أقلام فكرية
ابراهيم طلبه سلكها: لماذا الفلسفة؟ ولماذا الآن؟
			المقدمة: تُعد الفلسفة من أقدم صور الوعي الإنساني وأكثرها عمقًا في البحث عن الحقيقة والمعنى، فهي التي صاغت منذ بدايات التفكير البشري أسسَ السؤال، ومهّدت لولادة العلم، وأرست قواعد الأخلاق والعقل النقدي. غير أنّ السؤال عن جدوى الفلسفة يظل يتجدّد في كل عصر، ويتخذ صيغًا جديدة تبعًا لتحولات الفكر والمجتمع. ومن هنا تبرز أهمية هذا البحث الذي يسعى إلى الإجابة عن سؤال مزدوج: لماذا الفلسفة؟ ولماذا الآن؟، وهو سؤال يعكس الحاجة الملحّة إلى استعادة دور الفلسفة في زمن يتسم بتسارع المعرفة وتفكك القيم الإنسانية.
تكمن أهمية الموضوع في كونه يتناول جوهر العلاقة بين الإنسان والفكر، ويعيد طرح الفلسفة باعتبارها أداة للفهم والتوجيه في عالمٍ تسيطر عليه التقنية، وتضعف فيه القدرة على التأمل والمعنى. فالعالم المعاصر يعيش أزمة عقلية وأخلاقية تتجلّى في هيمنة النفعية، وتراجع التفكير النقدي، وانفصال التقدم العلمي عن البعد الإنساني؛ مما يجعل العودة إلى الفلسفة ضرورةً لا ترفًا، لأنها تمنح الفكر الإنساني توازنه بين المعرفة والقيمة، وبين الفعل والتأمل.
أما مشكلة البحث فتتمثل في التساؤل عن موقع الفلسفة في عالم اليوم: هل ما زالت قادرة على الإسهام في معالجة أزمات الإنسان الفكرية والروحية، أم أصبحت نشاطًا نظريًا منقطع الصلة بالواقع؟ وهل يستطيع التفكير الفلسفي أن يقدم حلولًا عملية للتحديات الراهنة، كأزمة القيم، وضياع الغايات، وتشيؤ الإنسان في ظل التقدم المادي؟ هذه الإشكالية تمثل محور البحث وتساؤله المركزي.
ويعتمد البحث في معالجة هذه الإشكالية على منهج تحليلي– نقدى مقارن؛ إذ يتناول المفاهيم الأساسية للفلسفة ووظيفتها عبر تحليل نصوص فلسفية ودلالات فكرية، مع استنباط القيم التي يمكن أن تُعيد للفلسفة دورها التوجيهي في الحياة المعاصرة. كما يوظّف المنهج المقارن لإبراز تباين المواقف الفلسفية القديمة والحديثة من دور الفلسفة في المجتمع، وصولًا إلى رؤية متكاملة تُبرز أن الفلسفة ليست مجرد تراث فكري، بل حاجة إنسانية متجددة توجه العقل نحو الحقيقة والخير والجمال.
وفي سبيل تحقيق هذه الغاية، سيتناول البحث المحاور الآتية: معنى الفلسفة ووظيفتها، والفلسفة كطريق للفهم والمعرفة، ودورها في توليد الطموح والإخلاص، وأزمة العالم المعاصر وحاجته إليها، إضافةً إلى مناهج التفكير الفلسفي وأهميتها، ثم الفلسفة بوصفها نورًا يهدي مسيرة الإنسان، وأساسًا للأخلاق والتقدم الإنساني.
المحور الأول: معنى الفلسفة ووظيفتها
1- تعريف الفلسفة
ما هي الفلسفة؟ سؤال يبدو بسيطًا في ظاهره، لكنه من أعقد الأسئلة التي يمكن أن تُطرح، لأن الفلسفة لا تخضع لتعريف واحد أو نهائي. فهي، بحكم طبيعتها النقدية والتأملية، تظل مفتوحة أمام تفسيرات متعددة. ولهذا لا يمكن لأي فيلسوف أن يقدم تعريفًا يحظى بإجماع جميع الفلاسفة، بخلاف ما نجده في العلوم الأخرى مثل الاقتصاد أو التاريخ أو الأحياء، حيث يمكن تحديد موضوع الدراسة بدقة ووضوح.(1)
فمنذ البدايات الأولى للفكر الفلسفي، لم يكن هناك اتفاق على تعريف محدد للفلسفة؛ إذ نجد أن كل فيلسوف ينطلق في تعريفه لها من زاوية نظره الخاصة، تبعًا للمشكلات التي يراها محورية أو متعلقة بجوهر التفكير الفلسفي. ومن هنا تنوّعت التعريفات بتنوع القضايا التي تتناولها الفلسفة، حتى صار من الصعب الإحاطة بجميع أبعادها في تعريف واحد جامع. ومع ذلك، فإن طرح سؤال "ما هي الفلسفة؟" في ذاته يُعدّ خطوة أولى في عملية التفلسف، لأن التفكير في ماهية الفلسفة هو ممارسة فلسفية بحدّ ذاتها، تنبع من التساؤل حول الحياة والوجود الإنساني وأبعادهما العميقة.(2)
ومن زاوية أخرى، يمكن استخدام كلمة "فلسفة" للإشارة إلى الموقف العام الذي يتبناه الفرد أو الجماعة تجاه الحياة. هذا الموقف يمثل النهج أو الطريقة التي يستجيب بها الإنسان لمختلف الأحداث، ويعكس رؤيته للعالم كما تتجلى في معتقداته وأفكاره، وهي حصيلة ما ورثه وما اكتسبه عبر تجاربه الحياتية. وبناءً على هذا الفهم، يمكن القول إن كل إنسان يمتلك فلسفة ما، تتجسد في نظرته الخاصة إلى الحياة وموقفه منها. ولذلك، حين يتحدث الناس عن "فلسفتي في الحياة" أو "فلسفته"، فإنهم يقصدون بذلك مجموع المبادئ والقناعات التي تحدد أسلوبهم في العيش والتعامل مع الآخرين. إن امتلاك فلسفة شخصية ليس ترفًا، بل هو ضرورة إنسانية، لأن الإنسان لا يستطيع أن يعيش حياة ذات مغزى دون منظومة من القيم والمعتقدات التي توجه سلوكه وتمنحه معنى وغاية.(3)
نتوقف مع عدة تعريفات للفلسفة كما هي، دون الإشارة إلى الانتقادات والملاحظات التي أُثيرت حولها:
أولًا، الفلسفة هي تاريخ الفلسفة.
"الفلسفة هي في حقيقتها دراسة الشخصيات التاريخية التي يُعَدّ أصحابها فلاسفة. قد يصادف المرء أسماء مثل سقراط، أفلاطون، أرسطو، أوغسطين، طاليس، فيلو، أفلوطين، توما الأكويني، كانط، إريجينا، هيوم، ماركس، هيجل، راسل، فيتجنشتين، وغيرهم كثيرون".(4)
يعتمد هذا التعريف على أن الفلسفة لا يمكن أن تُفهم فهمًا حقيقيًا ما لم يُفهم الماضي. وستكون الفلسفة فقيرة إذا فقدت أيًّا من الأسماء المذكورة أعلاه. ويذهب بعضهم إلى أن معرفة تاريخ الفلسفة شرط أساسي لتقدير الفلسفة تقديرًا إيجابيًا، وضرورة إذا أراد المرء أن يُقدّم إسهامات إبداعية في تطوير الفلسفة. وتكمن قيمة المدخل التاريخي في أنه يقدّم للطالب العقول العظيمة في الماضي ويضعه في مواجهة المشكلات الفلسفية التي أثارها المفكّرون في جميع العصور. وهذا أمر مرغوب فيه في حد ذاته، حتى وإن لم يكن أفضل تعريف للفلسفة.(5)
ثانيًا، الفلسفة هي تحليل اللغة
إن تعريف الفلسفة على أنها تحليل للغة يُحوِّل الفلسفة من كونها موضوعًا قائمًا بذاته إلى مجرد أداة للتعامل مع موضوعات أخرى. فهي تصبح منهجًا بلا مضمون. وهذا التعريف أحادي الجانب. لقد كان تحليل اللغة جزءًا مهمًا من الفلسفة منذ زمن سقراط وغيرِه وصولًا إلى الحاضر. لكن ربط اللغة بمبدأ التحقق وتقييدها به يفرض حدودًا صارمة على مجالات اعتُبرت دائمًا جوهرية في الفلسفة. يظهر هذا القيد بوضوح في مجالي الأخلاق والقيم، إذ إن الأخلاق لا يمكن التحقق منها بطريقة علمية، ومع ذلك يبدو من الواضح أننا نستطيع مناقشة الأفعال واعتماد بعض وسائل التقييم الموضوعي من خلال العقل.(6)
ثالثًا، الفلسفة برنامج للتغيير.
صرّح كارل ماركس بأن دور الفلسفة ليس التفكير في العالم، بل تغييره. فالفلسفة ليست مشروعًا برجوازيًا في برجٍ عاجي بعيدًا عن واقع الشروط الإنسانية. فما الفائدة من تحقيقات إبستمولوجية دقيقة، بينما العلم والتكنولوجيا – من دون أن يشغلا أنفسهما كثيرًا بأسس معرفتهما – يزدادان يوميًا تمكنًا من الطبيعة والإنسان؟ وما الفائدة من تحليل لغوي يتجنب الحديث عن تحوّل اللغة (اللغة العادية!) إلى أداة للسيطرة السياسية؟ وما الفائدة من التأملات الفلسفية في معنى الخير والشر، في حين أن أوشفيتز، والمجازر في إندونيسيا، وحرب فيتنام قد قدمت تعريفًا يخنق كل نقاش حول الأخلاق؟ وما الفائدة من انشغال فلسفي إضافي بالعقل والحرية بينما موارد وملامح المجتمع العقلاني، والحاجة إلى التحرر، كلها واضحة تمامًا، والمشكلة ليست في تصورها، بل في الممارسة السياسية لتحقيقها؟
لكن مسألة التغيير ليست بالضرورة من صميم الفلسفة نفسها، فالفلسفة لا تحمل مطلبًا جوهريًا بأن يكون التغيير هو المنتج النهائي للتفكير. يبدو أمرًا طبيعيًا أن يسعى من يفكر بجدية في مشكلات الإنسان إلى حلول جيدة، ويبدو طبيعيًا أيضًا أن يحاول من يمتلك حلولًا جيدة أن ينفذها. ومع ذلك، فمن الممكن أيضًا أن يكتفي المرء بالتأمل في حلول جيدة من غير أن يباشر أي عمل. فلا يوجد تكليف أصيل في الفلسفة يفرض برنامجًا عمليًا للتغيير، وإن كان من الممكن افتراض أن بعض الأعمال الجيدة قد تخرج ضمنيًا من ذلك.(7)
رابعًا، الفلسفة رؤية كونية.
إن الرؤية الكونية – أو Weltanschauung كما يسميها الألمان – تتجاوز مجرد التساؤل عن الكون، فهي محاولة لصياغة تصور شامل عن العالم في علاقته بتكوين المادة، والإنسان، والإله، والخير، وطبيعة السياسة، والقيم، والجماليات، وكل عنصر آخر في الكون له أهمية. وقد تبنّى هذا التعريف ويليام جيمس الذي قال:"إن المبادئ التفسيرية التي تكمن وراء كل الأشياء دون استثناء، والعناصر المشتركة بين الآلهة والإنسان والحيوان والحجر، والبداية الأولى والنهاية الأخيرة لمسيرة الكون بأسره، وشروط كل معرفة، وأعمّ القواعد التي تحكم الفعل الإنساني – هذه كلّها هي المشكلات التي تُعَدّ فلسفية بامتياز؛ والفيلسوف هو ذاك الذي يجد أكثر ما يُقال عنها."
إن الرؤية الكونية تشمل نظرةً إلى الإنسان، وإلى المسؤوليات الاجتماعية والسياسية المترتبة على هذه النظرة. فأيُّ علم أو دراسة تتعلق بمعنى الإنسان ستكون ذات صلة بالرؤية الكونية، بما في ذلك علم الأحياء، والأنثروبولوجيا، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، واللاهوت، وغيرها من التخصصات المرتبطة. فالرؤية الكونية هي محاولة للتفكير بشكل مترابط عن العالم في شموليته وكماله.(8)
خامسًا، الفلسفة هي النقد.
