قراءات نقدية
عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية لقصيدة الشاعرة الجزائرية د. آمنة حزمون
بعنوان: «جرحٌ فاخر»
تتّسم قصيدة «جرحٌ فاخر» بحميميّة اشتغلت عليها لغة الشاعرة الجزائرية الدكتورة آمنة حزمون طبيبة المخ والأعصاب، بين نبرة اعترافية وشحنة تأمّلية تجعل النصّ مساحةً للتناوب بين الألم والبهجة، بين الاندفاع الحسي والوعي التأمّلي. من منظور هيرمينوطيقي–تأويلي، تقرأ القصيدة بوصفها حلقةً من محاولات القراءة والكتابة التي تخاطب القارئ داخليّاً وتستدعِي تاريخَ الأنا والهوية. سأوظف هنا مناهج هيرمينوطيقية، أسلوبية، سيميائية (بما في ذلك نموذج غريماس الفعّال)، نفسية ودينية، علاوة على قراءة جمالية ووطنية، لنكشف ما تحمله القصيدة من طبقاتٍ تحت الجلد الشعري: نبضٌ، توتر، رمز.
1. القراءة الهيرمينوطيقية التأويلية:
١- القصيدة كحالة تفسيرية: المتكلم/المتكلّم عنها يتخذ موقفَ الاعتراف والنداء، أو خطاب الذات المتألّم/المتيم. القراءة الهيرمينوطيقية تنطلق من فكرة أن النصّ ليس مجرد رسالة بل أفق تأويل مفتوح: المتكلّم يبدأ بـ «لا تموت الجراحُ إن جراحي/باقياتٌ» — جرح متواصل لا يزول لأنه متجذر في وجوده. الشعور بالاستمرارية (بقاء الجراح) يقترن بليل طويل، وهو زمنٌ رمزي للاختبار والحنين.
٢- الأسئلة التفسيرية التي يطرحها النص: ما هو مصدر الجرح؟ هل هو الحب أم العزلة أم فقدان الربيع (الطبيعي/الوجداني)؟ تردّ القصيدة بإجاباتٍ نصفية: هناك «تفاصيلك» تكشف الهوى، و«انتمائي لأفق روحك لغز»، و«غارق قلبي الحزين ببحرٍ موجه الحب» — أفقُ الحب هنا يمثل غايةً وغموضًا في آنٍ معا.
٣- الهرمية التأويلية: من «الجراح» إلى «الهوى» إلى «الانتماء» ثم إلى «النداء/الاستنجاد» (انتشلني يا جميلا) — حركةٌ من الألم إلى الرجاء، ومن الصمت إلى الطلب. كما أن قصيدة ذات طبيعة حوارية مع الذات والآخر، وتحتضن عناصر البلاغة والنداء الديني (ليلة القدر) وتوظيف صورٍ وطنيّة/طبيعية (الربيع، الحقول).
2. تحليل سيميائي (بونييت" غطاء" - جميل- /غريماس كموجه):
2.1 العلامات والأقطاب السيميائية:
تشتغل القصيدة بشبكة من دالات دلالية متضادة ومتضمنة:
١- الحضور/الغياب: «غابت عن الربيع الحقولُ» مقابل «عيونك فجرا يوقظ الشمس».
٢- الجرح/الفخامة: العنوان «جرح فاخر» اتحاد مفارقي (سلبية الجرح مع صفة الفخر/الفخامة).
٣-النور/الظلمة: «الليالي تزول» مقابل «أبصروا النجمَ يرتديه الأفول».
هذه الثنائيات تخلق حقلًا دلالياً مركّباً؛ العلامات ليست معزولة بل تعمل داخل شبكة نصّية تُنتج معاني مختلفة بحسب تموضعها.
2.2 تطبيق نموذج غريماس أي النموذج الفعلي:
نحو استخراج محاور الأدوار داخل القصيدة — نعيد قراءة نصّ غريماس عبر تحديد: المرسل، المادة/الهدف، الفاعل/المطلوب منه، المتلقّي، المساعدون، والخصوم/المعادون.
١- (المخاطَب الفاعل المطلوب): «القلب/الذات المتكلِّمَة» — هوية الــ«أنا» الشاعرية التي تسعى إلى الخلاص/الانعتاق (التحرّر من الجرح أو بلوغ المحبوب).
