قراءات نقدية

جبّاَر ماجد البهادليّ: مَرجعِيَّاتُ السَّردِ الثَّقافيَّةُ في رِوايةِ

(القَبرُ الأبيَضُ المُتوسِّطُ)، لِكَرِيم صُبح

توطئةٌ: في مثل هذه الدراسة النقديَّة، لا بُدَّ من القبض على جمرة مفهوم مصطلح (المرجعيات) الثقافي والإمساك به، ومعرفة مضمون دلالاته الثقافيَّة البعيدة، والكشف عن أُس تجلِّياته ومعانيهِ وحُجُبِهِ الفكريَّةِ التأصيليَّةِ. لذا فإنَّ مفهوم المرجعيات الثقافيَّة، يعني المصادر الفكريَّة والثقافيَّة والمعرفيَّة الإبستمولوجية التي اعتمدها الكاتب فنيَّاً في إنشاء مادته الإبداعية، و(تدشينها) وتخليقها تخليقاً إنتاجيَّاً مُثمراً في الخطاب السردي الروائي أو غير الروائي الشعري الآخر.

وتشكِّل هذه المصادر موئلاً فكريَّاً ثرَّاً، وخزيناً معرفياً ثقافيَّاً قارَّاً لمادته الإبداعيَّة ونشاطه الفكري. ومنها التشكيل الفنِّي السردي الرِّوائي والقِصصي الذي يرفد الكاتب أو الرائي في مشغله التسريدي بمادته الفنيَّة، ويوجِّه الناقد المعرفي إلى أنْ يجوسَ خلالَ الدِّيارِ السرديَّةِ بتنظيره وتطبيقه المعرفي الحديث لهذه المصادر الثَّقافيَّة، والبحث عن أنساقها الظاهرة والمضمرة القريبة والبعيدة.

ومفهوم المرجعيات الثقافية يتطلَّبُ من الكاتب السارد المُثقَّف النابه الانفتاح الثقافي الواعي على كلِّ أشكال المرجعيات الأدبيَّة والثقافيَّة والعلميَّة والاجتماعية والتاريخية والجغرافية والزمانية والمكانية والروحيَّة العُرفانيَّة والفنيَّة والمعرفيَّة الأخرى. وعلى كلِّ ما له عَلاقة مُباشرةِ أو غير مُباشرةٍ بحياة وثقافة الإنسان وتراث الشعوب وفنونها العريقة المُتحضِّرة.

إنَّ الخوض بالمرجعيات الثقافية في رواية (القَبرِ الأبيضِ المتوسِّطِ) قد يقودنا في العَلاقة الخطيَّة المباشرة إلى التأصيل والتأثير السردي من جهةٍ، وإلى فاعلية المشاركة الثقافيَّة والاتِّصال المعرفي والفكري من جهةٍ أخرى؛ لكون هذه العَلاقة، هي علاقة فهمٍّ وإدراكٍ ومعرفةٍ لأخلاقيات الإنسانيَّة، بوصفها طبعاً مدنيَّا وحضاريَّاً وثقافيَّاً لا بُدَّ منه في أثر فاعلية العَلاقة التواصليَّة بينه وبينها فلسفيَّاً وإنسانيَّاً؛ للنهوض بقيم السلوك الذاتي والجمعي الاِنفتاحي التوحُّدي المشترك.

ولا بُدَّ من خلال هذه التوطئة التمهيديَّة المعرفية من معرفة الدوافع والمقصديَّات التي أوحتْ إلى ذهن الكاتب الدكتور كريم صُبح إلى التأصيل المزجي بين المرجعيات العربيَّة الثقافية التي استند إليها أولاً في توثيقه السردي في أدب الرحلات التاريخيَّة، والانفتاح نحو هُويَّة الآخر في التأثير الغربي ثانياً،والذي أخذ منه أخذاً ثقافيَّاً كبيراً في مثل هكذا عملٍ روائيٍّ سرديٍّ رِحَلِي كبير.

العمل الذي يجمع في تمظهراته الأُسلوبية بين فكرة الأدب الروائي العالمي، وأدب الرحلات السيري، والعمل الأكاديمي العلمي التاريخي التَّخصُّصي، والجغرافيّ والروحانيَّ الدينيِّ وثقافات الشعوب المعرفية الثابتة والمتحرِّكة. فضلاً عن العادات والتقاليد والأعراِف الدينية والمجتمعية السائدة. لاسِيَّما وأنَّ بطل هذه الرواية -البوليفونية المتعدِّدة الأصوات- الأُستاذ الجامعي د. وجدي زينل مقداد ليس إنساناً عاديَّاً من حيثُ؛ كونه شخصيَّة البطل الغالب المعرفيَّة والعلميَّة والفنيَّة الإبداعية القارَّة ثقافةً أدبيَّةً. فضلاً عن كونه إنساناً مثقفاً عقائدياً وآيدلوجيَّاً، ويُجيدُ باحترافيةٍ كبيرةٍ اللُّغة الروسيَّة الثانية الأُمَّ إجادة معرفيةً وأدبيةً وثقافيَّة تامَّةً، وربَّما كان أحسنَ من ابن البلد نفسه. فكلُّ هذا التأثيث الفكري والثقافي يؤهِّله معرفياً إلى أنْ يكون شخصَ الروايةِ الأوَّل الظاهر والأخير الخَفِّيِّ ظلَّاً في هندسة العمل الروائي السردي وتأثيثه فكريَّاً ومعرفيَّاً وحضارياً وآيدلوجياً وعقائدياً.

وعلى الرغم من كلِّ هذه التأثيرات والسلوكيات الثقافيَّة والقيميَّة المتنامية فكريَّاً التي اجتمعت في شخصية البطل المُثقَّف النوعي الأوحد الذي يبحث عن خلاص فكرة كتابة أوَّل روايةٍ عالميَّةٍ له تُخلِّدُهُ تاريخياً وأدبياً وسِيريَّاً وإبداعيَّاً على مرِّ الزمان كما كان يسعى كاتبه الروسي الأثير المفضَّل فيودور دوستو يفسكي؛ فإنَّها في واقع الحقيقة النسقية المضمرة انعكاسٌ مرآتيٌّ لشخصيَّة الكاتب المُثقَّف الدُّكتور كَريم صُبح الأُستاذ الأكاديمي العلمي المتخصِّص بمادة التاريخ الأمريكي الحديث.

تلك الشخصية التي نجدها تتشكَّل في شبكة فكريَّةٍ وثقافية قارَّةٍ خلف نُقَاب اللُّغةِ السرديَّة ؛ ويبدو ذلك من خلال شبه التماهي والتَّحاكي الفكري والعلمي والإنساني والأدبي الإبداعي بين شخصية البطل الأستاذ الجامعي المتقاعد الدكتور وجدي، والدكتور كريم صبح الأستاذ المُتخصِّص بالتاريخ الأمريكي، والكاتب المُحبِّ لجنس لأدب السردي الروائي والقِصصي في تقارب مُتوحدنٍ بينهما.

هَندسةُ المُدونةِ الرِّوائيَّةِ وتَأثيثُها السَّرديّ

لكلِّ عملٍ أدبيٍّ فنيٍّ وإبداعيٍّ له أُسسه، لا بُدَّ له من خُطَّةِ عملٍ تنظيمي له منهج عملي علمي يقوم عليه بانتظام، ويستقي منه روافد فروعها المتشابكة التي يمكن الإمساك بتلابيبها الخيطية المُتوحدِنة بنائيَّاً. والتي تصبُّ فروعها وخيوطها في مجرى وحدةٍ موضوعيةٍ وعضويةٍ متكاملةٍ.

والقارئ النوعي النابه الذي يتتبَّع خطوط تدوين رواية (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ)، للدكتور الأكاديمي والأديب الأُستاذ كريم صُبح، والصادرة بطبعتها الأولى عام 2024م عن دار (أوستن ماكولي) للمنشر م، م، ح، مدينة الشارقة للنشر/ الأُمارات العربيَّة المتَّحدة، وبحجم كتاب أكبر من المتوسِّط، وبكمٍّ نوعيٍّ بلغ نحو (242) صفحةً، سيلفت نظره خلال التأمُّل القرائي لطيَّات الرواية أمرانِ مهمان في هندسة البناء السردي التأثيثي لإنتاج الرواية.

الأمرُ الأوَّل يكمن في فنيَّة الأُسلوب البنائي التركيبي التعبيري للروايَّة، أي في هندسة الإعداد والتخطيط الفكري في تنفيذ وقائع أحداثها أو أجزائها البالغة الاثنين والعشرين عنواناً فرعيَّاً داخليَّاً مع مُتعلَّقاتها الترقيميَّة الثانويَّة. ومثل هذا العمل التراتبي الدقيق يتطلَّب مقدرةً فنيَّةً تسريديَّةً عاليةً وتركيزاً ذهنياً وفكرياً للإمساك بعناصر الرواية الأساسيَّة، والمحافظة على وحدة نسيجها السردي.

أمَّا الأمرُ الثاني، فيتعلَّق بضبط إيقاع فنيَّة التعبير الأُسلوبي السردي المكين الذي كُتِبَتْ به عناصر الرواية الأربعة: (الأحداث أو (الفعليًّات)،والشخصيات أو (الفواعل)،ووحدتا المكان والزمان)، فضلاً عن مراقبة وتتبع حركة الصراع المتنامي في عقدة الرواية، وفكِّ شفرات حبكتها البؤريَّة.

وهذا يشي بأنَّ د. كريم صُبح قد كتبَ أحداث الرواية بأسلوبٍ فنِّي عجائبي فيه من وقع الغرابة والإدهاش ما يميل إلى ثنائية فنتازيا الواقع الحدثي الذي أسقط فيه عقابيل واقع التاريخ المرتهن على مسار الواقع الأدبي الإبداعي والفنِّي والجمالي من أجل الوصول إلى فهم فكرة الرواية والتصديق بغرائبيتها الفجائية العجيبة التي ألقتْ بظلالها الكبيرة على مسار العمل الفنِّي السردي.

وعلى الرغم من أنَّ الرواية لا يمكن تصديق واقعتها الحَدَثيَّة بسهولةٍ؛ كونها ليست واقعيةً صرفةً بامتياز حقيقيٍّ، ولا أُسطوريةً بتصنيفٍ مخياليِّ ثابت الأثر.فهي تقع في منطقة وسطى يمكن أن نسميها بتعبيرٍ نقديٍّ فنِّي يجمع بين السرد (المخيا واقعي)؛ لما فيها من الواقع والمخايل والروحانيات الدينيَّة والفلسفيَّة والجماليَّة التي تجذب القارئ -بحبكتها الفنيَّة المتماسكة حَبكَاً وسَبكَاً لغويَّاً ودلاليَّاً مُحكماً- فى التواصل معها بكلِّ متعةٍ وإدهاشٍ حتَّى الاقتراب من نهايتها المأساويَّة التي لا تُصدَقُ فعلاً بهذا التخطيط الفكري المُدبَّر، والتكنيك السردي المُحْتَشد بكم من المفاجآت.

لقد تمكَّن الأديب الكاتب كريم صُبح من أنْ يجمع في أُسلوبيته التسريدية المزج بين الواقعية السحرية الفنتازية، والهندسة المعمارية لواقعة الحدث الموضوعية السردية بلغة فنيَّة وجماليَّةٍ فيها من الإمتاع فسحةٌ كبيرة للتأمُّل والمؤانسة وحريَّة التعبير الذي مكَّنه من توظيف عناصر الرواية الأربعة الأساسية؛ لتكونَ من أهم مرجعياتها الثقافيَّة التي جعلت من المتلقِّي أنْ يتواصل معها بتؤدةٍ وتمهلٍ وشغٍفٍ كبيرينِ. فضلاً عن مرجعيات لُغتها الأدبية والتاريخية والروحيَّة والفنيَّة والرِّحَلِيَّة.

واللَّافت الآخر للنظر في تصميم معمارية هندسة هذه الرواية أنَّ كاتبها الرائي د. كريم صُبح قد وضع في الصفحة الأولى بعد لوحة الغلاف الرئيس مُباشرةً سيرته الذاتية المُجتَزَأةَ بصورةٍ واضحةٍ كمُؤلِّفٍ للكتاب. ومثل هذا الاستباق المُتقَدِّم لم يكن معهوداً، أو حتى مألوفاً في تنظيم محتويات الكتب السردية أو الشعرية التي توضع فيه عادةً سيرة المؤلِّف الأدبيَّة في آخر الكتاب.

ولعلَّ ذلك التقديم الاستباقي للسيرة كان التفاتةً إلماعيَّةً سرديَّةً سيريَّةً إشاريةً، وربَّما أراد منه أيقونةً سيميائيَّة مهمَّةً كرسالة توثيقيةٍ يبعث بموحياتها الدلاليَّة إلى القارئ والمتلقِّي اللَّبيب بأنَّ هناك تعالقاً سيريَّاً حكائياً فكريَّاً وثقافيَّاً وأدبيَّاً وعلميَّاً بين بطل الرواية الغرائبي المتقاعد د. وجدي زينل، وبين الكاتب صُبح كأستاذين جامعيين في اختصاص علميٍّ واحد هو التاريخ الامريكي الحديث.

وكلاهما أديبٌ وروائيٌّ مثقَّف واعٍ وقديرٌ بعمله وعلمه وفنِّه وثقافته الموسوعية، يرومان كتابة فكرة روايةٍ عالميَّةٍ تخلد تاريخهما الأدبي الإبداعي لا تَخصُّصهما العلمي الأكاديمي الثابت. فالبطل د. وجدي قد هجرَ اختصاصه العلمي التاريخ،وتركهُ مُنذَ أنْ أُحِيلَ إلى التقاعد،وذهبَ برحلة سيريَّة باحثاً عن ذاته الأدبية الجمعية. في حين د. كريم صبح مازال أستاذاً حثيثاً في نهاية خدمته يُمارس اختصاصه العلمي التاريخي؛ لكنَّه يجدُ نفسه في الخروج من الذاتية الضيِّقة إلى الذاتية الجمعية المشتركة والانفتاح نحو هُويَّة الآخر في ممارسة الأدب السردي عموماً وفنِّ الرواية بشكلٍ خاصٍ.

المَرجعيَّاتُ الثقافيَّةُ لِلعتبةِ العُنوانيَّةِ

من يتأمل بخطى مُتَئِدَةٍ لوحة غلاف الرِّواية الأول ذي اللَّون السمائي الأزرق الغامق وأشكال تدرجاته اللَّونيَّة الفاتح والأبيض، تلك اللَّوحة التي تشكِّل بوضوح خلفية الصورة اللَّونيَّة الكليَّة المحتشدة بالثلوج الكثيفة والسماء الباردة، فضلاً عن وجود جبلين اثنين، أحدهما الأول يظهر في مقدمة اللَّوحة بلونٍ رماديٍّ ويميل إلى الأزرق الفاتح، والثاني يظهر في اللَّوحة الخلفية بلون أغمق من الجبل الأول بلونٍ رماديٍّ يميل إلى الأزرق الداكن أو الغامق في تشكيله اللَّوني، سَيدهِشُ نظره ويتفاجأُ لأوَّل وهلةٍ من العتبة العنوانية اللَّافتة للكِتاب (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ).

والتي هي البوابة الرئيسة الأولى ونافذة الدخول الممهِّد إلى مركز مدينة الروايَّة وإلى عمق عالمها النصي الفسيح الذي يجمع في سحر تكوينه الثنائي التضادي الأدبي ما بين كونين قائمين من تمظهرات الوجود، كونُ (يوتوبيا) المدينة السرديَّة الفاضلة للأدب بكل تجلِّياتها الجمالية، وكون (ديستوبيا) مدينة القبح الفاسدة، المُحتَشدة بفضاء فوضى عوالم الخيال الطوباوية المريرة القصيَّة المرفوضة في تأثيرها الفعلي واقعاً غيبياً اعتقادياً ومثالياً.

كلُّ هذا التأمُّل الفكري السردي المنظور في جانب ما، والعنونة الرئيسة في جانب ذهني آخر؛ كونها تُشكِّل العلامة أو الأيقونة الإشارية والسيميائية القارَّة التي يتشكّل منها بناء العمل الأدبي وتفهمُ من خلاله قصديَّات الخطاب السرديِّ وحمولاته الداخلية سواء أكان ذلك الأمر القصدي المعني بالتلميح أو بالموحيات الدلاليَّة الظاهرة المُتجلِّية، أو الخفيَّة المُستترة المضمرة الغائبة.

فحين نخوض بنجلٍّ غمار تفكيك الشفرة اللُّغوية الرمزيَّة لعنونة رواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّط)، سينصرف الذهن حالاً وتلقائياً في المعنى الدلالي القريب إلى التسمية الشهيرة لـ (البحر الأبيض المتوسِّط). ذلك المسطح المائي المحصور وسطاً بين ثلاث قارات عالميةٍ كبرى في سعة امتداده العريض والكبير الذي درجنا على سماعه في الحياة اليوميَّة والكتب الجغرافية المحليَّة والعالميَّة.

فما بين كلمتي (البَحْرُ والقَبْرُ) توافقاً وزنياً واحداً بالميزان الوزني (الفَعْلُ)، وصوتياً بتقفيلة حرف الراء المُتحرِّكة المَضمومة نهايةً سجيعة قصيرةً، وبينهما أيضاً اختلافٌّ حرفيٌّ في وضع (الباء، والقاف، والحاء). فقد اُستُبدِلتْ الباء في البحر قافاً بكلمة (القَبْرُ)، وحُذفتْ الحاء منهُ، وهذا هو الخيط السريُّ التعالقي للمعنى الدلالي القريب لهذه التسمية التي يمكن أنْ تكون تناصَّاً تحوليَّاً جديداً من الكاتب عن تسمية النصِّ القديم (البحرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)،أو انزياحاً دلالياً في فنيَّة التعبير العنواني.

أمَّا المعنى الدلالي البعيد للعتبة العنوانية، فتكشف تجلِّيات السرد الروائي وأحداثه الفكرية البعيد المتوالية بأنَّ لا صلةَ البتَّةً للمعنى الدلالي القريب بعنوان الرواية الرئيس، سوى تشابه في الأسماء والمسمَّيات القريبة. لذلك لا يمتُّ بأيِّ علاقة وثيقة تُذكرُ لهُ. حتَّى وإنْ كانت هذه العلاقة إيهامً أو إبهاماً أو غموضاً فنيَّاً. وقد يكون الفرق ما بين البحر والقبر هو دلالة (الموت) الأكثر حضوراً.

فالقبر الأبيض المتوسِّط هو بؤرة الحدث الموضوعية الرئيسة الكبرى التي بُنيت عليها إشكاليات مسرودات بناء الرواية أحداثاً وشخصياتٍ وأفكاراً وتجلِّياتٍ وحمولاتٍ ثقافيةً نسقيةً خفيَّةً قريبةً وبعيدةً. فهو المعادل الموضوعي السردي الحقيقي لبطل الرواية الحقيقي وشخصيته السحريَّة العجائبية التي ظلَّت سرَّاً لذيذاً غامضاً وخفيَّاً مستتراً عتيداً يجهله القارئ في تواصله الفكري المعرفي حتَّى أواخر صفحةٍ (238) من صفحات الرواية التي فُجِعَ بنهايتها الوقعية المفتوحة.