النقد هو محاولة إزالة التفكير الرديء وترسيخ المفاهيم بمزيد من الدقة والمعنى. يُعد سقراط من أوائل من انخرطوا في النقد الفلسفي، وكان النقد عند سقراط يشير إلى التفكير النقدي القائم على الجدل في إطار المحاورة. ويجب أن نتذكّر أن الجدل (Dialectic) هو نقاش متواصل يتضمن ادّعاءات، وادّعاءات مضادّة، وتوضيحات، وتصحيحات، وتنازلات، على أمل صادق في الوصول إلى فهمٍ لمفهوم ما. وفي هذا السياق، لاحظ جون ديوي أن:"الفلسفة هي في جوهرها نقد، وتمتاز بموقعها المميز بين أنماط النقد المختلفة بعموميتها؛ فهي نقد للنقد إن صحّ القول. النقد هو حكم تمييزي، وتقدير متأنٍ، ويُطلق على الحكم اسم نقد على نحو ملائم حين يكون موضوع التمييز متعلقًا بالخير أو القيم".(9)
وقد كان تعريف الفلسفة باعتبارها نشاطًا نقديًا شائعًا نسبيًا في المشهد الفلسفي المعاصر، إذ يُنظر إليها كعملية تفكير مستمر تهدف إلى توضيح المفاهيم وتصحيح الأخطاء وتوسيع آفاق الفهم. فقد وصف روبرت بول وولف (Robert Paul Wolff) الفلسفة بأنها نشاط يقوم على التفكير المتأني، تحكمه الدقة المنطقية والوضوح. مثل هذا النشاط يقوم على إيمان راسخ بقوة العقل، وهو نشاط يقود فيه العقل إلى الحقيقة.(10)
ومثال آخر على البعد النقدي في الفلسفة هو الحركة الفلسفية المرتبطة باسم إدموند هوسرل، الذي يُعدّ مؤسس الفينومينولوجيا (Phenomenology). والفينومينولوجيا هي منهج نقدي يهدف إلى فحص جوهر أي شيء؛ فجوهر الحب، أو العدالة، أو الشجاعة، أو أي فكرة أخرى يمكن التعامل معها نقديًا للوصول إلى استنتاجات مبدئية بشأنها. مثل هذا النقد يُعدّ حيويًا للفلسفة كما هو ضروري في سائر الحقول المعرفية، إذ يضع الأسس المنهجية للتفكير في المعاني والحقائق دون افتراضات مسبقة.
وانطلاقًا من هذا البعد النقدي والمنهجي، يمكن القول إن الفلسفة هي محاولة منسقة ومنهجية لتقييم الحياة والكون ككل، بالرجوع إلى المبادئ الأولى التي تقوم عليها جميع الأشياء، والتي تنطوي عليها كل تجربة. إنها منهج غير متحيّز في مقاربة جميع مشكلات الحياة وأبعاد الوجود، ولا تقتصر دراستها على العالم التجريبي كما هو الحال في العلوم الفيزيائية والبيولوجية، ولا تُقيَّد بمجالات الإيمان والسلطة أو قضايا العالم الآخر كما في البحوث اللاهوتية، ولا تنحصر في دراسة العقل وسلوكه كما في علم النفس، ولا تُعنى بمجرد الجدل الأخلاقي أو سلوك الإنسان كما في علوم الأخلاق، ولا تقتصر على الواجبات المدنية أو مشكلات الإدارة والدساتير كما في السياسة، ولا تنشغل فقط بحلول تقنية لتنظيم المجتمع أو البحث في أصله وتطوره كما في الاقتصاد وعلم الاجتماع.
بل تُكيِّف الفلسفة نفسها لمعالجة شاملة للمسلمات الأساسية الكامنة في كلٍّ من هذه المجالات، ولِما هو أبعد من ذلك كلّه، لما يُعدّ أساسًا تقوم عليه جميع العلوم، وما يُشكّل أصلًا لكل معرفة وتجربة. وهكذا، تُعدّ الفلسفة أشمل فروع المعرفة قاطبة، وتعمل كمعيار تقيس به سائر أوجه المعرفة البشرية.(11)
2- موضوعات الفلسفة:
تشمل الفلسفة موضوعات ومحاور متعددة، وتُعَدُّ التقسيمات التالية أساسية عند النظر إلى الفلسفة من منظور عام وشامل(12):
أ. نظرية المعرفة (الإبستمولوجيا)
ب. الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة)
ج. المنطق
د. علم القِيَم: وهو مجال واسع يضمّ فرعين أساسيين:
- الأخلاق
- علم الجمال
هـ. مجالات فلسفية متخصصة:
- فلسفة الفن
- فلسفة علم الأحياء
- فلسفة التاريخ
- فلسفة القانون
- فلسفة الفلسفة
- فلسفة الفيزياء
- فلسفة العلوم الطبيعية
- فلسفة الدين
- فلسفة الاجتماع
- فلسفة العلم
وتدرس الفلسفة أربعة أنواع من العلاقات، وهي:
(1) العلاقة بين الإنسان والطبيعة،
(2) العلاقة بين الفرد والمجتمع،
(3) علاقة الإنسان بنفسه،
(4) علاقة الإنسان بأي كائن يتجاوز العالم المحسوس، إن وُجد.
وبمعنًى ما، يحتل "الإنسان" موقعًا مركزيًا في الفلسفة. فما إمكانياتنا كبشر؟ وما حدودنا؟ وكيف يمكننا أن نُحقق كامل طاقتنا ونعيش حياة مليئة بالرضا والسعادة؟ تُعدّ هذه الأسئلة ذات أهمية كبرى في الفلسفة(13).
وانطلاقًا من هذا البعد الإنساني، تتغلغل الفلسفة في شتى التخصصات، لأنها تعالج المعرفة الأساسية، وتنطوي على نشاط عقلي، وتستعمل أدواتها الفلسفية للتحقيق في أصل ومصدر وصلاحية التخصصات التي تُعَدّ مكتفية بذاتها. وبصورة عامة، فإن الفلسفة – بوصفها تخصصًا – تطرح أسئلة عن كل ما يمكن أن يُسأل عنه.
وتُعَدّ الفلسفة أمًّا لسائر التخصصات الأخرى، لأنها أنجبتها جميعًا، والعلاقة القائمة بين الفلسفة وسائر العلوم تشبه العلاقة بين الأم وأبنائها؛ إذ تواصل القيام بدور الأم من خلال مساءلة افتراضاتهم الأساسية، وصقل مبادئهم الجوهرية، وتوجيه أنشطتهم.
وتخدم الفلسفة باقي التخصصات لأنها توفر الأساس الذي انبثقت منه، ومن ثَمّ تُعَدّ علم العلوم وأمّ الفنون كلّها(14).
3- وظائف الفلسفة
بعد استعراض موضوعات الفلسفة ومجالاتها، تبرز الحاجة إلى فهم وظائفها في الحياة الإنسانية والمجتمعية، إذ لا تقف عند حدود التنظير، بل تمتد إلى التطبيق العملي والتأثير الأخلاقي والعقلي في سلوك الإنسان ومصيره.
كان سقراط يؤمن بأن الفلسفة ينبغي أن تحقق نتائج عملية من أجل الصالح العام للمجتمع، وسعى إلى تأسيس منظومة أخلاقية تستند إلى العقل البشري بدلًا من العقيدة الدينية. وأوضح أن الاختيار الإنساني تحركه الرغبة في السعادة، وأن أسمى مراتب الحكمة تتحقق من خلال معرفة المرء بنفسه. وكلما ازداد الإنسان معرفة، ازدادت قدرته على التفكير العقلاني واتخاذ القرارات التي تجلب السعادة الحقيقية. ورأى سقراط أن هذا المبدأ ينعكس على السياسة أيضًا، حيث اعتبر أن أفضل أشكال الحكم ليست الاستبداد ولا الديمقراطية، بل الحكم الذي يتولاه أفراد يمتلكون أعلى درجات القدرة والمعرفة والفضيلة، إلى جانب وعي كامل بذواتهم(15).
وتحرّرنا الفلسفة من ضيق الأفق في التفكير التقليدي، وتفتح عقولنا على إمكانيات جديدة. وغالبًا ما تُقدِّم الفلسفة علاجًا ضد الأحكام المسبقة، لا عن طريق حسم الأسئلة الكبرى، بل من خلال إظهار مدى صعوبة حسمها حقًا. ويمكن أن تقودنا إلى مساءلة آرائنا التقليدية التي نتمسّك بها بارتياح واطمئنان(16).
ويقول راسل: "إنّ الإنسان الذي لم يمسّه شيء من الفلسفة يمضي في حياته أسيرًا للأحكام المسبقة الموروثة من الحسّ المشترك، ومن المعتقدات السائدة في عصره أو أمّته، ومن القناعات التي ترسّخت في ذهنه دون مشاركةٍ واعية من عقله المتعمّد أو رضاه. … إنّ حياة الإنسان الغريزي منحصرة داخل دائرة اهتماماته الخاصة. … وفي مثل هذه الحياة يوجد شيء من الحمى والضيق، إذا ما قورنت بالحياة الفلسفية التي تتّسم بالهدوء والحرية. فالعالم الخاص بالاهتمامات الغريزية ضيّق، وهو قائم في وسط عالمٍ واسعٍ وقوي، لا بدّ أن يدمّر عاجلًا أو آجلًا عالمنا الخاص"(17).
إنّ القيمة الأساسية للفلسفة، بحسب راسل، تكمن في أنّها تفكّ قبضة الآراء الممسوكة دون تمحيص، وتفتح العقل على فضاءٍ محرِّر من الإمكانات الجديدة للاستكشاف. "إنّ قيمة الفلسفة تُلتمس، في الواقع، إلى حدٍّ كبير في لايقينها نفسه. … فالفلسفة، وإن كانت عاجزة عن أن تخبرنا بيقينٍ ما هو الجواب الصحيح عن الشكوك التي تثيرها، فإنّها قادرة على أن تقترح إمكانات عديدة توسّع آفاق تفكيرنا وتحرّره من طغيان العادة. وهكذا، وبينما تقلّل من شعورنا باليقين بماهية الأشياء، فإنها تزيد كثيرًا من معرفتنا بما يمكن أن تكون عليه؛ فهي تزيل شيئًا من ذاك الدوغمائية المتعجرفة التي يتسم بها أولئك الذين لم يرحلوا قطّ إلى منطقة الشكّ المحرِّر، كما أنّها تُبقي فينا حيًّا شعور الدهشة من خلال إظهار الأشياء المألوفة في وجهٍ غير مألوف"(18).
المحور الثانى: الفلسفة كطريق للفهم والمعرفة
1- الفلسفة أداة لتوسيع المدارك وتحرير الفكر.
يؤكد ويلفريد سيلارز (Wilfrid Sellars) أن هدف الفلسفة هو فهم نطاق واسع جدًا من الموضوعات—بل أوسع نطاق ممكن. أي أن الفلاسفة ملتزمون بمحاولة فهم كلّ شيء بقدر ما يمكن فهمه. ويختار الفيلسوف أن يدرس الأمور التي تُعدُّ غنية بالمعلومات ومثيرة للاهتمام—تلك التي تمنحنا فهمًا أعمق للعالم ولمكانتنا فيه.
ولكي يتمكن الفلاسفة من إصدار أحكام بشأن أيّ المجالات تستحق الدراسة أو تُثير الفضول، فإنهم بحاجة إلى تنمية مهارة خاصة. يصف سيلارز هذه المهارة الفلسفية بأنها نوعٌ من المعرفة العملية أو الدراية. فالمعرفة الفلسفية لا تعني مجرد معرفة الحقائق، بل تعني معرفة كيفية التنقل في عالم المفاهيم، والقدرة على فهم كيفية ارتباط المفاهيم ببعضها، وكيف تتكامل وتدعم وتتطلب بعضها بعضًا—بعبارة موجزة، تعني الفلسفة معرفة "كيف تتماسك الأمور معًا".(19)
وانطلاقًا من هذا التصور، يمكن القول إنّ ممارسة الفلسفة لا تنفصل عن تاريخها، إذ إنّ قراءة أعمال الفلاسفة السابقين تُسهم في تعميق فهمنا للقضايا الفلسفية المعاصرة. فالحوار مع الماضي يمنحنا أدوات فكرية لفهم الحاضر بشكل أفضل، ويضيء لنا دروبًا جديدة للتفكير والنقاش.(20) ومن هنا، تصبح الفلسفة نشاطًا متجددًا يربط بين الأجيال، ويفتح آفاقًا رحبة أمام العقل الإنساني لمساءلة ذاته والعالم من حوله.
كما أنّ ممارسة الفلسفة تزودنا بمجموعة من المهارات الأساسية التي تعزز التفكير النقدي والمستقل، وتدعم انخراطنا الواعي في المجتمع. يمكن تلخيص هذه المهارات على النحو التالي:
1- مهارات التفكير المنطقي: تتضمن تحليل الأفكار واختبارها، التدريب على استخدام المنطق والحجج بشكل فعّال، وطرح الأسئلة الجوهرية مثل: "هل هذا صحيح؟" و"كيف نعرف ذلك؟"
2- مهارات الاستقصاء: تشمل تنمية الفضول والملاحظة الدقيقة، البحث العميق عن المعاني، وطرح تساؤلات مثل: "ماذا يعني هذا؟" و"كيف يمكننا اكتشاف ذلك؟".
3- مهارات تكوين المفاهيم: تتجسد في القدرة على التعريف والتصنيف، رسم العلاقات بين الأجزاء والكل، استخدام أدوات مثل الخرائط الذهنية والمفاهيمية، مع طرح أسئلة من قبيل: "ما الذي نعرفه؟"، "ما الذي لا نعرفه؟" و"ما نوع المشكلة التي نُواجهها؟".
