قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية تحليلية لقصيدة "حيرةُ النمل"

للشاعر الفلسطيني خلدون عماد رحمة، بالمنهج النفسي، المنهجي الأسلوبي، والهرمينوطيقي:

في "حيرة النمل"، يخوض الشاعر خلدون عماد رحمة رحلةً داخلية قاسية، حرباً على الذات المتصدعة، حين يتسلل “النمل” رمزاً لوخز الضمير، لا شكلياً فقط، بل كمخرّب لمأمن الروح، مُشكّلاًً سرداً نفسيّاً تتقاطع فيه الأطياف الوجودية مع السؤال عن جدوى الحب والهوية، بلجنة تحمل لهيب الرغبة والموت، وطقوس الانتظار والضياع.

ـ في مجال البنية الدلالية والرمزية...

* النمل رمز مركزي مزدوج، يحمل دلالات التسلط الصغير، والكوامن الداخلية التي "تفتت القلب" و"تدوخ"، وهو أيضاً حامل لتأويل أعمق عن سرّ الحياة، عن "ازدواجية الزمن" الذي "يفجر رموزَه النبيلة" ثم يأكلها باجتياحه.

* الصراخ والرعد كإيقاعات ثورية داخلية، يفضح البعد النفسي الذي يصعد حتى "يصخر البعيد".

* الكأس ورموزه (الخمر، الزمرّد) تمزج الخمر بالهوى والحلم، لكن بالنمل تتحول للتحطيم، معبّرة عن تحوّل الرغبة إلى موت أو خيانة للذاتي.

ـ في مجال البعد النفسي والتحليل الهرمينوطيقي...

* القصيدة مشحونة بالقلق ("فزعٌ") والهذيان ("أهذي صِفاتُ الوحيد")، وهما نصان نفسيان يتجاذبان بين الحلم والوحي.

* الهزيمة النفسية والحضارية تتجسد في “نفاد الهدوء” و"تحطيم صرح الروح"، مما يؤسِّس لنزوع وجودي وجع سلبي يشبه سلوك الـنمل الجحود المنهك.

* ثنائية "الواقع المنطوي" و"سراب الحلم" تعكس حالة تشظٍ داخل الذات الممزقة بين قوى الواقع والخيال، محترقة في صراعهما.

ـ في مجال الأسلوب اللغوي والإيقاع الموسيقي...

* الإيقاع الداخلي محكم من خلال تكرار الحروف الصامتة القوية (النون، الراء، الصاد…) مما يولّد صوتاً مخيفـاً: "أصْيحُ وصوتي مَطارقُ رعدٍ"؛ كما يظهر نمط تقطيع شبه متداخل، يكسر تسلسل النسق الروائي نحو التقطّع النفسي.

* الشاعر يعتمد تكرار الضّمير "أنا" كإعلان للذات الفاقدة سيطرتها، متعالية على خطاب التهويل، نبرة وجود مفتعل لبلوغ الإنسانية الكاملة.

* الموسيقى اللغوية المشتبكة تنسج انحساراً وانكساراً، مرئياً في استمرارية المقاطع الجمعيّة: "أصِيـحُ"، "تهزهزُ"، "تشقّقُ"، مع إيقاع شبه سنفوني داخل أبيات مكثفة.

ـ في مجال التأويل الفلسفي...

* النمل يتجاوز الهشاشة إلى قمة التأويل؛ هو لا يقصّ صناديق العمر فحسب، بل يهدم "ضوء الرموز النبيلة"، كناية عن موت القيم السامية أمام الاستلاب.

* ثنائية الحب والجنون تتجسّد: "لأني أجنُّ إذا ضيعتني سفينةُ حبّي"، مما يعكس شكلاً شاعريّاً لظاهرة الانفصام بين الذات والمحبوب ككيان خارجي وسياسي مهيمن.

* اللحظة "إذا ما رميتَ عليها براكينَ نبضك" تختزل علاقة الشاعر بمنهج تأويلي عميق، فثمة خوف من أن يفقد "براكين الروح" الذي يغري، لكنها تختنق في النمل.

ـ في مجال الرؤية النهائية...