وذلك كونه يعدُّ النسق الثقافي البعيد الخفي الذي يشكل الشبكة الفكرية القارَّة رسوخاً تحت عباءة اللُّغة المعرفية لسرديات الرواية. والتي جعلت منه الظلَّ الثاني لبطل الرواية الدكتور وجدي؛ نتيجة تعلقه بشآبيب حلمه الأدبي المنشود في البحث عن فكرة كتابة أوَّل رواية له. تلك الفكرة التي استعصت عليه ثيمتها المعرفية وانعدم استحضارها وجوداً، فكان الموت دفناً حيَّاً هو سبيلها الآخر.

كما استعصت تلك الفكرة القاهرة على نظيره العالمي وكاتبه المفضَّل فيودو دوستو يفسكي في كتابه الموعود الجزء الثاني من روايته الشهيرة (الإخوة كارامازوف) التي خطَّطَ لها بعد مضي أكثر من عشرين سنةً على أحداث شخصيات الجزء الأول. ولكن للأسف الشديد أنَّ دوستو يفسكي قد مات، ولم يحقِّق حُلمهُ الواع الأثير في إتمام الجزء الثاني من هذه الرواية المؤثِّرة حدثيَّاً.

كذلك الحال الذي حصل مع د. وجدي بطل الرواية الذي قضى ردحاً زمنياً من الأيام الشهور ومات روحيَّاً وجسديَّاً دون الوصول لنتيجةٍ في تحقيق حلمه بكتابة رواية له تخلِّده على مدى تطاول التاريخ الحديث كما خُلِّدَ دوستو يفسكي في أعماله الروائيَّةَّ العظيمة. وربَّما هو السبب الخفي العميق جداً الذي استدعاه إلى السفر لروسيا، وإلى مدينة دوستو يفسكي (بطرسبرج) بالذات، ومنه إلى جبال سيبيريا البعيدة تحت رعاية (الشامان) الروحانيَّة التي أسلم لهم روحه قبل جسده.

وجاء على لسان (إرتيم) الأُستاذ الجامعي وزميل د. وجدي، والمساعد الأول للسيِّدة المبجَّلة ذِكرُ ذلك القبر فقال عنه: "فَكِّرْ، فَكِّرْ، آهٍ، نَعم هَذَا هُوَ مَا بَحثتُ عَنهُ (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، نَعم (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط)! هُوَ الاِسمُ الَّذي يَنطبقُ أَكثرَ مِنْ غًيرهِ عَلَى المَوضعِ الَّذي دُفِنَ تَحتَهُ زَميلِي مُتوسِّطاً السَّفحينِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 240).

أمَّا العنوانات الفرعيَّة الثانوية الأخرى التي توزَّعت عليها مفردات أحداث الرواية ومسروداتها الحكائية، فقد بلغت (22) عنواناً فرعياً، وهي الأُخرى قُسِّمت رقميَّاً على شكل مفرداتٍ جزئيةٍ بلغت نحو (34) جزءاً من الوحدات الرقميَّة. وبذلك يصبح العدد الكلَّي لتلك العتبات الثانويَّة مع وحداتها الجزئية (56) وحدةً رقميَّةً وعنوانيَّةً.وقد تراوحت أسماء تلك العنوانات الفرعيَّة بين مسمَّياتٍ علميَّةٍ ومكانيَّةٍ وموضوعيَّةٍ وماديَّةٍ لها علاقة بمجريات واقعة الحدث الموضوعية وبمرجعياتها الثقافية.

وقد تمكن الكاتب كريم صُبح من القبض على جمرات تلك المفردات والجزئيات العنوانيَّة النارية اللَّاسعة، وأحكم الإمساك بتلابيبها الفكرية والفنية وتوجيه بوصلتها التي تصبُّ روافد خيوط نسجها السردي المحكم بالوحدة العضويَّة الكلية لواقعة الرواية الموضوعية التي هي مناط اهتمامه الأول.

ولعلَّ أول هذه العنوانات الفرعية الداخلية (عتبة التاريخ..قطيعةٌ) التي تحدث فيها الكاتب بلسان حال بطله وجدي متماهياً ومتسامياً ومتعالقاً معه فكريَّاً ومهنيَّاً في إشكالية هجرة التاريخ والتبرئ منه والابتعاد عنه نهائياً من خلال قطيعةٍ معلنةٍ لا رجعة فيها أبداً. مُنزاحاً عنه إلى عالم آخر أكثر رحابةً من فعل التاريخ، ذلك هو علم الأدب الروائي الفنِّي:

"لِمَ وَجبَ عَليهِ أنْ يَتبرَأَ مِنَ التّاريخِ؟هَلْ لأنَّهُ اِبتعدَ عَنهُ بِمقدارِ كَافٍ فِي أَعوامهِ الأربعةِ الأَخيرَةِ، أمْ أنَّه صَارَ يَنظرُ إليهِ بِصفتهِ عَدُوَّاً وَهوَ المُسالمُ طِوالَ حَياتهِ الأُولَى؟". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 5).

فمثل هذا الخطاب الذي يعترف فيه البطل، هو إعلان قطيعته الصريحة لهذا التاريخ اعتبره عفناً، و:" ذاكرةُ أَحفادٍ وُرِثَتْ مِثلَمَا تُورَّثُ الأَراضِي والقُصورُ، وَلَيسَ وَحدَهُ، لِيذهَبَ هُوَ وَأبوهُ إِلَى الجَحيمِ، إِذنْ تُعسَاً وَبَئسمَا لَهمَا". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 5). هكذا كان إعلانه الصريح والواضح، التوبةَ والبراءةَ من التاريخ الذي احتلت كتبه صفحات مكتبته الشخصية التي ما عادت كما هي.

المَرجعياتُ الثَّقافيَّةُ لِسرديَّاتِ المُدوَّنَةِ الرِّوائيِّةِ:

من يقرأ رواية (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ) ويتفحَّص معانيها الدلالية وتمظهراتها السردية الطافية على سطح الخطاب النصِّي، سيجد ما فيها من آثارٍ متعدِّدةٍ لمرجعيات ومصادرٍ سرديَّةٍ مُتنوعةٍ شكَّلت المحتوى السردي للخطاب الروائي لهذه المدوَّنة. حتَّى توالت هذه المرجعيات الثقافية حضوراً، وكان أوَّل هذه المصادر ومتوالياتها الثقافية، هي المرجعيات المكانية، ثُمَّ الزمانية، ثُمَّ مرجعيات الشخصية أو (الفواعل) ومرجعيات الحدث أو (الفعليَّات) الموضوعية وتقنياتها الأخرى.

فالمرجعيات اللُّغوية التي هي الأخرى بدورها تعدَّدت إلى مرجعيات السرد التاريخي الموثق علمياً والسرد الأدبي والسِّيري الفنِّي، وسرد أدب الرِّحلات، والسَّرد الثقافي الرُّوحاني، وسرد الرموز والشخصيَّات الثقافيَّة المؤثِّرة في تخليق الإبداع الأدبي والفنِّي الجمالي، سرد الأمكنة. وسنخوض في حفرياتنا النقدية غمار البحث عن هذه المرجعيات وتتبع آثارها السرديَّة، واستنطاق نصوص شواهدها ومصادرها الثقافية واللُّغوية التي أسهمت في تصدير الخطاب السردي للرِّواية.

1-المرجعياتُ المكانيَّةُ:

يُشكِّل الفضاء المكاني عنصراً معرفيَّاً أساسيَّاً مهمَّاً من عناصر البناء الفنِّي السردي التكميلي للرواية؛ كونه يمثِّل عمليَّاً المثابة المكانية الأولى التي ينطلق منها مسار الكاتب الرائي إلى عالمه المرئي الخاص. فمن خلاله تبدأ حركة الشخصيات وتتفاعل الأحداث المرتبطة ارتباطاً فنيَّاً بوحدةٍ مكانيةٍ وزمانيَّةٍ محدَّدةٍ ما.

فالمكان يمثل نسقاً خطيَّاً مباشراً من أنساق الثقافة الحداثوية الظاهرة والمضمرة، وشكلاً فنيَّاً مائزاً من أشكال الإنتاج الإبداعي والجمالي الذي لا يمكن إغفال دوره التعريفي الكبير في إنجاح وديمومة استمرارية العمل الأدبي سرديَّاً وشعرياً وثقافياً تتابعيَّاً مُتناسقاً.

والمكان في العمل الأدبي سواء أكان شعراً أم نثراً قد يكون فضاء شعرياً أو سرديَّاً حقيقياً خفيَّاً أو مُتجلِّياً، ومثابةً عينيةً قائمةً بذاتها التأصيلي الظاهر، أو قد يكون فضاءً افتراضياً معنوياً بديلاً يحلُّ محلَّ المكان الأصلي الذي ينتمي إليه العمل، وينتسب إليه شكلاً ومضموناً. والأهمُّ من ذلك أنَّ المكان يشكِّل مرجعاً مصدريَّاً إنتاجياً مهمَّاً من مرجعيات الرواية؛ لإثراء العمل السردي واستمراره، والكشف عن تمظهراته وأنساقه القارَّة الخفيَّة.

والعنصر المكاني في رواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ) فضاء سرديٌّ خاصٌّ وماتعٌ له خاصياته وخطواته الفنيَّة الواثبة؛ كونه فضاءً إنتاجياً متراتباً يجمع بين عالمين متوحدنينِ شكلاً، ومختلفينِ مضموناً. وأعني عالم الداخل المحلي الذي ينتمي إليه الكاتب وظلَّه البطل السارد، وعالم الخارج العراقي الذي قامت عليه أكثر موضوعات الرواية، وانتقالاتها التحوِّلية الفنيَّة والبنائيَّة السريعة.

ويقيناً أنَّ مثل هذا المزج الفني لسرديات الرواية يتطلَّب من كاتبها الراوي العليم الهُمام مقدرةً علميةً ومعرفيةً، وفنيةً احترافيةً مَكينةً، وسعةً ثقافيةً كبيرةً مكتسبةً تؤهِّله القيام بهكذا مشروعٍ ثقافيٍّ سرديٍّ ناهضٍ، وملمٍّ بمثابات الفضاء الأجنبي المكاني الخارجي، وأنْ يكون على قدرٍ تامٍ من سيل المعرفة والعلمية بأسمائه ومسمَّياته المعرفية والفكرية والثقافية المتعدِّدة، وأن يكون خبيراً بأقانيمه وتخومه الخارجية وتضاريسه الثقافية الداخلية التي تعدُّ كفيلةً بإقناع ذهن المتلقي الواعي وإرضاء تلقي القاري الناقد النابه. وكأنَّ الكاتب كريم صُبح قد خِلقَ عمليَّاً لصنع مثل هكذا عملٍ روائيٍّ.

وحصيلة هذا العمل الإنتاجي الضخم الفكريَّة والسردية في رواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ) تؤكِّد ما انماز به الأديب والقاص والروائي د. كريم صًبح من ثقافة موسوعيةٍ تاريخيةٍ وحصيلة خزنيَّةٍ معرفية جغرافية زمانية وأدبيةٍ وروحيَّةٍ روحانيةٍ ثرَّةٍ واضحةٍ البيان تعضد وتساند ما نذهب إليه من آراء نقدية. وتؤكِّد في الوقت ذاتهما ما درجت عليه إمكانات صُبح السرديَّة الثقافية والمعرفية.

وربَّ عملٍّ فني سرديٍّ بحجم رواية (القبرِ الأبيضِ المُتوسِّطِ)، لا يمكن إنْ يقدِمَ عليه إلَّا ذو حظٍّ عظيمٍ من سعة الثقافة الموضوعية والمقدرة العلمية المتماسكة شكَّلاً ومضموناً، ولا يمكن أنْ يقوم بإتمام إنتاج هذا العمل السردي الشائق الكبيرإلَّا من عاش في تلك الأمكنة وخبر فضاءات شعابها، واستعلم دروبها وهضم فنونها وتراثها واستوعب ثقافاتها الداخلية والخارجية، وامتلك إجادة لغتها الأمّ التي هي أساس نواة العمل الأدبي الغربي الفنِّي المكين الناهض في تأثيره السحري.

ويتناهى إلى ظني كثيراً أنَّ الدكتور كريم صُبح على الرغم من كونه مثقفاً عضوياً ماهراً ومثابراً في الحصول على كيفية تلقي المعلومة الثقافية المعرفيَّة لم يكن قد زار هذه المدن والأوطان والمثابات الجغرافية لروسية البعيدة في حياته. وهذا ما يؤكِّده هو، فكان شغفه بها كبيراً.

ولم يتقِنْ حتَّى لُغتها الدَّوليَّة والمحليَّة الروسيَّة؛ ولكنْ سعة موهبته الفذَّة الكبيرة وميل استعداده المعرفي الثرّ المكتسب كانا لهما الدور الكبير في إنجاز هكذا عملٍ سرديٍّ دراميِّ سيريّ تاريخيٍّ روحانيٍّ شائكٍ وضخمٍ في ثيمته الموضوعية، وغرائبي في لُغة سردياته، وسحريٍّ في تأثير قناعاته الموضوعية.

وكلُّ هذه المزايا تؤكِّد ما للدكتور كريم صُح من تطلعات حُلُميةٍ ورؤىً فنيَّةٍ، وما عليه من فاعليات السرد الذي يدخل القلوب الإنسانية الرحيمة دون أخذ اِستئذانٍ من لدن صاحبها القارئ المثقَّف التوَّاق للإبحار في معطياته الثقافة السردية.

مكانيَّاً، تدور أحداث رواية (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، وفواعلها الفعلية بين مدينة بغداد – العراق نقطة الصفر السري المكاني الأولى، ومدينة (سانت بطرسبرج) الروسيَّة التي كانت تعرف باسمها الشهير (لينين غراد) إبَّان أيام الاتحاد السوفيتي الروسي الدولة العظمى والقطب المؤثِّر وصولاً مع تنامي أو تصاعد حركة السرد المكاني في مثاباته إلى قمَّة الفضاء المكاني الهابط نزولاً إلى منطقة (سيبيريا) التي كانت جزءاً من روسيا غرب جبال الأورال، والتي عرفت بمدينة الجبال والثلوج الجغرافية القصيِّة عن أنظار العالم وموطن (الشيمان) روحيَّاً وفلكيَّاً وإنسانيَّاً وجغرافياً.

فكلُّ مدينة من هذه المثابات المكانية الثلاث لها وقع رمزيتها الثقافيَّة والحضاريَّة والعلميَّة، والسمة الأدبية التي عرفت بها. فبغداد، هي مدينة البطل د. وجدي زينل ومنبت عيشه الأرضي وتحصيله العلمي الأكاديمي والثقافي عبر امتداد يد الزمن وتطاوله عليه شخصيَّاً في تحريضه على الاغتراب والهجرة التي لم تكن حاضرةً في أجندة حسبانه الفكرية المستقبلية.

وبغداد الحضارة هي موطنه العشقي الأول ومربض بيته المنزلي الذي يألفه في الأرض:

" تَقعُ حِجرتُهُ فِي الطَّابقِ الثَّانِي فِي مَنزلٍ صَغيرٍ يَكفِي لِأُسرتهِ الصَّغيرةِ المُؤلَّفَةِ مِنْ زَوجتهِ مَرامَ، وَابنِهِ الوَحيدِ وَائلِ.. اِتَّخذَ مِنَ الحُجرةِ مَكتبَةً وَاعتزَلَ الكِتابَةِ، مَكتبهُ عِبارةٌ عَنْ مَكتبتينِ فِي الوَاقعِ. كَبيرةٌ وصَغيرةٌ.. مَلأَ رُفوفَهَا بِكُتبٍ رَتَّبَهَا تَرتيبَاً جَيِّداً، تَاريخيةٍ، وَكُتبٍ وَقصصٍ وَرِواياتٍ لِكُتَّابٍ مَرموقينَ مَحليينَ وِعَربٍ وَأجانبٍ..". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص7).

أمّا مدينة (سانت بطرسبرج) التي هي ثاني أكبر مدينة في روسيا، والتي أسسها القيصر بطرس الأكبر في أوائل القرن الثامن عشر الميلادي، والتي أصبحت فيما بعد عاصمة الإمبراطورية الروسيَّة لأكثر من مائتي عامٍ كما تشير مصادر الكتب التاريخية؛ فهي بالحقيقة مدينة الكاتي فيودور دوستو يفسكي الروائيِّ الروسيِّ العالمي الكبير، والتي عاش فيها حياته الكبيرة وكتبَ فيها أكثر رواياته العظيمة، وخلَّد فيها شخوص رواياته العالمية الكثيرة.

ومدينة بطرسبرج هي أيضاً مثابة الحُلم الأدبي وموطن المجد الإبداعي الحلمي (أكونُ أو لا أكون) الذي سعى إليه د. وجدي العراقي بطل الرواية من أجل الحصول على تأثيث فكرة كتابة رواية أولى له يأمل في الحصول عليها من أعقاب روح سلفه الرائي الكبير دوستو يفسكي. وهي في واقع الأمر تعدُّ زمنياً المدينة أو المثابة المكانية الخارجية الأكثر مكوثاً وتغرُّباً وهجرةً في سفره الخارجي بعد مدينة بغداد موطنه الأصلي:

"اِستقلَّ سَيَّارةَ أُجرةٍ مِنَ المَطارِ وَتَعرَّفَ بِسائِقِهَا دِيمترِي، وَدِيمترِي الطَّويلِ القَامَةِ وَالضَخمِ الجُثَّةِ المَفتولِ العَضلاتَ هَذَا، ذُو الشَّعرِ الذَهبيِّ وَصاحبُ الوَجهِ البَشوشِ دَائِمَاً، أَدهشهُ أَنَّ السَّائِحَ الغَريبَ يَعرفُ مَا يُريدُ، فَهوَ يَتحدَّثُ بِلغتهِ كَأنَّه أَحدُ أَبناءِ مَدينتهِ، وَلَمْ يَطلبْ مِنهُ تَرشيحَ أحدِ الفَنادقِ لِيُقيمَ فِيها كَمَا يَفعلُ أغلبُ مَنْ يَجلبُهُم مِنَ المَطارِ، بَلْ حَدَّدَ وِجهتَهُ بِالضبطِ وَهوَ يَركبُ إِلَى جِوارهِ: (فُندقُ سِتيفي نِيفسكِي)، وَفِي الطَّريقِ تَوطَّدتْ عَلاقتُهُمَا، وَسألَهُ دِيمترِي وَهوَ يُقدِّمُ لَهُ سِيجارةَ (بُوند سَكنوبكي) المَحليَّةَ الصُّنعِ لِيُجربَها". (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ، ص 27).