4- مهارات التواصل والترجمة: تشمل التعبير الواضح والدقيق عن الأفكار، فهم المعاني المختلفة، حل المشكلات واتخاذ القرارات الصائبة، وطرح أسئلة مثل: "كيف يمكننا تفسير ذلك؟" و"ما هي الاستنتاجات التي توصلنا إليها؟".(21)
5- مهارات التحليل المفاهيمى: وإذا كانت هذه المهارات تمثل الركائز الأساسية للتفكير الفلسفي، فإنّ مهارة التحليل المفاهيمي تظل في مقدمتها، إذ تعد من أهم التقنيات التي يستخدمها الفلاسفة لتوضيح وفهم العبارات الفلسفية — سواء أكانت مقدمات أم نتائج. ويُقصد بـالتحليل المفاهيمي تحليلُ المفاهيم أو التصورات أو الأفكار كما تَرِد في العبارات أو الجمل. ويُعد مصطلح "التحليل" جزءًا أساسيًا من مصطلحات ومناهج الفلسفة منذ نشأتها. وفي أبسط معانيه، يشير التحليل إلى عملية تفكيك الأفكار المعقّدة إلى أفكار أبسط منها. كما يتضمن التحليل مجموعة من الاستراتيجيات المتقاربة التي يعتمدها الفلاسفة في سعيهم لاكتشاف الحقيقة، وتهدف كل تقنية من هذه التقنيات إلى الوصول إلى تعريف أوضح وأكثر دقة وقابلية للتطبيق للمفاهيم المطروحة.(22)
وإذا كانت المهارات الفلسفية تمثل الأساس العملي لممارسة التفكير النقدي والتحليلي، فإنها لا تكتمل دون التوجهات العقلية التي تمنحها الحيوية والفاعلية. وإلى جانب المهارات، هناك توجهات عقلية أساسية يجب أن تُنمَّى وتُشجَّع، مثل الفضول والرغبة في الاستكشاف، والقابلية لإعادة تقييم الأفكار والمرونة في التفكير، إلى جانب تقدير أهمية الحوار والإصغاء إلى وجهات نظر الآخرين.
وتتجلى قيمة هذه التوجهات في قدرتها على توجيه المتعلم نحو البحث المستمر، والتمسك بالانفتاح الذهني، وتوسيع آفاق الفهم والنقاش. كما تساعد على طرح أسئلة تعمّق الوعي بالمواقف والأفكار، مثل: هل أتفق مع هذه الفكرة؟ ما هو رأيي فيها؟ وكيف يرى الآخرون هذا الأمر؟(23)
2- دور الفلسفة في بناء الوعي النقدي
يُعد التفكير النقدي مفهومًا يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفلسفة، حيث يمثل رحلة دائمة في حياة الإنسان تهدف إلى تعزيز الانضباط والمسؤولية الفكرية في الأنشطة البشرية. من خلال الاعتماد على العقل والتأمل العميق، يمكن لأي شخص اتخاذ قرارات مدروسة وذكية. وهنا قد يتساءل البعض: "ما معنى التفكير النقدي؟".(24)
يمكن العثور على العديد من التعريفات المتعلقة بمفهوم التفكير النقدي، حيث تختلف هذه التعريفات وفقًا للسياقات الفكرية والفلسفية التي تُستخدم فيها. ومن بين هذه التعريفات:
1- يُعد التفكير النقدي التزامًا واعيًا باستخدام العقل في تشكيل معتقداتنا وصياغتها بطريقة منطقية ومدروسة. كما يمكن اعتباره وسيلة لتوجيه الأفكار والأنشطة نحو تحقيق فهم عميق واتخاذ قرارات مستنيرة.
2- يُعرف التفكير النقدي بأنه عملية تفكير تتميز بالمهارة والوضوح والمعقولية. يعتمد هذا النوع من التفكير على مزيج من الملاحظة الدقيقة والمتشككة، والخبرة المتراكمة، والعقل المنطقي، والتحليل الدقيق، بالإضافة إلى الحكم الرشيد، وتحمل المسؤولية الفكرية، والعقلانية، والتأمل العميق في الأفكار والمواقف.(25)
3- النقد لا يقتصر على الاعتراف بأن الأمور ليست كما ينبغي، بل هو عملية تحليلية تهدف إلى تفكيك الافتراضات الراسخة وأنماط التفكير التقليدية التي غالبًا ما تُعتبر غير قابلة للتحدي. إنه يتطلب منا مواجهة الممارسات التي نقبلها دون تدقيق، وطرح تساؤلات عميقة تكشف أن ما نعتبره بديهيًا أو طبيعيًا قد لا يكون كذلك. لذا، فإن ممارسة النقد ليست مجرد تحليل أو تفكيك، بل هي أيضًا فن إعادة تقييم الأمور التي تبدو واضحة، وتحويل المسلمات السهلة إلى قضايا تتطلب تفكيرًا عميقًا.(26)
وانطلاقًا من هذا التصور، فإن الشخص الذي يُعرف بلقب المفكر الناقد يجب أن يتمتع بعدة صفات أساسية، منها: أن يكون باحثًا متمكنًا في مجاله، وأن يسترشد بالوضوح والدقة والملاءمة والعمق في تحليل القضايا. كما ينبغي له أن يسعى دائمًا نحو الحقيقة، وأن يكون منفتحًا لتبني وجهات نظر جديدة ومتكاملة تضيف إلى فهمه وتوسع آفاقه. ويمكن توضيح ذلك كما يلي:
1- الوضوح: يُعتبر عنصرًا أساسيًا في أي كتابة أو محادثة فعالة، حيث يلعب دورًا حيويًا في إيصال الأفكار بدقة وسلاسة. إنه الأداة التي تعيد تعريف مفهوم التحليل، مما يضمن فهمًا أعمق وتواصلًا أكثر فعالية بين الأطراف.
2- الحقيقة أو الدقة: تُعد أساسًا لا غنى عنه في مجالات العلم والفلسفة، حيث تُدعم بالمبررات المنطقية وتُوثق بالشواهد والأدلة الموثوقة. يجب علينا أن نعبر فقط عما ندركه بوضوح ونتحقق من دقته، لضمان النزاهة الفكرية وتجنب الالتباس أو التضليل.
3- الشعور بالقلق والبحث عن العمق: عند ممارسة التفكير، يجب أن نكون حريصين على عدم إيلاء أهمية للمشكلات غير ذات الصلة. فقط المفكر الناقد يمتلك القدرة على مراجعة مسار تفكيره لتمييز الجوانب ذات الصلة بالقضية المطروحة. العمق، باعتباره معيارًا أساسيًا، يلعب دورًا مهمًا في تطوير التفكير النقدي. فعند تحليل مشكلة ما، ينبغي علينا تجاوز السطحيات والغوص في الجوانب العميقة لفهم طبيعة المشكلة بشكل شامل ومدروس.(27)
4- احترام آراء الآخرين: في عمله الرائع "في ما يهم"، أشار ديريك بارفيت إلى أنه "بعد أن نستفيد من أفكار الفلاسفة العظماء، ينبغي علينا السعي لتحقيق مزيد من التقدم. من خلال الاستناد إلى إنجازات هؤلاء العمالقة، يمكننا أن نرى آفاقًا أوسع مما رأوه." ويؤكد بارفيت على أهمية تشجيع الآخرين، سواء كانوا زملاء أو جمهورًا، على استكشاف وجهات نظر بديلة. كما يبرز ضرورة احترام آراء الآخرين، حيث يسهم هذا النهج في تمكين المفكر النقدي من فهم الحجج المعاكسة لأفكاره، مما يعزز من قوة حججه وعمق تفكيره.(28)
تساهم جميع هذه المعايير في تشكيل المفكر الناقد كشخص يتحلى بالمسؤولية الفكرية، ويكون موجهًا نحو تحقيق الأهداف، وقادرًا على التفكير بعمق وفعالية. لذا، تعتمد الفلسفة على المنهجية التحليلية والمفاهيمية في التفكير النقدي، حيث تُعتبر هذه المنهجية أداة أساسية لفهم وتحليل الأفكار والمواقف بشكل منهجي ومنطقي.(29)
ولا شك أن التصحيح للأخطاء يُعتبر من الوظائف الأساسية والمهمة للنقد. فالنقد لا يقتصر فقط على تحليل الأفكار أو تقييمها، بل يتجاوز ذلك ليصبح وسيلة فعّالة لتصحيح الأخطاء وتوجيه الفكر نحو مزيد من الدقة والعمق.(30)
3- النقد كأداة للتصحيح والتطور الفلسفي
يُعدّ النقد أداة أساسية في تصحيح الأخطاء الفكرية والتوجهات المعرفية، إذ إنه لا يقتصر على تفكيك المقولات أو كشف الثغرات المنهجية، بل يمتد إلى إعادة بناء الأفكار على نحوٍ أكثر قوة ووضوحًا. ومن خلال هذه العملية، يصبح النقد وسيلة فاعلة في دفع التفكير الإنساني نحو النضج والعمق. ويمكن توضيح ذلك في ضوء العناصر التالية:
1- تشخيص الأخطاء بدقة: يساعد النقد في تحديد نقاط الضعف والقصور في الأفكار أو الممارسات، سواء كانت ناتجة عن سوء فهم، أو تعميم مفرط، أو افتراضات غير صحيحة.
2- إعادة بناء الأفكار: لا يقتصر النقد على تفكيك الأفكار الخاطئة، بل يسعى إلى إعادة صياغتها على أسس أكثر متانة وتماسكًا.
3- التعلّم من الأخطاء: يوفر النقد فرصة للتفكير في الأخطاء واستخدامها كوسيلة للنمو الفكري والإبداع.
4- تحفيز النقاش: من خلال معالجة الأخطاء، يفتح النقد المجال لحوارات مثمرة، مما يسهم في إثراء الفكر الجماعي وتعزيز الفهم العميق للقضايا المطروحة.
5- تعزيز الحقيقة: يساعد النقد في تصفية المعرفة من الشوائب، مما يقربنا من رؤية أوضح للحقيقة.
6- تحفيز التطور: من خلال مواجهة الأخطاء، يمكننا التقدّم نحو تحسين الأفكار وتطوير المناهج.
7- تعزيز الاستقلالية الفكرية: يعلمنا النقد كيفية التفكير بشكل مستقل وتجنّب القبول الأعمى لما يُعرض علينا.
يتضح من ذلك أن الفلسفة والنقد مرتبطان ارتباطًا وثيقًا، لدرجة يمكن القول معها إن الفلسفة ليست سوى شكلٍ من أشكال النقد المنهجي. ولكن يبقى السؤال الجوهري: هل الفلسفة هي جوهر النقد، أم أن النقد هو مجرد أداة من أدواتها؟. لفهم هذه العلاقة يمكن تتبّع التطوّر التاريخي للفكر الفلسفي:
1- منذ سقراط، كانت الفلسفة تمارس النقد الذاتي للفكر عبر التساؤل والتفنيد، إذ كان يدفع محاوريه إلى الاعتراف بجهلهم كخطوة أولى نحو البحث عن الحقيقة.
2- أما كانط، فقد جعل من النقد أساسًا للفلسفة، معتبرًا أن مهمتها هي تحليل حدود العقل وإمكاناته، كما يظهر في مؤلفيه نقد العقل الخالص ونقد العقل العملي.
3- هيجل بدوره رأى أن الفلسفة بطبيعتها جدلية نقدية تتجاوز الفكر الأحادي عبر التناقضات والتطور الديالكتيكي.
4- ماركس استخدم النقد أداة لتحليل البنى الاجتماعية وكشف الأيديولوجيات التي تخفي علاقات السلطة.
5- مدرسة فرانكفورت (مثل أدورنو وهوركهايمر) أكدت أن الفلسفة يجب أن تكون نقدًا للمجتمع الحديث، يكشف كيف يتم التلاعب بالوعي عبر الثقافة والإعلام.
6- فوكوه استخدم الفلسفة لتحليل ونقد آليات السلطة والمعرفة في المجتمعات الحديثة.
7- الفلسفة التحليلية، خاصة عند فيتجنشتين، ركزت على نقد استخدام اللغة، معتبرة أن كثيرًا من المشكلات الفلسفية ترجع إلى سوء فهم لغوي.
8- أما دريدا، فقد مارس نقدًا تفكيكيًا للنصوص الفلسفية نفسها، مؤكدًا أن المعاني ليست ثابتة بل تتشكل عبر الاختلاف والتأجيل.
من هنا، يتضح أن النقد هو عنصر جوهري في الفلسفة، لكنه ليس كلّها. فالفلسفة تبدأ بالنقد، لكنها لا تتوقف عنده، بل تتجاوزه إلى التأمل والبناء وابتكار المفاهيم والسعي نحو الحكمة. فإذا اقتصر الأمر على النقد دون تقديم بدائل، فإنها تتحوّل إلى عدمية فكرية، وهو ما حرص كبار الفلاسفة عبر العصور على تجنّبه.
