قراءات نقدية

حسين عجيل الساعدي: أفق الرؤية وكثافة الدلالة في نص الشاعر عارف الساعدي (مدونة أعرابي)

النص// (مدونة أعرابي)

كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد

وأنا منذ أن ولدتني الهجيرةُ

ما زلتُ حياً

ولدتُ بخاصرةٍ في كهوف اليمن

قبل عشرين عاماً من البعثة النبوية

أذكر أني ولدت

وما زلتُ أذكرُ

كيف نصلّي

ونعبدُ آلهةً من حجر

وكيف نشرُّ النذور على بابهم

ونغسلُ أحلامنا بالمطر

وأذكرُ اني درجتُ على تلكم الأرض

وعتّقتُ أدعيتي في الكهوف البعيدة

ثم احتميتُ بما ظلّ من خيم الآلهة

غفوتُ على بابهم مطمئناً

شكمتُ الرؤى العابثات

وزجرتُ خطىً تائهة

سلامٌ على عدد الآلهة

ثلاثون .. عشرون .. لا أتذكرُ

لكنهم كثرٌ طيبون

ثلاثون رباً ينامون في غرفة واحدة!

ثلاثون رباً على الأمم البائدة

ثلاثون رباً ولكننا أمةٌ واحدة !!

***

إستهلال//

سؤال إشكالي أنطلق من عمق التاريخ يقول "كلكامش":

(أيكون في وسعي ألاّ أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟).

بعد أكثر من أربعة آلاف سنة يقول الشاعر "عارف الساعدي":

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد

وأنا منذ أن ولدتني الهجيرةُ

ما زلتُ حياً)

القراءة//

في البدء يتم مناقشة إشكالية العلاقة بين الشعر والفلسفة، الإشكالية الجدلية التي أثارت الكثير من التساؤلات، هل الوعي الشعري أسبق من الوعي الفلسفي؟ هل يمكن أن تكون الفلسفة شعراً والشعر فلسفةً؟ هل بدأت الفلسفة شعراً؟، متى تصبح القصيدة فلسفية؟.

قد تثير العلاقة بين الفلسفة والشعر قلق البعض، من أن تستحوذ الفلسفة على الشعر، فيصبح (الشعر بلا روح)، أو يخشى البعض الاخر من سيطرت الشعر على الفلسفة فتصبح (الفلسفة كلاماً هجيناً).

أرى أن الشعر ضرورة فلسفية مثل ما الفلسفة ضرورة شعرية، فلابد من وجود فلسفة في القصيدة وإلا سوف يكون الشعر ثرثرة لغوية أو لقلقة لسان. في كتابه (فن الشعر) يقول "ارسطو": (إن الشعر أكثر تفلسفاً) والتراث الأدبي العالمي والعربي فيه الكثير من الشعراء الفلاسفة ومن الفلاسفة شعراء، فتراهم يبحثون عن عمق المعنى في النص، فكانت نصوصهم الشعرية تستند الى رؤية معرفية، فهناك نصوص فلسفية وضعت في قوالب شعرية، مثل ما الشعرية تغلغلت في الكتابات الفلسفية، وليس ببعيد عنا الشاعر الفيلسوف "أبو العلاء المعري" الذي شكل علامة فلسفية كبرى في تاريخ الشعر العربي، في مفهومه الوجودي والفلسفي.

إن جوهر العلاقة بين ما هو شعري وما هو فلسفي، هي رموز لغوية بها يكتمل المعنى، وبها يعاد بناء النص رمزياً، هذه العلاقة لا يدركها الا الفيلسوف الشاعر أو الشاعر الفيلسوف. وعلى هذا الأساس كان الفلاسفة الأوائل يعبرون عن أفكارهم في (شذرات شعرية).

سقنا ثنائية الفلسفة والشعر كمقدمة لثنائية كبرى في نص الشاعر "عارف الساعدي" (مدونة أعرابي)، الثنائية التي استولت على الذهن الإنساني، فكانت مدار بحث وجدل في الكتابات الفلسفية والنصوص الشعرية.

ترصد هذه القراءة التجليات الرمزية في نص الشاعر "عارف الساعدي" من خلال انفتاح النص على دلالات تجعل المتلقي يبحث عن الدلالة الرمزية فيه.

لقد أعطت الحداثة الشعرية للشاعر الحرية أن يخوض في عوالم الشعر، ويواكب مساراته التأويلية ومقارباته، وهذه سمة بارزة من سمات النص الشعري الحداثي، الذي لا ينقل معنى جاهز وأنما يبحث في دلالاته ويستنفر طاقة المتلقي ويجعله شريكاً في إنتاج هذه الدلالات، مما يجعل النص ينفتح على مقاربات تأويلية تعمل على تفكيك النص الذي يمثل رؤيا الشاعر.

