ومع عفيفة آظن برواية (فابيولا، عام 1895 – سوريا)...؟ والحديث في هذا يطول ولا حاجة لنا بالمزيد، فيكفينا فيه هذا الاستشهاد المعبّر، لأن المقام هنا مقام قصيدة النثر، لا مقام جدل أو جدال حول أسبقية دون أخرى.
* المقاربة:
1 – عتبة العنوان:
اختارت حورية خرباش لديوانها عنوان (تراتيل على حافة البوح). والتراتيل جمع ترتيلة، ورَتِلَ الكلامُ تناسق وانتظم. ورتّلَ يُرتّل جوّد وتأنّق في تلاوة القرآن. والترتيلة هي الأنشودة مرتّلة في صلاة المسيحيين.
و الحافة هي الناحية والجانب والهاوية. وهي أيضا الحاجة.
و البوح من باح يبوح أي ظهر. وباح فلان بالسر أظهره1.
و إذا ما قارنّا هذا العنوان بقرينه في ديوانها السابق (ترانيم على بياض الروح) يتبدى لنا جليا حرص الشاعرة (حورية خرباش) على العوم في هذه التيمة بوعي فني قائم على تصور جمالي للوجود.
و الترانيم اسم جمع لترنيمة واحدة. ورَنِمَ رجّعَ الصوت وتغنّى به وطرب.
يفيدنا ذلك أن الشاعرة لا تكتفي بصوغ القصيدة في مكافحة البياض للانتصار على تسطّحه فحسب، وإنما تتجاوز ذلك إلى بناء نسق دلالي يخرج بالمعنى من الطرح العائم والمشترك إلى عملية جمالية تبني الأغنية بدل القصيدة. والمتأمل للديوان يصدمه ذلكم التراكم المعجمي والدلالي للمقولات التالية في ترددها البائن:
التيمة = حجم التردد في الديوان
التراتيل = 3 مرات
الترانيم = مرة واحدة
الأغنية = 6 مرات
الشدو = مرتان
الابتهال = مرتان
الوتَر = مرة واحدة
اللحن = مرة واحدة
الانشودة = مرة واحدة
القصيدة = 12 مرة
المجموع = 29 تردّداً
وانطلاقا من هذا التردد لنفس التيمة بصيغ مختلفة متجانسة في الدلالة، يحقّ لنا التأويل بعدما غادرت الشاعرة حلبة الإنتاج مع رولان بارت، ونقول: إن الديوان في جله هو أغنية تُحيل على حواء لا في ميراث الخطيئة، ولكن في فلسفة الأنثى عندما تبني رؤيتها داخل تشكيل لغوي حيوي وضاغط بنعومة حريرية تؤمن بمقولة التجاوز والتخطي. قالت الشاعرة في هذا السياق:
و نحّيتُ تفّاحتك المُحرّمة
من موائدي2.
و في الكلام النّاعم رفض لميراث التفاحة المرتبط بإدانة المرأة. وفيه كان التاريخ يحرص حرصاً تمثُّلياً مغلوطا على إلصاق الفعل بها. مع العلم أن الوحيَ حسم في المسألة منذ قرون طويلة مسطراً الحقيقة الربّانية المنصفة في إعجاز جمالي ودلالي خارق. (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ)3. فانظر معي أيها القارئ إلى علامة التثنية (أكلا – لهما – سوءاتهما – طفقا – يخصفان – عليهما) المتكررة بقوة في هذ السياق القراني، وانظر أيضا إلى الختم الربّاني وكيف تمّ إسناد الغواية.
والديوان أغنية كبيرة تكمل أغنية الديوان الأول (ترانيم). أغنية مقطّعة يتنامى فيها البعد الدرامي والمتخيل داخل شِعريةٍ حداثية تتغيّى القول المختلف في أزمنة قصيدة النثر التي تغتال إشراقها - أحياناً - ثقافة الشبه.
