شهادات ومذكرات

ناجي ظاهر: سيرة سارد ومسيرة قصة

أنا ناجي ظاهر، ولدت لعائلة تشرد أفرادها من قريتهم الوادعة سيرين، هذه القرية تقع ضمن منطقة بيسان، وهي واحدة من تسع وعشرين قرية في منطقة بيسان أبيدت عن بكرة أبيها، ربما بسبب قربها من منطقة الأغوار، معظم أهلي انتقلوا للإقامة في مدينة اربد وما زالوا يقيمون هناك حتى هذه الأيام، قدم بعض منهم، بعد عام 67الى البلاد، طلبوا أن يزوروا القرية فاصطحبناهم إليها، اللقاء بالقرية كان حافلا بالدموع والآمال، كانت تلك الزيارة الأولى تلتها أخرى، وثالثة لم تتم.

ولادتي كانت في إحدى الليالي الباردة، أما موقعها فقد كان في " كشاف" أقامه الانجليز على قمة جبل سيخ، التي تقوم عليه حاليا مدينة "نتسيرت عليت" اليهودية، ويطلق عليه اسم "هار يونا". حكت أمي أكثر من مرة إنها لفتني بالقماط، وشرعت في أعمال البيت، بعد ولادتي بساعات. بقدر ما كان العالم باردا يوم ولادتي أردت أن انشر فيه الدفء.

أهلي تشردوا بعد النكبة، في طول البلاد وعرضها، فأقاموا في العديد من القرى التي وقعت في طريقهم، منها طيبة الزعبية وكفر مصر، وكان أنهم تنقلوا من بلدة إلى أخرى حتى استقر بهم المقام في الناصرة.

قبل أن أولد أقاموا لدى امرأة من أهل الخير فترة وجيزة من الزمن، ثم انتقلوا للإقامة في الكشاف المهجور، بعد أن اكتشفه والدي أو أرشده احدهم إليه، مقترحا إياه عليه ليكون مأوى له ولأبناء أسرته من اللاجئين، وهذا هو الاسم الذي كنا نطلقه على أنفسنا في تلك الفترة وكان آخرون يطلقونه علينا.

 بعد ولادتي في ذلك الكشاف، انتقل الأهل للإقامة في بيت يقوم في منطقة السوق من البلدة القديمة من الناصرة، وكانت الإقامة هناك أمنية يطلبها ويرغب فيها الكثيرون، إقامتنا في ذلك البيت لم تطل، انتقلنا بعدها للإقامة مدة سنتين في قرية دبورية، بعدها عدنا للإقامة في بيت مستأجر يقوم في وسط الحي الشرقي، في هذا البيت ابتدأت مداركي في التفتح، عندما بت فتى انتقلنا للإقامة في حي الصفافرة في الناصرة، بعد أن تمكن الوالدان من شراء قطعة ارض صغيرة هناك، وأقمنا فيها حتى أصبحت رجلا، وما زال من تبقى من أبناء أسرتي يقيمون فيها بعد أن انتقل معظمنا للإقامة في أحياء أخرى.

في طفولتي كنت ولدا شقيا حتى أن والدتي وصفتني بالختيار وأنا لما أزل في الخامسة أو اقل من العمر، فكانت أذا ما دخلت إليها وهي تتحدث إلى نساء الحارة تقول لهن من الأفضل أن تتوقفن عن الحديث لان الختيار جاء، هو يفهم كل ما يدور حوله.

طفولتي كانت قاسية جدا جدا، وكنت منذ نعومة أظفاري اتخذ القرارات وأنفذها، واذكر في هذا السياق، أن أهلي كانوا يستغلون عيد استقلال إسرائيل، ليتخلصوا من الحكم العسكري التي كانت السلطات تفرضه آنذاك، فيقومون بالتنزه في بلدات لا يسمح بالتنزه فيها إلا بعد الحصول على تصريح، في حين كنت أقول لهم إنني لا يمكن أن أرافقهم إلى تلك الزيارات، لان "يوم استقلالهم هو يوم نكبتنا". أما كيف كنت اقضي ذلك اليوم ففي التفكير على حافة البكاء.

القسوة التي عشتها في طفولتي زرعت في، نوعا من الرغبة في تعويض الأهل، ربما لهذا ما أن أحسست انه بإمكاني أن أكون راويا للقصص، حتى أجبت أمي حينما سألتني عما أريد أن أكون حينما اكبر، بأنني أريد أن أكون كاتبا، فسألتني عما اعنيه بما قلته، لاعتقادها أن الكاتب هو من يجلس قبالة المسكوبية ويكتب عروض حال للفلاحين الفقراء الأميين، فأجبتها كلا أريد أن أكون كاتب قصص، فعادت تسألني عما اعنيه، فما كان مني إلا أن قلت لها إنني أريد أن أكون كاتبا اروي حكايات العذاب التي رايتكم تمرون بها ليل نهار بسبب طرد اليهود لكم من قريتكم.