المحور الثالث: الفلسفة كمولدة للطموح والإخلاص
بعد أن تبيّن أن الفلسفة تمثل ممارسة نقدية مستمرة، تتجاوز حدود التصحيح إلى إعادة بناء الفكر وصياغة المفاهيم، يمكن القول إنها لا تقتصر على تحليل الأخطاء أو مواجهة الانحرافات الفكرية، بل تمتد لتكون قوة إيجابية تُلهم الإنسان نحو التقدّم الأخلاقي والروحي. فالفلسفة، بطبيعتها التأملية والعقلانية، لا تُعنى فقط بتقويم الفكر، بل تُغذّي الإرادة وتُنمّي في الإنسان نزعةً نحو الكمال والسعي لتحقيق الأفضل. ومن هنا يظهر وجهها الإنساني الخلّاق الذي يجعلها مولدة للطموح ومربية على الإخلاص
الطموح هو القوة الدافعة التي تحفّز الإنسان على تجاوز حدوده، والسير بثقة نحو تحقيق الأفضل في حياته. إنه النور الذي يضيء دروب الفرد، مانحًا إياه رؤية لمستقبل أكثر إشراقًا واتساعًا. وامتلاك الطموح يعني التحلّي بعظمة الفكر ونبل الروح، والرغبة في تحقيق أهداف تستحق الجهد والسعي. فالشخص الطموح لا يلتفت إلى الماضي إلا للتعلّم منه، بل يوجّه بصره دائمًا نحو الغايات الأسمى التي تُرضي الله وتخدم الإنسان والمجتمع. الطموح بهذا المعنى هو نزعة فلسفية في جوهرها، لأنه يقوم على الإيمان بإمكان التغيير والتحسّن الدائم، وهو ما تشجّع عليه الفلسفة من خلال دعوتها إلى التفكير المستمر في الغاية من الوجود والسعي نحو الحكمة.(31)
أما الإخلاص، فهو الوجه الآخر للطموح؛ إنه الاستقرار الداخلي الذي يجعل الإنسان صادقًا مع نفسه ومع مبادئه. الإخلاص لا ينشأ إلا عن توازن بين العقل والقلب، وعن قناعة راسخة بالحق الذي يسعى المرء لتحقيقه. فالفرد لا يكون مخلصًا حقًّا لقضية أو هدف ما إلا إذا ثبت قلبه وعقله على هذا الإيمان دون أن يتزعزع أمام الشكوك أو المغريات. وعندما يتبدّل الموقف أو يتغيّر السلوك تجاه هذه القضية، فإن الإخلاص يكون قد فُقد أو تزعزع.
الإخلاص هو إيمان مطلق يغلب على كل مظاهر التردد والريبة، إذ يدفع الإنسان إلى العمل في صمتٍ وإصرار، دون انتظار مقابلٍ أو اعترافٍ، بل بدافع من القناعة الداخلية بضرورة الوفاء بالواجب وأداء الأمانة. إنه التزام روحي وأخلاقي يجعل صاحبه وفيًّا لعقيدته، مخلصًا لوعده، ومثابرًا على أداء رسالته بأفضل ما يستطيع. ومع ذلك، فإن العثور على أفراد يتحلّون بهذا القدر من الثبات والصدق أصبح أمرًا نادرًا في عصرنا الحاضر.(32)
بهذا المعنى، تُسهم الفلسفة في ترسيخ الطموح باعتباره نزعة نحو الكمال، وفي غرس الإخلاص باعتباره فضيلة تضمن صدق التوجّه نحو الغايات العليا. فهي لا تكتفي بتعليم الإنسان كيف يفكّر، بل تُعلّمه أيضًا كيف يعيش بفكرٍ سامٍ وإرادة مخلصة.
بعد أن أبرزنا كيف تُسهم الفلسفة في تنمية الطموح والإخلاص باعتبارهما فضيلتين ترتبطان بجوهر الإرادة الإنسانية وسعيها نحو الكمال، يمكن القول إن هذين البُعدين يشكّلان الأساس الداخلي الذي يهيئ الإنسان لممارسة حريته الفكرية على نحو مسؤول وواعٍ. فالفكر المخلص والطموح لا يمكن أن يزدهرا إلا في مناخٍ من الحرية يسمح للعقل بأن يتأمل، وينقد، ويبدع دون قيد أو خوف. ومن هنا تنتقل الفلسفة من كونها مُوجِّهةً للأخلاق الفردية إلى كونها ركيزة أساسية في بناء الحرية الفكرية، التي تُعد بدورها الشرط الأسمى لكل تفكير فلسفي.
علاقة الفلسفة بتشكيل الحرية الفكرية
في العصر الرقمي الراهن، يبرز توتّر بين ما تنص عليه القوانين الدولية من حقوقٍ للإنسان، وبين كيفية تجسيدها في الأنظمة الدستورية الوطنية، ويتجلّى ذلك خصوصًا في النقاش حول الخصوصية وحرية التعبير. وقد أسهم انتشار التكنولوجيا وهيمنة المنصّات الكبرى على المجال العام في تعزيز هذه الثنائية. غير أنّ الآثار الحقوقية للتقنيات الحديثة أعمق من هذا الجدل، إذ تقتضي مواجهة المخاطر المستقبلية التركيز على الحقوق المهمَّشة، وفي مقدّمتها ما سماه الفقيه يان كريستوف بوبلتس Jan Christoph Bublitz (2014) «الحق المنسي»، أي حق الإنسان في حرية التفكير. ومع صعود الذكاء الاصطناعي، يصبح ضمان هذا الحق ضرورةً أساسية، فهو من القواعد القانونية الآمرة التي لا يجوز المساس بها تحت أي ظرف، شأنه شأن حظر التعذيب أو العبودية، لأنّ أيّ تدخل في حرية الفكر يُعدّ انتهاكًا أخلاقيًا مطلق الرفض.(33)
ويقوم هذا الحق على ثلاثة مرتكزات أساسية:
1- الحق في الحفاظ على أفكارنا خاصّة.
2- الحق في أن تبقى أفكارنا بمنأى عن التلاعب.
3- الحق في ألّا نتعرّض للعقاب بسبب أفكارنا وحدها.(34)
الحق في حرية التفكير حقّ مطلق، غير أنّ ذلك لا يعني أنّ أيّ تدخّل في أفكارنا أو أيّ تأثير عليها يُعدّ انتهاكًا لهذا الحق. فالواقع أنّ حرية التفكير والرأي الحقيقية تقوم على حرية التعبير وحرية الحصول على المعلومات، بما يتيح تطوّر الأفكار ويعزّز فاعلية الإرادة. غير أنّ تحديد النطاق الدقيق لهذا الحق عمليًا أمر معقّد، إذ إنّ مسار التاريخ البشري مشوب باستخدام الدعاية، وحملات التأثير، والإعلانات، والمعلومات المضلّلة والمغلوطة، بل والأساليب العلمية التي تسعى إلى "اختراق عقولنا" والسيطرة على أفكارنا. وتثير المرتكزات الثلاثة لهذا الحق أسئلة جوهرية تساعد على تحديد ما قد يُشكّل انتهاكًا لحرية التفكير وما لا يُشكّله، ومن أبرزها:
1- أين يقع الحدّ الفاصل بين أفكارنا الداخلية وبين التعبير عنها؟
2- ما هي الأفكار أو المعلومات عن أنفسنا التي نشاركها طوعًا، وما الذي نفصح عنه قسرًا عبر استنتاجات الآخرين؟
3- ما معنى "الموافقة" في سياق استخدام التطبيقات التكنولوجية أو وظائفها حين تتقاطع مع العقل البشري؟
4- كيف تُستخدم الاستنتاجات المتعلّقة بحياتنا الباطنية ضدّنا؟
5- وأخيرًا، ما هو الحدّ الفاصل بين التأثير المشروع والتلاعب غير المشروع؟(35)
على مدى السنوات العشر الماضية، أخذ الاعتراف المتنامي يتزايد بأن الحق في حرية الفكر يشكّل عنصرًا أساسيًا في مستقبل علاقتنا بالتكنولوجيا. ففي عام 2012، ألقى إيبن موجلن Eben Moglen خطابًا في أكبر مهرجان أوروبي للمجتمع الرقمي حول الترابط بين حرية الفكر، وحرية الإعلام، وحرية التكنولوجيا. وبعد عامين، نشر بوبليتز Bublitz مقالًا بعنوان: «مرافعة واقتراح لنهضة حق أساسي منسي»، سلّط فيه الضوء على الأهمية البالغة لحرية الفكر في سياق التقنيات العصبية الناشئة. أما سوزي أليجري Susie Alegre) ) فقد كتبت لأول مرة عن الكيفية التي ينخرط بها التوجيه السلوكي السياسي الدقيق مع حقنا في حرية الفكر بطريقة تهدد أسس الديمقراطية. ومنذ ذلك الحين، انعكس هذا الاعتراف الرسمي بأهمية الحق في وثائق أممية، مثل: التعليق العام للجنة حقوق الطفل بشأن حقوق الطفل في البيئة الرقمية (لجنة حقوق الطفل بالأمم المتحدة، 2021)؛ وكذلك في أول تقرير موضوعي لمقرر خاص بالأمم المتحدة خُصص لتحليل الحق في حرية الفكر في السياق المعاصر. كما ركّز المقررون الخاصون بالأمم المتحدة المعنيون بحرية الرأي والتعبير، ومن بينهم ديفيد كاي David Kaye وخليفته إيرين خان Irene Khan، بشكل متزايد على حق الرأي في المجال الرقمي.(36)
تعود فكرة أن التفكير محصَّن بطبيعته ضد السيطرة الخارجية إلى جذورٍ قديمة، تجلّت في القاعدة الرومانية: «لا عقوبة على مجرد الفكر». وقد عبّرت عنها أيضًا الثقافة الشعبية، كما في الأغنية الألمانية التي تقول: «قد يُسجَن الجسد، لكن الأفكار تبقى حرّة»، مؤكدّة أن الفكر لا يُطال ولا يُقيد. فمهما أمكن معرفة بعض ما يدور في عقولنا، يبقى التفكير جوهرًا عصيًا على الإخضاع. وهذا ما أشار إليه جون لوك بقوله إن «الفهم البشري لا يُكرَه على الإيمان بقوة خارجية». والأمر نفسه ينسحب على العواطف، إذ لا يمكن إجبار الإنسان على حبّ ما يكره أو الاستمتاع بما ينفر منه، لأن الحرية الداخلية تبقى من صميم الطبيعة الإنسانية.(37)
غير أنّ هذا التحصين المزعوم للإدراك والعاطفة لا يُعفينا من الحاجة إلى فهم ما الذي يمكن أن يشمله مفهوم «حرية التفكير»، وما إذا كان القانون ينبغي أن يحميه وكيف. فحتى لو كان القاضي ميرفي Murphy محقًّا حين قال إنّ «الحكومة عاجزة عن السيطرة على الآليات الباطنية للعقل»، فإنّ عمل العقل ليس دائمًا «باطنيًّا». وقد أقرّ القاضي نفسه بأنّ الفكر يمكن أن يُعاقَب عليه من قِبل الدولة عندما يُعبَّر عنه بالكلام أو يتجلّى في سلوك آخر. وعلاوة على ذلك، يقدّم لنا التاريخ أمثلة كثيرة على حكّام وحكومات قاموا بتغيير الأفكار والمعتقدات بالقوّة أو بالترغيب، بدءًا من محاكم التفتيش وصولًا إلى معسكرات «إصلاح الفكر». إنّ القسر يُمارَس من الخارج، عبر الحبس أو الإقصاء الاجتماعي، لكنّه يستهدف في النهاية التأثير على الفكر، بل وقد ينجح أحيانًا في ذلك.(38)
تخذ محاولات التأثير في الفكر الإنساني أشكالًا متجددة، وقد حذّر عدد من المفكرين من أن المجتمعات الحديثة تمنح السلطات ـ الحكومية وغيرها ـ نفوذًا متزايدًا يهدّد التفكير النقدي والاستقلال العقلي. وفي هذا السياق، نبّه برتراند رَسِل في محاضرته أمام جماعة التفكير الحر بلندن إلى أن حرية التفكير تواجه «مخاطر جديدة» تتمثل في التعليم الموجّه، والدعاية الرسمية، والضغوط الاقتصادية التي تفرض على الأفراد آراء مقبولة اجتماعيًا. ودعا رَسِل إلى تنمية «إرادة الشك» باعتبارها السلاح الأهم في مواجهة هذه الأخطار، مذكّرًا بأنّ كل معتقدٍ بشري يظلّ ناقصًا ومحاطًا بشيء من الخطأ والالتباس.(39)
علاوة على ذلك، ففي حين كان برتراند رَسِل قد أعرب عام 1922 عن قلقه من أنّ التحوّلات في المجتمع والسياسة والتعليم ستُفضي إلى أشكال جديدة وأكثر قوة من التلاعب بالأفكار – وربما أيضًا إلى أساليب مبتكرة لضمان الاستقلال الذهني – فإنّ لنا سببًا وجيهًا لنسأل ما إذا كانت التغيّرات التكنولوجية المذهلة في عصرنا الراهن ستعيد تشكيل ليس فقط طبيعة التهديدات التي تواجه حرية التفكير، بل أيضًا طرائق حمايتها، ومدى إمكانية إرسائها حيث تكون غائبة، وربما كذلك الكيفية التي ينبغي للمحاكم والباحثين القانونيين والفلاسفة وغيرهم أن يعرّفوا بها مفهوم «حرية التفكير». وهذا التحوّل العلمي والتقني في كيفية فهمنا للتفكير، وما يعنيه امتلاك حرية التفكير، هو ما سيتناوله هذا المجلّد، وما ستستكشفه الأبحاث اللاحقة في سلسلتنا. فهذا التحوّل يطرح تحدّيات جديدة أمام الافتراض القائل بأنّ أفكارنا غير المعبَّر عنها لا تحتاج إلى حماية قانونية، لأنّ أقوى مسؤول، مهما بلغ سلطانه، يظلّ «عاجزًا عن السيطرة على الآليات الباطنية للعقل».(40)
إن مفهوم الحرية يعد أحد أهم نقاط الالتقاء بين الفروع التقليدية للفلسفة النظرية والفلسفة العملية، فالعلاقة بين الحرية والفلسفة عميقة. فالتفكير في الحرية يكشف أن شروط تحققها تشمل ليس فقط بعض التطورات الاجتماعية والسياسية، بل أيضًا ممارسة الفلسفة ذاتها. وبعبارة أخرى، الفلسفة محررة بشكل مباشر وغير مباشر: فهي تسهم بشكل غير مباشر في الحرية من خلال صياغتها للشروط الاجتماعية والسياسية لتحقيقها، كما تسهم مباشرة في الحرية لأن الحرية ليست فقط موضوعًا يفكر فيه الفلاسفة، بل هي أيضًا شيء يُنتج من خلال التفكير الفلسفي.(41)