وكأنِّي بالبطل وجدي يعرف جيِّداً مدينة بطرسبرج التي قصدها بدليل استغراب ودهشة وتساؤل السائق ديمتري له قائلاً: "هَلْ تُصدِقُ أَنتَ أَولُ سَائحٍ مِنْ خَارجِ المَجموعَاتِ السِّياحيَّةِ لَا يَطلبُ مِنِّي تَرشيحَ فُندقٍ لِيقمَ فِيهِ". (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 27). ومثل هكذا معلومة ثبَّت للكاتب نحو بطله.

والمدينة الثالثة التي كان لها الأثر الكبير والبالغ فيما لت إليه أحداث الرواية المنتظمة وسرعة تحوِّلاتها الزمنية والجغرافية والمعرفية، فهي مدينة (سيبيريا) التي سمَّاها الكاتب بعتبته العنوانية (المسار العجيب). حيث معقل الشومان أصحاب القدرات السحرية العجيبة، والإمكانات الروحيَّة الغريبة التي أخذت من وجدي مأخذاً كبيراً كلفه حياته ووجوده الكووني:

"أَسمعُهُمَا دَاخلَ مَقصورتِهمَا وَهُمَا يَتناقشانِ بِشأنِ دَورِ سِيبيريَا فِي حَياةِ دُوستويفسكِي، أَنَا مِنْ نَاحيتِي أُؤيدُ رَأيَ الدُّكتورِ وَجدِي، فَمِنْ غَيرِ دُوستويِفسكِي يَجرؤُ عَلَى اِستهلالِ رِوايتِهِ بِاسمِ سِيبيريَا؟ لَكنِّي أُشيرُ هُنَا إِلَى المَلحوظةِ الآتيةِ الَّتِي سَجلتُهَا وأنَا فِي طَورِ جَمعِ المَعلوماتِ عَنهُمَا كِليهُما، أَقصدُ دُوستويفسكِي وَسِيبيريَا فَلمْ يَسبقنِي إِليهَا أَحدٌ، حًتَّى الدُّكتورُ وَجدِي نَفسُهُ: (لَمْ أَعثرْ عَلَى سَاردْ أَو جُغرافيٍّ أو سِياسيٍّ أوْ اِقتصاديٍّ أوْ مِنْ المُهتمينَ، يَفتتحُ حَديثَهُ عَنْ سِيبيريَا العِزيزةِ بِهَا هِيَ نَفسُها سِواهُ هُوَ: يَا لَه ُمِنْ دُستويفسكِي هَذَا! الَّذِي جَلبَ خَمسينِيَّاً وَأنَا مَعَهُ إِلَى بَطرسبرج ! ثُمَّ وَهُو وَالسيِّدةُ المُبجَّلُة وَأَنَا، فِي قِطارِنَا إِليهَا، سَيبيريَا الحَبيبةُ تِلكَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِطُ، ص 130).

وتمضي أحداث الرواية المكانية بالأستاذ الجامعي المتقاعد الخمسيني العمر د. وجدي إلى أقصى منطقة من مناطقها الشاسعة، حيث مناخها الوعر وبردها القارس الذي لم يألفه البغدادي وجدي في حياته مطلقاً. لكنَّ الأقدار الحتمية ساقته إليها للحصول على مُبتغاه الحُلُمي الأول الذي لم يحققه أثيره المبدع الكبير دوستويفسكي في حياته الثقافية؛ لأسباب أقوى وأقهر من إرادته الشخصية:

"هَا قَدْ مَضَى أَكثرُ مِنْ سَاعتينِ عَلَى وُجودِي فِي المَكانِ وَهُمَا لِمْ يُظهرِا بَعدُ، أُنَقِّلُ عيَنيَّ بَينَ مَواضعِهِ كُلِّهِ، اِستقرتَا أَخيرَاً عَلَى كُتلةٍ بَيضَاءَ، وَأتساءَلُ مَا إِذَا كَانَ دُفنُ الدُّكتورِ وَجدِي تَحتَ الثَّلجِ حَياتهُ الجَديدةُ أَمْ رُقادُهُ الأخيرُ بِالفعلِ؛ فِيهِ هلاكهُ أمْ خَلاصُهُ؟ أَنَا عَلَى دِرايةٍ كاَفيةٍ بِسببِ اِختيارَ سَيِّدتِي المُبجَّلةِ لِلمكانِ مُوضعَاً لإِتمامِ (الطُّقسِ الثُّلاثِيُّ)، نَعمُ الأمرِ يَرتَبطُ بِوجودِ (الشَّجرةِ المُقَدِّسةِ)؛ لَكنْ إِلى جَانبِ ذَلكَ ثَمَةّ سَببٌ آخرَ يَتعدَّى تَأخُرَ ذَوبانِ الثَّلجِ هُنَا إِلَى مُنتصفِ فَصلِ الصَيف. (القَبرُ الأبيضُ الُمتوسِّطُ، ص 220).

هذه هي نقطة النهاية المكانية التي دُفِنَ فيها د. وجدي في رُقاده الأخير برغبته من أجل أن يعاد إلى زمن كاتبه المفضَّل الحبيب دوستويفسكي كي يتماهى مع استحضار روحه وزمنه آنذاك؛ ليخرج بحصيلة الفوز بفكرة الرواية الجديدة تكون بديلاً مُعوِّضاً عما لم يصل إليه دستويفسكي في حياته بعد عشرين عاماً في جزئه الثاني عن روايته (الإخوة كارامازوف). في هذا المعقل المكاني القصي لبعيد من أرض االشامان (سيبيريا) يُدفن د. وجدي ويصبح قبره ملاذاً مكانياً لظلِّه الروحي في أقصى منطقة معزولة عن العالم لا يقربها إلا الشامانيون من أصحاب عجائب الروحانيَّات.

2- المَرجعيَّاتُ الزَّمانيَّةُ لِلرِّوايةِ:

إذا كان الفضاء النصِّي المكاني هو المؤثِّر الأوَّلُ الذي يرتبط بأحداث الرواية التسريدية تتابعياً منتظماً، ويكشف عن تمظهرات الحدث الفعلية والفواعلية الشخصية المتضامنة بشكلٍ مباشرٍ دون غموضٍ أو انزياح فنِّي فلا أهميةٌ تُذكرُ للمكان، ولا جدوى منه إنْ لم يقترن اقتراناً شرطياً توحُديَّاً متناظراً مع ذكر زمنٍ محدَّدٍ ومعيَّنٍ ما، أو الإشارة الإيحائية إلى تاريخ حدوث واقعة الحدث الموضوعية التي أُقيم عليها تركيب البناء النصِّي للخطاب السردي أيَّاً كان نوعه قصَّةً أمْ روايةً.

لهذا أخذت المرجعيات االزمانية أهميتها الفنيَّة من خلال ارتباطها التكاملي الوثيق بعناصر الفنِّ السردي الأخرى. وتتجلَّى صورة هذه المرجعيات الزمانية بأبهى صورها عبر تنامي مسارات الحدث الفعلية التي تنطلق منها أبرز التقنيات السردية أُفقيَّاً وعموديَّاً تصاعديَّاً؛ لتأكيد فاعلية الوحدة الموضوعية زمانيَّاً، وتعضيد قوَّة رسوخها السردي التوثيقي عبر تداعي الأحداث وتوظيف تَقاناتِها الفنية بواسطة استدعاء أو استحضار تقنيتيالتقديم والتأخير (الاستباق والاسترجاع) الفنِّي الزمي الذي تتطلَّبهُ حركة المناورة التسريدية لجماليات العمل الأدبي الروائي أو القصصي الفكريَّة.

وعلى وفق ذلك المنظور الفنِّي يمكن أنْ نعدَّ المرجعيات الزمانية عنصراً مهمَّاً وفاعلاً من عناصر البناء السردي الفنِّي الموازي في ظله المُتوحدن مع مرجعيات الفضاء المكاني الهادف. فإذا كان مفهوم الزمن أو الزمان الاصطلاحي مرتبطاً كليَّاً بمعناه اللُّغوي الذي يعني انقضاء ساعات اللَّيل وتعاقب ساعات النهار في دوراتها الفلكيَّة القارَّة.

فإنَّ مفهوم الزمن بشكلٍ عامٍ يعني استمرار تقدُّم الأحداث وتسارع الفعليات إلى أجلٍ زماني غير محدَّدٍ، بدأً من تعاقب الماضي، فوصولاً للحاضر الآني المعيش، وانتهاء بأجل المستقبل الزمني الواعد؛ لذلك فإنَّ مفهوم زمن السرد الروائيِّ أو القِصصي قد يكون زمناً موضوعياً أو ثيميَّاً فكرياً، والمقصود به زمن الأحداث،زمن الشخصيات، وزمن الحكايات مصدر الأفكار السردية ومرجعها الثقافي.

ومثلما كانت الأحداث السرديَّة لرواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ) قد انطلقت شرارتها المكانية الأولى من مثاباتها المحدَّدة لها في بغداد، وانتهت عند أبعد نقطة لمنطقة قصيَّةٍ في جبال سيبيريا. فبالتأكيد أنَّ هذه المسرودات الموضوعية لمحتويات مضان أحداث الرواية قد بدأت فعلاً حركتها النصيَّة من بغدادَ، مثابة البطل المدنية في ثلثها الأخير الثالث من سنة (2019م) ولا أقول عامها.

إنَّها حقَّاً السنة الزمانية القاتلة المشؤومة، وما تلاها من سنين عجافٍ مازالت عالقة ذكراها الأليمة في ذهن العراقيين والعالم الكوني بأسره، وتلك هي سنون جائحة (كورونا) المميتة التي لا يمكن أنْ تنسى وقائعها التاريخية الكارثية من أذهاننا الفكرية المؤلمة على مر الزمن في تطاوله على أبناء الجامعة الإنسانية قاطبةً من البشر في بقاع المعمورة.

وعلى الرغم من أنَّ (كريم صُبح) في سردياته الروائية لم يُدوِّن لأحداث مثل هذه الواقعة الحدثية الوبائية تاريخياً، ولم يؤرخن لعواقبها الوخيمة التي ألَمَتْ بالعراقيين خصوصاً والعالم عموماً، فإنَّه اكتفى بأرخنة هذا التاريخ سلمياً وإيجابياً للحياة المدنية التي كان يمرُّ بها عندما أُحيل إلى التقاعد بناءً على طلب رغبته في تركه للوظيفة وهجره للتاريخ، وَبِدْءِ حياةٍ مدنيَّةٍ أُخرى لا علاقة لها بماضيه المهني الزمني، وهذا ما أشار إليه على لسان بطله وجدي في عتبته رقم-1- (المتقاعد):

"بَدَأَ كَسولَاً وَهوَ يَستيقظُ قَبلَ ظُهرِ آخرَ أيامٍ مِنْ عَامِنَا 2019 هَذَا، سَهَرَ اللَّياليَ لِخمسةِ شُهورٍ مَضَتْ، رَسَمَ خُطوطَاً سُودَاً بَاهتَةً تَحتَ عَينيهِ، تَحَسَّسَ بِأصابعِهِ مَكانِها الفَارغِ وَهوَ يَنظرُ فِي مَرآةٍ كَبيرةٍ يَظهرُ فِيهَا سَريرَهُمَا خَلفَهُ، حَتمّاً نَهضتْ- كَعادتِهَا دَائِمَاً- فِي وَقتٍ مُبَكِّرٍ، وَطَبعَتْ قُبلَةً عَلَى خَدِّهِ، وَأَعدَّتْ طَعَامَ الإفطارِ، وَأيقظَتْ وَائلَ وأشرفتْ عَلَى اِختيارِ زِيِّهِ المَدرسيِّ...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 15).

بعد انقضاء هذه الفترة الزمنية التي أعقبت بحبوحة الإحالة إلى التقاعد حينما أصابه الحزن وضاقت به حِيلُ سُبل العيش والفراغ الحاصل والانكفاء الذاتي عن مكتبته الشخصية، فكل ذلك التاريخ الزمني أوحى له بالسفرِ إلى أيَّةِ دولةٍ خارج العراق، محاوِّلاً عبثاً الحصول على فكرة لروايته المنشودة التي هجست له في ذهنه في الكتابة بعد يأسه عن أول موضوع قد يخطر على باله كما يذكر ذلك في عتبته العنوانية (إيحاءٌ). الأمر السلبي الذي قد يضع حداً لفشل مهمته التي عزم السفر من أجلها إلى مدينة سانت بطرسبرج، مدينة كاتبه الشهير:

"مِنْ مَصلحَتِي طَبعَاً الإبقاءُ عَلَى فِكرةٍ لِروايةٍ مُتَّقِدَةٍ فِي ذِهنهِ، زَينتْ لَهُ فِكرةَ السَّفرِ إِلَى مَدينةِ بَطرسبرج دُونَ غَيرِهَا، سَهَّلَتْ عَليهِ أَنْ يَتخذَ قَرارَاً عَاجِلَاً بِذلكَ: ضَربتُ عَلَى وَتَرِ فِكرتِهِ المُتمرِّدةِ وَحبُّهِ لِدوستو يِفسكي، أوحيتُ لَهُ أَنَّهُ سَيعثِرُ عَلَى فِكرتِهِ هُناكَ، وَصاحبهِ دُوستو يفسكي هُوَ بِنفسهِ مَنْ سَيَدُلُّهُ عَليهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 24، 25).

بعد وصول د. وجدي لمدينة بطرسبرج وإقامته الوجيزة بأحد فنادقها السياحية الباذخة الواقعة في (شارع نيفسكي)، ومن ثُمَّ لقائه بابنة صاحب الفندق الآنسة (تاتيانا) التي أصبحت عشيقته المحبَّبة لنفسه، والَّتي قدَّمت له خدماتٍ كثيرةً مقابل البقاء معه أكثر مُدةٍّ زمنيةٍ للمُعاشرة الحَميمية:

"اِندهَشتْ تَاتيانَا مِنْ هَذَا العِراقيِّ وَمِنْ لُغتهِ الرُّوسيَّةِ السَّليمَةِ، قَبلَ أَنْ تَنصِتْ بِاهتمامٍ إِلَى دِيمترِي وَهوَ يُحدِثُهَا عَنْ نَزيلِ فُندقِهَا الجَديدِ بَعدَ صُعودهِ إِلَى حُجرتِهِ، وَكَيفَ أنْ يَعرفَ عَنْ رُوسيَا وَعَنْ بَطرسبرج أكثرَ مِنْ مِمَا يَعرفُ هُوَ، وَرُبَّمَا حَتَّى أكثرُ مِنهَا هِيَ نَفسُهَا، وَكَيفَ جَاءَ مُسلَّحَاً بِشهادةٍ فِي التَّاريخ ِوَبشغفٍ لَا يُجَارَى فِي الأدبِ، حَتَّى أنَّه أَحصَى عَدَدَاً كَبيرَاً مِنْ أسماءِ الكُتَّابِ الرُّوسِ". (القَبرُ الأَبيضُ المُتوسِّطُ، ص29).

وقد دفعه هذا الاستقرار الزمني النسبي من عمر الإقامة في فندق تاتيانا السياحي إلى المداومة:

"عَلَى تَقسيمِ وَقتهِ بَينَ التِّجوَالِ فِي المَدينةِ وَزِيارةِ مَعالمِهَا المُهمَّةِ عَلَى وَفقِ جَدولٍ مَرِنٍ قَابلٍ لِلتغييرِ صَباحَاً، والتَّواصلِ مَعَ مَرامَ وَوائلَ هَاتفيَّاً مَساءً، وَالقراءةِ أوْ السَّهرِ مَعَ تَاتانيَا لَيلَاً و (الفودكَا) أيضَاً الَّتِي صَارتْ رَفيقتَهُ..سَاعاتِ السَّهرِ اِزدادَ مَعَهَا تَقديرُهُ وَمكانتُهُ لَدَى تَاتانيَا، حَتَّى أنَّه أَمسَى رَجلَ فُندقِهَا المَدلَّلَ، فِي صَباحهِ هذَا وَقَفَ يَنتظرُ دِيمترِي فِي بَابِ الفُندقِ؛ لِيقلَّهُ إِلَى مَعلَمٍ تَأخَّرَ فِي زِيارتهِ كَثيراً، وَزَعمَ أنَّه قَدْ يَضعُ حَدَّاً لِعجزهِ ذَاكَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 39، 40).

هكذا سارت الأمور زمانياً مع د. وجدي في انتظار تحقيق ما كان قد عزم السفر من أجله؛ لكنَه عندما فَكَرَ بالعودة إلى العراق بعد فشله في تحقيق المرام تفاجأ بالحصار الذي فرض نفسه عليه في مدينة بطرسبرج ؛ نتيجةَ تفشي جائحة كورونا وانتشارها السريع كالنَّار في الهشيم استسلم له:

"ضُحَى أحدِ أيامِ نَيسانَ، الدُّكتورُ وَجدِي وَحدَهُ فِي صَالةِ الاِستقباَلِ، جَالسٌ عَلَى أَريكةٍ طَويلةً قُبالَةَ مَكتبِ تَاتيانَا، وَهوَ يَرتدِي كِمَامتَهُ، مَعَ أنَّ الفُندقَ أَمسَى -قَبلَ أكثرَ مِنْ أُسبوعٍ- خَاويَاً مِنْ نُزلائِهِ سِواهُ هُوَ، وَتاَتيانا بِالطبعِ، وَاثنينِ مِنْ مَساعدِيهَا ِانهمَكَا مَعهَا فِي الأيامِ الأَخيرةِ فِي إجراءاتِ إِغلاق الفُندقِ، مِنْ تَسلُّمِ مَفاتيحِ الحُجُراتِ مِنَ النُّزلاءِ ...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 69).

وخلال فترة الحصار المضروب عليه وباء جائحة كورونا القاتلة واستسلامه في البقاء بفندق تاتانيا، التقى -خلال مكوثه القصير به- بالسيَّدة الثمانينية المبجَّلة التي تدعى (بافلوفنا)رئيسة الشامان ذات القدرات الرُّوحانيَّة العجيبة والتي اقنعته بدهائها الذكي بمسألة السفر والانتقال إلى مكان آخر في سيبيريا يحقق هدفه ويضمن له الحصول عليه؛ كون المصالح مشترطة بينهما تقتضي ذلك:

"فَكِّرْ فِي الأَمرِ مِنْ زَاويةٍ أُخرَى، أَنتَ الأَجنبَيُّ القَريبُ المُحاصرُ وَحدَكَ هُنَا، بَعيدَاً عَنْ أَهلِكَ وَذَويكَ، تَركتَ زَوجَةُ شَغوفَاً بِكَ وَاِبنَاً وَحيدَاً، مِنْ أَجلِ هَدفٍ وَاحدٍ لَا غَيرَ: أنْ تَكتبَ رِوايتَكَ الأُولَى بِفكرةٍ غَيرِ مَسبوقَةٍ عَلَى الوَرقِ، مَا يَضرُّكَ لَو اِنتقلتَ إلَى مَكانٍ آخرَ؛ لَكنَّهُ اِستثنائيٌّ وَفريدٌ بِكُلِّ مَا فِي الكلمةِ مِنْ مَعنَى، مَكانٌ يَضمنُ لَكَ تَحقيقكَ هَدفَكَ فِيهِ!". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص124).

