قضايا
يونس الديدي: استعد لتوديع فكرة "الحب من أول نظرة"!
على امتداد ما تعرضه الأفلام والمسلسلات، يُقدَّم لنا الحب على أنه وهج ساحر، وهبة مفاجئة تأتي مع نظرة واحدة فقط. ورغم رومانسيته الشديدة، فإن هذه الفكرة تتغذى على أوهام عميقة: أننا نمتلك رغبة ذاتية صافية، وأن عشقنا يولَد من داخلنا بلا وسائط، كأن الحب ينبع من ذاتنا بلا تشويش من العالم الخارجي. لكن الواقع – كما سنرى – أعقد بكثير. هناك أشياء لا يحسب لها صُناع الحكايات حسابًا: الجروح التي نشأنا بها في الطفولة، الجراح الأصلية، تعقيدات الحياة، حتى السياسة والعائلة – كلها تتداخل في تشكيل رغبتنا، وتجعل الحب ليس مجرد لقاء عابر، بل معركة.
لماذا قصص الحب المستحيلة (روميو وجولييت) هي الأقوى؟
ليس لأن الحب ذاته أقوى، بل لأن العالم ألغى هذا الحب، لأن العائق – المجتمع أو العائلة – قال “لا”. في قصة روميو وجولييت، لا يكون العشق أسطوريًا فقط لأنهما أحبا بعضهما، بل لأن العائلة تقول لهما لا. هذا المنع، هذه العقبة التي ترفض الانصياع، تضيف للحب بريقًا لا يُقاوم. فلو قال الجميع “نعم — تزوجا”، لفقد الحب نصف قوته منذ البداية. نحن لا نحب فقط من أجل الشيء نفسه، بل نحب لكي نتجاوز المنع، لكي نبرز في العالم؛ نحتاج إلى العائق لنشعر بأن وجودنا مهم، وأن رغبتنا ليست عبثًا.
هذه الديناميكية – المنع يخلق الرغبة – اكتشفها الكثير من الكتاب والمفكرين، لكنها تجد تفسيرًا عميقًا جدًا في نظرية رينيه جيرارد.
الإنسان الفارغ: تفسير جيرارد للرغبة
يقول الفيلسوف وعالم الاجتماع رينيه جيرارد إن الإنسان ليس كائنًا يملك رغبة داخلية أصلًا واضحة وصافية، بل هو كائن فارغ يبحث عن ما يريد عبر الآخرين. طبقًا لنظرية المحاكاة (mimetic theory) التي صاغها، “نحن نرغب فيما يرغبه الآخرون”. ليس شخص واحد فقط يرغب في شيء ما، بل رغبتنا تتشكل عبر نموذج آخر (شخص نعدّه قدوة أو مثالًا)، ومن خلال هذا النموذج نقتدي ونقلد، ثم نكتسب رغبتنا تجاه الشيء الذي يريده هو.
بهذه الرغبة المماثِلة، يتحوّل النموذج (الشخص الذي نقلد) إلى خصم منافس. لأننا نريد ما يريده هو، ونراه كمصدر للقيمة، تتشكل لدينا علاقة مثلثية: “أنا – النموذج – الشيء المرغوب فيه”. هذه المماثَلة تولد التنافس، وأحيانًا العداوة، لأننا نرغب في الشيء ذاته.
الأوهام الرومانسية والأثر النفسي
حينما نؤمن بفكرة “الحب من أول نظرة”، فإننا نمنح الرغبة طابعًا فطريًا أو أحيانًا قدسيًا، نعتقد أننا وجدنا شيئًا أصيلًا ومنبعًا داخليًا. لكن من منظور جيرارد، رغبتنا لم تُخلق بشكل تلقائي داخلنا؛ بل هي انعكاس لما نراه في الآخرين. وبالتالي، عندما نحب، نحن في الحقيقة لا نحب فقط الشيء ذاته، بل نحب قدرتنا على محاكاة من نعتبره قدوة، ونحب التنافس معه، حتى لو لم نقر بذلك.
في الواقع، الطفل الذي نشأ مع جرح عاطفي، أو عائلة محطّمة، أو صراع اجتماعي، لا يأتي إلى الحب بحالة نقية. الجرح الأصلي يلون رؤيتنا: نبحث عن من يملأ الفراغ، عن من يعكس لنا ما نفتقده. وبالنسبة للكثيرين، هذا المنع العائلي أو السياسي يصبح هو المحرّك: نريد أن نثبت أننا نستحق، أننا نستطيع تجاوز القيود.
السياسة، المجتمع، والعشق
لا يمكن فصْل الحب عن سياقنا الاجتماعي والسياسي. فالقوى التي تحكم العائلة، والتقاليد، والموقع الطبقي، وحتى السلطة، تشكّل العقبات التي تُضيف بعدًا دراماتيكيًا لعلاقاتنا. في كثير من الروايات، لا يُحكَى العشق بين عاشقين فقط، بل يُحارَب من قبل المجتمع: فرق الطبقات، الأعراف، الحروب السياسية، التنافس على التراث أو السلطة.
هذا العائق ليس فقط مصدر ألم، بل مصدر بريق للحب، لأننا نحبه ليس فقط لأنه جميل، بل لأنه ممنوع. لذلك نجد أن قصص الحب المستحيل مثل روميو وجولييت أو غيرها تذهب إلى القلب: لأنها تحكي الصراع، وليست فقط عن اللقاء.
نحو وداع أسطورة “الحب من أول نظرة”
حين نفكّر في نظرية جيرارد، ندرك أن رغبتنا ليست فطرية محض، بل مكوّنة، محاكاة، تتأرجح بين الاحتكاك والانعكاس. وهذا يعني أن فكرة الحب من أول نظرة، رائعة كما هي من الناحية السينمائية، لكنها تضيّع من الحقيقة الكثير من التعقيد:
1.رغبتنا ليست مستقلة: لا نرغب في الفراغ، بل لدينا نماذج نتبعها.
2.القيمة تُولد من العائق: المنع، العائلي، الاجتماعي، السياسي، يُضخّم الرغبة ويمنحها نكهة وجودية.
3.الجرح ينير الحب: الطفولة والجراح الأصلية تترك أثرها في الطريقة التي نحب بها.
4.المجتمع ليس خلفية، بل فاعل: ليس فقط بيئة، بل جزء فيرولوجي من الحب، يضيف صراعًا ومعنى.
الخاتمة: قوة الحب في التعقيد
لنقل وداعًا، إذا شئت، إلى الحكاية الحالمة التي تقول إن الحب يولد من النظرة الأولى، بدون وساطة، بدون صراع، بدون جرح. لأن الحب الحقيقي، على نحو ما، ليس اللحظة السحرية وحدها، بل هو المعركة على الوجود، هو رغبة مُماثَلة نعمل من خلالها لنصبح من نحب، ونصبح جديرين بهذا الحب. القصة التي تبقى في الذاكرة ليست فقط قصة لقاء، بل قصة تحدٍّ، رفض وسقوط، ثم انتصار—حتى لو انتصارًا جزئيًا، وحتى لو في الخيال.
في نهاية المطاف، الحب العميق الذي يبقى ليس ذلك الذي وُلد في لحظة، بل الذي تشكّل على مدى الزمن، في مواجهة الجراح، والصراعات، والقيود. هذا هو الحب الذي يوقظنا، ويعلمنا من نحن، وما نريد، بل من نكون.
***
يونس الديدي - كاتب مغربي متخصص في الشؤون الاجتماعية والسياسية