في طفولتي استمعت إلى العديد من الحكايات، من امرأة كفيفة البصر مسنة كانت تقيم في بيت غير بعيد عن بيتنا، وكانت تلك الفترة هي الأشد صعوبة في حياتي، في تلك الفترة، ما قبل التوجه إلى المدرسة للتعلم فيها، استمعت إلى العشرات من الحكايات، كنت مبهورا بها، إلى حد أنني كنت استمع إليها في الليل من تلك المرأة وفي ساعات الصباح أتوجه إلى الحارة فأعيد القصة التي استمعت إليها على أولاد الحارة، وأقوم بعد ذلك بتوزيع الأدوار عليهم لنقوم معا بتمثل القصة.

في تلك الفترة كنت أحس بقوى هائلة تريد أن تخرج إلى النور وان تتحدى القسوة والظلم، قوة تريد أن تهتف في وجوه الظالمين العتاة كفى ظلما وقسوة، إن القلوب التي تتعذب بسبب ممارساتكم هي لإخوة لكم من بني البشر. من حكايات تلك المرأة استمددت مبدأين لم أكن واعيا تمام الوعي لهما آنذاك أحداهما أنني ارفض الظلم ولا أرضاه بأي واحد من الأشكال والآخر أنني إنسان يريد أن يكون له دور في استتباب العدالة في العالم، وهذا ما اكتشفت انه واحد من أهم مميزات الكاتب الخلاق. حتى الآن ما زلت مؤمنا أن الكاتب المبدع إنما يعيش حياته وينفذ ما يقوم به من أعمال إبداعية وفي خاطره أن ينشر السعادة على وجوه إخوانه من بني البشر.2007 najee daher

بعد انطواء صفحة الطفولة التي لم تكن طفولة بمعنى الكلمة، توجهت إلى المدرسة، وابتدأت أسجل تفوقا ما، وما زلت أتذكر كيف كان أولاد الحارة، ممن هم اكبر مني خاصة، يستغربون حينما يرونني اكتب الأحرف على التراب، حينها كنت اشعر بنوع من الزهو ما زلت اتصف به حتى هذه الأيام.

أثناء الدراسة الابتدائية، اكتشفت كاتبا اعتبرته كنزا هو الكاتب كامل كيلاني، هذا الكاتب كان يستمد الكتب من الأساطير الشعبية، من التراث العربي، ومن التراث الأجنبي، وكنت اقبل على قراءة مؤلفاته برغبة هائلة، أما ما كان يبهرني فيها هو أنها حافلة بالخيال والمغامرات التي يثبت البطل فيها وجوده في مواجهة عالم لا يرحم، وكان ما ميز الكيلاني هو انه كتب ما أنتجه من كتابات قصصية، بلغة عربية فصحى، وكان يكتب الكلمات الصعبة في أسفل الصفحة والى جانبها شرحها، ما أغنى ثروتي اللغوية ولفت أنظار طلاب المدرسة إلي، في هذه الفترة الأولى لاكتشافي للكتاب ابتدأت أتصور الجنة مكتبة.

المكونات الأدبية الأولى

منذ اكتشفت الثراء الكامن في الكتب وعالمها الجميل، ابتدأ هاجس الكتاب في الاستيلاء علي، لكن كيف سأعثر على الكتب؟ من أين سأحصل عليها، ووجودها شحيح في بلادنا، المنقطعة عن محيطها العربي؟ أضف إلى هذا لنفترض أن الكتب توفرت؟ من أين سآتي بالمال لشرائها؟ لم أفكر كثيرا، وإنما رحت اسعي باتجاه الكتاب، فإذا ما وجدته أو وجدت أوراقا متناثرة منه، سعيت إليها اجمعها واقرأها، وتبين لي فيما بعد أنني قرأت كتاب" مثالب الوزيرين" لأبي حيان التوحيدي بهذه الطريقة فافتتنت به، لما تضمنه من جرأة غير معهودة، كما قرأت مجموعة قصصية للكاتب الفلسطيني الرائد خليل بيدس اذكر أن عنوانها كان " ديوان الفكاهة" أو ما شابه.

بحثي عن الكتاب أوصلني في نهاية الأمر لاكتشاف مكتبة عامرة بالكتب في بيت الهستدروت في الناصرة، مجلس عمال الناصرة على اسم الفنان الأمريكي فرانك سيناترا، دخلت إلى هذه المكتبة ورحت أقرا الكتاب تلو الآخر، قرأت في معظم أنواع المعرفة، كنت اقرأ الكتب في مواضيعها المختلفة، مبتدئا بها كتابا تلو الآخر، هكذا قرأت في الأدب التاريخ والفلسفة، كما قرأت في الموسيقى وتاريخها، وكنت أقرا قراءة ناقدة متفحصة، تتمثل في أنني أسجل الملاحظات على هوامش ما اقرأه من كتب.

في هذه المكتبة قرأت المئات من الروايات المترجمة إلى اللغة العربية ضمن سلاسل كانت معروفة منها كتاب الجيب وروايات عالمية.

كنت اقرأ في اليوم الواحد أحيانا روايتين وقد لا أبالغ إذا ما قلت ثلاث روايات، إحساسي بأنني اكتشف عالما جميلا عبر قراءاتي هذه جعلني اشعر بأنني امضي في طريق صحيح نحو ذاتي وعالمي، كنت وما زلت حتى الآن قارئا نهما للكتاب لا أمل من رفقته وارى فيه خير جليس في الأنام.