مضت ثمانية أيام على سفر د. وجدي مع السيِّدة المبجَّلة (بافلوفنا) رئيسة الشامان التي لا يعرف خفاياها كثيراً في رحلة قطار طويلة وشاقة بين مثابات سيبيريا العديدة، وصلا لمدينة بابو شكين:

"قُرابَةُ الرَّابعةِ عَصرَاً وَصلنَا إِلَى مَحطَّةِ قَطارِ (أولان-أودي)،كُنتُ قَدْ حَزمتُ أمرِي عَلَى أنْ أَسبقَهَا النُّزولَ لِاستئجارِ مَنْ يَحملُ حَقائبَنَا وَيُوصلُها إِلَى سَيَّارةِ أُجرةٍ تَقلُّنَا إِلَى الوِجهَةِ الَّتي تُحددِّهَا، لَكنَّنِي فَوجئِتُ بِهَا تَنهضُ وَهيَ تَنهِي مُكالمةً مَعَ أحدِ مُساعدِيهَا، وَتَطلبُ مِنِّي الاِنتظارَ رَيثَمَا َيحضرُ مَنْ يَتَولَّى أمرَ الحَقائبِ، قَبلَ أنْ أستفهمَ أَكثرَعَمَّنْ هُوَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 151).

وبعد انقضاء أكثر من أسبوع على إقامته بسيبيريا أرض الشامانيين أُتيحت لوجدي هذا البطل المغامر من أجل هدفٍ سامٍ لا يمكن التخلَّي عنه، فرصة القيام بجولة في (باراسكوفيا)؛ ليتمكَّن من زيارة البورياتين (الشامانات) منهم، وغير الشامانات، وتمكَّن من ذلك زيارة منازلهم وعوائلهم ومزارعهم واللِّقاء برجالهم ونسائهم، وحضر مناسباتهم الاجتماعية الشعبية وغيرها الرسمية.

كل هذا الزمن الذي انفقه د. وجدي في سفره الطويل الضبابي العائم بالغموض والمغامرات ولم يحصل على أيِّة بارقةِ أملٍ تُحقِّق له ما كان معقوداً عليه، إنَّها بالفعل تعدُّ مغامرةً زمكانيةً كلفته حياته بأكملها ثمناً لِحُلُمِه المنشود الذي صار شاهدةً قبرٍ أبيضَ توسَّطَ بين جبال الشامان بسيبيريا.

وبعد مضي ثمانية أشهر على فراق د. وجدي لبغداد بعيداً عن زوجته مرام وولده الوحيد وائل، يبقى السؤال الأكثر أهمية في مادة المرجعيات الزمانية المنظورة في حركة استمراريتها الزمانية الحالية، وغير المنظور، المحسوسة أو الملموسة في العودة إلى الزمن الماضي الذي عاش فيه دوستويفسكي والتماهي معه زمكانياً شكلاً ومضموناً،هل يمكن العودة إليه دون ضبط إيقاع الزمن؟ والجواب بينها (هي)، وبينه (هو) في الساعة التي تكون منضبطة على تاريخ ذلك الزمن السحيق:

"هِيَ أكُنتَ تَظنُّ أنَّهُ سَيفوتنِي ضَبطَهَا عَلَى تَاريخِ اليَومِ الَّذي تَكونُ فِيهِ هُناكَ، فِي عَصرِ السَّيِّدِ دَوستويفسكي؟ هو: وَمَا هَذَا التَّاريخُ ؟ هِيَ: 30 تَشرين الأوَّل 1821م، هَذَا هُوَ بِالضبطِ، السَّيِّد أرتيمُ هُوَ مَنْ سَيضبطُهَا لَكَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص233).

ولا يمكن الوصول لذلك الزمن الغابر إلَّا من خلال استحضار الأرواح واستدعائها في زمنها للإجابة عما يريد الوصول إليه د. وجدي، وكيف يتم تحضير هذه الأرواح؟ فتجيب السيِّدة المبجلة:

"تُحَضَّرُ تِلقائيَّاً أوْ بِالاِستدعاء، يَمكنُ اِستدعاءُ أيِّ رُوحٍ مِنْ الأرواحِ، وَلَا يَهمُّ مَا إذَا كَانَتْ رُوحَ أَكثرِ النَّاسِ وَضاعَةً، مَهمَا كَانَ العَصرُ الِّذي عَاشتْ فِيهِ.. وَنَطلبُ مِنْهَا مَخاطبَتَنَا كِتابةً أوْ صَوتَاً، يَمكنُ أنْ تَبوحَ لَنَا بِمَا مَسموحٌ لَهَا البَوحُ بِهِ، وَهيَ تَنجذِبُ إِلَى صِفَاتِ مُستحضرِيهَا الأدبيةِ، فَالأرواحُ السَّاميَّةُ تُسعَدُ بِالاجتماعَاتِ الجِديَّةِ؛ إذْ تَجدُ نَزعةَ الخَيرِ بَينَ المُجتمعِين ورغبةً صَادقةً لَدَى مُستحضرِيهَا بَأنْ يَتعلمُوا وَيُحسِّنُوا أنفسَهُم". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسّطُ، ص 98) .

على وفق ذلك التحضير والاستدعاء الروحي أيقن الدكتور وجدي، وتأكَّد كلَّ التأكيد من استدعاء روح كاتبه وصاحبه الملهم فيودور دوستويفسكي، والتي يمكن أن تقترح عليه في كتابة فكرة رواية له وتمليها عليه بعدد صفحاتٍ تُقارب ثلاثمائة صفحةً بكلِّ سهولةٍ ويُسرٍ، ولم يبقَ سوى إيجاد الوسيط الذي يقوم بعملية الطقس وهو السيِّدة الثمانينيَّة المُبجَّلة بافلوفنا:

"حَلَّ اليَومُ المُوعودُ ولَيلُهُ زَادَ الأمرَ إِثارةً، هًا هُمَا يَدخُلانِ تِبَاعَاً إِلَى الحُجرةِ الَّتِي اِختارَاهَا مَكانَاً لِاستحضارِ رُوحِ كَاتبِهِ الهُمامِ، بِغيابِ سَاشَا الَّتِي فَضَّلَتْ إِغلاقَ بَابِ حُجرتِهَا عليها عَلَى حُضورِ لَيلةٍ مُرعِبَةٍ رُبَّما تَركتهَا نَهبَاً لِلكواليسِ مَا بَقيَ مِنْ عُمرِهَا...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 103).

لقد فشلت كُلُّ محاولات السيِّدة المُبجَّلة في استحضار روح دوستويفسكي عبر الزمن والعصر الذي عاش فيه؛ لأن فيودور دستويفسكي كان يرفض في حياته رفضاً قاطعاً استدعاء الأرواح واستحضارها ؛ كونه لا يؤمن بذلك الأمر ولا يتمناه لكلِّ من يجرى له روحياً:

"أَظنُّ، بَلْ أنَا مُتيقِّنُ مِنْ أنَّ صَاحبِي فِي حَياتهِ رَفَضَ عَملياتِ اِستحضارِ الأَرواحِ القَائمةِ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ فِي بَطرسبرج آنذاكَ، بَلْ اَنكرَهَا وَسَخِرَ مِنهَا عَلَى رُؤُوسِ الأَشهادِ بِطريقةٍ مَا، عَرفتُ أنَّهُ رَفَضَ بَعدَ مَماتِهِ اِستحضارَ رُوحِهِ هُوَ نَفسُهُ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطَ، ص 106).

والسؤال الذي يلقي بنفسه من القارئ النابه ومن الناقد الحصيف الواعي الثاقب لسطور الرواية. إذا كان د. وجدي يعلم برفض دوستويفسكي القاطع في حياته استحضار روحه وأروح الآخرين فلماذا قَبِلَ أن تستحضر السيِّدة المُبجَّلة بافلوفنا حياة كاتبه المفضَّل فيودور دوستويفسكي ؟! يبدو لي أنها محاولة التشبث بالأمل بأيِّ طريقةٍ، وإن كان الحصول على مبتغاه البعيد صعباً وشاقَاً.

3- المَرجعيَّاتُ الثَّقافيَّةُ لِشخصيَّاتِ الرِّوايَةِ:

إذا كانت المرجعيات الزمكانية لوحدتي الزمان والمكان المرتبطتينِ ارتباطاً تعالقيَّاً وثيقاً مع بعضهما بعضاً من بين أهم العناصر الفنية والتنكملية لعملية البناء السردي في إنتاج التخليق الروائي الحداثوي، فإنَّ المرجعيات الثقافية للشخصيات لا تقلُّ أهميةً وأثراً وحضوراً وفاعليةً في استكمال واقعة الحدث السردية وتحولاتها الفنيَّة السريعة بِدءاً من نقطة الشروع الزمكاني وانتهاءً بخواتيم العمل السردي المدهشة. وقد تكون هذه الشخصيات مستمدة من الواقع أو خياليةً مُتصوِّرةً من مرايا الواقع المخيالي الذي يمور بكل ما هو مثير للجدل ومدهش للفكر والحياة.

وبذلك تؤدِّي الشخصيات (الفواعل) دوراً مهمَّاً وكبيراً في تنامي حركة السرد واستمرار خطى فاعليته البنائية؛ كونها تمثّل ركناً أساسياً منه، والذي يتجلَّى عبر (فِعليَّات) الأحداث ووضوح الأفكار وتداعيها وتخلُّقها كحياة خاصةٍ من خلال شبكة الأنساق الثقافية القارة التي تكوِّن مادة هذا العمل السردي الروائيِّ.

ويمكن القول إنَّ الشخصيات الروائية تعدُّ بمثابة العمود الفقري للحكاية السردية الطويلة التي هي أساس تعدُّد الأفكار وتوالدها فنيَّاً؛ لأنَّ الرواية قد تبدأ بحكاية وتنتهي بفكرةٍ، أو على العكس من ذلك تبدأ بفكرة ما وتنتهي بحكايةٍ تكون مرجعاً تَفرُّعيَّاً لعدة أفكارٍ متناميةٍ مثيرةٍ ورُبَّما أكثر إدهاشاً.

والشخصيات في (الميتاسرد) الحداثوي تُكاشفُ بوضوحٍ -حركيَّاً وذهنياً- عن طريقها السارد إلى القارئ والمتلقِّي لها؛ كونها تُقدِّمُ له مشاهد من المادة الحكائية المسرودة الخام عن طريق هذه الشخصيات بمختلف أنواعها سواء أكانت المفردة أم المتعدِّدة الأصوات.

والتي يتميَّز بها كلُّ عملٍ سرديٍّ له خصائصه السردية، ومتبنياته الفكريَّة والجماليَّة التي ينماز بها عن غيره من الأعمال الروائية على مستوى السرد الواقعي أو الأسطوري المخيالي الذي يُضفي على العمل الأدبي متعةً كبيرةً وجمالاً وقبولاً معرفيَّاً في التلقِّي القرائي إلى المرسل إليه؛ كونها جزءاً كبيراً من منظومة الرسالة النصيَّة إلى القارئ أو المتلقِّي الخارجي.

والقارئ الجاد المُتتبِّع لمدونة (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، سيكتشف بنفسه الواثقة أنَّها رواية بوليفونية مُتعدِّدة الأصوات على الرغم من تركيزها على شخصيتين مُهمتين هما، وجدي وبافلوفنا؛ فإنَّ الرواية بمجملها التسريدي قد تضمَّنت تسعَ شخصياتٍ فواعلية،اثنتان منها رئيسة والشخصيات الأخرى ثانوية قد يكون دورها الفواعلي الفرعي في صنع الحدث مؤثِّراً أو غيرَ مؤثِّرٍ بحسبها.

ولكنَّ اللافت للنظر في رسم مسار هذه الشخصيات الذكوريَّة والأنثويَّة أنَّها قد توزَّعت توزيعاً عادلاً، وكان كريم صُبح قد خطَّطَ لهندسة هذه الشخصيات. فكان تقسيمها الزمكاني متساوياً ثلاثة منها في العراق، وهم: د.وجدي البطل الرئيس وزوجته مرام وابنه الوحيد وائل، وثلاثة شخصياتٍ أخرى في روسيا، وبالتحديد في مدينة دوستويفسكي (بطرسبرج) أو ما تُعرف بـ (لينين غراد) سابقاً، وهم: الشابة الثلاثينية تاتيانا ابنة صاحب الفندق ومُديرته، والتي ارتبطت بعلاقةٍ حميمةٍ مع نزيل الفندق د. وجدي، وديمتري سائق نزلاء الفندق الذي كان السبب في تَعَرُّفهِ على وجدي واصطحابه للفندق، والثالثة السيِّدة ساشا مُدبِّرة الفندق والمسؤولة عن إطعام النزلاء وخدمتهم.

وقد يرد من خلال أحداث السرد الروائي في بطرسبرج ذكر زوج السيِّدة ساشا حارس مقبرة (سوخولوف) الذي طُلِبَ منه وجدي المحافظة على الفندق إبَّانَ جائحة كورونا 2019م.

أمَّا الشخصيات الثلاث الأخيرة في منطقة سيبيريا أرض الشامان، والتي كان لها دور كبير وعجيب في إظهار القدرات الروحانية واستحضار الأرواح؛ كونهم يمثِّلون مجلس الشامان المركزي رئيساً وأعضاءً، وهم: بافلوفنا أو كما تعرف بالسيِّدة المبجَّلة الثمانينية، وهي زوج كبير الشامانات في سيبيريا، ورئيس الشامان بعد وفاة زوجها وصاحبة الصلاحيات الكبيرة في بلدتها.

وكان لهذه السيِّدة الدور الكبير والمهمِّ في سير أحداث الرواية واتِّساع رقعتها الجغرافية المكانية والزمانية والفنيَّة بهذا السمت من السرديات الغرائبية الفنتازية. ثمَّ شخصية أرتيم، المساعد الأول لرئيسة الشامان بافلوفنا، وأستاذ مادة فن الرِّواية، والأستاذُ في جامعة (أولان-أودي)، وشخصية (كيريل) التي لم يذكر اسمه كثيراً في طيَّات الروائي، فضلاً عن شخصية (أرتيوم) سكرتير المكتب الشاماني.

وقد وردت أسماء ثانوية أخرى في سيبيريا غير مؤثِّرة؛ لكن مجيئها وذكرها جاء من باب تعضيد وترصين البناء السردي لحكايات قدرات الشامان الروحانية العجيبة، ومن هذه الأسماء امرأة عجوز تُدعى السيِّدة (آرينا) من بين النساء العجائز المُتفتِّحات والمثقفات أرثو ذوكسية متدينة، وكان لها معرفة مسبقة بتاريخ قدرات الشامان، وما فقد من مخطوطات كتبِهم الرُّوحانية القديمة.

كما ذُكِرَتْ بعض أسماء الخادمات مثل، (فلاسيليسيا)، والفاتنة (اليانوشكا) التي مارست الحبَّ والمعاشرة مع وجدي إثناء إقامته في سيبيريا. كما جاء ذكر اسم صاحب الطاحونة القديمة في قرية المدينة السيِّد (ليونيد بوباتوف) الذي ذُكِرَ في عتبة (الحكايا). وتمَّ أيضاً على الهامش ذِكر شخصية الفلاح المزارع الستيني السيٍّد (إيغور كورنيلوف) صاحب المزرعة الذي التقى به وجدي. فضلاً عن لقائه بالسيدة العجوز المنحنية الظهر ذات الأصول القوقازية قرب أو بعد عبور الجسر، والتي كان لها معرفة تامة بأسرار الشامان وأصولهم الغريبة.

وليس هذا فقط من محتوى الشخصيات الروائية، بل قد ورد على خطِّ سير العمل الأدبي السردي ذكرُ أسماء لأُدباء وكُتَّابٍ وشخصياتٍ روسيَّةٍ كبيرةٍ ونافذه الشهرة مثل، (بوشكين، وغوغول، وكافكا، وتشيخوف، وغوركي، وتولستوي)، وغيرهم من الأدباء الكبار، وكما ورد ذكر اسم العالم العربي المصري الأستاذ محمَّد عيَّاد الطنطاوي الذي كان يعمل أستاذاً بإحدى الجامعات الروسيَّة.

والحديث عن شخصيات الرواية ودورها الكبير والفاعل قد يطول كثيراً، لكن لا بُدَّ من التنبيه إلى أنَّ السيَّدة مرام زوج د. وجدي وولدها وائل لم يكن لهما دور فاعل ومؤثِّر في سير أحداث الرواية، بل كان هامشياً شكلياً ورد من باب ترتيب الأحداث وبدئها من الأول، كونهما من أسرة البطل وجدي ولا بدَّ أن يكون على اتصال بهما خلال مدة سفره وغيابه عنهما لا غير ذلك:

" أنْهتْ دَرسَهَا بَاكِرَاً، اِنصرفَتْ زَميلاتُهَا إِلى قَاعاتِ الدَّرسِ جَعلَهَا تَخلُو إِلَى نَفسِهَا، وَكَانتْ بِحاجةٍ إلَى مُراجعةِ حياتِهَا مَعهُ، بَدتْ مَهمومَةً وَقَلقةً وَهيَ تَنزوِي فِي حُجرةِ المُدرِّسَاتِ، شَغَلَها رُوحَاً وَجَسدَاً، مَا عَادَ يُحدثُهَا وَلَا يُمازحُهَا مِثلَمَا كَانَ يَفعلُ، تُرَى، مَا الَّذي يَشغِلُ بَالَهُ إِلَى حَدِّ إِهمالِ وَاجباتِهِ الزَوجيَّةِّ؟". (الَقبرُالأبيضُ الُمتوسِّطُ،ص19).هكذاكانت مَرام تُحدِّثُ نفسها بعد تقاعد زوجها.

ونذهب في البحث عن الشخصيات إلى بطرسبرج، لنتعرف على شخصية (تاتيانا) ابنة صاحب الفندق التي تعرف عليها السائح العراقي د. وجدي من خلال السائق ديمتري الذي اِندهشت منه:

"وَعرَّفهُ عَلَى الإدارةِ، لَا سِيَّما ابنةُ صَاحبِ الفُندقِ.. اِندهشَتْ تَاتانيا مِنْ هَذَا العِراقيِّ وَمِنْ لُغتهِ الرُّوسيَّةِ السَّليمةِ، قَبلَ أنْ تَنصتَ بِاهتمامٍ إِلَى دِيمترِي وَهوَ يُحدِثُها عَنْ نَزيلِ فُندُقِهَا الجَديدِ بَعدَ صُعودهِ إِلَى حُجرتِهِ، وَكَيفَ أنَّهُ يَعرفُ عَنْ رُوسيَا وعَنْ بَطرسَبرج أكثرَ مِمَّا يَعرفُ هُوَ، حَتَّى أكثرَ مِنْهَا هِيَ نَفسُهَا،يدة المبجلة وَكَيفَ جَاءَ مُسلَّحَاً بِشهادةِ دُكتوراهٍ فِي التَّاريخِ وَبِشغفٍ لَا يُجَارَى فِي الأدبِ، حِتَّى أنَّه أَحصَى عَدَدَاً كَبيرَاً مِنْ أسماءِ الكُتَّابِ الرُّوسِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 29).