و الديوان أغنية واحدة بدليل أن كل القصائد – باستثناءٍ ضعيف – هي في الأصل محاورة بين الأنا والأنت. بين الذات والآخر. قالت الشاعرة:
سأرحل وبيدي أغنية
يشدو بها عبق الدوالي
لأجلك... الديوان، ص 10
و قالت أيضا:
يا لرجع الصدى
في مسمعي
و مرايا السراب
في غربتي
و لفيف من أغاني الصباح
على أعتابك الواهية... الديوان، ص 54
وهي محاورة بؤرية تركز على الدوال بأعلى ما يمكن من طاقة التركيز والتكثيف. ذلك أن حجم الديوان صغير في صفحات لا تربو على الثمانين، وفي قصائد لا تتجاوز العشرين، وهي مركّزة تفر من قبضة القصيدة الشاملة (التي يُعبَّرُ عنها بالقصيدة الطويلة). وهذا مبحث مهم في إشكاليات قصيدة النثر المتعددة والتي تطرح أكثر من سؤال حول الحجم والبياض وهندسة الفضاء الورقي، مما يدعو إلى القول إن القصيدة المركزة في عرف الشاعرة (ح خ) هي كينونة أكثر منها إجراء مساحةٍ قابلةٍ للتسويد 4.
و في إجراءٍ منهجي تقابلي نقول إن التراتيل تتجانس مع (الترانيم) وتتشعبان في نفس الآن. محدثةً بذلك نسقا متكاملاً من فنّ القول، تُسطّره ذائقة الشاعرة في مستووين:
* مستوى التوازي التركيبي حيث صِيغَ العنوانان داخل مركب اسمي بمبتدأ محذوف (هذه تراتيل... – هذه ترانيم...). ثم قرنت المتكلمة العنوانين معا بشبه جملة (على حافة البوح – على بياض الروح).
* مستوى الدفقة الموسيقية الأخيرة في عنوان الديوان الأول (الروح) وعنوان الديوان الثاني (البوح). تخرج الشاعرة من التجربة الأولى وكأنها تجترح بياض الروح وتخترق صمتها وتدلف من هناك إلى ورطة لذيذة في ديوان (تراتيل على حافة البوح). إن الخروج من البياض معناه تكسير الصمت وهو الترجمة الدلالية للرغبة في البوح، أي في القول والهمس والصراخ داخل دوائر الإبداع طبعا. ولكن هذا البوح تقدمه لنا الشاعرة (ح خ) مبطّناً في مقولة الخطر بقرينة لفظية هي (الحافة). والتراتيل باعتبارها أنشودة كبيرة فهي لا تتم على الركح بل تتمّ على صفيح فضاء مختلف موسوم بالسقوط الممكن في أي لحظة. إنه فضاء الحافة. ومن عميق المفارقة أن يتمّ الإنشاد والغناء والبوح وكل أشكال القول على شَفا هذه الحافة.
و الخلاصة: إن الشاعرة في زمن الكتابة الذكورية تمارس نوعا من الخرق لناموس هذه الكتابة. وهو خرق يهدد كينونتها أولاً بأول، وهي لا تبالي، من منطلق حقّها في تأويل ذاتها كما تشاء.
2 – الأنا الحاضرة بقوة:
اعتمدنا في هذا التأويل على عملية رصد دقيق لمقولات الأنا والأنت في تجربة احصائية أفضت إلى ما يلي:
أقانيم الحضور حجم التردد في الديوان
حضور الأنا 296 ترددا
حضور الأنت 339 ترددا
و المعول عليه هنا هو تتبع المقولتيْن في التركيب أولا، وهو المفضي إلى الدلالة لاحقا في مقاربة الضمائر وما جرى مجراها من وحدات لسانية.
مثال الأنا - أشعلتُ أصابعي
مثال الأنت - ماذا لو أنك، وحدك، تنير خريطة حلم...