اذكر أنني شرعت في قراءة رواية الأم للكاتب الروسي مكسيم جوركي، في مساء احد الأيام، ورحت اقلب الصفحة تلو الصفحة، غير عابئ بما يدور حولي، انغماسي في القراءة لفت نظر الوالدة فاقتربت مني تسألني عما إذا كنت أريد أن أتناول الطعام، فأجبتها بعد قليل وجاءت بعد قليل فكررت عليه الإجابة ذاتها، وبقي الأمر يجري على هذا النحو إلى أن نامت الوالدة، وحينما أفاقت في ساعات الصباح وجدتني اطوي الصفحات الأخيرة من الكتاب.

لفت اهتمامي في تلك الفترة ما أصدرته دار اليقظة العربية التابعة لوزارة الثقافة السورية، وكان كل كتاب يصل إلى يدي من منشورات هذه الدار يعتبر عيدا حقيقيا، من منشورات هذه الدار قرأت روايات من عيون الآداب المعروفة في العالم وتوقفت أكثر ما توقفت عند الأدبين الفرنسي والانجليزي، لا سيما عند أعلامهما ابتداء من فكتور هيجو وانورية دي بلزاك انتهاء بجان بول سارتر والبير كامو، مرورا بجوستاف فلوبير وجي دي موباسان، في الأدب الانجليزي لفتني العديد من أعلامه اذكر منهم تشارلز دكنز، سمرست موم، جون شتاينبك وارنست همنجواي.

في فترة تالية تعرفت إلى الكتاب الروس، كان ذلك عبر مكتبة اهتمت بهذا الكتاب وباستيراده، ولفت نظري في هذا الأدب مؤلفات لكتاب أمثال فيودور دستوفسكي، انطون تشيخوف، ايفان تورجنيف، وجنكيز ايتماتوف.

غني عن القول أنني قرأت معظم إذا لم يكن كل ما وصل إلي من مؤلفات كتابنا العرب لا سيما في مجال الإبداع القصصي وكنت وما زلت مفتونا شديد الافتتان بالعديد من كتابنا وشعرائنا العرب القدماء والجدد في طليعتهم أبو عثمان ابن بحر الجاحظ وأبو حيان التوحيدي، أبو الطيب المتنبي وأبو العلاء المعري من القدم، ونجيب محفوظ، يحيى حقي ويوسف إدريس من مصر، إضافة إلى زكريا تامر وحنا مينة من سورية من الجدد.

أما الكتاب الأقرب إلى نفسي فقد كان وما زال" ألف ليلة وليلة".

المسيرة مع الإبداع الأدبي

البداية كانت في أواسط الستينيات، أول قصة كتبتها كانت عن بائع متجول أثار حزني، فتوجهت إلى أوراقي لأبثها ما شعرت به تجاهه من أحزان، كان مكسورا وحزينا يتصرف كأنما الأبواب كلها أغلقت في وجهه، فأراد أن يفتح واحدا منها دون أن يحظى بأي طائل.

في هذه الفترة كتبت عددا من القصص، كنت انشرها على استحياء، بل إنني حاولت أن انشر بعضا منها باسم مستعار، في محاولة مني لان اعرف الرأي الحقيقي فيها، كنت اعرف أن الأصدقاء في حال قراءتهم لها، فإنهم إما سيرحبون بها لان كاتبها هو صديق لهم وإما سيلجئون إلى توجيه الانتقادات القاسية، بسبب الحسد والغيرة، وفي هذا السياق اذكر أن الصحفي المرحوم محمد شريف استوقف صديقا له وأنا بمعيته، وان الحديث دار حول كتاباتي، فسال شريف من كان واقفا معه عمن يكون ناجي ظاهر، فاصطنعت عدم الاهتمام، وبذلت مجهودا كبيرا في ألا يعرفني، فعلت هذا كله لأعرف رأيه صراحة، مع أن مجرد سؤاله أثار لدي الاعتزاز بان هناك صحفيا معروفا سال عمن يكون ذلك الكاتب الجديد الذي هو أنا.

بقيت اكتب وانشر على استحياء، حتى عام 1968، في هذا العام كتبت قصة شعرت أنني وضعت فيها بعضا من فيض جميل في نفسي، عنوانها" الكلمة الأخيرة"، وأرسلت بها إلى مجلة " الجديد" الثقافية الشهرية، وفوجئت في نهاية الشهر بتلك القصة وقد نشرت، فكدت أطير من شدة فرحي، وقلت لنفسي إن رحلة الألف ميل الآن ابتدأت، وانه علي ابتداء من اليوم، أن ابذل مجهودا اكبر في تجويد ما اكتبه وانشره، إذ انه ليس بسيطا أن يكون الإنسان كاتبا، منذ ذلك العام حتى العام الجاري، لم انم كما ينام الناس، فرحت اقرأ بكثافة شديدة، وأنا أقول لنفسي من أراد أن يأخذ شيئا من هذه الحياة عليه أن يعطي كل شيء، ويطلب منه ألا يدخر جهدا إلا ويبذله من اجل تحقيق غايته النبيلة، غاية أن يكون كاتبا.