الحرية هي قدرة الإنسان على التصرف دون قيود، وفق شهواته، ومصالحه، وأهدافه، مع قدرته على تقرير الذات في اختياره للعمل دون الإضرار بالآخرين. يُعد مفهوم الحرية مصطلحًا واسع الاستخدام في مجالات مختلفة. فقد اكتسبت الحرية كفكرة معنى واسعًا في الأدبيات الفلسفية، واللغة الاجتماعية واليومية. وقد تناول هذا المصطلح فلاسفة متنوعون.(42)
شغلت حرية الفكر موقعًا محوريًا في التاريخ الغربي منذ محاكمة سقراط ومعاقبته بسبب آرائه، مرورًا بقيود الفكر التي فرضتها العقائد الدينية والممارسات التفتيشية في العصور الوسطى. وفي العصور الحديثة، تناول مفكرون مثل جون لوك وبيير بايل وبنجامين كونستان وجيفرسون وجون ستيوارت مل هذا الحق مؤكدين أنّ الفكر بطبيعته لا يخضع لسلطة الدولة، لأنها لا تملك الوسائل لقهره حتى إن أرادت. وقد واجهت هذه الرؤية اعتراضات من بعض الفلاسفة، لكنها ظلت حجر الزاوية في الدفاع عن حرية الضمير. ومع التطور التقني المعاصر، خصوصًا في تقنيات مسح الدماغ والإجراءات القانونية التي تمسّ خصوصية الوعي، تجددت الإشكالية حول حدود هذه الحرية في مواجهة أدوات المراقبة الحديثة.(43)
والحقيقة أنه لا تكاد توجد سوى قلة من المفاهيم السياسية والفلسفية تضاهي عظمة حرية التفكير. فجذورها تمتد على الأقل إلى العصر الروماني، وهي تُعَدُّ ربما الشعار الأبرز لعصر التنوير؛ ذلك الشعار الذي صاغه كانط بعبارته الشهيرة "لتكن لديك الشجاعة في أن تفكر بنفسك" بدلًا من التسليم الأعمى للسلطات. وبارتباطها الوثيق بحرية التعبير، فإن حرية التفكير تمهّد السبيل للنظم القانونية الليبرالية وللمنهج العلمي، كما تمهّد للديمقراطية ولعملية نزع القداسة عن العالم. وبهذا المعنى، فقد غيّرت حرية التفكير على نحو عميق شرط الإنسان. ومن هنا يمكن القول إن حرية التفكير تشكّل الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات الحديثة.(44)
مقالة كانط بعنوان "الإجابة على سؤال: ما هو التنوير؟"، التي نُشرت في مجلة برلين الشهرية عام 1784، تقدّم صياغة نموذجية وكلاسيكية الآن لمشكلة وأهمية "الحرية الفكرية". العائق أمام الحرية الفكرية هو "القصور الذاتي المفروض على النفس تقريبًا". هذه الحالة المتمثلة في "العيش تحت سنّ الرشد (الفكري)"، أي البقاء في حالة تبعية دائمة، تعود إلى "نقص الشجاعة" في التفكير لأنفسنا، وهو نقص يغذّيه الخوف من القيام بذلك ويعزّزه أولئك الذين يعملون كـ"موجّهينا". فالحرية الفكرية هي "الاستخدام العام الحر للعقل في كل الأوقات"، وهو ما وحده "يمكن أن يجلب التنوير للبشرية".(45)
2- الفلسفة كمصدر لتحفيز الذات نحو الكمال.
ترى الليدي آيريس مردوخ (1919–1999) أن الأخلاق مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتحسين الذات والسعي نحو الكمال، وأنّ دراسة الأدب الخيالي تؤدي دورًا مهمًا في مسعانا المستمر والدائم نحو التطور الأخلاقي.(46)
فمن منظورها، لا يُعدّ الفعل الأخلاقي مجرد تطبيق لمبدأ نظري أو استجابة لواجب خارجي، بل هو حركة داخلية للوعي تتّجه نحو "الرؤية الصافية" للخير. وبهذا تصبح الفلسفة والأدب معًا وسيلتين لتطهير النفس من الأوهام، وصقل الإرادة في طريقها نحو السمو والكمال.
وبوصفها ثمرة مباشرة لتأملات الحضارة وإدراكها، والتي تبلورت عبر قرون طويلة من التفكير في مختلف أبعاد الكينونة الإنسانية ومظاهر الوجود، سعت الفلسفة المسيحية المتجسّدة في الحكمة الكتابية إلى فكّ شيفرة التعدّد الكامن في ظاهرة التحوّل الأخلاقي الذاتي، تلك الظاهرة التي كُتبت في صميم الطبيعة البشرية وقدَرها. وفي هذا السياق، فإن السعي نحو المطلق، من خلال التأمل الديني في الأفكار والمفاهيم والرموز، يُجسّد توجّهًا استباقيًا نحو الفهم، إذ يحاول الإنسان عبره استكشاف معنى اكتماله الأخلاقي وإدراك أبعاده المتشابكة التي تجمع بين الروحي والعقلي والوجودي.(47)
إنّ التوجيهات الأخلاقية الواردة في القصص الكتابية، التي تتناول الترابط بين الخطيئة والعار والندم والغفران بوصفها مبادئ توجيهية لأفعال الإنسان اليومية، تُسهم على نحو حاسم في صياغة غايته الجوهرية المتمثلة في الكمال الأخلاقي. إذ تتداخل هذه الغاية مع الأسئلة الأصلية للأخلاق حول العلاقة بين الكينونة والحاجة، والوعي الأخلاقي والضمير، والحرية والاختيار، والفضائل والفعل والحكم الأخلاقي. فالنصّ الكتابيّ يتضمّن استبصارات ثمينة حول كمال الإنسان الأخلاقي المهيأ له نوعيًّا، وهو ما تسعى الأخلاق الفلسفية إلى النظر فيه وتفسيره من خلال إقامة صلات بين هذا الكمال وبين الخصائص المحورية في الطبيعة الإنسانية.(48)
ويمكن للمرء أن يجد تعدّدًا في مفاهيم الكمال عند كانط. ففي مقاله ما قبل النقدي عن التفاؤل، يميّز كانط بين نوعين من الكمال:
الأول هو الكمال المطلق، بوصفه درجة من درجات الواقع من دون علاقة بأي شيء آخر؛ والثاني هو الكمال النسبي، وهو الكمال في علاقة بقاعدة أو مبدأ محدّد. وهنا ينصبّ اهتمامه على فكرة «أفضل العوالم الممكنة». وفي نقد العقل الخالص، يتحدث كانط عن الكمال بوصفه الوحدة الغائية الكاملة للطبيعة. أما في أساس ميتافيزيقا الأخلاق، فيشير إلى ما يسميه «المفهوم الأنطولوجي للكمال»، ويخلص إلى أنه غير صالح كأساس للأخلاق. وفي نقد العقل العملي، يميّز بين الكمال النظري والكمال العملي، أي الملاءمة لتحقيق الغايات. ويُفهم الكمال هنا باعتباره تنميةً للمواهب، غير أنّ كانط يرى أنّ هذا المفهوم غير كافٍ لتأسيس الأخلاق. أما في نقد ملكة الحكم، فيقارن بين الحكم الذوقي وفكرة الكمال، حيث يرتبط الثاني بالغايات دون الأول.(49)
ويقدّم كانط تمييزًا آخر بين نوعين من الكمال:الأول هو الكمال النوعي، الذي تُحدّد الغاية ما ينبغي أن يكون عليه الشيء؛ والثاني هو الكمال الكمي، المتعلق بماهية الشيء في ذاته. وفي الدين في حدود العقل وحده، يتحدث كانط عن الكمال الطبيعي ويفسّره على أنه المهارة في الفنون والعلوم والذوق ورشاقة الجسد، لكنه يرى أن هذا النوع من الكمال لا يمكن أن يسهم في تأسيس الأخلاق. كما نجد في الأنثروبولوجيا من منظور براغماتي فكرة شبه أفلاطونية عن الكمال الداخلي تتمثل في سيطرة الفهم على الحساسية. أما في المنطق، فيتحدث كانط عن كمال المعرفة مميّزًا بين الكمال المنطقي والجمالي المرتبط بالجمال.(50)
وعلى وجه العموم، هناك تلاقي بين مشروعي التنوير والكمال عند كانط، فكلاهما يشترك في تنمية قدرات الإنسان النظرية والعملية. وفوق ذلك، فإنّ الكرامة الإنسانية تُذكَر كسبب جامع للحالتين معًا. فحديث كانط عن التنوير وحديثه عن الكمال يشيران إلى مشروع فلسفي واحد يسعى إلى تحقيق الارتقاء العقلي والأخلاقي للإنسان، ولا يمكن فهم أيٍّ منهما بمعزل عن الآخر. فالتنوير والكمال ليسا متطابقين، ولكنهما مترابطان ترابطًا وثيقًا، إذ لا وجود لأحدهما دون الآخر. وهذا هو مجمل موقف كانط، كما عرضه في ميتافيزيقا الأخلاق.(51)
المحور الرابع: أزمة العالم المعاصر وحاجته إلى الفلسفة
في عام 399 ق.م، اتُّهم سقراط من قبل ثلاثة مواطنين أثينيين بإدخال أفكار دينية جديدة وإفساد الشباب، ومخالفته لعبادة آلهة المدينة، وطُلبت له عقوبة الإعدام. واجه سقراط التهم بثبات نادر، متمسكًا بمبادئه الفلسفية رغم منحه فرصة للتراجع. وفي محاكمة أفلاطونية شهيرة، أعلن أنه لن يتوقف عن ممارسة الفلسفة أو البحث عن الحقيقة ما دام حيًّا، مؤكّدًا أن الموت لا يغيّر من قناعاته. وهكذا اختار طريق الشجاعة الفكرية حتى النهاية، فكان موته لحظةً فارقة في تاريخ الفلسفة ورمزًا خالدًا لحرية الفكر والضمي.(52)
صرّح أفلاطون بأن الفلسفة هي عطية من الآلهة وُهِبت للبشر. وقد يعكس هذا قدرة الإنسان على التفكّر في العالم وكذلك في حياته ضمنه ، وفي ضوء هذا، قد يكون من المفيد تهديد القارئ بهذا التحذير: إذا لم تأخذ الفلسفة بجدية، فسوف تتحوّل إلى يقطينة!.(53)
لا شك أن دراسة الفلسفة تلهم الفرد لتطبيق رؤاها في حياته اليومية، من خلال ممارسة التفكير النقدي والتأمل في المعتقدات والدوافع والأبعاد الأخلاقية للأفعال. كما تدعو إلى التواضع الفكري والانفتاح الذهني، أي تقبّل الآراء المخالفة والاستعداد لتغيير المواقف عند ظهور أدلة جديدة. وبذلك يسهم التفكير الفلسفي في تنمية النضج العقلي والاتزان، والابتعاد عن التعصب والجمود الفكري.(54)
يمكنك تعزيز حضور الفلسفة في حياتك من خلال المشاركة في حوارات فلسفية تتناول قضايا أخلاقية أو وجودية، مما يوسّع أفقك الفكري ويصقل رؤيتك. كما يساعدك تخصيص وقت لقراءة النصوص الفلسفية، سواء الكلاسيكية أو الحديثة، على تعميق فهمك للمفاهيم الفكرية وتنمية الحس النقدي والتأملي تجاه العالم. وبممارسة التفكير الفلسفي والتحلي بالتواضع الذهني والانفتاح على النقاش، تغدو الفلسفة وسيلة لتقوية قدراتك العقلية وتوسيع مداركك.(55)
في عالمنا اليوم، نجد أنفسنا محاطين ببيئات أشد خطورة من تلك التي واجهتها أمم أخرى عبر التاريخ. نحن نعيش في ظل حضارة بلغت أعلى مستويات التطور، لكنها تبدو وكأنها تسابق ذاتها نحو الدمار. حضارة تفتقر إلى أسس روحانية راسخة، وتنغمس في الشر والخداع، مبتعدة عن النزاهة والأخلاق، خالية من القيم الدينية، ومثقلة بالفساد.(56)
العالم ما يزال بعيدًا عن الكمال، فهو يعيش في حالة من الفوضى والارتباك. وهذه الفوضى لن تتوقف عند هذا الحد، بل ستتبعها اضطرابات أخرى قد تؤدي إلى زعزعة أسسه بشكل أكبر. لا تظنوا أن المؤتمرات التي انعقدت أو تلك التي ستُعقد لاحقًا قادرة على تهدئة حالة التوتر والاستياء المنتشرة في العالم، أو معالجة الشعور العام بعدم الرضا الذي يعاني منه البشر.(57)
طالما أن الظلم مستمر، والقوي يستغل الضعيف، والدول الكبرى تتآمر فيما بينها لقمع الأضعف، مع إبقاء الأكثر بؤسًا في دائرة الاستعباد ونهب الموارد واستغلالهم، فإن عوامل الحرب ستظل تتصاعد بفعل الانتقام والكراهية والغضب. المستقبل القريب قد يحمل لنا أشد الصراعات دموية على الإطلاق، حيث إن الحضارة الحديثة تسير بخطى ثابتة نحو انهيارها.(58)
في الوقت الحاضر، يتردد كثيرًا الحديث حول تحقيق السلام العالمي. بالرغم من أن العديد من قادة العالم قد أبدوا التزامهم بخطط تهدف إلى إحلال السلام، إلا أن المؤتمرات المختلفة، سواء كانت سياسية أو صناعية، التي انعقدت لتناول هذه القضية لم تنجح حتى الآن في وضع أساس قوي لسلام حقيقي ودائم. من الواضح أن السلام العالمي لا يمكن الوصول إليه عبر الاجتماعات السياسية أو الصناعية فقط. إذا كنا نطمح إلى تحقيق سلام شامل، فإن ذلك يتطلب تنظيم مؤتمر عالمي يجمع بين مختلف الأعراق والجنسيات للتفاهم والتعاون المشترك.(59)
1- التحديات الأخلاقية والإنسانية في زمن التقنية
لقد شكّلت التطورات التكنولوجية المتواصلة في العصر الرقمي حياتنا بطرق لا حصر لها، محوّلةً أساليب الاتصال والتسوق وفهمنا للعالم من حولنا. وبينما مهّدت هذه الابتكارات لعصر من الاتصال غير المسبوق والتواصل الوثيق، فإنها في الوقت نفسه كشفت عن متاهة من المعضلات الأخلاقية، مما يتطلب فحصًا دقيقًا للتداعيات الاجتماعية لقراراتنا الرقمية. فالمشهد الأخلاقي للعصر الرقمي يتعلّق بتحليل التحديات المتعددة الأبعاد التي تفرضها التكنولوجيا، والسعي إلى تقديم إطار عمل موحد للابتكار المسؤول.