٢- الموضوع، (الهدف): الانتصال بالخلاص/الانعتاق عبر الحب — يمكن صياغته: «النجاة العاطفية/الالتصاق المتبادل».
٣- (المرسل الذي يمثّل الطلب/الدافع): النصّ يقدم أكثر من مرسل؛ أقوى قراءاتنا تشير إلى «قوة الحب/الهوى» كمرسل داخلي: الحب يُرسل رغبة الخلاص («مدّ لي كفهُ فقلتُ: انتشلني»). كذلك الطبيعة/السما «هكذا قالت السما والفصولُ» قد تعمل كمرسلٍ يبرر الانتماء.
٤- (المتلقي): «المحبوب/الجميلا» أو حتى القُراء المتلقون الذين يشاركون المضمر العاطفي؛ ولكن على مستوى العمل السرديّ المتلقي الأساسي هو الذات التي تُستبدَل حالتها بالالتصاق/النجاة.
٥- (المساعدون): رموز الطبيعة (الشمس، الفصول، البحر) كقوى تُعين الرغبة؛ أيضًا «التجلي دليلُ» كعامل مساعد يعطي دافعًا للرجاء.
٦- (المعاندون/المعترضون): «العيون/الناس/الحُرّاس الاجتماعيون» الذين «حرضوا ثوبي الشفيفَ وقالوا/أسبليهِ فقد تجنُّ العقول» — هذا صوت معادي يحيط بالمحب ويعمل مانعًا اجتماعياً. كذلك «الأفول» و«الغياب» كقوى معرّضة للموانع.
- خريطة غريماسية (مكتوبة):
١- الهوى/الطبيعة (مرجع قيمي ودافع).
٢- «أنا» المتكلّم (الساعي).
٣- الانتصال/النجاة بالحب (المرغوب فيه)
٤- المتكلّم نفسه (تحويل ذاتي) أو الحبيب (كمن يحقق الهدف)
٥- التجليات الطبيعية (الشمس، البحر، الفصول)، الرمل الديني (ليلة القدر كعلامة مساعدة معنوية)
٦- المجتمع/العيون/الفضول/الأفول
هذا التطبيق يكشف أن النصّ يسير كحكاية رغبة: رغبة الخلاص عبر الآخر، مضادةٌ بصخب المجتمع والأقدار.
3. المستوى الأسلوبي والصوتي والنحوي:
3.1 الصوت والوزن والإيقاع:
القصيدة تستثمر تكرار الأصوات لنحت حالةٍ موسيقية داخلية: تكرار السين والشين (صبرٍ/صِدقٍ)، تكرار الحركات القصيرة والطويلة يخلق انزياحاً إيقاعياً يقارب غمرة النبض. وجود الأبيات القصيرة والطويلة يشي بتوتر موزون: إذ تخترق جملٌ مطوَّلة لحظات انتقال عاطفي ثم تقطّعها شظايا أقصر لتأكيد نبضة أو استهلال.
3.2 اللساني-الصرفي:
١- الأفعال الماضية والمضارع: تزاوج بين الزمنين ليُمحى الخط الزمني ويجعل التجربة حالًا مستمرة (لا تموت، فاضحاتُ، غارقٌ). هذا المزج يحمّل النص توترًا بين ما هو ممتدّ (جراح باقية) وما هو فوري (انتشلني).
٢- المفردات المركّبة والصور المبتكرة: «جرح فاخر» — اتحاد صفةٍ مع دلالةٍ سلبية ينتجُ جملةً معجميةً جديدةً تثير التناقض والفضول.
3.3 البنية التركيبية والبلاغية
القصيدة توظف التكرار الندائي («يا شقيقي ويا رفيق احتراقي»)، والصور الاستعارة («قمراً من ذهول»، «غيمةً تلوح بروحي») والكناية الدينية («ليلة القدر والزمان») لتكوين بلاغةٍ تأملية. كما أن التنقل بين خطاب الاعتراف والخطاب التأملي يخلق ديناميكية نصّية: من النداء إلى السرد إلى الملاحظة المجتمعية.
4. البنى النفسية والدينية:
4.1 البنية النفسية.
