شهادات ومذكرات
علي ماجد شبو: كلام متأخر عن زياد الرحباني

مدهش حقاً ردود الفعل في لبنان، بعد إعلان موت الفنان الكبير زياد الرحباني، ومدهش أكثر ردود أفعال المجتمع العربي برمته، وبضمنه النخب العربية. مدهش لبنانياً، لإن زياد، على عظمة إنجازاته، لم يتمكن من تغيير أيّاً من المعادلات في لبنان لا على الصعيد السياسي، ولا الاجتماعي ولا حتى الفني. فعلى المستوى السياسي والاجتماعي، ذكر زياد، فيما ذكر، أنه لا يريد تغيير المجتمع أو البلد، لكنه بالمقابل، لا يريد البلد أن يغيّره. هذا التعبير الاخير هو أساس ما سأبحث به.
كيف أستطاع هذا الرجل النزول بفيروز، الاميرة الحالمة ذات الرداء الأبيض الناصع والنائمة بين السحاب، الى الشارع البيروتي بإكتضاضاته، وبلغته، وشتائمه؟ ربما لأن زياد لم ينتمي الى ذلك العالم الحالم، فهو المتمرد والثائر والواعي المنغمس بمشاكل مجتمعه ومشاكل بلده. لكنه لم يتمكن من ان يحوّل تمرده الى ثورة إجتماعية تجعل من التغيير المنشود ممكناً، إنما جعل مشروع حياته ان يعمق ويطور من وعي المجتمع بهدف تثويره عن طريق فنه، في الموسيقى، في الاغنية، في المسرح حيث الكلمة والحدث والنكتة تزيد من إرتباط الجمهور حزناً تارة ومرح تارة أخرى.
زياد، العازف والملحن والمؤلف الموسيقي والكاتب المسرحي، والصحفي المشاكس، هو أحد أبرز الأسماء في مجالي الثقافة والفن في العالم العربي، ولأنه حالة فكرية وفنية متفردة لتحفيز الوعي، فقد كان رمزًا للإبداع الحرّ والفكر النقدي في سياق المجتمعات العربية.
تاريخيًا، وظّف زياد الرحباني الموسيقى والفن كأدوات فعالة لمواجهة التحديات، خاصة في ظل الأزمات السياسية والاقتصادية التي واجهت لبنان. فقد عمل في فترة غياب الدولة على طرح أسئلة عميقة حول الهوية والحقوق والحرية. كانت أعماله تمثل صرخات في ظل الصمت السائد، حيث سعى إلى إبراز صوت المهمشين والمستضعفين. فمن خلال مسرحياته وأغانيه، كلاماً ولحناً، أعطى صوتًا لمن لا صوت لهم، مما ساهم في تعزيز الوعي الاجتماعي والتنبه للخلل الحاصل في العدالة الإجتماعية.
استطاع زياد أن يخلق عالمًا فنيًا يعبّر عن واقع الحياة في لبنان، محولًا الألم إلى فن. هذا التحويل يأتي من فهمه العميق للبيئة الاجتماعية والسياسية التي تعيشها البلاد. فالفنان لا يكون مجرد مبدع، بل يتجاوز ذلك إلى كونه مؤرخًا وشاهدًا منغمساً في الأحداث، ما يعكس أهمية وجوده في زمن غياب الدولة. ففي ظل الفوضى السياسية والحروب والغموض، كانت أعمال زياد توفر ملاذًا للتفكير والإلهام، وتفتح الحوار حول القضايا الحساسة، مما يجعل منها وسيلة لتعزيز الوعي العام.
إن غياب زياد يكشف تساؤلاً جوهرياً، هل من الممكن ان ينبثق نموذج آخر لزياد في المجتمعات العربية؟ والواقع يفضح تمترس هذه المجتمعات خلف سياقات سياسية وإجتماعية مختلفة تجعل الفكر والفن فيها محاصراً أو مقيداً. فغياب المساحة الحرة للتعبير، والهواجس اليومية من الرقابة، قد يعيق الفنان الموهوب عن تقديم إنجازات مشابهة، ولو بقدر ما، لتلك التي قدمها زياد. بينما عُرف لبنان بنوع من الحرية الثقافية والفنية التي تتيح للفنانين الاندماج في نقاشات مجتمعية بشكل أكثر انفتاحًا.
لهذا، فإن زياد الرحباني يمثل حالة نادرة من الإبداع والتحفيز للوعي في ظل ظروف تاريخية معينة. إذ يعكس نجاحه أهمية الحرية الثقافية، ويؤكد كيف يمكن للفن أن يكون نقطة انطلاق للتغيير الاجتماعي والوعي السياسي. ولكن الأهم هو أن يتردد صدى تجربته وبصمته في المجتمعات العربية الأخرى من خلال تعزيز حرية التعبير وتقبل الاختلاف، حتى يتحقق التحفيز المنشود. وفي الأخير، يظل زياد رحلة إستثنائية ملهمة للفنانين والمثقفين، ليس فقط بموهبته، ولكن أيضًا بفلسفته القوية التي تجعل من الفن وسيلة للتمرد على الحاضر وأداة فعّالة للتغيير.
***
علي ماجد شبو