في صلب هذه القضايا نجد التكنولوجيا التي قد تزيد من عدم المساواة الاجتماعية القائمة؛ فالانحياز الخوارزمي، وهو قضية مستمرة في العالم الرقمي، يحمل في طياته التمييز والتحامل ويعزز ديناميات القوة الاجتماعية، مما يحدّ من الفرص المتاحة للفئات المهمّشة. كما أثارت التقنيات الرقمية الكبرى مخاوف متزايدة بشأن الخصوصية وأمن البيانات، حيث أدى جمع وتحليل كميات هائلة من المعلومات الشخصية إلى خلق فرص غير مسبوقة للمراقبة والتلاعب، مما يُلقي بظلاله على حرية الفرد والموافقة المستنيرة والتحكم بالمعلومات الشخصية.(60)
وتنبع الأخلاقيات من كونها مدوّنة سلوك تُحدَّد من قبل الجماعة التي ينتمي إليها الفرد. وهي تتغير مع مرور الزمن تبعًا لاحتياجات المجتمع وقيمه المتطورة، إذ تمكّن الأفراد من العمل بتناغم من أجل تحقيق منافع متبادلة كالأمن والعدالة والوصول إلى الموارد. أما المبادئ الأخلاقية الشخصية فهي المعتقدات الجوهرية التي يستند إليها الإنسان في قراراته، مثل احترام الآخرين والصدق والأمانة، وهي التي تشكّل البوصلة الداخلية لتوجيه أفعاله.(61)
وفي الحياة اليومية، يُختبر هذا البعد الأخلاقي في قرارات بسيطة لكنها حاسمة:هل يجوز الكذب لحماية مشاعر شخص ما؟ هل يجب التدخل لمساعدة زميل يعاني من مشكلة اعتماد كيميائي؟ هل يُسمح بالمبالغة في السيرة الذاتية؟ وهل يمكن التهاون في العمل لتلبية موعدٍ ضيق؟ هذه الأسئلة الأخلاقية الصغيرة تُشكّل في مجموعها البنية الأخلاقية للفرد والمجتمع معًا.(62)
وقد نبّهت تحليلات حديثة إلى أن التقنيات محمّلة بالقيم والتحيّزات التي يعكسها مطوّروها، سواء كان ذلك مقصودًا أو غير مقصود. فحين يُدرَّب الذكاء الاصطناعي على بيانات منحازة، تنتقل تلك الانحيازات إلى مخرجاته. ومن ثم، تقع على عاتق صانعي القرار والمشرّعين مسؤولية تحديد التحيّزات المضمّنة في التكنولوجيا، والتفريق بين ما يتعارض مع القيم الإنسانية وما يمكن تقبّله، إلى جانب ضرورة وضع معايير أخلاقية دنيا لتطوير التكنولوجيا وتطبيقاتها.(63)
إن أخلاقيات التكنولوجيا تمثل تطبيق التفكير الأخلاقي على القضايا العملية التي تثيرها التطورات التقنية. ومع التوسع الهائل في قدراتنا التقنية، لم تعد الأفعال مقيدة بضعف الإنسان بل بحكمته، أي بأخلاقياته. وقد أفرزت هذه التطورات تساؤلات جديدة لم تكن مطروحة من قبل، مثل معيار الوفاة الدماغية الذي لم يكن مطروحًا قبل تطور الأجهزة الطبية الحديثة، أو مشكلات التواصل الاجتماعي التي تتعلق بالأخبار الكاذبة، والخصوصية الرقمية، والمساءلة القانونية في الفضاء الافتراضي.(64)
ولذلك برزت في السنوات الأخيرة تفسيرات فلسفية جديدة للتكنولوجيا، لا تراها محايدة، بل تعتبرها محملة بالقيم. فهناك قيم داخلية ترتبط بأهداف التكنولوجيا وعملياتها ونتائجها، مثل الكفاءة والموثوقية والعقلانية، وهناك قيم خارجية تتعلق بتأثير التكنولوجيا على الإنسان والمجتمع والطبيعة. هذا التمييز يوضح أن التكنولوجيا ليست مجرد أدوات، بل هي أيضًا حاملة لغايات وقيم إنسانية تتداخل في تشكيلها.(65)
ومن زاوية أوسع، يمكن القول إن التحولات التكنولوجية المعاصرة أحدثت تأثيرات جذرية وعميقة طالت الفلسفة والمجتمع والاقتصاد والرؤية الكونية ذاتها. لقد دخل العالم في ثورة علمية وتكنولوجية تفوق الثورة الصناعية من حيث عمقها وتأثيرها، إذ غيّرت التكنولوجيا الإلكترونية طرائق التفكير الإنساني ونظرته إلى ذاته وإلى الكون. حتى مفهوم "العالم" ذاته أعيد تعريفه في ظل هذه التحولات، التي أعادت صياغة العلاقة بين الإنسان والمعرفة والوجود.(66)
ومن هذا المنطلق، تُعد الفلسفة عنصرًا نقديًا ضروريًا لتطوير الأخلاق السليمة، إذ إن غيابها يؤدي إلى إفلاسٍ أخلاقيٍ للمجتمع، يترتب عليه فسادٌ عامٌّ وتفككٌ في المسؤولية. ومن ثمّ، تسهم الأخلاقيات الفلسفية في إعادة توجيه المجتمع نحو الانضباط الذاتي والوحدة، وتوفّر الإطار اللازم لاتخاذ القرارات الرشيدة التي تُسهم في بناء الأمة. كما تساعد الفلسفة الاجتماعية والسياسية على معالجة قضايا العدالة والمسؤولية الأخلاقية من خلال مناهج متنوعة كالعواقبية وأخلاق الواجب والفضيلة، التي تمنح الأفراد والمجتمعات أفقًا أوسع للفهم والمساءلة.(67)
وفي النهاية، فإن التكنولوجيا الحديثة تمسّ كل ما هو جوهري في الوجود الإنساني — ماديًا وعقليًا وروحيًا. فهي تؤثر في أنماط الحياة، وطريقة التفكير، وتشكيل الأهداف، وصوغ السياسات، بل وتمتد إلى معنى الحياة ومصير الإنسان ذاته. ومن هنا تبرز الحاجة إلى فلسفة للتكنولوجيا تكون قادرة على احتواء هذه التحولات، وتربط بين العلم والأخلاق والسياسة، لتقدّم رؤية متكاملة للإنسان في عصر التقنية. إنها ليست فرعًا فلسفيًا جزئيًا، بل مشروع شامل يسعى إلى فهم حقيقة الإنسان في عالمٍ بات يُعاد تشكيله باستمرار بفعل الآلة والعقل.(68)
2- الفلسفة كصوت نقدي لمواجهة أزمات العصر
إنّ الحياة الاجتماعية إنجازٌ دقيق ومعقّد. ففي العادة، يجعلنا السطح اليومي للمؤسسات والممارسات الاجتماعية ننسى أن ما يبدو عليه العالم الاجتماعي من وحدةٍ وثباتٍ واستقرارٍ ظاهري، إنما هو في جوهره هشٌّ، خالٍ من الأسس النهائية الثابتة. تتحرك هذه الهشاشة في صمتٍ خفيٍّ لا يكاد يُرى، إلى أن ينكسر شيءٌ ما، وحينها — كما في زلزالٍ اجتماعيٍّ — يضطرب الإحساس العام بالنظام. وهنا تنشأ الأزمة: اللحظة التي يغدو فيها العالم من حولنا إشكاليًا ويفقد طابعه كظاهرةٍ موحّدةٍ وطبيعية. عندئذٍ تتضافر مشاعر الضيق والانقطاع واللايقين، لتجعل من الأزمة لحظةً ناضجة للتساؤل حول الطابع المألوف للمعايير الاجتماعية وقابلية الوقائع الاجتماعية للفهم.
تمثّل الأزمة لحظة يتوقف فيها استقرار الواقع الظاهري، إذ تُثير التساؤل حول ما نعدّه ثابتًا ومبررًا. فهي تدفعنا إلى طرح أسئلة جوهرية مثل: أين نحن؟ وما الذي اختلّ؟ وكيف يمكن تجاوزه؟ ومن خلال هذا التساؤل، ينكسر وهم الاكتمال ويُكشف عن حدود أنماط حياتنا ومعاييرنا الراسخة. فالتساؤل فعل نقديّ يحرّرنا من وهم الصلابة والسيطرة، ويتيح لنا مساءلة المعايير السائدة وكشف التناقضات الكامنة في بنية المجتمع.(69)
تضطلع الفلسفة بدور نقدي بنّاء في حياة الأمم، إذ تمثل مصدرًا للمبادئ الأخلاقية التي تُوجّه مسار البناء والتطور. ومن خلال التفكير النقدي والانفتاح الذهني، تتيح إعادة النظر في النماذج والسياسات القائمة بصورة أكثر عقلانية وعدلاً. وبدون هذا الدور، يفقد البناء الوطني مضمونه، إذ تُصبح المؤسسات فارغة من المعنى ما لم يُدعَمها وعيٌ فلسفي قادر على توجيهها أخلاقيًا. وهكذا، تُسهم الفلسفة في إرساء وعي نقدي يُمكّن القادة والمواطنين من مراجعة معتقداتهم وصياغة مشروع وطني يقوم على التكامل والمسؤولية المشتركة.(70)
يقوم المشروع النقدي للفلسفة على إيمانٍ بأن بناء الأمة يبدأ ببناء الإنسان ذاته، لأن تقدم المجتمعات مرهون بوعي أفرادها بذواتهم ومشكلاتهم المشتركة. فتعزيز الوعي الأخلاقي والمعنوي هو الخطوة الأولى نحو تحقيق الانسجام الاجتماعي والعدالة والمساواة والرفاه العام. ويؤكد أوموريجب Omoregbe أن الطابع الأخلاقي للمجتمع نابع من طبيعة الإنسان بوصفه كائنًا اجتماعيًا وعاقلًا، فيما يرى أودويديم Udoidem أن المجتمع والأخلاق متلازمان، إذ تمثل القيم الأخلاقية الأساس الذي يُبنى عليه كيان الأمة واستقرارها.(71)
تُعد التربية والتعليم الفلسفي من أهم الوسائل لبناء الوعي النقدي، إذ يحرران الإنسان من الجهل، ويمنحانه القدرة على مراجعة المعتقدات السائدة وتوسيع آفاق التفكير. فبترسيخ مهارات النقد والتحليل، يصبح المتعلم مواطنًا فاعلًا يسعى للتغيير الواعي والبنّاء، لا مجرد متلقٍّ للتنمية. ويرى ليوتار Lyotard أن الفلسفة يجب أن توحّد مجالات التعلم المتفرقة عبر "سردٍ عقلاني" يربط العلوم المختلفة بوصفها مراحل في تطور الوعي الإنساني.(72)
وفي الختام، يمكن القول إنّ التفكير الفلسفي هو أداة الإنسان لمواجهة الاضطراب واللايقين في عالمٍ متسارع التحولات. فالتفلسف الحقيقي يقوم على التواضع الفكري، وتنمية روح الفضول، والبحث الصادق عن الحقيقة. ومن خلال تبنّي هذه المبادئ، يستطيع الأفراد أن يكوّنوا ذهنية نقدية ومنفتحة تُعينهم على التعامل مع تعقيدات الحياة. وهكذا تُصبح الفلسفة صوتًا نقديًا وإنسانيًا في مواجهة أزمات العصر، تُعيد للإنسان وعيه بذاته وبالعالم، وتمنحه القدرة على تحويل التساؤل إلى بصيرة، والوعي إلى فعلٍ أخلاقيٍّ بناء.(73)
المحور الخامس: مناهج التفكير الفلسفي وأهميتها
1- مناهج التفكير الفلسفى
إنّ دراسة مناهج التفكير الفلسفي تمثل المدخل الأعمق لفهم طبيعة الفلسفة نفسها، إذ تقوم هذه المناهج على أدوات التحليل والنقد والتأمل والجدال بوصفها وسائل فاعلة لاكتشاف الحقيقة وإدراك المعنى. ومن هذا المنطلق، يمكن تتبّع أبرز هذه المناهج كما تبلورت في التاريخ الفلسفي، بدءًا من المنهج السقراطي وصولًا إلى المنهج الشكي.