في تلك الفترة كانت الصحافة المحلية مؤدلجة، وكانت أدبيات الحزب الشيوعي هي الأشد حضورا، وكانت هناك أحزاب أخرى مثل حزب مباي يصدر مجلة " المرصاد" التي كان يحررها الأستاذ المرحوم إبراهيم شباط من الناصرة، ويساعده في تحريرها الكاتب إبراهيم موسى إبراهيم، في حين كانت الحكومة تساهم في إصدار صحافة تنقل إلى الجمهور سياستها.

 كل من الأحزاب في تلك الفترة كان ينشر لأعضائه في صحافته، وكان يفضلهم على سواهم متغاضيا عن المستوى في كثير من الأحيان، أنا عرفت قوانين اللعبة منذ البداية، وكان علي إما أن التحق بأحد الأحزاب، لأكرس نفسي كاتبا، لكن تابعا، كما فعل معظم كتابنا في تلك الفترة، وإما احفر طريقي في صخر الحياة محافظا على استقلاليتي، وتنفسي من رئتي وليس من رئة أي من الأحزاب، وكان أن اخترت الطريق الصعب طريق الاستقلالية والانفراد بالتفكير دون التأثر المباشر أو غير المباشر، من أي جهة كانت، في هذا السياق وصفني كاتب ذكي من الزملاء الذين لم أتعرف إليهم جيدا، في حين أنهم عرفوني عن بعد، فقال إنني كنت أشبه ما أكون بالمياه الجوفية تبحث عن نقطة ضعف في صخر الحياة لتنبجس ينبوعا، بالفعل كان هذا هو وضعي، فانا اعرف انه ليس من حقنا أن نحاسب من قبالتنا عن المكان الذي تحدث فيه، وإنما نحن نحاسبه عما قاله، لا اخجل الآن بعد هذا العمر أنني نشرت في صحف لم أكن راضيا عنها تمام الرضا، مفضلا حريتي الشخصية واستقلاليتي، على أن اربح الدنيا واخسر نفسي، المعركة كانت دائما على وجودي ككاتب مستقل حتى لو دفعت عمري، وما زلت مؤمنا بان الاستقلالية هي رأسمال الكاتب المبدع، وانه إذا ما خسرها خسر معركة وجوده كلها.

لا يعني هذا أنني لم أحاول أن أكون صديقا لهذا الحزب أو تلك الحركة السياسية، ولعله من المناسب هنا أن اذكر أنني عملت مدة تقارب السنة في صحيفة" الاتحاد" التي كان الحزب الشيوعي وما زال يصدرها حتى هذه الأيام، كما أنني عملت نحو العشر سنوات محررا في صحيفتي "الراية" وبعدها "الميدان" اللتين أصدرتهما حركة أبناء البلد، في الثمانينيات.

عملي هذا للحقيقة كان يملؤني بالزهو، فانا اعمل بجدارة وليس بالواسطة أو لأي سبب آخر، لا علاقة له بالإبداع الأدبي، واذكر في هذا السياق، أنني خسرت بسبب موقفي هذا وربحت في الآن ذاته، خسرت أن أكون موجودا ككاتب له "وزنه"، وربحت أن هناك العديد من الأصوات ابتدأ أصحابها في الالتفات إلي، على اعتبار أنني كاتب من نوع خاص، وللحقيقة أقول إن السلك الجامعي أنصفني، فتأكدت من أنني ماض في طريق صحيح، ولم اعبأ بأي من الأصوات التي خاطبتني إما همسا وإما جهرا قائلة لي انتسب إلى هذا الحزب أو تلك الحركة وسوف تدخل قائدا له وجوده وكيانه منذ البداية، نحن بحاجة إلى أمثالك من الكتاب المثقفين الجادين.

بني مفهومي هذا للاستقلالية من مفهوم آخر للأدب، فانا من المؤمنين بان الإنسان بكل ما يمور في داخله من مشاعر وأحاسيس، هو النقطة المهمة في أي إبداع يريد أن يكون ويعمر طويلا، ولم أكن للحقيقة من أولئك المؤمنين بان الأدب يجب أن يكون مسيسا، بل إنني رأيت دائما أن الإنساني أوسع من السياسي، وأدركت منذ فترة بعيدة أن السياسة مع كل حسناتها في مثل وضعنا في هذه البلاد، أساءت أكثر بكثير مما أحسنت، فجعلت من الكتاب تابعين لها ولقراراتها السياسية، ما جعل هؤلاء الكتاب يرفعون الشعارات ويتناسون الناس الذين يرفعونها ويهتفون بها، واذكر هنا إنني كتبت كثيرا في موضوع السياسة والأدب، و ذكرت في مقالة كتبتها عن الأدب الذي أفرزته الانتفاضة الأولى، دار حول الحجر ولم يتحدث عن هواجس اليد التي قذفت به، كان رأيي باختصار هو أن التزام الكاتب بقضايا مجتمعه ما هو إلا تحصيل حاصل، بأمارة أن كل كاتب مبدع ينطلق في كتابته من مكان وزمان معينين، وهو ما يعني أن انطلاقه هذا يعني، انه ملتزم للقضايا السياسية والاجتماعية، لكنه لا يمكن أن يكون ملزما، لأنه حينها سيكون بوقا لآخرين وسوف يخسر بالتالي مصداقيته ونقاوة صوته.