و الملاحظ أنه على تفوق التراكم المعجمي لــ (أنت) فإن هذا الأخير لا يتجلى إلا عبر جسور الــ (أنا). قالت الشاعرة في مثال لا حصري:
لا تحجب عنّي نورك
أنت أنا أنت
و في مثال آخر هو غيضٍ من فيض:
ماذا لو أنك وحدك تحضن عمري (أنت أنت أنت أنا)
هذه بعض البنيات السطحية الحاملة للدلالات العميقة في هذا الخطاب الشعري في قصيدة النثر الحداثية. وفيه تأخذنا الشاعرة (ح خ) عبر (أناها) القابضة على محورية الصوغ الشعري من حيث كونها تدير تجربة الحبّ بمعناه الواسع داخل نسق شعري عضوي يروم تلبية رغبتين: الأولى ترتبط بتحقيق الوجود والثانية ترتبط بالتعبير عن الرؤية الخاصة لهذا الوجود. وهما رغبتان تتداخلان بشدة إلى درجة التلازم، ويبقى الفصل بينهما مجرد إجراء تفكيكي لخدمة المقاربة في توجّهاتها التأويلية.
إن حقيقة الوجود المتعلقة بالذات \ الأنثى هي أمر رهين برؤية الشاعرة للوجود في أفق شاعري يمتطي ثنائية الذات والآخر لتعلن عن فلسفتها في مجال الحب. وهي فلسفة تتجاوز العلاقة المبتسرة بين الرجل والمرأة إلى تكريس فعل نبيل وعميق هو:
3 – الاتصال الإنساني:
قالت الشاعرة:
غادرْ إن شئت
ستبقى دوني
وحيدا تغوص بوحدتك
و تصل لآخر الشوط
أقصى ما في مداك
مثقلا بغبار الأرصفة
و ضياع الطرقات... الديوان، ص 61
تهدم الشاعرة بهذا الوصل الإنساني نقيضه الموسوم بالانفصال الذي تقدمه لنا في سياق الرفض لليل والظلام وتداعياتهما، حيث يبرز شعاع (الأنت) قوي الفعل ومضيئاً لأنشودة الصمت ومحوّلاً دلالة الغياب إلى حضور جميل.
تبرز الذات المتكلمة هنا واعية بتدرج كينونتها في الانبناء، عبر أطيافٍ شعرية ننظّمها وفق التتابع التالي:
- حضور الشك = كفرتُ بيقيني * ص 16
- حضور التخطي = نحّيتُ تفاحتك * ص 14
- حضور الانتظارية = القصيدة * ص 27
- حضور الاشتعال = تلهب كفي * ص 29
- حضور الضياع = و ضاع خطوي * ص 31
- حضور الألم = أنقش على جدران ألمي * ص 33
- الحضور المازوشي = أقضم أصابعي * ص 37
- حضور القوة = أنا أميرتك * ص 43
- حضور الخوف = أخاف أن أحتمي بظل صخرة * ص 47
ترتبط تجليات حضور الذات هنا بسياق الأنثى في الواقع وفي المتخيل. وفيه تمارس الشاعرة كينونتها بامتياز وجودي داخل لعبة الخفاء والتجلي. طرفها الأول يبين عن أحوال الضعف والثاني يؤكد حالة القوة. من هنا إذن تأويلنا للعنوان في تعالقاته مع سياقات المتون الشعرية كاملة. ذلك أن مفردة (تراتيل) في قلب حروفها تقودنا إلى تخريجة صورية غريبة وهي (رتيلاء) وهي تحيلنا على أنثى العنكبوت. والمسكوت عنه هنا هو أن الأنا تجد معاناتها نابعة من تاريخ وجودها، ومن ثمّة تسكنها باستمرارٍ رغبةٌ قوية في تحقيق الوجود والخلاص5. وفي هذا تشترك المبدعات الشاعرات العربيات مع اختلاف في خصوصية الرؤية التي تتعدد من خلاص عبر التمرد والرفض والتجاوز أو عبر التماهي والاستبطان أو عبر الحلم والسياحة الجمالية أو عبر القطيعة أو المداهنة وما شابه... وأما شاعرتنا (ح خ) فقد اختارت الخلاص عبر آلية الحب وتكريس الاتصال الإنساني داخل لعبة الافتراس الناعم لكل شوائب الرجولة الخارجة عن سمت الوجود الإنساني والاتصال.
