قراءات نقدية
حيدر عبد الرضا: قراءة في النص القصصي (خواتيم) لحميد المختار
بانوراما المؤول ودليل استقرائية المرمز
توطئة: عادة ما يتصل المؤول بالموضوع الدينامي للدليل، لذا فهو تحول في عملية يدمجها الكاتب ضمن قطبي (المرسل - المرسل إليه) انطلاقا من قضوية العلاقة الدائرة ما بين (نص = قارئ) فالمؤول مؤشر على حمية السياق وتقلبات المعنى فيه ضمن حدود ملاءمة وغير ملاءمة من تمثيلات حاﻻت وأحوال النص، لذا فهو نوعية رابطة بشبكة مؤشرات محتملة بوجود هذه الدلالة أو تلك الخصيصة من أدلة سيرورة المعنى الضمني.
- تأويلية الأدلة المحتملة وتواصلية الوقائع المؤولة:
تتشكل تمثيلات المؤول إلى عدة مقوﻻت منها المباشر والأوﻻنية، وصوﻻ إلى المؤول الدينامي بأعتباره النسيج الحافظ على مكونات السنن والأدلة النسقية في علاقات أدلة المعنى في الأبنية النصية . لعلنا من هذا النوع من المؤولات، تواجهنا خيارات وقابليات الوقائع المنتجة في قصة (خواتيم) للقاص والروائي (حميد المختار) كما أنه من الواضح أن ننوه بأن طبيعة هذا النص القصصي حماﻻ لمقصديات (رمزية - فنتازيا - غرائبية - بانورامية) وليس المقصود منا بأن هذا النص عبارة عن حاﻻت مشبعة بالحضور الرمزي ربطا بالعلاقة المحكومة داخل المعنى السياقي المباشر، بقدر ما هو ذلك السير في مجرى تحيينات إمكانية خاصة بالمرمز التأويلي، مرورا بأوضاع مفعولية من الفنتازيا والغرائبية اللتان هما من ذات النسق الدﻻلي المؤشر في وظيفة نطاق العلامة والإحالة .
١- أسلوبية سردنة الإيهام وتحوﻻت معادلة الصورة:
تجسد الوقائع الاجوائية استهلالا في بنية النص مدخلا نحو تشيد مؤثرات (الصورة السردية) صعوداً بها نحو انعطافات مركبة في التحييل وسماكة المتمثل في السرد محوراً:(بقيت النافذة فارغة بعد أن اختفى الطفل، زمن طويل مر من غير أن تهتز الستارة . / ص١٤٩ النص القصصي) إن حالة التآلف الصوري للعنصر العاملي تمنحنا ذلك التحاور اﻻنقطاعي ما بين (عامل دينامي - خروج زمن -حساسية الصورة) فالجانب التأويلي يعمق الإحساس بالقدرة على اقتران العامل الفاعل بوصفه الأداة السرية للتوظيف الثيماتي الأولي، وعندما تعبر جملة (من غير أن تهتز الستارة) فخلاصة ذلك هو المستوى الغيابي ومدى بلوغه الأحوالي ردحا من التصاعد عن المكان والزمن والذات الواصلة:(لم تكن أمه في البيت كل شيء يغطيه السكون والظلام .. النافذة ظلت على حالها لم تتغير سوى أن الزمن ترك على البيت اثاره القاهرة . / ص١٤٩ النص القصصي)لعل ما يشغلنا ها هنا الصورة الزمنية وزحفها في الإحساس القرائي لتأخذ من المشهد المكاني جزءا متمما من فاعلية السالب الغيابي، ويتغير حالة الإئتلاف إلى حالة اختلاف منزوعة بالفقدان، تتركز عبر استعارية ملفوظ الغياب شكلا مؤولا راح يعتمد ملامح مكانية موحشة (سكون - ظلام -اختفى -الطفل - زمن طويل - اشارة القاهرة) وكثيرا ما نجد في القيمة الاستهلالية للملفوظ، ثمة توزيعية خاصة لجملة من المؤشرات الحاصلة بصيغتي (الصورة - الصمت) . كما ويسمح للمؤثر الزمني والمكاني من أخذ تفاصيل تكوينية بلا جدال كحال (لم تكن امه موجودة ؟) ان حضور مثل هذه المؤشرات من شأنها تقطيع المستوى اللقطاتي والبانورامي إلى وقائع شفراتية صارت ممتزجة بأصداء ذاكرة سحيقة من الأصوات والصور والمونتاج المشهدي .
