قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: الأقصودة من انشطار الصوت الواحد إلى تعددية الأصوات

في الشعر العربي الحديث

الأدب، منذ فجره الأول، ظلّ بحثاً مضنياً عن الأصوات الغائبة والمقموعَة، وتجلّياً حيّاً لرغبة اللغة في الانفلات من قبضة الواحد وهيمنة الصوت المفرد. وإذا كانت المعلقة الجاهلية عند عمرو بن كلثوم مثالًا على الشعر الملحمي الذي ينهض على نبرة أحادية متعالية، وإذا كان أبو فراس الحمداني قد كرّس الغنائية العاطفية بوصفها صوتاً ذاتياً مكتملاً، فإن ما ظلّ مطموساً في التراث الشعري العربي هو ذلك التوق إلى الحوارية، إلى تشظّي الصوت الواحد وتفتّحه على تعددية السرديات. هنا تتبدّى بذور ما يمكن أن نسمّيه بـ الأقصودة، أي النص الشعري الذي يتّخذ من السرد جسراً ومن الغنائية جناحين، فيتحرّك بين ضفاف الشعر والقصة، بين الإيقاع والتخييل، بين البنية الموسيقية والبعد الدرامي.

إنّ الأقصودة ليست جنساً أدبياً نهائياً بقدر ما هي تجربة عبور، محاولة لإرباك الحدود الفاصلة بين الأنواع، وتفجير الصمت الذي رسّخته سلطة الصوت الأحادي. ففي قصائد بدر شاكر السيّاب، لا نقرأ صوتاً منفرداً للشاعر، بل نصغي إلى حوارية بين البحر والمرأة، بين الغياب والانتظار، حيث تتجسّد اللغة ككائن يتوزّع على أكثر من ضمير وأكثر من ذاكرة:

 "وجلستِ تنتظرين عودة سندباد / والبحر يصرخ من ورائك بالعواصف والرعود / هو لن يعود".

هنا، الشاعر ليس ذاتاً متسيّدة تروي، بل سارداً ينسحب لصالح الدراما، محوّلاً النص إلى مسرحٍ للأصوات وتناوب الرؤى. وهذا ما يجعل من الأقصودة ـ بحسب التعبير الاجتهادي ـ ملتقىً بين الهُويّة الشعرية والوعي السردي.

لقد كان ميخائيل باختين، في حديثه عن "تعددية الأصوات" في الرواية، يشير إلى أنّ الفن العظيم لا يكتفي بسلطة صوتٍ واحد، بل يفسح المجال للحوارية. هذا المبدأ يمكن إسقاطه على الأقصودة، التي تعلن قطيعة مع المونولوج الشعري وتؤسّس لبنية حوارية تتجاور فيها الأصوات الإنسانية مع أصوات الطبيعة والذاكرة والأسطورة.

من جهة أخرى، يمكن النظر إلى الأقصودة بوصفها علاجاً جمالياً لحالة الخرس الثقافي التي تنتج عن استبداد الصوت الواحد، وهذا ما يشير إليه علم النفس التحليلي عند كارل يونغ حين يتحدّث عن "انبعاث الأصوات المكبوتة في اللاوعي الجمعي". فالأقصودة ـ بهذا المعنى ـ ليست فنًا فحسب، بل تفريغ علاجي للأصوات المقموعة داخل النص والوعي الجماعي.

وإذا كان الشعر العربي القديم قد كبَتَ هذا الشكل بفعل الهيمنة الملحمية والغنائية، فإن الشعر الحديث أعاد إحياءه تحت تأثير التداخل الأجناسي والانفتاح على السرد. يقول أدونيس: "القصيدة لا تعود قصيدة إذا أغلقت على ذاتها، إنما تصبح كائناً حياً حين تتنفس من ثقوب الآخر". وهذا التعريف يتماهى تماماً مع جوهر الأقصودة، حيث الآخر حاضرٌ دائمًا: آخر في الحوار، آخر في السرد، وآخر في التخييل.

أما الأطباء النفسانيون، مثل ريلكه في نصوصه التأملية، فقد رأوا في الشعر طاقة مداوية للروح، قادرة على منح الكلمة أفقاً للانعتاق. والأقصودة بهذا المنظور ليست سوى منصّة للتنفيس الوجودي، حيث يجد الشاعر في تهجين الأجناس منفذاً للتعبير عن قلقه الأنطولوجي.

في هذا السياق، يمكن القول إن الأقصودة هي:

- جمالية كسر الحدود بين الأنواع الأدبية.

- فضاء تعددي يتشابك فيه السرد مع الغنائية.

- منبر للحوارية التي تزعزع سلطة الواحد وتؤسّس لحضور الآخر.

حقل علاجي تتنفس عبره الذات الجماعية أصواتها المكبوتة.

لقد أدرك كبار المفكرين والمثقفين العرب والغربيين أنّ الفن الحقيقي يعيش على القلق والتحوّل، ولا يكتفي بطمأنينة البُنى الثابتة. الأقصودة، بهذا المعنى، هي ابنة القلق والتجريب، وهي صرخة ضدّ النمطية، كما هي محاولة لإعادة تعريف الشعر في ضوء الحوار والتعدد.

خاتمة:

الأقصودة ليست مجرد مصطلح طريف في التداول النقدي، بل هي وعي جديد بالشعر، يفتح له أفقًا يتجاوز صوته الفردي إلى جوقةٍ من الأصوات، ويحرّره من سلطة المونولوج ليصبح نصًا مفتوحًا، متحوّلًا، متجددًا. وإذا كان الشعر العربي قد عرف ميلادها في ثناياه القديمة، فإن الشعر الحديث أعطاها اسمًا وملامح، لتصبح علامةً فارقة في تحوّل الشعر من القول المفرد إلى القول المتعدد.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

في المثقف اليوم