وفي غمرة هذا الحديث عن الشخصيات الثلاث وجدي وتاتيانا وديمتري السائق، توطدت العلاقة بين د.وجدي وصاحبة الفندق الآنسة تاتيانا حتَّى أصبحت علاقةً حميمةً لايمكن إغفالها في الرواية:

"وَلَا يَجبُ بِأيِّ حَالٍ مِنَ الأَحوالِ، أَنْ يَكسرَ كِبرياؤُهُ الشَّرقيُّ: يَدهُ اليُمنَى الَّتِي حَملتهُ دَهمَتهَا اِرتعاشاتٌ خَفيفةٌ مُستمرّةٌ وَهيَ تَقربُهُ مِنْ فَمهِ بِبطءٍ، بَدَا كَمَنْ يَتَشمَّمُ مَا فِيهِ، لَمْ يَشأْ أَنْ يَهينَ عِزتَهُ الشَّرقيَّةَ العَتيدةَ، شَرِبَ كَأسَهُ مَرَّةً وَاحدةً، نَهضتْ مِنْ مَكانِهَا مُندفعةً نَحوَهُ وَطبعتْ قُبلَةً عَلَى خًدِّهِ، اِستفزّتْ رَائحتُهُ الزَكيَّةُ أُنوثَتَهَا الثَائرةَ، دَارتْ حَولَهُ بِفرحٍ طُفوليٍّ قَبلَ أنْ تَعودَ وَتَجلسَ قُبالتَهُ، صَبَّتْ لَهُ كَأساً آخرَ وَثَالثاً، ثُمَّ فِي الرَّابعِ خَاطبتُهُ بِلهجةِ المُنتصرَةِ الوَاثقةِ مِنْ كَيدِهَا العَظيمِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 37، 38).

ونمضي قُدُماً إلى أرض سيبيريا المسار الجغرافي العجيب للتعريف بشخصية السيِّدة المبجَّلة التي حيَّرت د. وجدي باسمها (بارسكوفيا بافلوفنا)،والتعرُّف على مكانتها من خلال خطابها لوجدي:

"اِعلمْ أَنَّنِي حُزتُ المَكانتينِ بَينَ قَومِي: زَوجةُ كَبيرِ (الشَّاماناتِ)، وَكَبيرتُهم بَعدَ وَفَاتهِ، لَقبِي الوَحيدُ بَينَهُم هُوَ (السَّيِّدةُ المُبجَّلةُ)، وَتِلكَ مَسؤوليةٌ أَلقتْ أَعباءً جِسامَاً عَلَى كَاهلِي". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 116).

والحديث عن شخصية السيِّدة المبجَّلة يقودنا بالتأكيد عن شخصية (أرتيم) مساعدها الروحاني في مجلس الشامان الذي تحدَّث عنه الدكتور وجدي وعن سيرته؛ كونه يعمل أستاذاً جامعياً مختصَّاً بعلم فنِّ الرواية. ولنقرأ في هذا المضمار السردي ما تقوله السيِّدة المبجلة أو بافلوفنا لوجدي عنه:

"دُكتورُ وَجدِي هَذَا هُوَ السَّيِّد أَرتيمُ مُساعدِي الأوَّلِ، لَا أَستطيعُ القَولَ مَا إذَا بُهِتَ أَوْ دُهِشَ[...] وأَعتذرُمِنكُمَا هَالنِي وَقعُ المُفاجأةِ السَّارةِ بَالتأكيدِ..أهلاً بِكَ سَيِّدَ أرتيمَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص221).

أما الحديث عن مساعده الثاني (كيريل) فلم يأتي بعينه مستقلاً كما هو حال دور مساعدها الأول، وإنَّما جاء عرضياً هامشياً كونه أحد أعضاء مجلس الشامان الروحاني الذي يذكر في سرد الرواية.

وربَّما هناك بعض الشخصيات الثانوية التي ذكرت في أثناء عقد مجلس الشامان، ولا جدوى من ذكرها ؛ كونها أسماءً ثانويَّةً مُساعدةً تقبع خلف كواليس الحدث السردي. لذلك أن وجود أسماء شخصيات مثل (د. وجدي وتاتيانا وبافلوفنا السيِّدة المبجَّلة وأرتيم مساعدها الأول، وربَّما ديمتري سائق سيارة الفندق هي كفيلة بأنْ تعطي صورة واضحة وناصعة عن ما قاموا به من أداء أدوار أحداث مهمة في تفعيل حركة السرد في المدن والمثابات الثلاث، (بغداد وبطرسبرج، وسيبيريا).

ولا بُدَّ من التنبيه إلى أنَّ جميع شخصيات الرواية التي تمَّ استعراضها واستدعاؤها والحديث عنها وذكرها في مشغل هذه الدراسة النقدية الثقافية، هي في الحقيقة تعدُّ مرجعيات الرواية السردية الشخصية؛ بوصفها الأنساق الثقافية الظاهرة والمتجلية بحركتها السرديَّة الكاشفة لفكرة الرواية.

في حين أنَّ النسق السردي المضمر المهمَّ لهذه السرديات الشخصيُّة الفواعلية التي لم تعد ضمن لائحة شخصيات الرواية الظاهريَّة، هي شخصية فيودور دوستويفسكي الحاضرة الخفيَّة والملازمة لأحداث الرواية من أولها حتَّى آخرها. تلك الشخصية الرمزية الموازية لشخصية د. وجدي الباحث عنها حاضراً آنياً في الزمن الماضي الغابر للوصول إلى الغاية التي هي ثيمة الرواية، وهي القناع أو (الماسك) الذي تخفَّى من ورائه كاتب الرِّواية وصانع أحداثها الأُستاذ الدكتور كريم صُبح عطية.

4-المَرجعياتُ الثَّقافيَّةُ لَأحداثِ المُدوَّنَةِ الرِّوائيَّةِ:

تعدُّ الأحداث الفعلية في السرد الروائي بمثابة الرأس إلى الجسم، وهي أشبه بالعمود الفقري الذي يقوم عليه البناء السردي الروائي بأسره. ومن خلال هذا العنصر الفنِّي المهمِّ يقوم السارد الروائي بجمع واختيار فكرته الفنيَّة والموضوعية بدقةٍ عاليةٍ جداً وعنايةٍ كبيرةٍ، وباحترافية فنيَّةٍ متأنيَّةٍ يجسِّد فيها ترتيب الأحداث الزمكانية الواقعية والمخيالية الأسطورية والغرائبية السحرية التي يتشكل منها وتنبثق خيوط نسيجه الفنِّي، وبها يكتمل بناء التعبير الفنِّي في نصِّ خطابه السردي.

وقد يستخدم الكاتب الرائي المثقَّف والمتمرِّس النابه تقانات الاستباق أو (التقديم)، والاسترجاع أو (التأخير)، والتتابع الحدثي المُنتظم فكريَّاً. وقد يضيف لهذه الأحداث المتراتبة شيئاً من مخزونه الثقافي والفكري والمعرفي الثرِّ المكتسب، وربّما يضيف شيئاً آخر من بنات مخياله الذهني والانزياحي الفنِّي البلاغي الجديد. أو قد يحذف بعض ما يراه غير مناسباً لواقعة الحدث السرديَّة.

فتراه دائماً حَذراً ويقظاً وواعياً، يسعى إلى أنْ يكون نصه الروائي في الخطاب السردي فنيَّاً مميَّزاً ومغايراً لخطِ واقع المألوف في كسر جُدُر سور الواقع الحياتي السياقي المألوف قويَّاً ومتماسكا،وهذا ما يميِّز العمل الروائي المكين عن غيره المعطوب والتالف.

ومثلما تتحدَّد العناصر الأخرى في الرواية من زمان ومكان وشخصيات ولغة تتضافر الأحداث معها كليَّاً لتعطينا صورةً بيانيةً واضحةً عن قيمة العمل السردي وتوافق عناصره الفنيَّة بشكل هادف ومقبول في الاستجابة.

ويشكِّل الحدث السردي في مرجعياته وأنساقه الثقافية الظاهرة والمضمرة الخفية في الرواية بشكل عام رأس الهرم في عملية البناء الفنِّي للرواية، فكُلَّما كان الحدث قويَّاً ومتماسكاً وفجائياً أو غرائبياً إدهاشيَّاً في سرد أحداثه، كان المردود الفنِّي والإبداعي له على قدرٍ عالٍ وكبير من الاستجابة والمقبولية والإمتاع والابتداع الذي يميِّز صاحبه كمَّاً ونوعاً وأسلوباً ولغةً وفنَّاً راقياً.

للفعل السردي أو الحدث الروائي السردي في الرواية بشكلٍ عامٍ، والرواية العربية بشكلٍ خاصٍ خصائصٌ مهمَّة في ضوء تتبع الدراسات اللسانية الحديثة؛ كونه يُعدُّ فنَّاً نثريَّاً يعتمد فعلاً سرديَّاً في الدرجة الأولى على خاصية التخييل الفنِّي أكثر من الجنس النثري السردي الآخر القصَّة.

وذلك لكون مِساحة التعبير الأدبي الفنِّي التي ينتجها الفعل السردي أكثر حُريَّةً واتِّساعاً وتَحرُّكاً لشخوصه زمانياً ومكانيَّاً. وبالأخصِّ يكون ذلك على وجه التحديد إذا كان الفعل السردي فعلاً حدثياً دراميَّاً ساخناً يعتمد كثيراً على فعلية حركية المغامرات المثيرة والغريبة التي تؤهِّله إلى توظيف الأجناس التعبيرية الأخرى السائدة من شعرٍ وقصصٍ وفنونٍ وموسيقى ونصوصٍ تاريخيةٍ وفلسفيةٍ وجماليةَ عالميةٍ وتراثيةٍ دينية وإثنيةٍ ومذهبية عقائديةٍ.

وهذا التنوِّع الشكلي للفعل الحدثي السردي هو ما نجد له أثراً أو مثيلاً راكزاً ودالاً في وقائع رواية (الفبر الأبيض المتوسِّط)، وفي أُسلوبية منتجها التخليقي د. كريم صُبح الذي منحها من روح ثقافته المعرفية الإثرائيَّة المكتسبة وموهبته الذاتية وقدرته الفنيَّة الشيء الكثير الذي يجعلها روايةً ذات طابعٍ سرديٍّ مائزٍ ومكين. وهذا ما تشي به شواهد أعماله السردية الأخرى في الانتاج الفنِّي.

فالدكتور كريم صُبح يخلق من رماد الحدث التاريخي المنطفئ شرارةَ حرائقٍ سرديةٍ مُلتهبةٍ تشتعل من جديد في وهج الواقعة الحدثية الروائية وتنتج منها أثراً لمادةٍ فكريةً وسرديةٍ مخياليَّةٍ أكثر مما هي واقعية تضفي على جماليات السرد القرائي مُتعةً وإدهاشاً ووقعاً نفسياً مؤثِّراً لا يمكن الفكاك عنها إلَّا بعد الانتهاء من قراءتها والاستمتاع بلذائذ موضوعاتها السحرية والفنيَّة الشائقة.

فالانزياح التعبيري والخيال الفنِّي والأُسطوري في العمل الروائي السردي مستلٌّ وقعه التأثيري من صميم الواقع ومن مهيمناته التي لا يمكن إغفالها أو التغاضي عنها تاريخيَّاً وعلميَّاً وإنسانيَّاً، فهي تعدُّ مرجعاً ثقافيَّاً من مرجعياته الأولى. وهذا ما يُميِّزُ طبيعة العمل السردي المحكم الثرِّ الرصين عن غيره الطائر والعابر لرياح الأثر السريع الغابر.

وتأسيساً على ما تقدَّم من مرجعياتٍ ثقافيةٍ مُتعدِّدةٍ، زمانيةٍ ومكانيةٍ وشخصياتٍ وأفعالٍ أخرى كلّها تنطوي تحت عباءة الحدث السردي أو ما يُعرف بالبنية الإجناسية الشديدة التعقيد، وتنسج منه شيئاً نثرياً فنيَّاً راقياً اسمه (رواية)، هي أشبه بالثوب الحريري الناعم، أو الجلباب المطرَّز القشيب الذي يرتديه الشخص الفاعل في أبهى حلةٍ له في نهايات الأشياء الجميلة.

وهذه الرواية بالأساس هي في الحقيقة نصُّ سردي تُقدَّمُ فيه سلسلة الأحداث الحقيقية الواقعية أو المخيالية غير المنظورة أي مرجعيات الأسطرة من خلال فنيَّة التعبير السردي، والتي يلتزم فيها سارد النصِّ السَّردي أو كاتب (الخطاب) بالبنية النموذجية السرديَّة في مراعاة الترتيب الزمني لوقائع الأحداث العامة التي تتعلَّق بمطالع المقدِّمة ثمَّ العرض الموضوعي وتفرعاته الداخلية والخارجية الأخرى، فَوصُوْلَاً إلى خاتمة العمل الروائي الاستكمالية، وكيف انتهت صورتها الكليَّة.

و يمرُّ الحدث السردي في حبكته وصراعه بمراحل تعقيدٍ شديدةِ الأثر في سَيْرهِ الحَدثي المَرحلي، فإنَّه يحتاج في الوقت ذاته إلى مراحل حلٍّ سريعة أوبطيئةٍ لهذا التعقيد الزمكاني الشائك. ويحتاج إلى مناوراتٍ وقُدراتٍ وردود أفعال كثيرةٍ. والخلاصة أنَّ البنية السرديَّة للأحداث هي بنية تكاملية تعتمد على ما فيها من عناصر فنيَّةٍ عامَّةٍ أو خاصَّةٍ، وخاصةً العوامل الوظائفية الثلاثة، (الرغبة والتبليغ والصراع)الحدثي التي أسَّس لها غريماس في ترسيمه بمثلثه الشهير، فضلاً عن كلِّ الفضاءات السرديَّة والأمكنة والمثابات المرتبطة بالحدث في عالم الواقع والمتخيَّل اللَّا مرئي.

ومن يتتبَّع بتأنٍّ شديدٍ أحداث وشخصيات رواية (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ)،سيجدْ كلَّ تلك المؤشِّرات البنيوية بطريقة مباشرةٍ ظاهرةٍ المرجعيات، أو غير مباشرةٍ خفيةٍ قارَّةٍ خلف نُقاب لغة السرد المكينة. ويستطيع أنْ يتلمسها ويتحسَّسها من خلال آليات التلقِّي القرائي والمعرفي الجمالي للمدونة السردية،وعلى وجه الخصوص عنداكتمال قراءة العمل الأدبي السردي والإلمام بكلِّ جوانبه الفنيَّةِ.

وفي المنظور التراثي العربي في الأثر: تُنصَبُ قُدورُ الطعام على ثلاثة أحجارٍ من الأثافي، فإنَّ رواية كريم صٌبح (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، أُقيمت زمكانياً على ثلاث مناطق أو مدنٍ عالميةٍ هي، (بغداد، وبطرسبرج، وسيبيريا)، وهذا المثلث المكاني يعني أنَّ الأحداث السردية بدأ الصراع الحركي فيها من العراق، ثمَّ توسَّط في روسيا، وانتهى أخيراً بشاهدة القبر الأبيض المتوسِّط الثلجية في منطقة معزولةٍ قصيِّة من جبال سيبيريا ذلك (المسار العجيب)الذي ذهبت إليه واقعة الحدث السردية مُنقادةً برغبتها الحُرَّة المقدامة تجرُّ أذيالها الحركية دون هوادة أو ترددٍ يغشاها.

وذلك بحثاً عن حُلُمٍ أو أُمنيةٍ أدبيةٍ سرديةٍ روائيةٍ تُخلِّد رائيها في فكرتها المستقلّة عن حلمِ الروائي العالمي دوستويفسكي الذي مات ولم يحقِّق رغبته الكبيرة بعد عشرين عاماً على عمله الأول أو الأخير العظيم (الإخوة كارامازوف) كما مرَّ بنا. وها هو بطل كريم صُبح ونظيره المماهي د. وجدي ساقته قدما القدر إليها، لاستكمال وتحقيق هذا الحلم البعيد المنال الموءود.

فمن بغداد الحاضر والمستقبل بدأ كريم صُبح، أي صنوه ونظيره الظلِّي د. وجدي سير رحلته الأكاديمية العلمية والأدبية التي طلَّقت بالثلاث أُتون التاريخ بقطيعةٍ أسماها أشبه بالعفنة التي لا رجعة فيها؛ فكان الأديب الروائي الروسي دوستويفسكي هو هاجسه الأول ورغبته الشغوف العليا التي ما بعدها رغبة. ولتقارب ما بين الكاتب د. صبح والبطل الهُمام الغالب وجدي كبير جدَّاً:

"وَعَلَى ذِكرِ اِبنِ رُوسيَا الأَعظَمِ، فَقَدْ اِختارَ بَطلُنَا الشَّرقيُّ التَّاريخَ الأَمريكيَّ تَخصُّصَاً أكاديميَّاً، وَاِختارَ الأدبَ الرُّوسيَّ لِيشبعَ شَغفَهُ بِالقراءةِ؛ فَيندِرُ أنْ تَصدرَ قِصَّةٌ أو رِوايةٌ رُوسيَّةٌ -بِلغتهَا الأُمِّ أوْ مُترجمةٍ- مِنْ دُونَ أنْ تَجدَ نِسخةُ مِنهَا عَلَى رُفوفِ مَكتبتِهِ، حَتَّى إنّ إِعجابَهُ بِالأَدبِ الرُّوسيِّ يُمكنُ أنْ يُفسِّرَ تَركيزَهُ عَلَى تَعلُّمِ الرُّوسيَّةِ قِراءةً وَكتابَةً فِي السَّنواتِ الأربعِ الأخيرةِ، فَأجادَهَا وَصارَ لَا يَقرأُ إِلَّا بِهَا، وَلكنْ لَمْ يَكُنْ بَينَ القَصاصينَ وَالرِّوائيينَ الرُّوسِ مَنْ هُوَ قَريبٌ إِلَى نَفسِهِ إِلى حَدِّ الإِعجابِ غَيرِ المَعقولِ، أَكثرَ مِنْ دُوستويفسكي نَفسِهِ،؛ وَكثيرَاً مَا عللَّ ذَلكَ أَمامَ مُستمعيِهِ بِأنَّهُ (أَيقونَةُ السَّردِ الرُّوسيِّ)، وَ (رُوحُ الوَجعِ الكَامنةِ فِي الفَردِ الرُّوسيِّ)...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 7).

فمثل هذه الإشارة النصيَّة تُشير موحياتها الدلالية إلى التقارب ما بين الكاتب العليم وبطله من الناحية الفكرية والعلمية والعقيدة الآيدلوجية والنفسية والحبِّ والرغبة واتقان لُغة البلد اللَّذينِ أحباه وأحبَّا دوستويفسكي كلاهما فكراً وعقيدةً وإبداعاً وسيرةً لا مناص منه في الرحلة الأدبية هذه.