في كتابه (الموت والعبقرية) يستهل الاستاذ "عبد الرحمن بدوي" حديثه بأشكلة الموت، حتى يميز بين الإشكالية والمشكلة فيرى (أن الإشكال هو الصفة التي تطلق على شيء يتضمن تناقضاً في بنيته وتركيبته، بينما المشكلة هي محاولة تفسير الإشكالية وحلها بحيث يكون هذا التفسير صادراً عن بنية الشيء الإشكالي وجوهره)،"عبد الرحمن بدوي، الموت والعبقرية، ص3".

وعلى هذا الفهم، هل الموت في النص الشعري إشكالية أم مشكلة؟

الموت لم يمثل في الشعر مشكلة، وأنما إشكالية حين تتعدد الرؤى وتختلف الدلالات وتكثر التساؤلات. ومن أجل فهم وتقبل فكرة الموت، تلك الفكرة التي تطارد الإنسان الذي لا يرى فيها إلا معناها البيولوجي، كونها تشكل اللقطة الأخيرة الحتمية في حياته، فتراه مسكون بهاجس الموت، تلك الفكرة المركزية التي لها جذورها الدينية والميثولوجية في حضارات الأمم القديمة، الذي يعد أهم هواجس الانسان الوجودية ومصدر قلقه.

في حواره مع صاحبة الحانة "سدوري" ورحلة البحث عن الخلود يقول "كلكامش":

(أيكون في وسعي ألا أرى الموت الذي أخشاه وأرهبه؟).

فكان جواب صاحبة الحانة:

(إلى أين تسعى يا كلكامش/ إنَّ الحياة التي تبغي لن تجد/حينما خلقت الآلهة العظام البشر/قدرت الموت على البشرية/ واستأثرت هي بالحياة)،" طه باقر، ملحمة كلكامش وقصص أخرى عن كلكامش والطوفان، ص137".

فالموت حدث كوني وحقيقة وجودية مطلقة. وملحمة كلكامش من أقدم الملاحم في تاريخ الحضارات كلها، التي ناقشت مسألة الوجود البشري، وثنائية الحياة والموت، وحسمت أمر الإنسان المحكوم عليه بالموت، وأبقت الخلود من نصيب الآلهة.

فالموت عند الشعراء من مفردات نصوصهم، يأتي وفق منطلقاتهم الفلسفية والفكرية، وهذا الشاعر "ابو ذؤيب الهذلي" حين يتأمل الحياة من حوله، ولا يقوى على رد غائلة الموت، يقول:

واذا المنية أنشبت اظفارها

ألفيت كل تميمة لا تنفع

الشاعر "عارف الساعدي" يطرح نصاً تصورياً فلسفياً عن العلاقة الجدلية بين الحياة والموت، في ديباجة نصه (مدونة أعرابي)، تلك الجدلية التي هيمنة على مجمل الخطاب الشعري العربي، فكانت الأكثر شيوعاً في الشعر العربي قديمه وحديثه، وثيمة رئيسية في نصوص معظم الشعراء، التي تباينت رؤاهم، ليس بمفهومها الشعري كرؤية شعرية فحسب، وإنما بمفهومها الفلسفي والاجتماعي والديني، فكانت نظرتهم نابعة من ثقافتهم، حينما نسجوا رؤيتهم الشعرية للموت من خلال الوعي الشعري واللغة الشعرية، فتباينت الأدوات التي اعتمدوها في تشكيل الصورة الفنية للموت، بوصفه ظاهرة انسانية انفعالية، ومحاولة التعبير عنه تأتي كل حسب وجهته. فالموت في نص الشاعر "عارف الساعدي"، ثيمة مهمة ودلالة كبرى، تثير تساؤلات في داخل حركة النص، الذي يبدأ بجملة استفزازية تشتمل على نفي حقيقة حتمية ثابتة هي الموت أو يؤجلها.

إن الذي يبرز في نص الشاعر "عارف الساعدي" محاكاة فلسفية يؤسس منها فلسفة خاصة بالموت وملابساته ويعلن بيانه فيه، الذي يعكس فلسفته الذاتية حول فكرة الموت، وأرى أنها تتناغم مع الرؤية الفلسفية (الأبيقورية)، من خلال (إخفاء قلق داخلي من الموت أو إظهار عدم الشعور بهذا القلق)، فكانت رؤية "أبيقور" عن الموت أراح بها نفسه من مسألة التفلسف بالموت فقال:(إن الموت لا يعنيني البتة، فهو إن وجد، لن أكون موجوداً، وإن وجدت أنا لن يكون موجوداً)، فكانت رؤية الشاعر "عارف الساعدي" تتناغم مع الرؤية (الأبيقورية).