أ- المنهج السقراطي
يقوم المنهج السقراطي على حوارٍ تحليلي يهدف إلى تفكيك الآراء السائدة وكشف تناقضاتها، سعيًا للوصول إلى الحقيقة عبر النقاش لا عبر التلقين. ويتظاهر المعلم بالجهل ليحفّز المتحاور على التفكير الذاتي، مستعينًا بالاستجواب والفحص العميق للمفاهيم. وتقوم هذه الطريقة على إدراكٍ دقيق للعلاقات بين عناصر المسألة المطروحة وطريقة تفكير المحاوَر، ويمكن تلخيصها في سلسلة من الخطوات الجدلية المنظمة التي تهدف إلى إيضاح الحقيقة عبر العقل والحوار.
1- افتراض المعلم جهله بالحقيقة، المعروف بالسخرية السقراطية، يمثل نهجًا قائمًا على التواضع الفكري والتركيز على القضايا الجوهرية في بناء الحجة. كما هو الحال مع ديكارت، يُعد هذا النهج ضروريًا لاستكشاف أعماق الحقيقة وفهمها بشكل أعم.
2- أسلوب الحوار أو المحادثة يُعد تقنية فعّالة تهدف إلى الكشف عن الحقيقة من خلال إدراك أن هناك معرفة جوهرية بالحق والخير تكمن في أعماق كل إنسان. ويأتي ذلك رغم أن الشخص قد يصل أحيانًا إلى استنتاجات متسرعة بناءً على ملاحظات غير ناضجة أو تحيزات شخصية. يمكن تسليط الضوء على هذه الحقيقة المشتركة بين البشر بواسطة التحليل الدقيق والتفكير الجدلي والتحقيق القائم على السؤال والجواب. تُعرف هذه الطريقة في كثير من الأحيان بـ "فن التوليد الفلسفي".
3- إرساء المفاهيم والتعريفات الدقيقة يمثل خطوة أساسية تُسبق محاولة فهم كيفية تطبيقها عمليًا في جوانب الحياة المختلفة.
4- فن الانتقال من الحقائق الملاحظة إلى حقائق أكثر شمولية يعتمد على اتباع المنهج الاستقرائي في التفكير. كما أن منهج سقراط يتسم بكونه استنتاجيًا، حيث يقوم باستخلاص النتائج والتداعيات المرتبطة بمفاهيم محددة ومن ثم الحكم على مدى صحتها. (74)
ومن المنهج السقراطي الذي يجعل من الحوار وسيلة لاكتشاف الحقيقة، ينتقل التفكير الفلسفي إلى المنهج الأفلاطوني، الذي وسّع نطاق الحوار إلى رؤية جدلية متكاملة.
ب- المنهج الأفلاطوني
المنهج الجدلي التركيبي عند أفلاطون ركز بشكل أساسي على استكشاف العلاقة السببية بين الفكر والوجود. وقد ارتكز هذا المنهج على تجميع العناصر المتناثرة لتحقيق تشكيل فكرة أو مفهوم واحد شامل، تليها عملية تحليل دقيقة لهذا المفهوم عبر تصنيفه وترتيبه ضمن فئات محددة. الهدف الأساسي كان الوصول إلى الحقيقة عن طريق تأسيس مفهوم أو مبدأ صحيح يمكن البناء عليه. على سبيل المثال، إدراك طبيعة الحق والخير هو شرط أساسي لفهم معنى الحق أو تحديد صفات الرجل الصالح. (75)
وإذا كان أفلاطون قد ربط الفكر بالوجود في وحدة جدلية، فإن الفلسفة النقدية عند كانط تمثل تطورًا جديدًا في تحليل شروط المعرفة وحدودها.
ت- المنهج الكانطي
يقدّم المنهج النقدي أو الترانسندنتالى عند كانط رؤية جديدة لتقييم المذاهب الفلسفية السابقة، إذ يسعى إلى الموازنة بين التجريبية والعقلانية من خلال تحليل شروط المعرفة وحدودها. فالمعرفة، عنده، تُستمد مادتها من الحواس، لكنها تكتسب طابعها الكلي والضروري من الفهم الذي ينظمها وفق مقولاته. غير أن ما ندركه ليس الواقع في ذاته، بل بناء ذهني ناتج عن تفاعل الحواس مع مقولات الفهم. ولأن الإنسان يفتقر إلى حدسٍ عقلي مباشر، تبقى معرفته مقصورة على الظواهر دون جوهر الأشياء. ومن ثم، فإن تصورات العقل عن الواقع ليست حقائق نهائية، بل صيغٌ فكرية يفرضها العقل لتنظيم التجربة الإنسانية وتوجيهها.(76)
ومن هذا الأساس النقدي الذي وضعه كانط، انطلق هيجل ليؤسس منهجه الجدلي الذي يجمع بين النفي والتوليف في حركة فكرية متصاعدة.
ث- المنهج الهيجلي
تجاوز هيجل المنهج النقدي لكانط بتشييد نظامٍ فلسفي مثالي يقوم على المنهج الجدلي، الذي يرى أن تطور الفكر والوجود يتم عبر صراعٍ وتجاوز مستمرين. تقوم الجدلية عنده على ثلاث مراحل: الأطروحة، النقيض، ثم التوليف الذي يوحّد بينهما في مستوى أرقى. هذا التوليف لا يُلغي التناقض، بل يدمجه في وحدة أشمل تتضمنه وتسمو عليه. وتستمر العملية في حركة تصاعدية متواصلة نحو توليفات أوسع وأكمل، تنتهي في المطلق الذي تتلاشى فيه التناقضات داخل وحدة كلية متكاملة. وبهذا، يغدو المنهج الجدلي عند هيجل مسارًا لتطور الوعي والحقيقة في آنٍ واحد.(77)
وإذا كان هيجل قد جعل الجدل طريقًا إلى المطلق، فإن البراجماتيين جعلوا من العمل والمصلحة الإنسانية معيارًا للحقيقة.
ج- المنهج البراجماتي
وفقًا للمنهج البراجماتي، يتحول كل ما هو حقيقي إلى واقع حي عندما يسير نحو نشاط يحمل في طياته نتائج مثمرة تتجاوز السطح. ينبغي أن يكون تحقيق المصالح الأساسية للإنسان هو البوصلة التي توجه خطواتنا في فضاء الفلسفة. فالمصلحة الإنسانية، في عمقها، هي حجر الزاوية الذي يُبنى عليه كل جهد فلسفي، سواء كان ذلك على صعيد الأنشطة الجسدية، أو العقلية، أو حتى الأخلاقية والروحية. إن القيم هنا لا تُقاس بمجرد أقوال أو مفاهيم، بل تُحكم بمدى تأثيرها ونتائجها. ومقياس الحقيقة في هذا السياق هو قدرتها على التطبيق الفعلي والتفعيل في الحياة اليومية. (78)
ومن خلال هذا المنظور العملي، يصبح التحليل أداة ضرورية لتنقية الفكر وتوضيح المفاهيم، وهو ما يمثل جوهر المنهج التحليلي.
ح- المنهج التحليلي
اعتمدت الفلسفة منذ القدم على التحليل العقلي والمنطقي للأفكار والمفاهيم لفهم مكوناتها وعلاقاتها. غير أنها، بخلاف العلوم التجريبية، لا تحتاج إلى مختبر مادي، لأن موضوعها مفاهيم مجردة تُحلَّل داخل العقل نفسه، الذي يُعدّ مختبرًا دائم العمل. ويهدف المنهج التحليلي إلى توضيح الأفكار وتنقيتها من الغموض والتشابك. ومع مرور الوقت، نشأ في القرن العشرين اتجاهٌ فلسفي يُعرف بـ الفلسفة التحليلية، يرى أن وظيفة الفلسفة الأساسية – بل الوحيدة – هي التحليل ذاته.(79)
ومن التحليل الفردي للذهن تنتقل الفلسفة إلى الحوار الجماعي، باعتباره وسيلة لتكامل العقول وتوسيع الأفق المعرفي.
خ- منهج الحوار
يمتلك جميع البشر قدرات عقلية طبيعية، لكنها تختلف في حدودها ومجالات تميزها؛ فبينما يتفوّق بعضهم في الرياضيات أو اللغات، يبرز آخرون في الفنون أو الرياضة. وتتأثر هذه القدرات بالبيئة الاجتماعية والثقافية. ولأن الفرد قد يعجز عن الإحاطة بكل موضوع بمفرده، فإن التفكير الجماعي يتيح دراسة القضايا من زوايا متعددة، مما يمنح التفكير طابعًا أكثر شمولًا وتوازنًا. وتزداد أهمية هذا الأسلوب في الفلسفة، التي لا تعتمد على التجربة والاختبار، بل على الحوار وتبادل الأفكار، فيصبح النقاش الجماعي وسيلة للحد من التحيزات الشخصية وتعميق الفهم.(81)
استخدمت الفلسفة الهندية والغربية منهج الحوار منذ العصور القديمة وسيلةً رئيسة لاكتساب المعرفة. ففي الهند، كان التلاميذ يتلقّون الحكمة من معلميهم الـ«غورو»(المعلم) عبر حواراتٍ تعليمية تهدف إلى إرشادهم في طريق الفهم من خلال الأسئلة والإجابات المتبادلة. وقد تجسّد هذا الأسلوب في نصوص الأوبانيشاد، مثل حوار شفيتاكيتو وأودالكا في شاندوجيا أوبانيشاد، وحوار مايتريي ويادنيافالكيا في بريهد آرانيكا أوبانيشاد. كما ظهر الشكل الحواري في النصوص البوذية مثل ميليندابانا (أسئلة ميليندا)، وفي بهاجافاد جيتا التي تُقدَّم أيضًا في صورة حوار بين كريشنا وأرجونا.(82)
استخدم سقراط منهج الحوار بفعالية لافتة. كان يطرح على المشاركين من المستمعين أسئلة متنوعة في موضوعات متعددة، مثل: "ما الفضيلة؟" و"ما العدالة؟". وكان الناس يتقدمون بثقة للإجابة عن هذه الأسئلة التي تبدو بسيطة في ظاهرها. لكن سقراط كان يفحص إجاباتهم بدقة، ويُشير إلى الثغرات فيها، ويحثّهم على التفكير بصورة أعمق.وفي نهاية هذا الحوار، كان الناس يدركون جهلهم أو قصورهم الفكري. وبدرجة أو بأخرى، كانوا ينتقلون من حالة الالتباس إلى حالة من الوضوح.وقد سار أفلاطون، تلميذ سقراط، على نفس المنهج؛ فبدلًا من كتابة رسائل أو مقالات فلسفية، دوَّن تأملاته على شكل حوارات.(83)
ومن خلال الحوار الذي يسعى إلى التفاهم، يتشكل الجدل الذي يروم بلوغ الحقيقة عبر التفاعل النقدي المتبادل.