إنَّ هذا التقارب الفكري والمعرفي والتماهي النفسي والتناهي العملي الظلِّي بين الكاتب المتقاعد الدكتور وجدي وظلِّه الحُلُمي الأدبي قاده إلى: "خُطوتهِ الثَّانيةِ العَتيدَةِ هِيَ العُثورُ عَلَى فِكرةٍ تَصلحُ أنْ تَكونَ أوَّلَ رِوايَّةٍ لَهُ، رِوايةٌ قَدْ تَجعلَ مِنهُ رِوائيَّاً فَحسبُ، أوْ رِوائيَّاً مَشهورَاً مِثلُ كًويلو! وَهلْ هَذَا أمرٌ هَيِّنٌ؟ ثُمَّ أيُّ مَوضوعٍ سَيختارُ؟ عَمَّنْ تَحديدَاً سَيكتبُ؟". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 17).َ

من هنا اطلقت رحلة وجدي إلى عالمه الخاص الذي طلَّقَ الجامعة من أجله واختار حياةً جديدةً: "مِن مَصلحتِي طَبعَاً الإبقاءُ عَلَى فِكرةٍ لَروايةٍ مُتَّقدةٍ فِي ذِهنهِ، زَيَّنتْ لَهُ فِكرةَ السَّفرِ إِلَى مَدينةِ بَطرسبرجَ دُونَ غَيرِهَا، سَهَّلَتْ عَليهِ أنْ يَتخذَ قَرارَاً عَاجلَاً بِذلكَ: ضَربَتُ عَلى وَتَرِ فِكرتهِ المُتمرِّدةِ وَحبِّهِ لِدوستويفسكي، أَوحيتُ لَهُ أنَّه سَيعثرُ عَلَى فِكرتِهِ هُناكَ، فَصَاحبُهٌ دُوستويفسكي هُوَ بِنفسِهِ مَنْ سَيَدُلُّهُ عًليهَا". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 24، 25).

هذه هي شرارة الفكرة التي قدحت له بذهنه وبنى عليها كّلَ أحلامه ورغائبه وآماله العِظام بأنَّ صاحبه سيحقِّق له رغبته الحلمية. على الرغم من أنَّ زوجته مرام هي التي اقترحت عليه فكرة السفر دون تحديد الدولة التي يرغب بالسفر إليها، وهو من كان صاحب القرار المقدام النهائي في اختيار مدينة (بطرسبرج)؛ لأسباب زمانية وتاريخية وأدبية؛ كونها مدينة دوستو يفسكي التي كتب فيها أعظم وأكثر رواياته، وورد ذكر هذه المدينة العظيمة الكثير في صفحات رواياته الشهيرة:

"ِاستقَّلَ سَيَّارةَ أُجرةٍ مِنْ المَطارِ وَتعرَّفَ بِسائقهَا دِيمترِي الطَّويلِ القَامَةِ وَالضَخمِ الجُثَّةِ المَفتولِ العَضلاتِ هَذَا، ذُو الشَّعرِ الذَّهبيِّ وَصَاحبِ الوَجهِ البَشوشِ دَائمَاً، أَدهشَهُ أنْ السَّائِحَ الغَريبَ يَعرفُ مَا يُريدُ، فَهوَ يَتحدَّثُ بِلغتهِ كَأنَّهُ أحدُ أَبناءِ مَدينتهِ وَلَمْ يَطلبْ مِنهُ تَرشيحَ أَحدِ الفَنادقِ لِيُقيمَ فِيهِ كَمَا يَفعلُ أَغلب مَنْ يَجلبَهُم مِنَ المَطارِ؛ بَلْ حَدَّدَ وِجهتَهُ بِالضبطِ وَهوَ يَركبُ جُوارَهُ (فُندقُ سِتيفي نيفسكِي)، وَفِي الطَّريقِ تَوَطَّدتْ عَلاقتَهُمَا،[...]". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 27).

ومن يتأمَّل هذه الدفقة السردية بين البطل العراقي وجدي والسائق ديمتري (البطرسبرجي)، سيقرأ هذه المرجعية الثقافية التي ألَّفَت بينهما صنيعة الكاتب د. كريم صُبح، وكأنَّه من أهل هذه البلدة يعرف خارطتها الجغرافية والثقافية والمكانية بشكل أكثر من هذا السائق المرشد للسائحين. وهذا يشي أنَّك أمام كاتب عجن طحين روايته بسردياته المذهلة واستلَّ من ذلك العجين المطحون خبز صنعته الفنيَّة المدهشة بأنواع شتَّى من ثمار تلك السردية المخبوزة بخميرة الماهر بسرد عجينه.

الأمر الذي منح القارئ والمتلقِّي الواعي بحبوحة التأمُّل والتَّفكُّر في طبيعة هذا السرد السيري المُحبَّب للنفس الإنسانية الأمارة برغائب الحب والاستجداد الثيمي الموضوعي الغرائبي النادر:

"اِندهَشَتْ تَاتيانَا مِنْ هَذَا العِراقيِّ وَمِنْ لُغتهٍ الرُّوسيَّةِ السَّليمةِ، قَبلَ أنْ تَنصتَ بِاهتمامٍ إِلَى دِيمترِي وَهوَ يُحدثُهَا عَنْ نَزيلِ فُندُقِهَا الجَديدِ بَعدَ صُعودهِ إِلَى حُجرتهِ، وَكَيفَ أنَّه يَعرفُ عَنْ رُوسيَا وَعَنْ بَطرسبرج أكثرَ مِمَّا يَعرفُ هُوَ؛ وَرُبَّما حَتَّى أكثرَ مِنهَا هِيَ نُفسُهَا، وَكيفَ جَاءَ مُسلَّحَاً بِشهادةِ دُكتوراهٍ فِي التَّاريخِ، وَبِشغفٍ لَا يُجارَى فِي الأَدبِ؛ حَتَّى أنَّهُ أَحصَى عَدَدَاً كَبيرَاً من أَسماءِ الكُتَّابِ الرُّوسِ". (القَبرُ الأَبيضُ المُتوسِّطُ، ص 29 ).

فمثلُ هذه المرجعيات الثقافية التي تسلَّحَ بها الدكتور وجدي واكتنز بها معرقياً وثقافياً تؤكِّد العلاقة الوشيجة بينه وبين كاتبه الدكتور كريم صُبح الذي بدأ وهج التاريخ عنده متراساً دفاعياً مُحكَمَاً في روايته الأولى (الوجه الآخر للضباب)،تلك الرواية التي استمدَّت أحداثها أيضاً من تاريخ روسيا، ومن عقيدتها الآيدلوجية، وما يمكن أنْ يكون هذا البطل (المُثقَّف) بهذا المستوى الثقافي المرجعي الواسع الكبير من العلمية والمعرفية ما لم يكن كاتبه العليم السارد من شغف بروسيا وبطرسبرج وقياصرتهما ودوستويفسكي وأدبائها الرُّوس، واهتم بما بعده في الميتا سرد الحداثوي.

إنَّ وتيرة الأحداث المتسارعة تكشف مرجعياتها عن سرِّ عَلاقةٍ وثيقةٍ بين هذا الأستاذ العراقيِّ المتقاعد وبين تاتيانا ابنة صاحب الفدق السيِّد (لِف فالنتين)، تلك العلاقة التي ليس لها مثيل في الإعجاب برجل شرقيٍّ مثلَ وجدي هذا الذي أصبح ماركة مسجلةً فارقةفي لائحة السائحين العرب:

"وَلكنْ ثَمَّةَ مَا شَغَلَ تَفكيرَهَا المُستقلَّ فِي الأيامِ الأَخيرةِ، إنَّهُ هَذَا الأُستاذُ الجَامعيُّ المُتقاعدُ، نَعم هُوَ يَكبرُهَا سِنَّاً؛ لَكنَّهُ لا يَكادُ يُشبهُ أحدَاً مِنْ نُزلاءِ فُندُقِهَا مِنْ عَربٍ وَأجانبَ، فَهوُ يَتحاشَاهُم جَميعَاً تَقريبَاَ، كَمَا يَهمُهَا لَيستْ عُزلتُهُ، فَذلكَ شَأنَهُ، لَمْ يَخفِ عَليهَا أنَّ نَزيلَ فُندُقِهَا الجَديدِ لَمْ يَطلبُ شَرابَاً كُحوليَّاً مَثلَاً، وَلمْ يَنغمسْ مَعَ نِساءٍ رُوسيَّاتٍ فِي مُتَعٍ مَألوفةٍ فِي الفَنادقِ كَفُندُقِهَا نَفسِهِ" (القَبرُ الأبيضُ الُمتوسِّطُ، ص 35).

إذن المرجعيات التي تقرؤها عن د. وجدي أنه نزيل مغاير في ثقافته وشخصيته عن الآخرين التي رسمها الكاتب له، وفارقة التميُّز والانبهار في معرفة شخصيته للآخر الذي التقت به وأحبَّها، ولا يمكن أن تعرف مثل هذه الشخصية المثقَّفة إلَّا من خلال كاتبها التي رسمها له بعنايةٍ واقتدارٍ.

اتاحت فترة بقاء البطل وجدي في مدينة بطرسبرج إليه التعرُّف على معالمها الحضارية ولثقافية والتاريخية، ومنحته فرصة زيارتها والوقوف على آثارها وقصورها وكنائسها ومعابدها. والأكثر من ذلك زيارة كل ما يمتُّ بصلةٍ إلى إرثِ صاحبه دوستويفسكي والوقوف على لُقى آثاره الأدبية؛ وذلك من خلال الرسالة التي كتبها تولستوي عنه وقرأها البطل وجدي عن صاحبه دوستويفسكي:

" بَعدَ مُوتِهِ أَدركَتْ أَنَّهُ كَانَ أقربَ إِنسانٍ إِلَى نَفسِي، وَإنْ كُنتُ لَمْ أرهُ أبدَاً، كُنتُ أَتمنَّى رُؤيتَهُ... لَكنْ هَذَا لَمْ يَحدُثْ لِسببٍ بَسيطٍ؛ إِنَّهُ ماتَ، إنَّ مُؤلَّفاتِ دُوستويفسكِي وَذكاءَهُ الحَادَ يُثيرانِ فِي دَاخلِي حَالةً مِنَ الغَيرَةِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 61).

ولم يحصل الدكتور وجدي على ضالته في بارقة الأملٍ لكتابة فكرة روايته الأولى التي انتظرها كلَّ هذه المدَّة، وتشاء ظروف جائحة كورونا عام (2019م ( فتحاصره في شهر نيسان بمدينة بطرسبرج واضطراره إلى البقاء فيها مدَّةً أكثر انتظاراً على أمل العودة لبغدادَ، التي لم يتواصل معها إلَّا بالاتصال هاتفياً مرَّةً أو مرتينِ مع زوجته مَرام وولده وائل، ولم يتحدَّث عن أثرها ببغدادَ.

بيدَ أنَّ الأمورَ تأخذ مسرىً آخر للأحداث السرديَّة، فيلتقي خلال مدَّة بقائه في الفندق بالسيِّدة المُبجَّلة بافلوفنا زوج كبير الشامانات - كما مرَّت في الحديث- في سيبيريا غيرَّتْ فكرة عودته إلى العراق، ومن ثم التوجُّه إلى بلدها سيبيريا لتحقيق رغبته ورغبتها الحقيقية؛ كونها تخفي في مرجعياتها الثقافية الفكرية والروحانية المضمرة أمراً مهمَّاً، وهو الحصول على كتاب المخطوط الشامني الأول محطُّ عنايتها الذي جاءت عنوةً من أجل العثور عليه في فندق تاتيانا، ورُبَّما الثاني.

وقد التقت بافلوفنا بالدكتور وجدي الذي سيطرت على مشاعر تفكيره من أجل قضيتها وسارت قُدُماُ في مهمَّة استحضار الأرواح لتثبت قدرتها الروحانية في استدعاء روح دوستويفسكي التي يتوق وجدي إليها من أجل بغيته الفكرية والذاتية في الوصول لعصره ليملي عليه فكرة الرواية:

" أَولُ مَرَّة تُحاولُ إِثباتَ قُدرتِهَا أمامَهُ هُوَ بِالذاتِ وَتَفشلُ عَلَى نَحوٍ مُخْزٍ، التَوترُ وَالعصبيةُ بَاديانِ عَلَى وَجهِهَا بِكُلِّ وَضُوحٍ، وخجلُها مِنهُ وَتَحرُّجُهَا أمامَهُ! الأمرُ أَفضعُ، عَادتْ إِلَى كُرسيِّهَا وَنفادُ الصَّبرِ غَالبَهَا، سَألتْهُ بِلهجةٍ أَقربَ إِلَى الصُرَاخِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 105).

فشلت كلُّ عمليات الاستحضار التي قامت بها الوسيطة الروحانية بافلوفنا لغايات بعيدةٍ؛ وذلك لكون دوستويفسكي كان لا يحبُّ استحضار الأرواح في حياته، وخاصةً في جلسات استحضار الأرواح التي يقيمها الآخرون، والتي كان يحضرها. ومع ذلك الفشل في الاستحضار فشلت فكرة الرواية التي كان يظنُّ الدكتور وجدي إمكانية الحصول عليها خلال استحضارروح صاحبه زمنياً:

"أظنُّ، بَلْ أنَا مُتيَقِّنُ مِنْ أَنَّ صَاحبِي فِي حَياتِهِ رَفضَ عَملياتِ اِستحضارِ الأَرواحِ القَائمةِ عَلَى قَدَمٍ وَسَاقٍ فِي بَطرسبرج آنذاكَ، بَلْ اَنكرَهَا وَسَخِرَ مِنهَا عَلَى رُؤوسِ الأشهادِ، بِطريقةٍ مَا عَرِفَ أَنَّهُ رَفَضَ بَعدَ مَمَاتِهِ اِستحضارَ رُوحِهِ هُوَ نَفسُهُ[...] هَذَا هُوَ السَّببُ فِي عَدمِ حُضورِ رُوحهِ، أَلَا تَعلمُ أنَّ مَنْ لَا يُؤمنْ بِاستحضارِ الأرواحِ، لَا يُمكِنْ، بَلْ مُحالٌ اِستحضارُ رُوحِهِ مَهمَا حَاولنَا؟". ذَلكَ الأمرَ مراتٍ ومرَّات أخرى. (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 106).

إنَّ عدم استحضار روح كاتبه العظيم، وفشل طقس الاستحضار دعا السيِّدة بافلوفنا إلى استحضار روح أُخرى لكاتب آخر له صلة وثيقة، وعلاقة مباشرةٌ به، ومع عصره مثل (كافكا السوداوي):

"لأنَّنِي أظنُّ أنَّ كَافكَا أَساءَ فِي حَياتِهِ إِلَى كَاتبِي المُفضَّلِ؛ اِتَّهمَهُ بِعدَمِ الأصالةِ فِي صَفحتينِ مِنْ كِتابهِ (رَسائلَ إِلَى مِيلينَا)، المَفروضُ أنَّه كِتَابٌ لَا يَضمُّ سِوَى رَسائلِ شَغفٍ ذَروتُهُ إِلَى حَبيبتِهِ، وَمَعَ ذَلكَ حَشَرَ كَافكَا السَّوداويُّ اِسمَ دُوستويفسكي حَشرَاً، وَتجَنَّى عَليهِ مِنْ دُونَ وَجهِ حَقٍّ؛ كِتابُهَ صَدَرَ بِالألمانيةِ أولاً؛ ثُمَّ بِانكَليزيَّةِ [ثانياً]، وَبِالعربيَّةِ ثَالثاً،عَرفتُ بِإساءتهِ مِنَ النِّسخةِ العَربيَّةِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص107).

لقد تَمَّ استحضار روح كافكا ومُزِّقَتْ الصفحتان اللَّتان أساء فيهما كافكا إلى دستويفسكي، على الرغم إنَّهما عن حبيبته ميلينا كما يُصرِّح كافكا بذلك؛ لكنْ ما في الأمر من خفاء مبطن يضمره كافكا له. وفي غمرة مضي الأحداث وتعاقبها يسأل وجدي السيِّدة المُبجَّلة، مَنْ تكون؟ فتجيب بأنَّها زوج كبير الشامانات وكبيرتهم بعد وفاته، ومهمتها تنحصر في العثور على المخطوط الثاني المكمَّل للمخطوط الأول الذي بحوزتها بأي ثمن كان،ومهما كلف الأمرذلك من عواقب وصعوبات:

"المَهمُّ أنَّ مَنصبِي حَتمَّ عَليَّ المُضِيِّ فِي البَحثِ عَنْ المَخطوطِ، أرسلتُ (شَاماناتِ) إِلَى أَماكنَ مُختلفةٍ مِنْ بِقاعِ رُوسيَا، بِدايةً مِنْ هُنَا بَطرسبرج؛ لَكنْ عَبثَاً كُلُّ هَمِّي كَانَ العُثورُ عَليهِ وَضَمِّهِ إِلَى المَخطوطِ الآخرَ الَّذي أَحوزُهُ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 117).

جرت الأمور في مرجعياته الثقافية البعيدة على مرام تفصيل السيِّدة المبجِّلة؛ لكون مصلحتها في العثور على أثر هذا المخطوط الثاني تقتضي الارتباط مع مصلحة البطل وجدي الباحث عن الفكرة الروائية ومرافقته لديارها في سيبيريا ذلك البلد العجيب الذي يحمل في طياته الغرائب والأسرار:

"- وَأينَ هِيَ دِيارُكِ؟ تَعلمينَ أنَّنِي تَحرَّجتُ مِنْ سُؤالِكِ عَنهَا، شَعرتُ أنَّكِ تَتَقَصدِينَ عَدمَ الإِشارةِ إِليهَا، عَلَى كَثرةِ أحاديثَنَا اليَوميةِ. -إنَّهَا أَرضُ العَجائبِ والغُموضِ، سِيبيريَا الحَبيبَةُ، وَمَا أدراكَ مَا هِيَ سِيبيريَا! هِيَ مِنْ جَديدٍ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 123، 124).