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد

وأنا منذ أن ولدتني الهجيرةُ

ما زلتُ حياً).

إذاً رؤية الشاعر في النص عن الموت رؤية فلسفية يسعى بها أن يتحرر من قيود التاريخ وموروثاته، بوصفه إشكالية وجودية اختص بها الشعراء فقط، التي تدعو المتلقي الى التأمل، بعد أن اثارت دهشته، وجعلته يتوقف كي يفهم المعنى، من حالة نفي حقيقية راسخة وفتح مغاليق (جرة أسئلة) الشاعر الوجودية، التي يحتملها النص الذي يمثل وحدة متكاملة تسهم في تكوين الخطاب الدلالي للنص، محملا بتأملات ورؤى غير مؤدلجة، عن الحياة والموت، فضلا عن قيمته الجمالية والفنية والأسلوبة والفلسفية، التي اكتسبت دلالات تعكس موقف الشاعر وفلسفته. نحن أمام نص مزدحم بدلالات تبدو ضبابية للمتلقي تصيبه بالحيرة والاستفهام وتتوقفه للتأمل فيها، قد نجد في المنحى الصوفي طريقا لفك هذه الاشكالية كـ(شذرة صوفية) في النص، تمنحه أبعادا لا نهاية لها، عندما أراد الشاعر أن يؤكد على معنى ذات أبعد فلسفية. إن الربط بين الحياة والموت من خلال كونية كل منهما في نسق فلسفي صوفي، هي رغبة الشاعر في البحث عن اللامرئي، وتجاوز حدود العقل، ومقاييسه المنطقية لأن الدلالة الرمزية للموت في النص سير في اتجاه معاكس للدلالة القصدية، والدلالة اللغوية تتقاطع مع رمزيته، والانطلاق به من دلالة الجملة الى دلالة النص عندما يقول:

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد).

نحن أمام نص مزدحم بدلالات تبدو ضبابية للمتلقي، تصيبه بالحيرة، والاستفهام وتتوقفه للتأمل فيها، قد نجد في المنحى الصوفي طريقاً لفك هذه الإشكالية كـ(شذرة صوفية) في النص، تمنحه ابعاداً لا نهاية لها، عندما أراد الشاعر أن يؤكد على معنى ذات أبعاد فلسفية.

إن الربط بين الحياة والموت من خلال كونية كل منهما في نسق فلسفي صوفي، هي رغبة الشاعر في البحث عن اللامرئي، وتجاوز حدود العقل ومقاييسه المنطقية لأن الدلالة الرمزية للموت في النص تسير في اتجاه معاكس للدلالة القصدية، والدلالة اللغوية تتقاطع مع رمزيته، والانطلاق به من دلالة الجملة إلى دلالة النص، عندما يقول:

(كذبٌ وادّعاءٌ هو الموت !!

فأنا لم أمت بعد)

الشاعر "عارف الساعدي" رؤيته (ميتا شعرية) أن يكون شاعراً وناقداً في الوقت ذاته، باحثاً ما وراء الأفق عن اللامرئي في النص، کاشفاً عن أفق دلالة الموت بمدى اتساع تلك الدلالة، والانتقال به من مستوى تعبيري إلى مستوى إيحائي.

يمكن أن تكون اللمسة الصوفية مدخلاً تفكيكياً لقصدية الشاعر (لأن الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر يُدرس عند كل شاعر منفصلاً من سواه)،" د. إبراهيم محمد منصور، الشعر والتصوف الأثر الصوفي في الشعر العربي المعاصر". فهو يعبر عما يختلج بنفسه، ويثير انفعالاته، وكأنه يردد ما قاله "هايدجر" (يجب على الموت ألا يكون هاجساً وجودياً يقض مضاجعنا) ولكن لا يمكن تأجيله.

الشاعر "عارف الساعدي" يريد أن يتجاهل الموت برؤية فلسفية، ألبسها لباس صوفي، يقف في حالة من اللامبالاة إزاءه، فيأخذ موقفاً لاشعورياً وكأنه لا يعنيه أبداً، وهذه اللامبالاة تكون في أعماق اللاشعور أو العقل الباطن. وعلى الرغم من أن الموت يبقى حقيقة كونية مؤلمة كبرى وقضية إشكالية أثارت الكثير من التساؤلات، إلا أن الشاعر أستفز المتلقي وأثار فضوله في الخوض في هذه الإشكالية كمغامرة بحثية تفجر معاني النص وتؤسس لرؤية متفردة وشعور عميق داخل النفس، في صور شعرية تتوغل في أعماق وعي المتلقي وتثير فيه الدهشة وإيقاظ القدرة التأويلية.

*** 

حسين عجيل الساعدي

 

في المثقف اليوم