تنتهي القصيدة إلى سلام هش: عودة الذات كـ"نملة" تحب الحياة، رغم الفقد وسديم الهواجس. فـ"فُتاتُ الأمل" يتجسّد كرمز لاستمرار الإنسان، حتى ليبدو هذا الخلاص، رغم أنه صغير ومؤقت، أقوى من الفناء.

ـ في الختام:

"حيرة النمل" تحفر في النفس الشعريّة قاعاً تفتك فيه الفواجع الداخلية، وتستحضر التشظّي الذاتي الذي يتجاوز الشخصي إلى الحضاري. عبر الرمزية الفرنسية للحشرة الثائرة، وبنية لغوية موسيقية أقرب للطقوس، تنزلق القصيدة داخل حقل نفسي انتقادي. هي خطيّة إبداعية لذات تقف على شفير الطموح وتحتمي بفتات الأمل كمورد أخير، وترفض الاستسلام الكامل.

***

بقلم: عماد خالد رحمة ـ برلين

.......................

حيرة النمل

حيرةُ النملِ

أحِسُّ بنملٍ كثيفٍ يفتتُ قلبي

يهدِّمُ صرحَ الهدوءِ بآلاءِ روحي

يدبُّ بظلٍّ مهيب الحواسِ

ويفضحُ أسرارَ دمعِ البنفسجِ في مهرجانِ عروقي

تُهلوسُ أشباحُ شرقي وغربي

ويبزغُ من بين أحراشِ جسمي

أسَاطيلُ رُعبي

أنا فزعٌ منْ تخبُّطِ صاريَتِي

لأني أجنُّ إذا ضيَّعتني سفينةُ حبِّي

أصيحُ وصوتي مَطارقُ رعدٍ

تشقِّقُ صخر البعيدِ البعيدْ

ويا ليتَ يسمَعُ من بِقُربي

سَأحلِفُ بالمعجزاتِ لكمْ

وأقسم أني أحسُّ بنملٍ بغيضٍ

يدوِّخُ طيرَ الزمرُّد في كأس خَمري

يقصُّ صناديقَ عمري

يفكِّكُ ضوءَ الرموزِ النبيلةِ

في بهو جُوعي العريقْ

أصارحُ نفسي:

أهذا جُنوحٌ عن الواقعِ المُنطوي في مسرحِ الذاتِ؟

أم أن حُلمَ الوصولِ مَحاهُ سرابُ الطريقْ؟

أهذي صِفاتُ الوحيدِ الشَغوفِ بماءِ الحريقْ

أيقلقُ إنسانُ هذا الزمانِ

منَ النملِ والنملُ تأويلُ

سرٍّ عميقْ

ولكنَّ نملاً مقيتاً يزلزلُ فِضَّةَ رأسي

ولا أَتحاذقُ بالاستعاراتِ

نملٌ

يُقهقِرُ ليلَ الكمنجاتِ في صفو صدري

يذوِّب أطلالَ من سَهِرُوا فوقَ جسرِ رُؤاي

يهزهزُ صخر قِلاعي

وتهرعُ قداسُ غابتي الحجريَّةِ والخيلاءُ بأرضِ سَماي

أنا فزعٌ

تكسَّر وهجُ المرايا

وشاخت عصافيرُ عطرِ الصبايا

وكل النساء بقريةِ صمتي

هَجرنَ مواويلَ أعراسهنَّ

وطرنَ عرايا

أحسُّ بنملٍ جَحودٍ عَنيفٍ دَؤوبٍ

ولا شيءَ يردعُ عنه العملْ

أحاولُ نوماً أكابرُ ضحكاً

ولا يقتدي النملُ باسمِ الجدلْ

فتجتاحُنِي حِكمَةُ الألم /

ولو دخلَ النملُ في قلبكَ

تَهلكْ

وحالُ القصيدةِ موت أكيدٌ

إذا ما رميتَ عليها براكينَ نبضكْ..

وبعدَ هنيهةِ ذُعرٍ أهابتْ وجودي

أجمِّعُ نفسي

بصمتٍ

لأدركَ أنَّ الدبيبَ ارتحلْ

فأغدو كما كنت مثل جميع البشرْ

نملةً

تحبُّ الحياةَ وتُفنَى

لأجل فُتاتِ الأملْ

 

في المثقف اليوم