وتصل عجلة السرد الحكائي الروائي إلى سيبيريا الغموض؛ لنتعرَّف على كوامن مرجعياتها الثقافية بين ثنائي الرحلة (بافلوفنا ووجدي)، وهذا ما يسجِّله الكاتب الروائي العليم د. كريم صُبح في تماهيه مع بطله وتقديم محاضرته السردية التاريخية لطُّلابه إذ يقول لهم في تقريب هذا الأمر:

"أَسمعُها دَاخلَ مَقصورتِهُما وَهُمَا يَتناقشانِ بِشأنِ دَورِ سِيبيريَا فِي حَياةِ دُوستويفسكي، أنَا مِن ْنَاحيتِي أُؤيدُ رَأيَ الدُّكتورِ وَجدِي، فَمَنْ غَيرِ دُوستويفسكِي يَجرؤ عَلَى اِستهلالِ رِوايتِهِ بِاسمِ سِيبيريَا؟ لَكنَّنِي أَشيرُ هُنَا إِلَى المَخطوطةِ الأتيةِ الَّتِي سَجلتُهَا وَأنَا فِي طَورِ جَمعِ المَعلوماتِ عَيلهُمَا كِليهمَا، أَقصُد دُوستويفسكِي وَسيبيريَا، فَلمْ يَبسقنِي أَحدٌ حَتَّى الدُّكتورُ وَجدِي نَفسُهُ[...] يَا لَهُ مِنْ دُوستويفسكِي هَذَا الَّذِي جَلبَ خَمسينيَاً مَعَاً إِلَى بَطرسبرجَ ! ثُمَّ هُوَ وَالسيِّدةُ المُبجَّلةُ وَأنَا فِي قِطارِنَا إِليهَا، سِيبيريَا الحَبيبةُ تِلكَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسطِّ، ص 130).

حقيقةً هذا التسريد الاعترافي المهمُّ هو ما أقرَّته مرجعيات الكاتب د.صبح لِطلِّابه وبيان صلته بالاثنين شخصاً ومكاناً وكأنه يلقي محاضرةً على طلابه لسرد مذكراته عن دوستويفسكي وعن سيبيريا التي ستكون مكاناً لظلِّه الحيِّ الميِّتِ واتكونَ شاهدة زمنيةً تاريخية لقبره الأبيض المتوسِّط.

وبعد مضي أكثر من ثمانية أيامٍ كاملةً بلياليها في رحلة قطار طويلةٍ مُضنية إلى أرض سيبيريا ومن ثم الوصول إليها، وبقاء وجدي أسبوعاً كاملاً بعيداً عن السيِّدة المبجلة بافلوفنا، وقيامه -على أثر غيابها الغامض واعتكافها المتتابع- بجولةٍ إلى المدينة ومشاهدة أهلها وزيارة بيوتها وقراها الريفية ومصنعها الأهلية البسيطة، واللِّا قاء بوجهائها وأُناسها العاديينَ من وذوي القدرات العجيبة.

وتصل أحداث وقع الرواية السرديَّة إلى قِمتها وتكشف عن كوامن تمظهراتها الغريبة والعجيبة التي قام بها البطل د. وجدي. إنها السفر إلى الزمن الماضي عبر عصور خلت برموزها وإبداعها:

"لَوْ سَمحتَ دَعنِي أَكونُ مُتيقنةُ مِنْ قَرارِكَ عَلَى نَحوٍ وَاضحٍ، هَلْ أَنتْ مُستعدٌ لِلعودةِ إِلَى عَصرِ دُوستويفسكِي وَتَعيشُ مَعهُ بِعددِ السَّنواتِ الَّتي عاَشهَا فِي حَياتِهِ الدُّنيويةِ مِنْ سَاعةِ وِلادتِهِ إِلى سَاعةِ مِمَاتِهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 178).

هكذا كان ووجدي بين قاب قوسن أو أدنى من التراجع عن الطقس الذي ستُجرِّبهُ السيَّدة المبجَّلة، وليس من مفرٍّ آخر سوى القبول بفرضية إجراء الطقس الشاماني الثلاثي الذي سَيُقرِّر مصيره الروحي الذاتي في أنْ (أكونَ أو لا أكونُ) صاحب القرار الحاسم للأمركما قالها هاملت من قبله:

"لَا أَظنُّ أنَّ ثَمَّةَ هنَّاتٍ مُمَيتةً فِي الطَّقسِ الَّذي أَديناهُ، بَلْ لِرُبَّما حظّهُ العَاثرُ... عَلَى مَا يَبدو0". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 240).

هذه هي النهاية الحتمية للدكتور وجدي الذي أسلمَ روحَهُ وجسده لفكرة الرِّواية الأولى له والتي لم تكتب بعد، حتَّى استحالت الأمور إلى المكان أو الوضع الذي دُفِنَ فيهِ الدكتور وجدي بين جبال سيبيريا وثلوجها، والذي عرف بـ (لقَبُر الأبيضُ المُتوسِّطُ) وَضمَّ رفاته، بل كان ظلَّه وشاهدة قبره، إنَّه هو قتيل صاحبه المفضَّل عظيم الشأنِ دوستويفسكي الذي يعدُّ آخرَ مَرجعٍ من مرجعيات الرواية االسردية الفنتازية لعجيبة التي امتثل بها الكاتب كريم صبح من خلال شخصية بطله د. وجدي.

5- المَرجعيَاتُ اللُّغويَّةُ لِسرديَّاتِ الرِّوايَةِ:

إذا كانت المرجعيات الثقافية الأربع السابقة هي مرجعيات تصبُّ بالدرجة الأولى في خانة العناصر الفنية للرواية؛ فإنَّ المرجع الثقافي الخامس يصبُّ في خانة اللُّغة السردية بشكلٍ خاصٍ، ويميِّز أسلوبيتها التعبيرية. فمن هذا المنطلق الثقافي يُعدُّ النصُّ الروائي (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ)، لِكريم صُبح بشكلٍ خاصٍ والخطاب الروائي القَصَّي بشكلٍ عامٍ بأنَّه خطابُ نصٍّ لغوي في المقام التعبيري السردي الأوَّل:

لكونه ينماز بجلال نسقه المتفرِّد ومغايرته في إيقاع أسُلوبه التعبيري الفنِّي المتناسب بين تقنيات السرد ولغة الحوار الدَّرامي السَّردي للأحداث والتوصيف والتعريف والمناجاة. ويحدث كل ذلك التمايز من خلال لغته السحرية الماتعة التي تُهيمنُ عليها لغة التشعير النثري، تلك الوظيفة اللُّغوية الجمالية التي تؤدِّي دورها الفاعل المتميِّز بين عناصر الفنِّ الروائي الأساسية الأخرى بشكلٍ لافتٍ للنظرِ غير مملٍّ أو ممقوتٍ . بل على العكس من ذلك يشعر معها القارئ بالراحة النفسية التامَّة.

وعلى وفق ذلك المنظور الثقافي سعى بجديَّةٍ الكاتب كريم صُبح في مدونته الروائية (القبرُ الأبيضُ المتوسِّط) إلى اختراق البنية التقليدية الساقية العامة للرواية وتحطيمها نسقاً مألوفاً للقارئ؛ وذلك بِدْأً من الوحداتِ الزمانيةِ والمكانيةِ والشخصيات الفواعلية والحدثية الفعلية، وانتهاءً بحلِّ عقدتها الصراعية التركيبية، لتحتفظ مقابل كلِّ تلك العناصر بعنصر المرجعيات اللُّغويَّة للرواية.

وهذا التوصيف الفنِّي التعبيري هو ما يميِّز لغة عمل سرديات مصنَّف (القَبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ) الخطابي عن غيرها من السرديات الروائية في تعدُّد بوصلة مرجعياتها اللُّغوية السرديَّة المُتشابكة صعوداً وهبوطاً وشرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وهرماً وقاعاً وعمودياً وأفقياً في كلِّ الاتجاهات.

فمن يقرأ نصوص رواية (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ) بعين نقديةٍ ثاقبةٍ ويتفحص بتمعنٍ سطور لُغتها السردية جيِّداً، سيعثر بوضوح ٍعلى ذلك التعدُّد اللُّغوي المتماسك بين محطَّات عناصرها الفنيَّة المتوحدنة بشكلٍ ماثلٍ بين محتويات سطورها وأحداثها التاريخية والأدبية والروحانية والسِّيريَّة.

وستقرأ خطاباً سردياً جدليَّاً يجنح في إيقاعه الأُسلوبي اللُّغوي وفي سرود مرجعياته النسقية إلى السرد التاريخي الموثَّق عالمياً، ويميل تارةً في لغته إلى السرد الأدبي والشعري الثقافي، وتارةً يميل إلى سرد أدب الرحلات العالمية، وتارةً أخرى إلى مرجعيات السرد الثقافي الروحاني، وتارةً أخيرة إلى سرد الرموز والشخصيات المؤثِّرة عالميَّاً في صناعة الأدب والشعر والفنِّ والجمال والموسيقى، فضلاً عن سرد الأماكن والمثابات والصروح الرمزية العالمية والثقافية والحضارية.

جميع تلك المسرودات الثقافية في الرواية تقع تحت عباءة اللُّغة الفكرية القارَّة سرديَّاً، والتي هي أساس كل عمل فني مُميَّز في بنيته السردية العامَّة والخاصَّة، ليس بعناصره وآلياته الفنيَّة يكتمل تَمايزاً ومُغايرةً فَحسب، وإنَّما بفنِّ جماليات إيقاع لغته التعبيرية الراكزة وأُسلوبه شكلاً ومضموناً.

فهذا يعني أنَّ لكلِّ قاصٍ أو ساردٍ له معجمه اللُّغوي التسريدي الذي يُميز بَصمته السرديَّة، فَيُقال هذا أسلوب فلانٍ من الكُتَّاب والمبدعينَ؛ لأنَّ الأُسلوب هو الكاتب كما يعبر عنه بوفون الفرنسي. فحين تبحث عن أسلوبية كريم صُبح في أعماله القصصية والروائية تجدها لغةً سرديَّةً تاريخية بامتياز؛ لكنَّها متنوِّعة مُغايرةٌ لا تشعر معها وتحديداً في هذه الرواية بأيٍّ إملالٍ أو ثقلٍ أو نفورٍ يبعدك عن مسرودات أسلوبيتها الحكائية الشائقة الماتعة فنيَّاً ونفسياً وجماليَّاً:

"أَطالَ الوُقوفَ عِندَ رُفوفِ مَكتبهِ، ألفتُهُ كُتبُها التَّاريخيَّةُ فِي أُتُونِ ثَورةٍ دَاخليَّةٍ جَعلتُهُ يَصيبُ لَعناتِهِ عَلَى التَّاريخِ، وَلِماذَا ذَلكَ كُلَّهُ؟ لَأنَّ التَّاريخَ -فِي حقيقتِهِ- عَفنٌ وَذَاكرةُ أحقادٍ وَرِثَتْ مِثلمَا تُورَّثُ الأراضِي وَالقُصورُ، وَلَيسَ هُوَ وَحدَهُ، لِيذهبَ هُوَ وَأبوهُ إلَّى الجَحيمِ، إذنْ تُعسَاً وِبِئسَاً لَهُمَا". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 5)0

فعلى الرغم من حبَّه الأثير للتاريخ وهو اختصاصه المتفرِّد شخصياً به، فإنَّه ينتقد إسقاطات التاريخ الكبيرة وهنَّاته غير الواقعية، ويلعنه لعنةً أبديةً لما فيه من إجحاف وظلمٍ بحقِّ الإنسانية التي تُورِّث ولا تلتفت لحقوق الآخرين. فها هو كريم صُبح يورد لنا نصَّاً إشهاديَّاً عن مساوئ التاريخ، وعن أناسه السيئين في القَصاصة الثالثة من قصاصات بطله:

"إنَّ التَّاريخَ قَائمٌ كُليَّاً عَلَى هَؤلاءِ النَّاسِ السَّيئينَ الَّذينَ يُكرسونَ أُناسَاً لَحينَ فِيمَا بَعدُ" (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 9).

لم يكن الحديث عن نوازع التاريخ وإسقاطاته الكثيرة مُستقلاً بذاته في سردياته الروائية، بل قد نجد أنَّ الدكتور كريم صُبح قد يجمع ما بين تمظهرات التاريخ بأطواره الزمكانية، والأدب بأجناسه الثقافية والأدبية، كما هو الحال والمُحال الزمكاني في حديث بطله د. وجدي الذي أخذ يُصرِّحُ بـ:

"أنَّ َتوقيتَ بَطرسبرجَ مُطابقٌ لِتوقيتِ بَغدادَ، كَمَا اِكتشفَ أَيضَاً أنَّ عَاصمَةَ القَياصرةِ الرُّوسِ هِيَ مَكانُ جَميعِ الرِّواياتِ تقَريبَاً الَّتي كَتبَهَا دُوستويفسكِي، حَتَّى قِيلَ يَومَاً إنَّ (بَطرسبرجَ قَبل الثَّورةِ البَلشفيةِ هِيَ مَدينةُ دَوستويفسكي) ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 25).

ولم يقف عند هذا، بل راح يُردِّدُ عدَد مرَّاتٍ ذكر بطرسبرج في روايات وقصص دوستويفسكي، (الشياطين، والأبله، والزوج الأبدي، و ونيتوتشكا نيزفانوفا، والوديعة وحادث مؤسف للغاية، والفقراء، وفي سردابي، والإخوة كارمازوف، وحُلم العمِ، والشبيهُ، والجارةُ، ومذكراتٌ من البيت الميِّت، ورسائلهُ).وقد ورد ذكر مدينة بطرسبرج في جميع رواياته وقصصه بنحو (584) مرَةً. فما هذا الشغف الأدبي بنتاج دستويفسكي وبتاريخ إرثه الأدبي العالمي الكبير، إنه الحبُّ الخالص له:

"يَكفِي أنَّه يَقعُ فِي شَارعِ نِيفسكي، وَلَا يَهمنِي هُنَا أنَّ الأخيرَ أكثرُ شَوارِعِ مَدينتِكُم شُهرةً، بل أنَّ أيقونتَكُم وكَاتبِي الفَريدَ دَائمَاً، أَشارَ إِلَى الشَّارِع بِاسمِهِ الصَريِحِ مِرارَاً فِي رِواياتِهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 28).

هذا الحبُّ الفريد لكاتبه دستو يفسكي يُصاحبه تقطيرٌ مماثل لمدينة بطرسبرج ولتاريخها الطويل:

"بَعدَ مِئتِي سَنَةٍ تَمَّ تَغييرُ اِسمِهَا إِلَى (بِترو غَراد) نِسبَةً إِلَى مُؤسِّسِها بُطرسَ نَفسِهِ، اِنتَهَى عَهدُهَا بِصفتِهَا عَاصمةُ لِلدولةِ الرُّوسيَةِ وَأصبحَ اِسمُهَا (لِينين غراد) نِسبَةُ إِلَى زَعيمِ الثَّورةِ البَلشفيَّةِ لِينين، مَعَ ذَلكَ، صَاحبَ الاِنهيارَ المُدَوِّيَّ لِلاتَّحادِ السُّوفيتِي تَصويتُ أَغلبيةِ سُكَّانِ المَدينةِ عَلَى اِستعادَةِ اِسمِهَا التَّاريخِي (سَانت بِطرسبرج) ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 31).

فهذا الثراء المعرفي والحبُّ لتاريخ بطرسبرج العريق ولمسمياته المتعدِّدة يشي بأنَّ كريم صُبح (د. وجدي) هو في الحقيقة أنموذجَاً مثاليَّاً حيَّاً لصورة لأُستاذ العلمي والأكاديمي والمثقَّف الحقيقي المثابر الذي يعي ما عليه من ثقافةٍ وينظر إلى مالَهُ من واجبات تجاه هذه الثقافة المعرفية والفكرية.

إنَّ هذا الهجس التاريخي في حبِّه لكاتبه المفضَّل ولبطرسبرج، لم ينسِهِ أبداً ذكر مدينته الأُمَّ بغداد في رحلته التاريخية لبطرسبرج التي فتحت له آفاقاً تاريخية في مشروعه الثقافي الفكري الروائي:

"كَانَ وَحدَهُ تَحتَ وَطأةِ إِحساسٍ أنَّهُ إنسانٌ جَديدٌ تَرَكَ كُلَّ مَا يُثقلُهُ هُنَاكَ، فِي بَغدادِ، وَبَدَا مُستبشرَاً فِي مُحيَاهِ أَكثرُ مِنْ أَملٍ، ولَا سِيَّمَا الإمساكُ بِفكرتِهِ العَتيدةِ الَّتي عَادتْ تَطرق جُمجمتَهُ كَمَا كَانتْ تَفعلُ فِي بَغدادَ...". (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 32).

إنَّ إجادة البطل وجدي للُّغة الروسيَّة سهَّلَ له زيارة معالم روسيا وبالذات مدينة بطرسبرج التاريخية والحضارية والفكرية وأديرتها ومعابدها وكنائسها ومقابرها التاريخية العريقة التي ارتبطت بأسماء مؤسسيها من عظماء الروس ومفكريها ومبدعيها وأبطالها ورموزها التاريخيين:

"لِكنيسةِ القِديسِ الكسَندر نِيفسكي فِي بَطرسبرِج مَنزلةٌ خَاصَّةٌ فِي نَفسِي، إِذْ أنَّ مُقبرتَهَا تَحتوِي عَلَى رُفَاتِ المَرحومِ زَوجِي فيودو دوستويفسكي، وإذَا جَاءَ أَجلِي فَعسَى أَنْ أُدفنَ إِلَى جَانبِهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 41).

هذا النصُّ التاريخي المُذكَّراتي الموثَّق معرفيَّاً والذي نقله الكاتب د. كريم صُبح ليس لبطل روايته وجدي، وليس له بالذات، وإنما منقول عن زوج دوستويفسكي الكاتبة المعروفة بـ (آنا غريغوري). ولم يكتفِ د. صُبح بنقل النصوص الأدبية والتاريخية عن دوستويفسكي وزوجته، وعن كنيسة نيفسكي، بل راح ينقل لنا نصوصاً دينيةً من مرجعياتها ومصادرها الأصلية من الكتاب المقدَّس (العهد الجديد)،النصّ الذي كان مكتوباً إلى جنبي شاهدة قبر دوستويفسكي والمنقوش عليها اسمه مع هذه العبارة المأثورة دينيَّاً:

"الحَقُّ أَقولُ لَكُم؛ مَا لَمْ تَسقطْ حَبَةُ قَمحٍ فِي الأَرضِ وَتَموتُ؛ فَإنَّهَا تَبقَى وَحدَهَا؛ لِكنْ إِنْ مَاتَتْ تَأتِي بِثَمَرٍ كَبيرٍ" . (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص42 ).

إلى جنب هذه المرجعيات اللُّغوية الثقافية، ورد ذكر موسيقار روسيا الأول بيتر تشايكوفسكي المعاصر لفيودور دوستويفسكي وصاحب سمفونيات (بُحيرة البجعِ) و، (كسارة البندق)، و (الأميرة النائمة). وذكر أسماء المسارح العالمية كمسرح (البولشوي) في موسكو التي لا تخلو من موسيقاه:

"وَقَدْ عُرِفَ مِنْ قِراءتِهِ لِلتاريخِ المُوسيقيَّ الرُّوسيِّ أنَّ عَلاقةً حًميمةً رَبطتهُ بِتلميذٍ لَهُ أَنهَى حَياتَهُ بِالانتحارِ،وَأنَّ الحادثَ يُفسِّرُ لَمسةَالحِزنِ والشَّجنِ مَثلَاً، فِي نَهايَةِ سِييمفونيَّةِ (رُوميو وجًوليت)". (القبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص43).