4 – الآخر، الحاضر \ الغائب:
اعتمدنا في ذلك على رصد العلامات اللغوية التي تسندها الشاعرة للآخر المُعَبَّرِ عنه بـ (أنت). فوجدنا الحصيلة التالية: (وجود غامض – متعالٍ – مجنون – يحب العزلة والخلوة والوحدة – متقلب – حاملُ أسرار – مبتهل – مشرق – منير – واصل – مهاجر – لمّاح – ذكي – ملهم – أمين – غاوٍ – غائب – حاضر – طيف – حاضن – جوال – جوّاب – قوي – جارف – متمنع – بعيد – وحيد – متفرد – مشتعل – شارد – مرغوب – سلطان – غني – واعد – عميق – معاند – رحب – شديد الجفاء – ناسٍ – معطّر – معذِّب – متجاهل – فاتن – ساديٌّ – عصيّ – مدلل – رافض – مترنم...) ونكاد نجزم بأن الإيجاب في هذه المسندات هو المهيمن مقارنةً من مسندات السلب والتنقيص. وهذا معطىً معجمي مقصود يخدم رؤية الشاعرة لثنائية الرجل والمرأة و يتساوق كذلك مع لعبة الافتراس الناعم.
لا تقبض الذات أو الأنا على الآخر في وضعية السهل والمستجيب والبديهي والمسالم والدوني والرخيص. إنها تروم القبض عليه في عليائه وسموقه وقوته لتثبت الذات قوّتها وتفوّقها وعلويتها. فلا معنى للصراع مع ضعيف أو مع رخيص. المعنى يجد ذاته في مقاومة المتميز والقوي. ولعلّها صورة تبنيها الشاعرة لتأكيد قيمِ الذات القوية عبر النقيض الأقوى. وفي مثال الشاعر عنترة بن شداد شهادة على المشترك المعنوي عبر الزمان حيث كان لا يثبت قوته إلا في هزيمة الغريم المدجج الذي تفر منه أشد الفرسان بأسا:
و مدجّجٍ كره الكماةُ نزالهُ \\\ لا ممعنٍ هرباً ولا مستسلمِ
فشككتُ بالرمح الأصمّ ثيابَهُ \\\ ليس الكريم على القنا بِمحرّمِ 6.
هكذا يشتغل مخيال الشاعرة (ح خ)، فهي تتحين فرصة القبض على مفهوم الرجل متلبسا بخصائص القوة، يقاوم، لا ضعيفا في مفهوم الأنوثة، بل قويا في تجديد مفهوم هذه الأنوثة أو بعبارة أدق نقول: تصحيح تمثل الرجل المغلوط لمفهوم الأنوثة.
5 – الحضور الإشراقي:
لا نقول الحضور الصوفي أو الحضور العرفاني لأن التراكم المعجمي في هذه الحقول لا يخدم افتراضنا وحتى توجه الرؤية لدى الشاعرة (ح خ) لا يسير في هذا الاتجاه. ولكن بعضاً من هذا يتمسرح على سطوح المعجم والتركيب وبالتالي يلحّ علينا في استقطاب الدلالات هناك فيما نسميه الإشراق. لأنه أقرب إلى تمثلات الشاعرة وأقرب إلى تأويلاتنا المشروطة. واعتمدنا في ذلك أيضا على رصد إحصائيٍّ دقيق لمفردة (النور) وتداعياتها ومرفقاتها سواء أسندت للأنا أو للآخر (أنت) .
و قد وردت في الديوان على إيقاع متكرر بائنٍ: 44 تردّداً.
