شهادات ومذكرات
زكي رضا: كامل شياع مثقف عضوي

حينما يكون الاستبداد والقمع لسلطة ما، هما من يتحكمان بالواقع السياسي الاجتماعي لبلد ما، سيكون هناك مثقف يقف كطرف مباشر في الصراع ضد السلطة التي تزرع الرعب والموت في ذلك الوطن. والمثقف الذي يغامر بحياته في مواجهة سلطة فاشية، هو ذلك المثقف الذي يكرّس حياته في البحث عن القيم والتعبير عنها من خلال دوره في المجتمع متسلحا بأكثر أشكال الوعي تقدماً، وهذا الأمر غير ممكن الا بحرية الفكر والتعبير. وبعبارة أخرى فأن المثقف لا يستطيع التعبير عن افكاره في ظل سلطة تقمع الفكر والمفكرين وتضع قيود على حرية الفكر والرأي والتعبير. وفي هذه الحالة سيرى المثقف نفسه في مواجهة السلطة وأجهزتها القمعية، أي سيرى نفسه بين مشروع مساومة أو مشروع إغتراب أو مشروع موت.
المثقفون الحقيقيون لا يجلسون في ابراجهم العاجية أبدا، بل تراهم منخرطين في قضايا الناس وهمومهم ومشاكلهم، باحثين عن حلول لهذه المشاكل، لذا تراهم يقفون في وجه الفساد مدافعين عن الفقراء. وفي هذا يقول الفيلسوف والروائي الفرنسي (جوليان بيندا) عنهم في كتابه خيانة المثقفين: "لا ينصب نشاطهم، أساسا، على نشدان غايات عملية، إنهم كل من ينشج الغبطة في ممارسة فن أو علم أو تامل ميتافيزيقي، أي باختصار ينشدون نيل منافع لا مادية، فترى الواحد منهم يقول بمعنى من المعاني: " ملكوتي ليس في هذا العالم". لكن (غرامشي) له وجهة نظر مخالفة لـ (جوليان بيندا)، إذ كتب في "رسائل السجن" قبل أن يغيّب في سجون موسوليني قائلا: "بوسعنا القول أن كل الناس مثقفون، ولكن لا يقوم كل الناس، داخل المجتمع، بتلك الوظيفة، وظيفة المثقف". لو أخذنا آراء غرامشي حول المثقفين فأننا نستطيع فهم تعريفاته حولهم، بتقسيمهم الى مثقفين تقليديين لا تربطهم روابط قوية ووثيقة بالصراعات الاجتماعية داخل مجتمعاتهم، ومثقفين عضويين يعيشون ويتفاعلون مع شعبهم، ويسعون كما ذكرنا قبل قليل الى البحث عن وتوفير أدوات فكرية في مواجهة سلطات الأستبداد والفساد. وفي ظل سيادة ثقافة السلطة أو محاولة ترسيخ ثقافتها بإمتلاكها لوسائل الاعلام والدعاية والقسوة وتماشيا مع آراء غرامشي، فأن المثقفون العضويون يقومون بتنظير ادواتهم في مواجهة السلطة، وهنا تحديدا يكونوا هدفا للسلطة .
يقول عالم الأجتماع الأمريكي (رايت ميلز) في كتابه "السلطة والسياسة والشعب": "إن الفنان والمثقف المستقل هما من بين الشخصيات القليلة المتبقية المجهزة جيدا لمقاومة ومقاتلة القولبة النمطية للأشياءالنابضة بالحياة حقا. ان الاحساس الطري يتضمن الآن القدرة على اماطة اللثام باستمرار عن الاشياء، وتحطيم القوالب النمطية للرؤيا والذكاء، التي تغرقنا بها وسائل الاتصالات الحديثة (اي الوسائل الحديثة للتمثلات). إن عوالم الفن الجماهيري والفكر الجماهيري هذه تُوَّجه، على نحو متزايد، بما يناسب حاحات السياسة. ولهذا السبب ينبغي تركيز التضامن والجهد الفكري في مجال السياسية. وإذا لم يقف المفكر الى جانب قيمة الحقيقة في الصراع السياسي، فلن يسعه أن يتعاطى تعاطيا مسؤولا مع كامل التجربة الحية" . من خلال قراءتنا لهذا النص، نستطيع القول : أن السياسة هي الركن الأساس في حياة المثقفين في مواجهتهم لتبريرات السلطة في ممارسة القمع ومصادرة الحريات وافقار الجماهير من خلال مصادرة وعيهم كبوابة لنهب ثروات بلدهم.