في التسعينيات انتقلت للعمل في صحف تجارية لا يهمها سوى المهنية في العمل الصحفي، وبقيت اعمل في هذه الصحافة حتى هذه الأيام، لا أريد أن أقول إن وضعي النفسي في هذه الصحف أفضل، فهي أيضا لها مشاكلها، ولها تحكم أصحابها في رقاب العاملين فيها، لكن هذه حكاية أخرى قد ارويها في يوم من الأيام وفي سياق اخر مناسب.

هذا على مستوى الكتابة والعمل في مسيرتي الأدبية، أما على مستوى إصدار الكتب، فقد ابتدأت هذه المسيرة حينما أعرب الصديق يعقوب حجازي في الثمانينيات عن استعداد منشورات الأسوار التي ما زالت تعمل حتى هذه الأيام تحت إدارته، عن رغبته في أن يكرمني بإصدار مجموعة شعرية لي، فاصدر لي مجموعتي الشعرية "البحث عن زمن آخر" بعدها اصدر لي رواية " الشمس فوق المدينة الكبيرة"، و" قصائد أول الدنيا" وهي عبارة عن مختارات شعرية كتبها شعراء معروفون، في بلادنا والخارج، في هذه الفترة، كتبت مجموعة قصصية هي" أسفل الجبل وأعلاه"، فشعرت بأنني كتبت ما يستحق النشر في كتاب، عندها بادرت لاقتراحه على الصديق الناشر فؤاد دانيال فقام بنشره، بعدها بادرت إلى طباعة مجموعة قصصية هي " بحجم سماء المدينة" في مطبعة كانت تعمل في الحي الشرقي من الناصرة تحت اسم مطبعة فراس، لصاحبها المرحوم سمير سويدان، هذه الكتب كلها طبعت بطريق صف الحروف حرفا إلى جانب حرف، بعدها ظهرت ثورة الطباعة الالكترونية، فأخذت أطبع الكتاب تلو الآخر إما بقواي الذاتية وإما بمساعدة آخرين من الأصدقاء والمحبين المساندين.

أول كتاب لفت النظر إلي كان المجموعة القصصية " جبل سيخ"، كتب عنها العديد من النقاد، وبرز من بينهم المرحوم الدكتور حبيب بولس، الذي قدم دراسة جادة عنها، بعده عاد وكتب عني الدكتور نبيه القاسم، واجمع من كتبوا عما كتبته، على أهميته حتى أن احد النقاد المهمين كتب يعتذر لأنه لم يكتب عني في السابق واصفا إياي بأنني امثل ظاهرة أدبية متميزة على ساحة الأدب في بلادنا.

تبلغ مؤلفاتي حاليا حوالي الاربعين كتابا، وحظي ما كتبت باهتمام خاص، كما ترجم بعض منه إلى لغات أخرى، وصدر في مجاميع ضمت مختارات من القصص المحلية. في عام 2000 حصلت على جائزة الإبداع، وفي العام ذاته خصصت لي مجلتا "الشرق" و"المواكب"، كل على حدة، عددا خاصا ببلوغي الخمسين من العمر وأنا اعتبر أن ما قامت به هاتان المجلتان يعتبر واحدة من الذرى التي حلمت بها، وكان لي أن تربعت عليها تحيط بي أنفاس الربيع.

المواضيع المركزية في كتابتي

وقف الإنسان بكل ما لديه من آلام وأحلام في مركز كتاباتي كلها، منذ البداية كنت واعيا لما يدور حولي من الآم وأحزان رأيتها في عيون الأهل، دون أن يكون بإمكاني مواجهتها، لهذا بمقدوري أن أقول بصورة عامة إن كل ما يتعلق بالإنسان، زمانا ومكانا، كان الموضوع الأساسي التي دارت حوله كتاباتي خاصة القصصية.

في البداية نظر لي الإخوة النقاد على أنني متقوقع في داخل الجرح الشخصي التي عاشته عائلتي، وكنت أرد عليهم قائلا، وهل بإمكاني أن ابتعد عن هذا الجرح؟ الم يقل عنتر ابن شداد في شطر شعري معبر له: من رأى أمرا عظيما لم ينم؟ فكيف تريدونني أن أنام ولدي أمر قد يكون الأعظم في العالم؟ إذ ماذا يعني أن يأتي غريب من بلاد بعيدة وان يقتلعك من بيتك أرضك وبلدك، ويحولك بقوته وعنفه إلى لاجي فقير وغريب عن كل ما قريب من القلب والروح؟

لقد كتبت ما كتبته في البدايات منطلقا من هذه الرؤية، وكنت كلما كتبت قصة جديدة تبين لي أنني إنما أسير في الاتجاه ذاته، هكذا بات واضحا أن هناك موضوعين يهيمنان على كتاباتي، هما:

أ‌- الإنسان في دورته الأبدية، وتمثل هذا الموضوع في العديد من القصص، في طليعتها " شمس لا تغيب أبدا"، في مجموعتي أسفل الجبل، و"أبي" في مجموعتي "الأفق البعيد"، ودارت هاتان القصتان وسواهما حول موت الأب وانبعاث الابن بعده، بمعنى أن الإنسان يرحل عن عالمنا ليواصل ابنه، ما بدأ به من طريق، وعنى هذا فيما عناه أن الأب يرحل ليبقى الابن، وان الإنسان الجسد يرحل في حين يبقى الإنسان الرمز والقضية، بمعنى أن الإنسان الفرد يرحل لتتواصل مسيرته فيمن جاء بهم إلى الدنيا من أبناء.