قالت الشاعرة:
لطالما
لبست بردة المريدين
كي ألزم خلوة محرابك
و نذرتُ كياني هدية
لشيطان آثامك
و حفظتُ عن ظهر القلب
كل أسرارك
لا ولا حتى ملائكة السماء
درتْ بما أخفتْه أفلك أبراجك... الديوان، ص 15
و قالت أيضا:
لا تحجب عني نورك
فلا أحد لي غيرك
من يفقه بلاغة الوصال
أو يفهم لمح الشوق
في طيّ الكلام... الديوان، ص 19
وقالت أيضا:
و تتركني عند المنتهى وحدي
تغزل عيناي اشتعالَ الرؤى
لبساً لغواياتك... الديوان، ص 21
يعجّ الديوان بمثل هذه الصياغات (اشتعال الرؤى – خوالج الروح – مقام العزلة – رحاب الهديل – أشعة الأنوار – تراتيل على كل الطرق – جوال الفيافي – يبتلّ مضجعي...) مما يشي بنوعية إضافية في مجال الكتابة النسوية عند الشاعرة (ح خ) وهي تلقي بظلال هذا البعد الإشراقي على بعض العتمات الوجودية لأغراض رؤيوية وفنية نذكر منها:
- تأكيد الندية
- تأكيد التفوق
- استلهام التراث
- جمالية الاستلهام
- الخوض في مخيال الإشراق
و تتمظهرهذه النزعة في تضخم الإحساس بالأنثوية باعتبارها نزعة وجودية تصوغها جمالية متفردة في الصوغ. تنتقل من البناء الجمالي لعالم الشاعرة المكتظ بالذاتية المنتصرة عبر قوة الآخر في أساليب شعرية تتبنّى السهل الممتنع والانزياحات الرقيقة، إلى البناء الدلالي الموغل في كشف اللاوعي الذي يبحث منذ بداية الديوان عن صيغة لتأكيد مصداقية البوح الموشك أن يكون على الحافة بما تطرحه من إمكان السقوط، وهو السقوط الممنوع مادامت الشاعرة تسعى إلى البوح داخل شرط النبوة التي تحميها من كل انزلاق. وينسجم مع هذا التخريج قرارُ الذات المتكلمة في أن تلبس البردة في حضرة الشعر لفظاً ودلالةً في سياق النبوة 7. وما الآخر المحشور في السياق الشعري إلا ذلكم المعادل الموضوعي للآخر\الرمز. وقد وردت مفردة البردة في سياق استدعاء واستجلاب الاعتراف بالأنثى داخل مقولة التاريخ.
6 – سيمياء الجسد في التراتيل:
يتبدى الجسد في ديوان (ترتيل على حافة البوح) امتداداً لرؤية الشاعرة الوجودية والفنية لعلاقة الرجل بالمرأة. وهي تقدمه لنا حضوراً نوعيا يتكلم بكثير من الترميز والدلالة والأبعاد. وحسبنا من ذلك تتبع حضور تيمة الجسد في الديوان عبر أمثلة تعزيزية لا حصرية:
- (أشعلتُ أصابعي... ص 14): هناك تلميح شاعري لجسد التضحية والقربان، بقرينة لفظية دالّة هي مفردة (الموائد). أنظر القصيدة.
- ( لبستُ بردة المريدين... ص 15): الجسد هنا سديمٌ عرفانيّ وروحانيّ متجاوز للباس والترف والخيلاء. وقرينة القربان تأخذ بعداً آخر أكثر جرأةً في التعبير الشعري المنزاح عبر طقس النذر (نذرت كياني هدية لشيطان أناملك)
- (أنا النافذة كالريح... ص 16): حضور الجسد في صورته الشعرية الشفافة وغير المغلقة. والقرينة اللاحقة تحكي قرار الذات وهي تفتح من أنفاسها أبواباً مُشرعة، في توجّهٍ فلسفي يؤمن بالانفتاح أكثر من أي نسق آخر.
- (كلّ لمسةٍ سلام... ص 18): المقولة هنا تتجاوز الحد البهيمي والغريزي في استحضار لحظات الجسد، واللمس متعلق بقيمة السلام نقيضاً للحرب لا السلام المتعلق بالتحية حيث التماس بين يدين هما في آخر المطاف جسدان. الشاعرة تفرّ بالعبارة الشعرية إلى عالم القيم حيث الجمال والحق والخير، ومن ذلك، قيمُ السلام بين هذين الأقنومين اللذين شغلا الناس والثقافة والعالم. وفي هذا السياق تفتح الشاعرة أفقاً آخر عجيباً وعامراً هو أفق الاتصال الإنساني.