كامل شياع، هو ذلك المثقف العضوي الذي لم يستطع أن يعيش بعيدا عن حاضنته، اي الجماهير، فتراه يترك منفاه البلجيكي ليعود الى وطنه في زمن الموت، ليشهد تلك المآسي في ظل تفجر الصراعات الطائفية. ولم يقف في ظل ذلك الصراع – المستمر لليوم – الى جانب فئة ضد أخرى، بل كان ناقدا واعيا للسلطة وشرورها، من خلال إهتمامه بالتحليل الثقافي والسياسي للمجتمع والسلطة، وهو واحد من المثقفين العرب الذين واجهوا التحديات الاجتماعية والسياسية في بلدانهم ليدفعوا حياتهم ثمنا لمواقفهم، كما حسين مروة مؤلف كتاب "النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية" الذي إغتالته القوى الظلامية في لبنان سنة 1987، ومهدي عامل الذي عمل على ضرورة التحرر الفكري والنقد في محاربة قوى الظلام، لتصرعه رصاصات تلك القوى في نفس سنة إغتيال حسين مروة، وفرج فودة الذي كان يطالب بفصل الدين عن الدولة، وعدم أستخدامه كأداة للسيطرة على السلطة ليتم أغتياله سنة 1992.
كامل شياع، هو نموذج للمثقف العراقي العضوي، الحالم بالتغيير الاجتماعي من خلال تطوير الوعي الثقافي، وهذا ما جعله هدفا للقوى الظلامية، شياع لم يذهب الى الموت وهو الحالم بعراق جديد ومسالم، بل الموت هو من ذهب اليه بلباس ميليشياوي، وهو القائل في مقالة له تحت عنوان "عودة من المنفى": "كل ما أبحث عنه وسط هذا الضجيج الزائف هو الهدوء، الصدق، ورفعة الشأن العام.
العراق فتح ذهني وقلبي لسطوة الحاجة الآسرة القاسية على ناسه. وهو، كما يبدو لي الآن، حالة مثالية لفهم ما يجري في العالم بأسره. فلأنه بلغ القاع صار يتيح، بشكل أفضل، رؤية منابع الحروب والهمجية والمصالح الأنانية، الكذب والفساد والعنف والنسيان المتعمد للحقيقة أو السهو عنها. كل، من موقعه، مهموم بالعراق ومتورط فيه:أميركا العظيمة المتجبرة والسطحية، الديمقراطيات الغربية المرتبكة، الشعبويون من كل الأنواع، حاملو الشعار اليساري، اليمينيون والمحافظون، العروبيون، الأصوليون، تجار الموت، رجال الأعمال، حاملو ألوية العصبيات الخادعة..... كل خبر يأتيني عن بؤس هذا العالم وتعاسته يحيلني على "مستعمرة" سوء إسمها العراق.. هي درجة الصفر التي لا موقع لها على خرائط المكان أو مقاييس التجربة، لكنها تتيح، في الوقت نفسه، فهم أوجه الزيف في عمارة زمننا الماضي في مسارات مجهولة عدت إلى العراق بعدما اكتشفت أنني شخص دون مشروع خاص. في السياسة كما في الثقافة مشروعي مرتبط بالجماعة... فلا فعل ولا حضور دون مشاركة وتضامن. عدت من المنفى وأنا مدرك أن لا عودة لي منه لأنه يجدّد نفسه في كل تماس مع ما هو مألوف أو غير مألوف. وسوف تلازمني أشباحه كما لازمتني أشباح الوطن. كل رجوع عن المنفى تعميق لجذوره وإيهام بخفاياه. أي أوجاع سرية يورث المنفى، أي شفاء يحمل الوطن؟".
نعم، فالموت في بغداد كما يقول شياع "يسعى الى الناس في كل خطوة يخطونها".
«نحتاج إلى يقظة أخلاقية مسؤولة وإلى أجيال وأجيال تمتلك ناصية التفكير النقدي، ذلك إن (أعداء المجتمع) هؤلاء هم بناة مستقبله" ... كامل شياع
***
زكي رضا - الدنمارك
1/9/2025