ب‌- الغربة والانتماء: وتبدى هذا الموضوع في العديد من القصص، وأكاد أقول إن معظم ما كتبته من قصص، دار حول هذا الموضوع الحساس، وأشير بصورة خاصة إلى مجموعتي " جبل سيخ" و" و"عصافير الشمال"، فقد برز فيها هذا الموضوع واضحا، وبإمكان القارئ أن يلمسه في أي من قصصها، ولعل قصة "جبل سيخ" ذاتها تقدم نموذجا طيبا لهذا الموضوع، القصة تدور حور طيور تواجه موجة شديدة من البرد، أثناء وجودها على الجبل، وتقرر أن تغادر، إلا أنها لا تريد أن تترك صغارها، حين تتعاون مع هؤلاء الصغار، على الطيران تولي في سرب، لكنها تولي لاوية أعناقها إلى الوراء، في إشارة إلى رغبتها في العودة.

شغل المكان حيزا ليس بسيطا فيما كتبته من القصص، حتى انه بدا وكأنما هو موضوع رئيسي، المكان في هذه القصص ليس ذاك الذي نلمسه بالعين المجرة، وإنما هو المكان الوجداني بكل ما يعنيه من ذكريات وحب فاض به القلب على أحباء كانوا في هذه الشوارع وتلك الساحات، وهناك قصة مزجت فيها بين الإنسان والمكان، عنوانها" يابا يابا"، ضمنتها مجموعتي " مجنون هند"، هذه القصة تتحدث عن والد يـُضيع ابنه الصغير، ضُحكة بلعبة، في سوق البلدة القديمة، وحينما يكتشف هول ما حصل، يندفع في الشوارع مرددا يابا يابا، فتردد الشوارع يابا يابا.

شغل الجنس مساحة واسعة مما كتبته من قصص، ويتجلى هذا الموضوع في رغبة عارمة في الحياة والاستمرار، وهناك قصة في مجموعتي أسفل الجبل، تدور حول ممارسة شاب للجنس/ بكل ما يعنيه من رغبة في الحياة والوجود، في بيت الدرج، في هذه القصة مزجت بين المكان والغربة والانتماء عبر التواصل الجنسي، فممارسة الشاب للجنس تتم في بيت الدرج وهذا يعني انه لا يوجد لديه بيت، انه راغب محب للحياة إلا أن هذه تهرب منه، فيلحق بها ليمارسها في بيت الدرج وخارج البيت.

من يقرأ ما كتبته من قصص لا بد أن يلاحظ موضوعا آخر سبق ولاحظ إلى وجوده دارسون مشهود لهم، في طليعتهم البروفيسور ساسون سوميخ أستاذ الأدب العربي سابقا في جامعة تل أبيب، هو موضوع وجودنا في هذه البلاد، ومسالة الحياة المشتركة بيننا نحن العرب واليهود فيها، هناك قصة عنوانها " السير نحو اليسار" ضمنتها مجموعتي "بحجم سماء المدينة"، تتحدث عن عربي يسافر إلى تل أبيب ليكتشف أن تل أبيب ما هي إلا بيوت عالية باردة، وقد كتب سوميخ دراسة عن موضوع العربي وعلاقته باليهودي في البلاد، وضع لها عنوانا استمده من قصتي هو بيوت عالية باردة.

في كل ما كتبته تقريبا تبدى موضوع العلاقات الإنسانية واضحا جليا، فانا أتحدث عن العلاقة بين الإنسان وذاته، بينه وبين الآخر، وبينه وبين زمنه ومكانه، وليس من الصعب على من يقرا أيا مما أنتجته من قصص، في مرحلة البدايات خاصة، ملاحظة أن المشكلة رقم واحد في الحياة، عادة ما تكون بين الإنسان وذاته، بعدها تكون بينه وبين الآخر، الرسالة التي حاولت أن أضعها في مركز حياتي وأفكاري وكتاباتي هي أننا إذا ما أردنا ان نفهم الآخر علينا أن نفهم ذواتنا أولا.

تأثيرات أدبية

منذ قرأت قصصا من كتاب" ألف ليلة وليلة" بشكل ميسر، وبعدها يشكلها التي كتبت فيه، وبعد أن بحثت عن الطبعة الأصلية لهذا الكتاب، وأنا اشعر انه استولى على اهتمامي، بما حفل به من صورة للحياة غذاها الخيال مقدما إياها بحلة لا أحلى ولا أبهى، حلة تجعل الحياة محتملة مهما قست وضاقت حلقاتها.