٢- الصورة الذاكراتية وتزامن حدوث الصوت المحكي:
ان إستخدام الأفعال الماضوية ضمن حدود شواهد حاضرية، ما هي إلا استجابة لنمو الدﻻلة الزمنية على السياق الحكائي الذي يحكي الأحداث ضمن وجهة نظر مضارعة:(سكان البيت غادروه إلى الأبد، العائلة شاخت هي الاخرى والفتيات الصغيرات أصبحن عجائز لهن أحفاد ويلعبون في الباحات - إنه يتذكر كل شيء، يقول: كانت أمي ترش النفط أسفل الجدار محاولة قتل الآرضة التي خرمت الجدران وتسللت إلى الأجساد .. رؤوس كثيرة سقطت ليست بسبب الآرضة إنما بسبب أشياء أخرى أكثر خطورة . /ص ١٤٩) يقوم القاص المختار بترحيل الأفعال الماضوية بذلك الشكل الذي ينم عن (رؤية استباقية) من شأنها وضع زمن الأحداث في حدود مسار من المسرود القصي على المستوى الزمني - توظيفا - للانزياح السردي بوقائع حركية بطيئة: (بقيت النافذة فارغة -غادروه إلى الابد - اصبحن عجائز - أنه يتذكر كل شيء - أمي ترش النفط اسفل الجدار - أشياء أخرى) ﻻ شك أن سمات الخروج من الزمن والمكان تجسد لذاتها استعماﻻ تركيبا ملحوظ، خصوصا وأن اهلية الفاعل الذاتي تتبنى جملة مرسلات خاصة بالعزلة أو النهايات، حتى نكاد أن نكتشف أن الشخصية تمارس أفعاﻻ مونولوجية لها من الازاحة في التدليل ما يخول وحدات الحكي بإضفاء ذلك النوع من السرد الذي يشغل مستويات دﻻلية تتجاوز الخطاب في ذاته: (هل انتهى كل شيء هكذا يسائل نفسه أمام نافذته التي صارت عارية الآن عن ستائرها القديمة عبر الجدار الفاصل وخلف الشجرة العملاقة وضع أذنه ليسمع همسات العصافير وغناء الفتاة الوحيدة في البيت المجاور ./ص١٤٩)
٣- المواقف والمواقع المحكية وزمن تشريح الصور:
لعل الزمن في عناصر ووظائف قصة (الخواتيم) تتنوع احوالها ضمن خطوط تشكيلية بالغة الاحتدام وتعدد الاغراض والاطوار فيها، فهناك في زمن أفعال النص ما يخال لنا كونه فضاءات عائدة إلى موضوعة مجموعة عناصر تشكيلية ترتبط بعالم السارد في حدود حالة خاصة من (تشريح الصور ؟) وعلى حين غرة نلاحظ أن مجموع (المواقف - المواقع) هي متصلة وواصلات محكية في زمن التخييل للاموات، فهناك ثمة (نافذة عارية - الجدار الفاصل - غناء الفتاة الوحيدة) كل هذه المحاور الإيحائية راحت تعكس جميع الأمكنة والأشياء بطابع كونها تداعيات ما ضوية أتلفها الموت وضاعت تفاصيلها على لسان الحاكي المفترض . كما وتنبع الإشكالية من حقيقة مجموعة العلاقات المكانية والذواتية واصطباغها بتلك الالوان الحلمية (الغرائبية) وبعد الزمن في محددات النص موزعا على مجموعة خاصة من اللقطات، وكذلك الأمر بالنسبة إلى هذه الجملة من الوحدات (ثمة بكاء وصياح خارج عالمه السري، هل يعقل ان يسكن البيت أناس آخرون خارج زمانه) فهل يسعى حميد المختار في نصه إلى مقاصد برزخية نوعا ما ؟ أم أنه المدى الزمني لدى سارده الذي راح تستغرقه حاﻻت خاصة من الوقائع والمواقف الخارجية من زمنه البرزخي الانفرادي؟
- الروح السائرة في متخيلها الزمكاني:
الإشارات الاستباقية وتواريخ الشواهد المندثرة:
من الجدير بالذكر ان مجموعة الاسترجاعات تتبين باسترجاع الحوادث الترتيبية، كما وهي شبه انطباعية ما، ﻻ سيما عندما يضفي عليها ذلك الحكي على لسان حال الفاعل بعدا حميما من الافتراق والعودة إليها ضمن حالة حلمية أو غرائبية عبر أحداث خارج الزمن الحاضري . أردت أن أقول أن الفاعل الذاتي يتبين الأشياء ضمن نظرة قبلية، أي أنه خارج غطاء الزمن الفعلي، لذا فهو (قطط وفئران واصوات رجال يحفرون أبارا وفوران لأنابيب مياه تنث على مقربه منه) وهل يتضح من كل هذا أن أحداث النص تجري في زمن داخل زمن أرضي، ومهما يكن من أمر، فتقنية الاسترجاع - الاستباق احتلت لذاتهما أشد اللحظات استغراقا في اللامكان واللازمان . وبتحدد الايقاع التشكيلي الذي تتمحور من خلاله محاور الأشياء ضمن مظاهر دﻻﻻت سيميائية مضاعفة ومركزة، جعلت تستثمر كل من طاقات المجاﻻت الإيحائية والمرمزة أدوارا بانورامية لها، لعلها كادت ان تتقصد طقوسا (اختتامية ؟) في ظل من المحاور و التمظهرات المشهدية للنص:(حين دخل مكتبه الذي هجره بعد ان سافر في رحتله الطويلة لم يجد إلا ركاما من الغبار يغطي كل شيء .. الكتب .. اللوحات .. الحقائب .. البومات الصور الفوتوغرافية. /ص١٥٠النص القصصي) لعل الصورة السردية بدت لنا خاطفة ﻻ يمكن اللحاق بزمنها المهجوري المقترح، لذا فإن إمكانية ساردها جعلتها تبدو ذكريات تحرك السيرذاتي للشخصية حيال جملة منفردة من الصفات العلاماتية:(الملفوظ: - البومات الصور = الأداء المنقطع = فعل المعرفة = تموضع قيمة / الغبار يغطي كل شي:- مرحلة الأداء في مستوى زمن العلاقة = موصوف حالة =وضعية دﻻلة إظهارية)وتبعا لهذا تتواصل الذات الساردة لتنفرد بعالمها القديم باستكمال تجلياته الملتبسة في رؤية الخلاصة السردية: (ساد سكون وظلام وثمة خطوات تسير بتؤده متجهة إلى غرفة المكتبة لتزيل ما تبقى من الغبار على صفحات الكتاب المفتوح./ ص١٥٧ النص القصصي) .
- تعليق القراءة:
من الممكن لنا عد قصة (الخواتيم) بوصفها تلك النوعية من النصوص التي ﻻ يتسع لها مجال أية قراءة عابرة، فهي قصة غارقة بعوالم الأخفاءو الحجب والترميز والاحاﻻت الأخرى التي تسعى إلى توصيف الأشياء ضمن أوجه متوارية، فهي حينا تبدو وكأنها عملية (تشريح صوري - بانورامي برزخي) وحينا بدت وكأنها ميتافيزقيا تتقصى ما وراء الرمز والمرمز والهيئة الانقطاعية عن حيوات شخصية تعود إلى الحياة بعد موتها، لذا فمرمز ذلك (الكتاب المفتوح ؟) ما هو إﻻ جملة حيوات غاطسة بسير وتقاويم ومصائر قدرية ترتبط ومصير ذلك الفاعل المفترض . أما فيما يخص المكان أي ذلك البيت فهو أيضاً يلوح إلى حيوات وزمن حماﻻ لوجهين ورؤيتين في شفرة حجب الترميز والمعادل النصي المتجوهر في تخوم الرؤيا ورؤية الحكائية المؤولة . أردت أن أقول أن قصة (خواتيم) تجربة قصصية تشتغل ضمن نطاق (خارج الزمن المتاح ؟) تؤهلها آليات قص انفرادية ﻻ تعيد الزمن والأشياء إلى مستودع مكونها الكشوفي، بل إنها تنعطف بالمضمون نحو غائية مفتوحة القابلية والخيارات، حفاظا على (بانوراما المؤول ؟) وأسرار حيوات الحكي المشفوع ب (دليل استقرائية المرمز) تحوﻻ نحو رؤيا دينامية تناسب خلفيات القاص وشواغله السردية المتكاثرة في مستويات سردنة الحضور بروح خفايا الصفات الماورائية من التشكيل والتبئير وجزالة الوجه الآخر لمعنى الأشياء .
***
حيدر عبد الرضا