الذات في حالة انقسام: رغبة ملحّة في الالتصاق وبراءة الاعتراف مقابل خوف اجتماعي وإحباط. النفس هنا مجروحة لكنها متعالية — «فاخر» — مما يشير إلى فخر بالجراح كدليل عاطفي/وجودي. هناك أيضًا ملامح الشغف الرومانسي المتجاوز: «غارق قلبي الحزين ببحرٍ موجه الحب» — البحر رمز للشمولية واللانهائية: حبّ لا يقاس، حب يغمر السكون.
يظهر التماهي والاعتماد والتبعية على الآخر "أنتِ" كقوّة مسيطرة، مع شعورٍ بالترقّب والخوف من الخيانة: «فهل يخون الجميل؟» — شكّ زاويته الوجدانية، لكنه مع ذلك يطلب النجاة من الآخر.
4.2 البُعد الديني والروحاني:
توظيف «ليلة القدر» و«السما» و«التجلي» يعطي النص بعداً قدسيّاً: الحب ليس مجرد شعور بشري بل تجربة وجودية تشبه الخبرة الروحية. «ليلة القدر والزمان.. فضولُ!» — ربطٌ بين الزمن المقدّس والفضول البشري عن المعنى، وفي ذلك إشارة إلى أن الحب عملٌ تعبديّ ربما، أو اختبار. التجلي كـ«دليل» يمنح السرد شرعيةً روحيةً للنداء: الاعتماد على قوة عليا أو لحظة استنارة.
5. المقارنة على مستويات متعددة:
5.1 المستوى الانفعالي.
القصيدة عالية الشحنة الانفعالية: الحزن، الشوق، الرجاء، الغضب الخافت. النبرة تتراوح بين الاحتراق والالتجاء: «ذبت مثلي... فما ترى أو تقول؟» — انفعالٌ داخلي يُخوّن القدرة على الكلام ويعطي الأولوية للشعور. الانفعال مُعَبَّر عنه بصورٍ قوية (بحر، نار، جرح) وينعكس في بنية الجملة والنداءات.
5.2 المستوى التخييلي (الخيالي/الصور).
الخيال في القصيدة غنيّ ومتحرّك: القمر، البحر، الشمس، الغيم، النجوم، ليلة القدر — كلّها عناصر تخلق فضاء بصريًا واسعًا. التخيل هنا ليس تجريديًا فحسب، بل يعمل بوصفه آلية لإضفاء قيمة معنوية على الحب. هناك تخيل تأملي (التجلي، السماء) وتخيل حسي (أصابع تعزف عري اللحظة).
5.3 المستوى العضوي (الجسدي/الحسي):
الجسد حاضر بقوة: «كل خلية في جسدك وروحك» و«أصابع تعزف» و«التصاق/احتراقي» — لغة حسية تؤطّر العلاقة الجنسية/العاطفية. العضوية تُستخدم لتأكيد الواقعية العاطفية: الحب ليس فقط فكرة، بل تجربة جسدية/عضوية تحتلّ الوعي.
5.4 المستوى اللغوي:
اللغة في القصيدة محكمة ومتعددة الطبقات: تجمع بين لفظٍ بليغٍ، استعارةٍ مجازية، ونداءٍ مباشر. استعمال كلماتٍ مفردة ذات حمولة دلالية كثيفة («شفيف»، «فضولُ»، «أفْق روحك لغزٌ») يُضفي على النص عمقًا لغويًا. كذلك اللّعب التصويري بين الكلمات يقود إلى جمالياتٍ صوتية ودلالية.
6. تفسير بعض المفردات والعبارات المحورية:
«جرحٌ فاخر»: عنوان مركزي يحمل مفارقة؛ الجرح عاطفة مؤلمة، لكنه هنا مكلّل بالفخامة — إشارة إلى فخر الذات بجراحها كدليل على عشقٍ نبيل أو تجربة وجودية مميزة.
«شفيفَ» (ثوب شفيف): الشفاف الرقيق ــ دلالة على هشاشة المعاناة أو رقة المشاعر التي يمكن للناس أن يجرّدوها ويهينوها.
«ليلة القدر والزمان.. فضولُ!»: قدْح العبارة يضع الزمن المقدّس في موقف الفضول الإنساني؛ الزمن المقدّس هنا مقترن بالسرّ والفضول، ما يجعل الحب تجربةً ذات قداسة لكنها أيضاً موضع سؤال.
«التجلي دليلُ»: التجلي هنا ليس فقط بمعناه الديني بل كعلامة إجلالية لحدوث لحظة انكشاف أو وعي تجعل الطلب (انتشلني) مشروعًا ومبررًا.