هذا الاهتمام اللُّغوي الثقافي بدقائق الأمور عن بلد كبير واسع في ثقافته ينمُّ عن أنَّ د. صُبح كان ملماً بثقافته هذا البلد ومسمياته ومحباً له؛ وإلَّا لِمَا تمكَّن من سرد وقائع ثقافاته الفنيَّة والأدبيَّة والإبداعيَّة كافةً. وفي غمرة هذا التقطير الموسيقي الثقافي هناك تقطيرٌ لغويٌّ روحاني ساير فيه الكاتب كريم صبح على لسان شخص روايته الأول وجدي التي ينقل لقارئه تصوراته الروحانيَّة عن كاتبه المفضَّل دوستويفسكي فيقول:

"ثَمَّةَ دَليلُ آخرَ أَقوَى يَعرفُهُ هُوَ كَمَا أَعرفُهُ أنَّا: دُوستويفسكِي رَفضَ اِستحضارَ زَوجهِ فِي مِمَاتِهِ كَمَا رَفضَ اِستحضارَ أَرواحِ الآخرينَ فِي حَياتِهِ، بِإشارَةٍ لَا تَقبلُ الشَّكَّ أَرسلَهَا مِنَ العَالَمِ الآخرِ إِلَى زَوجتِه آنَّا وَابنتِهَا لَوبوف: نِيقولاي فَاغنر، العَالمُ الرُّوحانِي المَعروفِ والأُستاذُ فِي (جَامعَةِ بَطرسبرجَ الإمبراطوريَّةِ)...". (القَبرُ الأَبيضُ المُتوسِّط، ص 45).

هكذا يجمع السارد بثقافته المعرفية والإبداعية شخوصه ورموزه الفكريَّة، حتَّى وصل به الاعتقاد بما نقله عن الرُّوحانيات الروسيَّة الشائعة في القرن التاسع عشر بهذا النص الرُّوحي عن كاتبه:

"يُقالُ إنَّ الأرواحَ الَّتي يُمكنُ اِستحضارَهَا، هِيَ الأرواحُ الهَائمةُ، أيْ الِّتي مَاتَ أصحابُهَا وَلَديهُم أَعمالٌ لَمْ يَنجزوهَا بَعدَ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 46).

فدلالة هذا النصُّ السردي هي إشارة واضحة لروح كاتبه الأثير الذي مات ولم ينجز جزأه الثاني من روايته (الإخوة كارامازوف) التي مضى على أحداث شخوصها عشرون عاماً متواليةً. والتي جاء وجدي لأخذ فكرتها من روح صاحبة المفضَّل دوستويفسكي الغائب جسداً والحاضر روحاً.

وقد دعاه هذا الاستحضار الرُّوحاني لكاتبه القريب إلى ذكر أسماء كُتَّاب روس مشهورين مثل، (سوخولوف وغوغول وبيلنسكي)، فضلاً عن ذكره لوصية دوستويفسكي لزوجته في أن يدفن في مقبرة (فولوكوف) بالقرب من صديقه العتيد (نيكراسوف) بعيداً عن شرِّ الأدباء الروس الذين كانوا يضمرون الشرَّ له كما كان يعتقد ويظنُّ ذلك الأمر الخفي. ولنقراً بتجلٍّ ما قاله ثقافياً (نيكراسوف) عن صديقه المفضَّل (دوستويفسكي) الذي نقله عنه العراقي بطل الرواية المِقدَام الصامد د. وجدي:

"بِالطبعِ كَتَبَ عُشرَ مَا فَكَّرَ بِهِ مِنْ رِواياتٍ، وَذَكرَ بَعضَهَا تَفصيليَّاً بِحماسٍ غَيرَ قَليلٍ، لَا حُدودِ لَديهِ لِموضوعاتٍ كَهذهِ الَّتي لَمْ يَملكْ الوَقتَ لِكتابتِهَا". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 48).

حقَّاً إنَّ مثل هذه المعلومات الثريَّة التي تَحلَّى بها الدكتور كريم صُبح في بثِّ سردياته الحكائية الفاعلة على فم ولسان بطله الهُمام د. وجدي تنمُّ عن ثقافة معرفية إبستمولوجية مكتسبة وتأصيل ثقافي ليس في مجال اختصاصه المهني التاريخي العلمي، بل في واحات الثقافة الإنسانية العالمية (تاريخيَّاً وأدبيَّاً وفنيَّاً وثقافيَّاً ومعرفيَّاً) لا تَنضبُ عن الذاكرة الحيَّة لشخصياته الحركية المتواثبة.

وقد أضفت بلغتها التسريدية المُكتنزة على وقع مدوَّنته الروائيَّة (القبرُ الأبيضُ المتوسِّطُ) طابعاً فنيَّاً وجماليَّاً لافتاً لنظرِ القارئ. وقد وصل الشعور الرُّوحي الثَّقافي بالدكتور صُبح ونظيره الدكتور وجدي في تلافيف لغته التعبيرية إلى زيارة ضريح قبر كاتبه المفضَّل دوستويفسكي قد تُغريه روحيَّاً في الحصول على فكرته الذاتية في كتابة الرواية الجديدة التي عزم السفر من أجلها: "حَسنَاً، يَكمنُ الحَلُّ الوَحيدُ إمَّا فِي اِستحضارِ رُوحهِ، أَوْ فِي عَودتِي أنَا زَمنيَّاً إِلى عَصرِهِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 55).

ومن المداومة على مرجعيات التقطير المعرفي الثقافي الرُّوحي والأدبي والتاريخي ننتقل بلغة الحديث إلى لغة التسريد الصحي الطبي فيما يتعلَّق بوباء جائحة كورونا التي ألمت بالعالم بأسره وهو محاصر في بطرسبرج علَّه يفلح بفكرته الروائية الأثيرة، فراح ينقل لنا مشاهد هذا الوباء الذي داهمه فجأةً بشكل غير متأثرٍ بما حصل جَرَّاؤه من نتائج كارثيةٍ وقعت للعالم ومنها روسيا:

"الوَبَاءُ لَمْ يَنحسرْ سَريعَاً كَمَا تَوقعنَا، وَبَطرسبرجُ أَمستْ مُوبوءةً، رُبَّما بَالغنَا فِي تَوقعنَا بَعضَ الشَّيءِ، وَالمُشكلةُ فِي سُرعةِ اِنتشارهِ، وَفِي عَدمِ اِكتشافِ لُقاحٍ لَهُ حَتَّى الآنَ". (القَبرُ المُتوسّطُ، ص70).

أمَّا في مجال لغة الحديث عن الرموز الشخصيَّة التي قامت بدورٍ فاعلٍ في الرواية،يأتي الحديث عن السيِّدة المُبجَّلة بافلوفنا صاحبة القدرات الشامانية الروحانية العجيبة، والتي كان لها الدور الكبير في إقناعه بالذهاب إلى سيبيريا بلاد الصقيع والثلوج والجبال الشاهقة المخيفة لمصلحتها:

"بَارسكونيا بَافلوفنا، أوْ السَّيِّدة بَافلوفنَا، كَمَا تُحبُّ أنْ تُنادَى، ثَمانينيةٌ، مُتوسِّطةُ الطُّولَ تَميلُ إِلَى السُّمنَةِ، شَعرهَا كَثيفٌ مَا زَالَ يُصارعُ الزَّمنَ، قَصَّتهُ قَصيرةٌ وَتَغلبُ عَليهِ حُمرَةٌ خَافتةٌ، غَزَتْ التَجاعيدُ وجهَهَا؛ مَع َأنَّهُ يَشِي بِجمالٍ قَديمٍ لَا تُخطئِهُ العَينُ، يَظنُّها أنيقةً، ذَكيةً وَفِي صِحَّةٍ جَيَّدةٍ، لَمْ يَنتبهْ إِليهَا أَولَ لِقاءٍ بَينَهمَا؛ لَكنَّهُ يَجدُ شَبهَاً بَينهَا وَبَينَ تَاتشرُ...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 81).

وينتقل الحديث السردي بلغته الأدبية المقارنة إلى ذكر المصنف الأسطوري (ألف ليلة وليلة)، وسيرة (عنترة)، وديوان معلقة (امرئ القيس)، وملحمة (كلكامش)،السومريَّة، وإلى جميع الأعمال والآثار العربية التي تَمَّ ترجمتُها من لغتها العربيَّة الأصلية إلى الروسيَّة. فضلاً عن اهتمامات البطل الأسطوري بالأدب السردي الروسي وقراءاته له والإعجاب به وبكاتبه الأثير دوستويفسكي الذي أراد أن يكون أنموذجاً أدبياً وثقافياً مغايراً لخطى مسيرته الأدبية التي انطلق أصلاً مغامراً من أجلها برغم خوفه وفشله الذي يقف حائلاً عن تحقيقها، فها هو يبحث عن مرجعه الإبداعي:

"... ألستَ تَقولُ إنَّ دُوستويفسكي هُوَ مَثلكَ الأَعلَى؟ لَقدْ عَرفَ النَّجاحَ وَالفَشلَ، وَظلَّ يَكتبُ إِلَى أَنْ وَصلَ مَا وَصَلَ إِليهِ مِنْ ذَروةِ السَّردِ... هُوَ مَرجعِي الرَّئيسُ فِي كُلَّ مَا لَهُ عَلاقةٌ مُباشرةٌ وًغيرَ مَباشرةِ بِمثلِي الأَعلَى" . (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّط، ص 84).

وتنزاحُ لُغة السرد فنِّي عند كريم صُبح إلى مسار لُغة أدب الرحلات التي تتطلَّب توصيفاً بيانياً عالياً ومحايداً ودقةً في إيراد وإطلاق المعلومات السردية عن الأمكنة التي زارها الكاتب السارد العليم في رحلته إلى سيبيريا التي يقول عنها البطل المغامر بحياته وجدي:

"مَا يَهُمُّكَ أَنْ تعَرفهُ الآنَ أَنَّ رُوسيَا تَتألَفُ مِنْ سَبعينَ قَوميَّةً، وَإحدى وَعَشرينَ جُمهوريَّةِ حُكمٍ ذَاتيٍّ ضِمنَ الِاتِّحادَ الرُّوسيَّ، اِعلمْ أنَّ مُعظمَ سُكَّان سِيبيريَا مِنْ الرُّوسِ، يَليهُم الألمانُ، ثُمَّ التُركُ وَالتوفانزَ اليَاقوتِيينَ". (القَبُر الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 134) .

ويمضي الحديث عن الرحلات قُاً دُماً عن حياة السيبيريين والمدن التي يعيشون فيها والمناطق الريفية، وقد استمرَّت رحلة الدكتور وجدي مع السيِّدة المُبجَّلة في القطار لسيبيريا البعيدة ثمانية أيام بلياليها مع أخذ استراحات قليلة متقطعة. وفي الوقت ذاته يأتي الحديث هامشياً عن الأعلام والرموز العرب من الذين ورد ذكرهم في لغة التسريد الروائي الماتعة:

"لا بأس، اعلم أن، أحد أبنائها وَيُدعَى الشَيخَ مُحّمدَ عَيادٍ الطّنَطَاوّي، دَرَسَ فِي جَامعةِ سَانتْ بَطرسبرجِ الإمبراطوريَّةِ، بَلْ عَاشَ فِي المَدينةِ مًدَّةً طَويلةً، وَرُبَّما أَرسلتْ إِليكَ قَريبَاً مًا َيهمُّكَ فِي حَياتهِ، وَلَيستْ مُعاصرَتَهَ لِدوستويفسكِي الَّتِي تَعنينَا مَعَ أنَّها لَمْ يَلتقيَا قَطُّ، بَلْ مَنضمونُ وَصِيةٍ شَاعَ أنَّه تَركَهَا لِابنهِ الوَحيدِ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 180).

لم تستقرُّ لغة الكاتب السارد العليم على نهج لغوي سردي ٍّ واحدٍ، فَمَسرى طريق السرد هو ما يوجه بوصلته الفكرية إليه، ويقف في الموضع الذي يراه مناسباً لمحطات الرواية التي أوشكت على نهايتها. فبعد الحديث عن إمكانيات ايجابيات وسلبيات العيش في سيبيريا، يأتي إلى إتمام طقس استحضار الأرواح للنفاذ إلى فكرة الرواية عن طريق استدعاء واستحضار روح كاتبه الكبير دوستويفسكي التي هي آخر أمل روحي ينقذ د. وجدي من محنته الأبدية التي تورط فيها والتي لا مناص من التراجع عنها أبداً.

ففكرة استنطاق الأرواح هي ما يشغل فكر الثلاثي (وجدي وبافلوفنا وأرتيم)في إتمام مهمَّة الطقس الثلاثي الذي جاء من نصوصها الروحية المرقمة بالعلامات تعويذةٌ عَدديَّة على لسان د. وجدي:

"النَفاذُ! الَّنفاذُ! النَّفاذُ! أَرجُو وَأَلتمِسُ 3- النَّفاذُ! النَّفاذُ! مِنْ أَجلِ الخَيرِ لَا شَرٌّ لَأحدٍ 6- أَقسمُ لَا أَذيةُ لِبشَرٍ أوْ حَيوانٍ أوْ نَبَاتٍ". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 202) .

وآخر ما جرى بطقس تحضير الأرواح نطق نصِّ الضمير" هُوَ...". (القَبرُ الأبيضُ المُتوسِّطُ، ص 242). الذي انتهى بنهاية مفتوحة للقارئ كأنَّ الرواية لها تتمة أخرى باقية؛كون د.وجدي دُفِنَ حيَّاً برغبته.

المَرجعيَّاتُ الثَّقافيَّةُ لأُسلوبيَّةِ الكَاتبِ

إنَّ أهم َّ ما يُميِّز أسلوبية الكاتب الدكتور كريم صُبح ويلفت الأنظار الذهنية الخاطفة في إيقاع معجميته السرديَّة الآسرة في نهج مدوَّنة خطابه الروائي النصِّي (القبرُ الأبيضُ المُتوسّطُ)أفكار ثيمته الموضوعية التفرُّديَّة المُكتنزة بٍسيلٍ لغويٍّ فاعلي لجمعٍ من التحشيدات الأُسلوبية ذات الوصف الحكائي البنيوي التركيبي المملوء سحراً بكمٍ نوعيٍّ من سريدات الغرائبية ذات الأثر النفسي البالغ.

والمشحونة فِعلِيَّاتُها الحَدثيةُ بإيقاعٍ أُسلوبيٍّ تأثيريٍّ عجائبيٍّ في تخليق واقعة الحدث الموضوعية التي كسرت بفنيَّة لغتها حاجز واقع المألوف السردي للقارئ، وحطَّمت أنساقه التالفة بجديد فكرتها الوسطية الإدهاشية، وحمولات موحيات مشاهدها الدراميَّة الروحانية المذهلة، وكثرة مفارقات مرجعياتها الثقافية الثرَّة الصادمة. والتي لا يمكن أنْ نضعها في مشغل النقديَّات السرديَّة الحديثة تحديداً تحت سحر الواقعية الجديدة من جانب أو في خانة البلاغة التخيُّليَّة الجديدة من جانب آخر.

فهي في واقع الحال مزيج مركبٍ سرديٍّ (مِخيَا واقعي)مُدهشٍ من خلطة هذا السياقي القديم وذاك النسقي البنيوي الجديد الَّتي لم تشهد له مثلها منابع السرديَّة في هندسة بنائها الفنِّي المعماري شكلاً ومضموناً ولفظاً ومعنىً مُوَحدَناً. وفق خطُّة منهج فكريٍّ سرديٍّ مُخطَّط له بعنايةٍ دقيقةٍ وانتظام.

والمساءلة الثقافية التي تُلقي بنفسها للقارئ في المرجعيات الأسلوبية، إذا كان التاريخ يوِّثق للماضي ويُؤرخن لأحداث الحاضر، فلماذا ترك د. وجدي -في حياته الحاضرة- التاريخَ الحديث المادي المبني على ترتيب أحداث الحاضر، وذهب إلى عالم الأدب المعنوي المضمر؟ فراح زمانياً يبحث في تاريخ روسيا الماضي ومجدها الآثر، مُنقِّباً زمكانياً بغرائبية في حِفريَّاتهِ السرديَّة واستحضاراته الرُّوحية الآسرة عن آثار صاحبه الأدبيَّة دوستويفسكي ورفاقه من الكُتَّاب المُجايلين.

أليس هناك خيطٌ سريُّ رفيعٌ مُضمرٌ يحوي فهماً عميقاً للنفس الإنسانية وتحليلاً شمولياً لها بشتى أحوالها الروحية والثقافية والاجتماعية يجمع بين رؤية د.وجدي الباحث عن تاريخ مجدٍ أدبيٍّ سرديٍّ حاضرٍ موصول بتجلِّيات الماضي،والذي هوانعكاس صوري سيميائي حقيقي لِبُغيَةِ الكاتب، وبين دوستويفسكي الكاتب العظيم والمؤلِّف الروسيِّ الخالد؟ والذي حُكِمَ عليه بالإعدام وخُفِفَ عنه في اللحظات الأخيرة نتيجةَ تضحيته الذاتية وموقفه الثقافي الثابت من انتقاد النظام السياسي الحاكم.

أليس هذا هو المطاف المرجعي التاريخي السردي الرُّوحي النسقي المضمر الأخير الذي قدَّم فيه وجدي روحه قُرباناً حيَّةً في نهاية مبكرة لحياته الأدبية في عشرينيات القرن الثاني والعشرين من أجل مجده الذاتي وطموحه الشخصي البعيد أنْ يكون في تماهيه الروائي السردي النسقي الظاهري أُنموذجاً أيقونياً موازياً لمكانة كاتبه الأثير وقدوته الفذِّ الكبير فيودور دوستويفسكي الذي نال تقدير العالم وحصل على إعجابه واحترامه في سجِّل تاريخية اسمه ورسمه الأدبي الإبداعي العالمي ؟

لكنّْ للأسف الشديد إنَّ طموح الدكتور وجدي كان أكبر بكثير من حُلمه، فهو الذي قتله كي يكون بديلاً عن فكرة الرواية التي أرد أنْ يستحصلها علامةً فارقةً من صنوه وكاتبه المثير، لكنًّها استعصت عليه فكرتها كسابقه الأصيل. ولم يبقَ من تاريخها سوى شاهدهِ قبره الأبيضِ المُتوسِّطِ.

ومن نوافل العدل والإنصاف الحَقَّي الذي لا يُجانب سواه في مشاغل مرجعيات النقد الثقافيَّة السردية تُعدُّ مُدوَّنة (القبرُ الأبيضُ المتوسِطُ) الرِّوايةَ الأكثرَ إشكاليةً وبراعةً فنيَّةً في معماريَّة إنتاجها التخليقي السردي الحديث، والذي يمكن أنْ نعدها إضافةً نوعيةً أيقونية من إضافات الفنِّ الروائي التسريدي الإبداعي المعاصر الذي يرفد مكتبة السرديَّات العربيَّة بكلِّ ماهُوَ مُدهشٌ عَجيبٌ.

***

د. جبّاَر ماجد البهادليّ / نَاقدٌ وكاتبٌ عراقيّ

 

في المثقف اليوم