قصص ألف ليلة كانت من القصص الأولى التي قرأتها وكان السندباد البحري وما زال برحلاته السبع العجيبة يدغدغ وجداني ويفجر فيها مكامن الخيال والمغامرة، كما أن علي بابا ما زال رجلا طيبا ينتصر على لصوص أشرار ليقول لنا، دون أن يقول تقريبا، إن الخير باق في الحياة ما بقيت.

قرأت من أدبنا العربي القديم بكثير من المحبة والتقدير الكاتبين أبو حيان التوحيدي، صاحب" الإمتاع والمؤانسة"، وأبو بحر بن عثمان بن بحر الجاحظ في كتاب" البخلاء"، وفي رسائله اللافتة أيضا. في الشعر قرأت باهتمام الكثير من شعرنا العربي في طليعته أشعار أبو الطيب المتنبي وأبو العلاء المعري.

في بداياتي قرأت عددا من الكتاب العرب والأجانب، في طليعتهم عباس محمود العقاد، طه حسين وإبراهيم عبد القادر المازني، بعدها قرأت نجيب محفوظ ويحيى حقي ويوسف إدريس، لا سيما في مجموعته الجميلة " بيت من لحم"، كما قرأت حنا مينة خاصة روايته" الياطر" وزكريا تامر مجموعته القصصية" صهيل الجواد الأبيض"، قراءاتي كانت واسعة جدا إلا أن ما أحببت أن أعود لقراءته لم يكن وفيرا.

أما من الكتاب الأجانب، فقد قرأت بكثير من الحب، كتابات من عصور ماضية، ويبرز الآن وأنا أقول ما أقوله، الكاتبان الروسيان فيودور دستوفسكي وانطون تشيخوف على اعتبار أنهما كاتبان اعتقد أنهما تركا اثر عميقا في نفسي، ربما لتشابه في النفسية وفي التوجه للحياة، كما قرأت بكثير من المحبة قصص وروايات الكاتبين الأمريكيين ارنست همنجواي في" الشيخ والبحر" وجون شتاينبك، في "عناقيد الغضب"، اضافة الى الكاتب الألباني إسماعيل كادريه في روايته "من اعاد دورنتين" والكاتب الكولمبي جابريئيل جارسيا ماركيز في " مائة عام من العزلة".

تأثرت جدا بالكاتب القرغيزي جنكيز ايتماتوف خاصة في روايته " الكلب الابلق الراكض عند حافة البحيرة"، وقبلها روايته المعبرة " السفينة البيضاء"، آخر رواية قرأتها لهذا الكاتب هي"الجبال تتداعى- او العروس الخالدة".

في السنوات الأخيرة قرأت روايات الكاتب البرازيلي بول كويليو ابتداء من " الكيميائي" انتهاء بـ" إحدى عشرة دقيقة" مرورا بـ" الشيطان والآنسة دريم"، كما قرأت روايات الكاتب البرتغالي الرائع " جوزيه ساراماجو، في طليعتها روايته الهامة" العمى".

في الماضي كنت أحب الكتاب، فاسعي لقراءة ما جادت به قرائحهم، بيد أن ما حصل مع التقدم في العمر هو أنني بت أحب الكتب، فقد أحب كتابا ما لكاتب معين وقد لا أحب كتابا آخر له.

أما بالنسبة للتأثر المباشر بهذا الكاتب أو ذاك، فإنني اعتقد أن هذه إشكالية معقدة ومركبة جدا، فقد نظن أننا إنما تأثرنا بكاتب ما دون أن نكون قد فعلنا، كل ما استطيع قوله أنني قرأت لهؤلاء بمزيد من المحبة، أما مسالة التأثر فإنها تحتاج إلى ناقد يسبر أعماق النص، ويكشف عن أبعاده، ومن يعلم فقد يكتشف أنني لم أتأثر بأي من الكتاب بصورة مباشرة،.. المحبة قريبة جدا من التأثر لكنها ليست هو.

المدرسة الأدبية

أنا لا أفكر في المدرسة الأدبية التي اكتب وفقها حين الكتابة، ما يهمني هم أن اعبر عما في داخلي، وعما يمور في وجداني، حتى أنني اطرح السؤال إلى أي من المدارس الأدبية أنا انتمي.

في محاولة يمكن أن أجريها لما كتبت بالضبط كما يمكن لأي من القراء إجراؤها، بإمكاني أن أقول إنني انتمي إلى المدرسة الواقعية في الأدب، هذه المدرسة كان نقاش عنها وحولها بين الكتاب العرب في الخارج إبان الستينيات، إذ أن بعضهم فهمها على اعتبار أنها مدرسة تلتزم بالواقع بحذافيره، فتنقل عنه نقلا فوتغرافيا، بيد أنها في المفهوم الواسع لها، ابعد ما تكون عن النقل الفوتغرافي وتنحو منحى الخلق والإبداع فيما يبتكره الكاتب من عوالم مبهرة، واذكر هنا أن احد النقاد العرب وضع كتابا أطلق ضمنه دراسة حول هذا الأدب، وما زلت أتذكر ما توصل إليه فيه من أن الواقعية كثيرا ما تكون ضد الواقع، وليس بالضرورة أنها ينبغي أن تتماشى معه.