«أبصروا النجمَ يرتديه الأفولُ»: صورةٌ معكوسة تبين أن الآخرين يرون العكس: عندما يغيب النور عن الذات، يلبسه الأفول؛ أي أن رؤية الآخر مشوّهة أو محدودة.
7. الأنساق المعرفية (المرجعية الثقافية والوطنية):
القصيدة تعمل ضمن شبكة معرفية تجمع بين الرمز الديني (ليلة القدر)، والصور الطبيعية المحلية (الربيع، الحقول)، والعواطف الشخصية. وجود إشاراتٍ إلى الفصول والطبيعة يضع النصّ ضمن سياقٍ إيكولوجي–ثقافي يعرفه القارئ العربي، بينما اللوحة الدينية تمنح النصَّ بعدًا تراثيًا/وجوديًا. هذا المزيج يجعل النصّ ذا «وطنية ضمنية» — ليست وطنية سياسياً بل ثقافياً: استحضار الطبيعة والطقوس المشتركة.
8. اقتراحات منهجية لتوسيع الدراسة:
1. مقارنة نصّية: قارن «جرحٌ فاخر» بنصوص أخرى للشاعرة ذاتها أو بنصوص جزائرية معاصرة تتناول نفس الثيمات (الجرح، الهوى، المقدس).
2. تطبيق غريماس تفصيليًا: بناء مخططات فعلانية تفصيلية لكل مقطع لتتبع تبدّل الأدوار.
3. تحليل صوتي معمّق: جردٍ لأنماط القوافـي/الجناس/التكرار الصوتي وربطه بالأثر الانفعالي.
4. دراسة نفسية-رمزية: توظيف نظريات التعلّق والاشتياق والبحث في نظرية التعلق لقراءة بنية الاعتمادية في النص.
5. مقاربة ترجميّة: اختبار كيفية انتقال هذه الطبقات الدلالية إلى لغة أخرى—أين يفقد النصّ من رائحته الأصلية وأين يحتفظ بها.
الخاتمة:
قصيدة «جرحٌ فاخر» عمل شعري غنيُّ الطبقات: تجمع بين الاعتراف والنداء، بين الرمز والدين، بين العضويّ والخياليّ. من خلال مقاربة هيرمينوطيقية وأسلوبيّة وسيميائية (بتفعيل نموذج غريماس) نقرأ نصًّا يُظهر أن الجرح هنا ليس عيبًا يُخفى، بل علامة شرفٍ وجودي تُعلن عن عمق الرغبة والهوى والقداسة الممكنة في تجربة الحبّ. إنّ القصيدة تدعونا إلى إعادة التفكير في علاقة الذات بالآخر، وفي كيف تُصاغ الجراح لتصير فخامةً تليق بوجودٍ ينشد الانتصال والنجاة.
***
بقلم: عماد خالد رحمة - برلين
...........................
جرحٌ فاخر
لا تموتُ الجراحُ إن جراحي
باقياتٌ وإنّ ليلي طويلُ
*
وانعكاسي على جبين المرايا
ظلُّ شمسٍ
وأنكرته السهولُ
*
وتفاصيلك التي لستُ أبدي
فاضحاتُ الهوى
وصبري قليلُ!
والعصافير سيدي لا تغنّي
منذ غابت عن الربيع الحقولُ!
لست أهوى سوى عيونك فجرا
يوقظ الشمسَ
والليالي تزول!
*
وانتمائي لأفْق روحك لغزٌ
هكذا قالت السما والفصولُ !
غارقٌ قلبي الحزين ببحرٍ
موجه الحبُّ...
والتجلي دليلُ
مدّ لي كفهُ
فقلتُ: انتشلني
يا جميلا فهل يخون الجميل؟
*
حرضوا ثوبيَ الشفيفَ وقالوا
أسبليهِ فقد تجنُّ العقولُ
*
لم يروا غيمةً تلوح بروحي
أبصروا النجمَ يرتديه الأفولُ
خبؤوني من العيون كأنّي
ليلة القدر والزمان.. فضولُ!
*
يا شقيقي ويا رفيق احتراقي
ذبت مثلي...
فما ترى أو تقول؟
والمصابيح لا تعزي كفيفا
شارد الروح مقلتاه هطولُ..
٢٠٢٤
د.آمنة حزمون






