قراءات نقدية

عبد اللطيف الحاج اقويدر: قراءة في رواية "قيامة الخفافيش" لحسين كاظم

أحداث رواية "قيامة الخفافيش" وتيماتُها تتوالدُ متتاليةً كلما أمعنتَ فيها قراءةً، فهي رواية الأكشن والسوسبانس، ورواية الحكمة والعِبرة، ورواية الواقع والتخييل، فمن أيِّ جهةٍ جسسْتَها وجدتها ممتلئةً مكتنزةً، ففي نهايتها ترى "الخفافيش" التي أسَّسها سلمان في قرية من قرى البحرين لإحقاق حقٍّ مُضَيَّعٍ، قد لاحقته لعنتُها في بوغوتا كولومبيا، وأوردتْه غرفة الإنعاش ميتا تسري فيه بقيةٌ من حياةٍ.

خفافيشُ سلمان تنتقي ضحاياها تشبعهم ضرباً مبرِّحاً، وترميهم قرب سكناتهم، مكتوبٌ على قمصانهم "أنا مجرمٌ آثمٌ"، وفي سلمان تجتمع تناقضاتُ الإنسان، يلاحظها منبهراً فيمن حوله، ويغفل عنها في نفسه، يراها في والده مكشِّراً في أهله، مبتسماً للغرباء ص57، الغضوبِ الذي يخرجِه غضبُه عن طوره، الوديع الرَّفيقِ مع نباتات حديقة البيت، ضُرِب ضرباً شديداً في كمينٍ نصبه له الخفافيش، وحين أوصلوه إلى البيت، لم يستقرَّ به المقام طويلاً، فاختلق سبباً عكَّرَ به مزاجَه، وعلا صراخه، وانهال على زوجته بضربٍ موجِعٍ ص62، شديد القسوة على سلمان لكنه يتودد إلى الله أنْ لا يوريه مكروهاً فيه ص92.

يكتشف سلمان بعداً آخر للإنسان، فهو وحده "الكائنُ ذو الأسرار" الذي يعود له حقُّ التصرُّف فيها ص320. تولَد الأحداثُ العظيمةُ الخطيرة من رحم حدثٍ صغيرٍ ولادةَ الحرائق اللاهبة من مستصغر الشرر، نتيجةٌ وصل إليها سلمان في السجن، فقد اكتشف في إحدى استرجاعات شريط حياته "حدثاً" قلَبَ حنقه وكُرهه لأبيه حبّاً له، واكتشف به سبب سلوكه الأنثوي الذي كان يُعيَّرُ به بين أقرانه، وسبب تطرُّفه في مناصرة قضايا المرأة، والمطالبة بحقوقها، والحرص على توعيتها ص534.

لفتتِ الرواية النظر إلى قيمة "التجربة الشخصية"، حصيلة المغامرات التي بها يتباينُ الناس، وبها ينبني التاريخ الشخصي والجمعي، وهي منعدمةٌ أو تكادُ في المجتمع البحريني، بينما هي أساسُ فاعلية المجتمعات المتطورة، لذا قام سلمان بتفكيك شخصيته وإعادة بنائها مستلهماً من تجربته الخاصة، التي وضع معالمَها من خلال دراسة "الكتب المحرمة"، وقد شاركته في هذه التجربة أختُه نور ص100، وحاولَ الحاج كامل عبد اللطيف صاحب مكتبة الضياء أن يُقنعه بالابتعاد عن هذه القراءات مشيراً بأسبقيته في سلوك هذه الطريق، وأنَّه رجع عنها بعد طول تأمل وتدبُّر، فكان جوابُ سلمان:" تجربتك مختلفةٌ عن تجربتي" ص74.

اكتشف عبر القراءة النفاق الاجتماعي المستشري، وازدواجية مواقف الناس، وانغماسَ المجتمع في مراتع العفن السلوكي، وتخلفه الذي جعله يعظِّمُ شخصيات وهمية لا تاريخ ولا واقع لها كالشيخ الكنعاني، خلع سلمان على مجتمعه وصف "الطواويسِ" حين استبدَّ بهم الرعبُ من الخفافيش. وضعت القراءةُ سلمان وجهاً لوجهٍ مع قضايا وجودية كبرى يعْشى مجتمعُه عن رؤيتها، ظهر بعضٌ منها مع الشيخ الإمام السجين في جدلٍ غدا حديث السجناء، وفي السجن اعترف له اللصُّ الظريف حين أوشك على استكمال محكوميته بأنَّه قد نضج على يديْه بالرغم من أنَّه أكبرُ منه سنّاً ص551، هذا الاعترافُ أثار في سلمان تساؤلاً هو: بأيِّ حقٍّ يستفرد عالم الكبار بـ "الوصاية" على الجيل الذي بعدهم، فرغبات "عالم الصغار" وشطحاتُه هي عينُها التي كانتْ أمسِ لعالم الكبار؟ فكيف يسمح لنفسه ما لا يسمح بها لمن بعده؟ ص77، وخرج بنتيجة أنَّ هذا الاستحواذ تولَّد عنه "إحباط وغضب" الجيل الجديد، فظهر ذلك في تمرداتهم وثوراتهم ص204، كما أدرك فرْقَ المترعرع في المدينة عن الذي نشأ في القرية من أنَّ الأوَّل منفتحٌ على التعدد والاختلاف والثاني منغلقٌ على الهوية، متعصبٌ لها ص208.