أنا كاتب واقعي بمعنى أنني استفيد من كل معطيات الواقع، بيد أنني حينما اكتب القصة فإنني اخلق لها عالمها الخاص بها القائم على هندسة تخييلية متوازنة، وهو ما يعني أن الواقع وانعكاسه في العمل الإبداعي إنما يسيران في خطين متقابلين، لا يلتقيان، رغم أن الثانية تستقي مادتها من مادة الأول.

يخطئ من يظن أن الواقعية هي انعكاس للواقع بحذافيره، فهي في الحقيقة إعادة خلق للواقع، في سياق أخر معقول ويتضمن وجهة نظر كاتبها بشكل غير مباشر.

الأدب الواقعي يعتمد في إيجاده لذاته على تفكيك الواقع وإعادة بنائه عبر رؤية أو وجهة نظر صاحبها، وليس بالضرورة أن يكتب الكاتب الواقعي عاكسا الواقع، بل يطلب منه أن يكتب ما هو متوقع حدوثه في الواقع، وألا يشطح في تخيلات هي ابعد ما تكون عما يحفل به الواقع من قضايا واشكاليالات.

هذا الأدب كما سلف، يغترف مادته كلها من الواقع إلا أن الكاتب يتعامل مع هذه المادة وفق احتمالات، وأشير هنا إلى قصة" طبول في الوادي"، للكاتب سامي ميخائيل، هذه القصة تحولت إلى فليم سينمائي تم عرضه في الناصرة، ما أن عرض هناك حتى ارتفعت الأصوات منددة به كونه يحكي قصة حب تقع بين شاب روسي وفتاة عربية، في رأيي أن من وجهوا انتقاداتهم إلى هذا الفيلم، ارتكبوا حماقة كبيرة في تعاملهم معه، فأقاموا هذا التعامل على الواقع الذي يقول انه لا توجد هنك قصة حب مثل تلك التي وقعت في الفيلم، في حين أن كاتب القصة أقام قصته على وجهة نظر تتكئ على واحد من الاحتمالات محوره انه يمكن أن تقع في مجتمع يعيش فيه العربي إلى جانب الروسي.

الكاتب الواقعي، وهذا ينطبق علي، يتعامل مع الواقع كمادة خام، يشيد منها معماره القصصي، وهو لا يمكنه أن يقوم بإنشاء عالمه المنشود هذا إلا إذا تمكن من امتلاك الواقع جماليا، ويعني هذا الامتلاك أن يكون قد حصل تفاعل بين الكاتب وبين مجريات الواقع، تمكنه من صهره في ذاكرته بحيث يتحول إلى مساحة منها.

ربما لهذا يقول ليون ايديل في كتابه الفاتن عن القصة السيكولوجية، الذي ترجمه إلى العربية الدكتور محمود السمرة، انه يوجد هناك العشرات ممن كتبوا عن مذكراتهم في الحرب إلا أن رائعة الأديب الروسي ليو تولتستوي بقيت في المقدمة ووقف ما كتب على نسقها متأخرا، لان تولستوى كتب تجربة، وهم كتبوا مذكرات أو ما يشبهها، وأعجبني في هذا السياق قول لناقد روسي، مفاده أن الكاتب إنما ينضج حينما يفهم أفكار عصره.

الأدب الواقعي، إضافة إلى هذا، إنما يتعامل مع الجوهري في الواقع، وينبذ العارض، انه أدب يطمح إلى إعادة بناء العالم بعد تفكيكه، ليكون بالتالي عالما صالحا للعيش فيه وللإقامة في ربوعه.

الأسلوب

اعتبر نفسي كاتبا تجريبيا، فانا لا اسلم قيادي إلى نوع واحد من التعبير والأسلوب وإنما أحاول أساليب مختلفة، ولعل هذا يتعلق بالقصة القصيرة كنوع أدبي، أولا وقبل كل شيء.

هناك ناقد قال انه من الصعب علينا وضع تعريف جامع مانع كما يقول أهل المنطق، للقصة القصيرة، وان يوجد لكل قصة عالمها الخاص بها، وبالتالي افقها المتميز حتى عن سواه من عوالم القصص الأخرى، فإذا ما كان لكل قصة عالمها الذي يفرض ذاته، فكيف يمكنني أن اكتب وفق أسلوب واحد موحد؟

مع هذا احرص في كتابتي على إيجاد نبرة معينة، إيقاع معين، يعرفني القارئ منه، وسوف يحزنني جدا ألا يعرفني القراء من كتاباتي، لأنهم في مثل هكذا حالة يلغون نقطة التميز التي يتصف بها كل كاتب يريد أن يكون له مكان بين إخوانه الكتاب.

اعتقد انه يوجد لي طابعي الخاص بي، في كتاباتي القصصية وان الإخوة القراء باتوا يعرفون هذا الطابع جيدا، وانه حتى لو قام كاتب شاب بتقليد ما كتبته واكتبه، فانه سيكون واضحا انه إنما اعتمد في كتابته على أصل لا علاقة كبيرة له به.

***

ناجي ظاهر بقلمه

...................

* ناجي ظاهر بريشة ازهار عياد

 

في المثقف اليوم