شهادات ومذكرات
نبيل الربيعي: محمد لقمان الخواجة والتكوينات الزخرفية في السياقات التوليدية

يُعدّ فن الزخرفة محاكاةً للصور الفكرية ذات الطابع المثالي، المنتمية إلى مستويات الرمز في أعمال الفنان والباحث محمد لقمان الخواجة، الذي عرفته من خلال زياراته المتواصلة لربوع مدينة الحلة العريقة، ومكتبته العامرة التي تقع قرب مكتبة الدكتور عبد الرضا عوض، والتي تنبعث منها نفحات التاريخ والفن والأدب.
وُلد لقمان عام 1957، وحصل على شهادة الدبلوم في الفنون الجميلة، والبكالوريوس في اللغة العربية، والماجستير في النقد. وقد اهتم بكتابة الشعر والزخرفة الإسلامية، وأبدع في هذا الفن حتى أُطلق عليه لقب "الزخرفة اللقمانية". صدر له أكثر من (17) مؤلفًا في مجالات الفن والأدب والرواية، من بينها: روايتان: الكاهنة، وأطروحة معلم ، الحنين إلى الواقعية... تشكيلي، لغة النقد وقراءة الصورة (كتابان في النقد ونقد النقد) كوين كولاج، وهو عمل تشكيلي يُعنى بصناعة اللوحة من النفايات، ديوان شعر بعنوان وشل الذكريات
أسهم لقمان في إنتاج تركيبات ووحدات زخرفية تزيّن اللوحات وتغلفها بأشكال مجردة متنوعة في الأسلوب والأداء، تمنح نتاجات الفن الإسلامي، ومنها فن الزخرفة، دلالات رمزية وطابعًا روحانيًا يحتفي بمجموعة من المفاهيم القرآنية واللغوية والفلسفية. هذه التكوينات تركّز على جماليات الترميز والتركيب والتزويق، وهي منفّذة على صفحات مؤلفاته بحرفية عالية.
وقد أشاد الدكتور أسعد يحيى مسلم بأعمال لقمان التجريبية الإبداعية، وبالرؤية النقدية التي يحملها، قائلاً:" هو فنان تشكيلي وناقد بصري معروف برؤيته الجمالية الخاصة، التي تستند إلى فهم معمّق للتراث الفني، وتوظيفه في سياقات حداثوية تتقاطع فيها الثقافة والتاريخ والهوية. حيث يرتكز مفهوم التوليدية في الزخرفة عند الخواجة على مبدأ شبيه بما طرحه نعوم تشومسكي في التوليدية اللغوية."
أما الدكتور محمد علي علوان فقد اعتبر أن جهد لقمان الفني في مجال الزخرفة:" يحقق نوعًا من المواءمة الجمالية بين ابتكار الوحدة الزخرفية وتضمينها صورًا بصرية تتنافذ مع فن الرسم، في إطار تشييد شكل ومبنى جديدين لتلك الوحدة. وقد أخذ منها الخواجة ربع مساحتها كباعث لتغيير نمطية الصورة الزخرفية، وكشف صلاتها الحميمية مع الأثر التعبيري الذي تحمله... لذلك فإن التكوينات الزخرفية المتولدة هي ملامسة فعلية لإعادة صياغة الشكل الأصلي للوحدة الزخرفية في قوالب زخرفية جديدة، لا تخلو من أنظمة اشتغال معاصر، خصوصًا مع تكثيف البعد البصري للمنجز الزخرفي الجديد."
في كتابه الجديد (السياقات التوليدية في الزخرفة)، الصادر عن دار الفرات للثقافة والإعلام في بابل بالاشتراك مع دار سما للطباعة والنشر والتوزيع، في (284) صفحة من القطع الوزيري، والمزين بعشرات اللوحات الزخرفية، يأخذنا محمد لقمان الخواجة في رحلة بصرية بحثية ثاقبة داخل عوالم الزخرفة، مستندًا إلى بنية معرفية تعبر عن أشكال ثقافية رمزية. حيث يرتكز على مبدأ التوليدية اللغوية كوحدة بنائية، من خلال سلسلة من التدوير والتركيب الزخرفي التي ينتج عنها عمل بصري زخرفي خاص يحمل بصمته.
توشحت العديد من أعمال الأستاذ لقمان بعناصر زخرفية هندسية متنوعة. وتأتي أهمية تصاميمه من جماليات المفتتحات البصرية الأولية لأي مخطوط إسلامي، الذي يهتم بالجانب التقني والأدائي والفني، فضلاً عن أهمية بعض أنظمة التكوين الزخرفي، وما تحويه من أسس تصميمية تهدف إلى تكوين وحدات زخرفية مفاهيمية بأشكال مجردة، تعتمد على قواعد وصيغ رياضية مستوحاة من البيئة الطبيعية، وجماليات التناظر، والتشابك، والتجانس، والتزويق، بطابع رمزي عميق.
تُعد أعمال لقمان الزخرفية وسيلة تجميلية تعكس رغبة داخلية في الحياة المفعمة بالجمال والزينة، تمظهرت عبر أشكال هندسية كالدوائر والمثلثات والمربعات، أو من خلال الخط العربي المشبع بالمعاني الأدبية والدينية، باستخدام الحروف والكلمات والآيات القرآنية. كل هذه العناصر المختلفة يوظفها الفنان القدير لقمان الخواجة في تصاميمه الزخرفية وفق نظام خاص، قائم على التداخل والتكرار والتناظر، بصورة منتظمة ومتناسبة من حيث الوضعية، والحجم، والكثافة، والتوزيع، وملء الفراغ، حتى تتحول كل المساحات إلى إطارٍ بصريّ زاخر بالمتعة التصويرية، يشع جمالًا وجاذبية، ويبعث في المتأمل لذة روحية وبصرية معًا.
لجأ لقمان بحسّه الفني الرفيع إلى توظيف الأشكال الرمزية المرئية وتطويعها في خدمة نشاطه الإبداعي الزخرفي، على نحو يجعل العمل الفني مجالًا لا متناهيًا للرؤية والتأمل. وتتميّز الزخرفة "اللقمانية" بقدرتها على نقل قدر كبير من الدلالات والمعاني الوجدانية التي تنبض بها الصورة، بهدف الاقتراب أكثر من الجمال في شكله ومستواه الروحي. ولهذا، يبقى عمل الفنان لقمان الزخرفي، في المنظور الإسلامي، كغيره من الفنون، قائمًا على المعرفة الحسية أكثر من كونه معرفة حدسية أو روحية خالصة.
يعود تاريخ نشأة فن الزخرفة إلى بدايات الإنسان في الكهوف، حين نقشها على أوانيه بأشكال هندسية بسيطة. ثم انتقل هذا الفن إلى الحضارات المختلفة، وكانت بداية الزخرفة الإسلامية مع الخليفة عبد الملك بن مروان، أحد أوائل الحكّام الذين اهتموا بتطوير هذا الفن، حيث قام بإضفاء الزخارف الإسلامية على قبة الصخرة في القدس الشريف، فجعلها نموذجًا معماريًا فريدًا يعكس فلسفة الفن الإسلامي في تلك الحقبة. وفي العصر العباسي بلغ العمل الزخرفي ذروته، وتواصل تطوره في العصرين المملوكي والعثماني، حيث امتزجت الزخرفة مع عناصر معمارية وفنية أخرى، فصارت علامة مميزة من علامات حضارة الإسلام وفنونه البصرية.
***
نبيل عبد الأمير الربيعي