أكسبتْه القراءة قوَّةَ شخصيةٍ، لا يعبأ بردَّات فعل غيره، فقد مرَّ بمحتجين يتوَّعدون الخفافيش الذين اعتدوْا على ثلاثة شبان جدد، وانصرف عنهم غير مكترثٍ، واتصل به صديقُه وأبلغه سخَطَ الناس وتشنيعهم عليه، إذْ لمْ يؤازرهم مع أنَّ أخته مخطوفةٌ، لكنَّه لم يشأ أن يكلِّفَ نفسه إفهامهم ولو عن طريق الفيسبوك ص209.

وقع محمد عبد الكريم بين مخالب الخفافيش، وأردَوْه مثخناً في دمائه، وهشَّموا هاتفه وحاسوبه المحمول، واستدعتْه الشرطة، وأقرأوه ملفَّه المتخمَ بإيقاع الفتيات وابتزازِهن، وسوَّى وضعيته بالتعاون معهم على رصد الخفافيش وإسقاطهم، وَكان محمد عبد الكريم معروفاً بين رفقائه في الدراسة بالمكر والخبث، استعاض بهما عن شجاعةٍ مفقودة، فكان محلَّ مقتٍ وازدراء، وبرَّرَ مكرَه بأنَّ له وجوداً شخصياً ووجوداً سياسياً "هكذا هي النفس الإنسانية، حقيرة. مزدوجة. متناقضة ومعقدة" قالها في نفسه ص348، ولما أعطتهُ الشرطة مساحةَ تصرُّفٍ بمقتضى العملية الأمنية وبطلبٍ منه، ظهرتْ نذالتُه ودناءته ص370، ومرضه النفسي مع الخفاشة التي وقعتْ في قبضته ص380.

تُظهِرُ الروايةُ المجتمعَ البحريني هشّاً سطحياً يتأجَّجُ غضبُه بكلمةٍ وينطفئُ بأخرى، فقد أوقع محمد عبد الكريم في فخه سلمان، ولغيرته منه وحسده انتهزها فرصةً، فأظهره للمجتمع مجرماً حقيراً بنشر صوره المشبوهة في صفحات الفيسبوك قبل أن يتم التحقيق البوليسي الرسمي، فخرج الناس منددين به، واعتصموا أمام محافظة الشرطة طالبين تسليمه لإنزال القصاص به، ثم أجرى الصحفي الشهير أيمن حسين تحقيقاً معه في حجزه فأبهرته إجابته، ونشر مقالته، وسرعان ما تضامن هؤلاء الذين احتجُّوا عليه من قبل، وتعاطفوا مع قضيته، ولمَّا اضطر سلمانُ بعد خروجه من السجن لتنفيذ الوصية المحرجة لصديقه يوسف المتوفى، حوَّله هؤلاء الناسُ أنفسهم إلى أيقونة شرٍّ وشؤمٍ وفسادٍ، وجنى على أهله، ورحل إلى غير رجعة إلى بوغوتا كولومبيا.

روايةٌ في 604 صفحةً، مثيرةٌ على صعيد الفكر والعاطفة والتأمل والحركة، تصلحُ موضوعَ ورشات المناقشة والتحليل، وتصلح لأن تكون فيلماً سينمائياً ناجحاً، يمتحي الروائي أحداثها من واقع مجتمعه في البحرين، يقدمه في صورة موضوعية لا يتحرج من ذكر بعض ملامح التقاليد والثقافة الشعبية، ومن المزاج والسلوك الإنساني الفردي والجماعي، ويعرض ثقافته السائدة ويأمل كسرها من خلال صرامة العقل النقدي ومشرط السؤال.

***

عبد اللطيف الحاج اقويدر

  كاتب جزائري.

......................

* حسين كاظم روائي من البحرين....الطبعة الأولى، 2024، دار سؤال للنشر، بيروت، لبنان.  

في المثقف اليوم