- (علّ قبلة منك على جبيني تحتفي بصبوة الأغاني... ص 23): احتشامٌ واضحٌ في صوغِ مقولة الجسد داخل فعل الشهوة. وقرينةُ الجبينِ تفيد ذلك، وتجعل القبلة فعلاً مفرغاً من كل حسٍّ غرائزيّ ممكن. القبلة هنا متعالية، يردّدها (هدير البحر) وتحمل في آخر المطاف غضبا من الذاتِ ضد الأنت. إنها قبلة الموقف.
- (لنستحمّ معاً بأشعّة أنوارك... ص 24): الاستحمام يستدعي الجسد، والأنوار قرينة تمنع الجسدانية وتقرّبنا عرفانية مفارقة.
- (...) والأمثلة في سياق هذه الجسدانية المتأرجحة بين الشهوانية الماكرة والعرفانية الأمكر، كثيرةٌ ومتعددة، ونظنّها قائمة بذاتها في محور دلالي يشكل مقاربة نقدية مستقلة. وحسبنا من هذا أنْ أشرنا وأوّلنا، وللقارئ كل التأويل في مخرجات هذا المحور.
- خاتمة:
تتجاوز الشاعرة (حورية خرباش) ذلكم الخطاب السوداوي القاتم والقائم على رفض الآخر رفضاً مجانياً في جموحِ الأنثى البانية موقفها على رد الفعل من أجل فكرة الانعتاق... إنها لا تدين الآخر في شخص الرجل، بقدر ما تدين بنعومةٍ شعريةٍ الموقفَ التاريخيَّ الذي صاغ الرجل مهيمناً فيما قد أقصى الأنثى وأغمطها بعض حقّها المشروع...
و الشاعرة في عمق رؤيتها الفكرية والفنية تسعى إلى مد جسور الوصل والوصال والتواصل والاتصال بمقولات مقروءة في ثنائية كبيرة هي الذات والكون، وهي التي تتلاشى داخلها ثنائيةٌ أصغر هي المتعلقة بالمرأة والرجل.
الشاعرة في آخر المطاف تمارس تمرّدها الناعم، لا من باب المواجهة الرافضة للآخر كنسق ثقافي تعسّف على وجودها، وإنما هي تتمرد عليه بهسيس الكلمة وسلام المفردة ورقيق العبارة ومكر الانزياح داخل رؤية شعرية كليانية تحشر الآخر في لعبتها الفنية والوجودية... هكذا تأسر الآخر في جوهر التوحيد بين الأقنوميْنِ لا في عزلة الأقنوم.
***
بقلم: نورالدين حنيف أبوشامة \ المغرب
.........................
إحالات:
1 - أنظر ابن منظور - لسان العرب – دار المعارف – باب الباء وباب الحاء وباب الراء
2 - الديوان: حورية خرباش، تراتيل على حافة البوح، مطبعة وراقة بلال، 2020، الطبعة الأولى، ص 14
3 - سورة طه الآية 121
4 - لمزيدٍ من الاطلاع على مصطلح القصيدة المركزة، يرجع إلى: مجدي وهبة وكامل المهندس: معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب مكتبة لبنان، 1979م
5 - ذكر موقع «لايف ساينس» العلمي الأميركي أن الباحثين بجامعة «هامبورغ» الألمانية وجدوا أن أنثى العنكبوت تأكل الذكر بعد التزاوج للحصول على مزيد من المنافع الغذائية وإنجاب عناكب أكثر صحة.
6 – خليل الخوري (تحقيق)\ ديوان عنترة\ مطبعة الآداب\ بيروت\ ط 1893\ ص 82
7 - في حديث خاص مع الشاعرة ألقتْ في مسمعي اعترافاً جميلا يخص رغبتها القوية في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم في منامها. أنظر:
سلسلة الحوارات مع المبدعين: ضيفة حلقة الأسبوع الشاعرة حورية خرباش 23 - 05 – 2022 إعداد وتقديم: رضوان بن شيكار