د- المنهج الجدلي
إلى جانب الحوار، استخدمت الفلسفة الهندية القديمة منهج الجدل (الفادا) Vada بوصفه أداة أساسية للبحث عن الحقيقة، لا مجرد مناقشة لفظية. فقد كانت تُعقد مناظرات فكرية منظمة يُناقش فيها طرفان قضية معينة من منظورين متعارضين. يبدأ الفادي بطرح رأيه (باكشا)، ثم يرد عليه البراتيفادي بحجج مضادة ويعرض موقفه الخاص. ويتم تبادل النقد والفحص المتبادل للحجج بروح عقلية بنّاءة، بمشاركة الحاضرين الذين يطرحون أسئلة، تحت إشراف ساباباتي، أي رئيس الجلسة الذي ينظم الحوار. وفي الختام، يُعلن الطرف الفائز وفقًا لقوة منطقه وإقناعه، مما جعل من الفادا مدرسة حقيقية للتفكير النقدي والمنطقي.(84)
اعترفت التقاليد الهندية القديمة بحقيقة أن الانفتاح الذهني وجوّ الحرية أمران لا غنى عنهما لاكتساب المعرفة. ومع ذلك، كان بعض الأشخاص يشاركون في الجدل بدافع التنافس والرغبة في التفوّق على الخصم. وكانت هذه المناظرات التنافسية تُعرف باسم جلبا (jalpa).وكان هناك آخرون يُجادلون لمجرد الجدل، حيث كانوا يستمتعون بالردّ على حجج خصومهم دون تقديم أي رأي خاص بهم. وكان هذا النوع من الجدل يُسمى فيتاندا (vitanda).لكن، وعلى الرغم من ذلك، ظلّ البحث عن الحقيقة هو الهدف المحوري في أي فادا (vada) حقيقي وصادق.(85)
وأخيرًا، يظهر منهج الشك كذروة التفكير النقدي، حيث يُستخدم الشك لا كغاية بل كوسيلة لبلوغ اليقين.
ذ- منهج الشك
استخدم رينيه ديكارت، الفيلسوف الفرنسي، ما عُرف بـ "منهج الشك" في تأسيس الفلسفة الغربية الحديثة. ورغم أن الشك يُنظر إليه عادةً بسلبية، فإنه عند ديكارت كان وسيلة عقلية لاكتشاف الحقيقة، لا طعنًا في الأشخاص أو نياتهم. ففي عصر ساد فيه تيار الشكّية الذي أنكر إمكانية الوصول إلى معرفة يقينية، أراد ديكارت أن يثبت العكس. فبدأ يشك في كل ما تعلمه أو آمن به، حتى وصل إلى الحقيقة الوحيدة التي لا يمكن إنكارها: "أنا أفكر، إذًا أنا موجود". ومن هنا، جعل من الوعي بالذات أساسًا لكل معرفة ممكنة، مؤكدًا أن الشك المنهجي ليس غاية، بل طريق إلى اليقين وبناء العقل الفاعل.(86)
تسعى الفلسفة بمناهجها المختلفة إلى توسيع معرفتنا وتعميق فهمنا للعالم ولمكاننا فيه.(87) وفي سياق المحادثة الفلسفية، يتعلم المرء من الآخرين الذين قد يمتلكون فهمًا أعمق أو منظورًا مغايرًا للمسألة المطروحة. فالتفاعل الفكري لا يهدف إلى فرض الآراء، بل إلى إعادة تقييم المعتقدات وفحصها في ضوء ما يطرحه الآخرون من أفكار وحجج. ومن خلال هذا التبادل، يكتسب الفرد قدرة أعمق على مراقبة عملياته الذهنية، فيتحسن استخدامه لمهارات الاستدلال وتقييم الأدلة، ويصبح أكثر وعيًا بأسس تفكيره. كما أن صياغة الفهم الشخصي للنصوص أو تقديم الاعتراضات المبررة يفتح المجال أمام تصحيح المفاهيم الناقصة وتوسيع أفق النظر.
ويُعد هذا النوع من التفاعل جوهر الحوار السقراطي، الذي صاغه أفلاطون في محاوراته. ففيه يستجوب سقراط محاوريه، الذين يظنون أنهم يمتلكون معرفة يقينية، بأسئلة تكشف عن الافتراضات الضمنية التي تستند إليها آراؤهم. وعلى الرغم من ادعاء سقراط جهله، فإن منهجه الجدلي يقودهم، عبر سلسلة من الأسئلة والأجوبة، إلى إدراك تناقضاتهم الداخلية، ومن ثم إلى الطريق المؤدي إلى الحكمة الحقيقية. وهكذا تتوالى مراحل الحوار بين نقض الفرضيات غير المتماسكة واقتراح فرضيات جديدة أكثر اتساقًا، في مسار عقلاني يعبّر عن روح الفلسفة ذاتها.(88)
ما يُعد ذا أهمية تعليمية في الحوار السقراطي هو نهج القابلة الذي يستخدمه، حيث يُستخرج المعرفة من المتحاورين بدلاً من نقلها إليهم من مصدر خارجي. من خلال طرح أسئلة متزايدة العمق والتحري، يتم تحفيز المتحاورين على التفكير النقدي في أفكارهم الخاصة، وبناءً على ذلك، يصلون إلى الإجابات الصحيحة بأنفسهم. وهكذا، تصبح هذه التبادلات مشروعًا مشتركًا له الهدف العام المتمثل في تعزيز فهمهم.(89)
حتى إن لم تتخذ المحادثات الفلسفية الشكل المثالي للحوار السقراطي، فإنها ينبغي أن تظلّ مثمرة وبنّاءة، لا صراعية أو خصامية؛ إذ إن غايتها الأساسية ليست الانتصار في الجدل، بل تحقيق التنوير والفهم الأعمق. فالحوار الفلسفي الأصيل يسعى إلى الوصول إلى الحقيقة عبر تعاون العقول لا تنازعها.ومن هذا المنطلق، أكّد الفيلسوف هربرت بول جرايس (H. P. Grice) على ضرورة أن يكون المشاركون في الحوار متعاونين إن أرادوا بلوغ فهم متبادل. وقد صاغ ما يُعرف بـ مبدأ التعاون (Cooperative Principle)، الذي يلخصه بقوله:قدّم مساهمتك في المحادثة على النحو المطلوب في المرحلة التي أنت فيها، وفقًا للغرض أو الاتجاه المتفق عليه للحوار الذي تشارك فيه."ولتفعيل هذا المبدأ، أشار جرايس إلى مجموعة من القواعد الأساسية التي ينبغي مراعاتها في أي محادثة فلسفية جادة، وهي القواعد التي تنظّم طريقة تبادل المعلومات وتوجيه الحوار نحو هدفه المعرفي.
1- الجودة (Quality): حاول أن تكون مساهمتك صادقة، أي قل ما تعتقد أنه صحيح وما لديك من أدلة تدعمه.
2- الكمية (Quantity): اجعل مساهمتك معلوماتية بالقدر المطلوب، أي لا تقل ولا تزيد عما هو ضروري لتحقيق الغرض من الحوار.
3- العلاقة (Relation): اجعل مساهمتك ذات صلة بما يهم الطرفين أو بالموضوع المطروح.
4- الأسلوب (Manner): كن واضحًا ومرتبًا، وتجنب الغموض، أو اللبس، أو الإطناب غير الضروري.(90).
تقوم المحادثة الفلسفية على النقد البنّاء لا الجدال الشخصي، إذ يُفحَص الرأي لا صاحبه. ويجب أن يكون الهدف كشف نقاط الضعف في الحجج وتوضيحها بموضوعية واحترام، بعيدًا عن الإحراج أو التقليل من الآخرين. فالهجوم على الأشخاص أو استخدام الأساليب المراوغة والبلاغة الخادعة يُفقد الحوار قيمته الفكرية. لذا، ينبغي أن يكون المتحدث مدروسًا في كلامه، منصتًا بعناية، ساعيًا إلى توسيع الفهم لا إلى فرض رأيه، لأن الغاية ليست الانتصار، بل الوصول إلى رأي أقرب إلى الحقيقة عبر الحجج والأدلة.(91)
المحور السادس: الفلسفة نورٌ يهدي مسيرة الإنسان
الفلسفة باعتبارها شمعةً تنير طريق الحرية والوعي
تُعدّ الفلسفة الدرع الذي يقي الإنسان من سطوة طبيعته الحيوانية، والشمعة التي تضيء ظلمات العقل حين يثقل بالجهل والاضطراب، وهي الترياق الشافي من العلل التي نصنعها بأيدينا. وقد عبّر إبيقور Epicurus عن هذا المعنى بقوله: "عبثًا يكون كلام الفيلسوف إن لم يشفِ معاناة الإنسان." فالفلسفة، في جوهرها، فنّ العيش الجيد، إذ تقوم على استراتيجيات حياتية تتجسّد في الحكم أو الشعارات القصيرة المصمّمة لتحفيز الذاكرة واستدعاء الخبرة المكتسبة من التجربة والتأمل. وتكمن قوتها في ترابط هذه الحكم وتكاملها، حيث لا تُعدّ الخلافات والجدالات بين الفلاسفة عقبة أمام الفهم، بل سبيلًا لتنوّع الخيارات أمام الإنسان، إذ تقدم له طرائق شتى لمواجهة صعوبات الحياة ومشكلاتها الوجودية، بعضها أنفع من غيره بحسب طبيعة الفرد وميوله. إن حجج الفلاسفة هي عدّة الإنسان ووسيلته في فهم ذاته والعالم من حوله. (92)
ومن هنا، يتضح أن الفلسفة لا تكتفي بوضع تصوّراتٍ نظرية أو مفاهيم عامة، بل تمنح الإنسان أدوات عملية للحياة، فهي تُقدّم له استراتيجيات لا حصر لها تُعينه على اجتياز مراحل المعاناة والخذلان والموت، أي الجوانب الأصعب في التجربة الإنسانية. ولا ينبغي أن تظل الفلسفة حبيسة المدارس أو الأحاديث العابرة في المناسبات الفكرية، لأنها في أصلها ممارسة حيّة، تُختبر في واقع الحياة اليومية. فمن خلال استبطان مفاهيمها وتطبيقها عمليًا، يستطيع المرء أن يبلور نمطًا من الممارسة الفعلية للتحوّل الذاتي. وقد عبّر الباحث الفرنسي بيير هادو Pierre Hadot عن هذه الرؤية حين اعتبر أن أعظم الفلسفات ليست تأملاتٍ عقليةً مجردة، بل تمارين روحية تهدف إلى تحويل النفس والروح إلى كيان جميلٍ ونابض بالحياة. (93)
وهكذا، تُصبح الفلسفة ليست تمريناتٍ ذهنيةً فحسب، بل حكمة حياة تُنال عبر التأمل العميق والبحث الدؤوب عن المعنى. فبدونها، تصبح الحياة إخفاقًا كئيبًا يفتقر إلى البوصلة الروحية والعقلية. وقد شدّد سقراط على أن الذين يفتقرون إلى المعرفة الحقة إنما يستحقون أن يُوصموا بالعبودية الفكرية. أما أفلاطون، فقد حسم الأمر حين أعلن أن الخلاص لن يتحقق للبشرية ما لم يصبح الفلاسفة ملوكًا، أو يكتسب الملوكُ الحكمة الحقيقية للفلسفة، بحيث تجتمع السلطة السياسية والعقل الفلسفي في شخص واحد. إنها حقيقة خالدة عبّر عنها أفلاطون، تظل صالحة لكل زمان ومكان، ومفادها أن الحاكم العادل ينبغي أن يكون فيلسوفًا في جوهره، لا مجرد محبٍّ للحكمة، بل حائزًا لها بحق. (94)
2- قدرة الفلسفة على مواجهة التحديات المختلفة
وإذا كانت الفلسفة نورًا يهدي الإنسان إلى الحرية والوعي، فإنّها أيضًا قدرة عقلية فريدة تمكّنه من مواجهة التحديات الأخلاقية والمعرفية التي تعترض طريقه في الحياة. تخيّل أنك تواجه معضلة أخلاقية صعبة: أحد أحبّائك بحاجة ماسّة إلى علاج طبي ينقذ حياته، لكنك لا تستطيع تحمّل تكلفته إلا إذا سرقت المال اللازم. من جهة، أنت تؤمن بالأمانة والنزاهة، ومن جهة أخرى، فإنّ فكرة فقدان شخصٍ عزيزٍ عليك لا تُحتمل. فكيف يمكن التوفيق بين هاتين القيمتين المتعارضتين؟
هنا تحديدًا يأتي دور الفلسفة وأدواتها. فالفلسفة ليست حكرًا على الأكاديميين في أبراجهم العاجية، بل هي طريقة عملية وقيّمة في التفكير تساعدنا على خوض التحديات الأخلاقية والعقلية المعقّدة التي نواجهها في حياتنا اليومية. (95)
في كتابه «كيف تفكر مثل فيلسوف»، يقدّم جوليان باجيني (Julian Baggini) خريطة طريق لتطوير مهارات التفكير النقدي الضرورية للتعامل مع مثل هذه المعضلات. ومن خلال أمثلة مشوّقة وتجارب فكرية، يُظهر باجيني كيف يمكن للفلسفة أن تساعدنا على توضيح قيمنا وتحليل الحجج واتخاذ قرارات أكثر وعيًا وتبصّرًا. ومن خلال تبنّي عقلية فلسفية، يمكننا أن نُنمّي قدرًا أكبر من الوضوح والاتساق والترابط في معتقداتنا وأفعالنا. ومع تعمّقنا في مبادئ المنطق والأخلاق والميتافيزيقا ونظرية المعرفة، سنكتسب فهمًا أعمق لأنفسنا وللعالم من حولنا. (96)
يدفعنا التفكير الفلسفي إلى مراجعة الافتراضات التي توجّه سلوكنا دون وعي، إذ يكشف أن كثيرًا منها يفتقر إلى المنطق أو الدليل. فبدلًا من قبول الأحكام الجاهزة، كاعتقاد أن جميع السياسيين غير أمناء، يسعى الفيلسوف إلى تحليل جذور هذه الأفكار وأسسها. ومن هنا تبرز أهمية تحليل الحجج، أي تفكيكها وتقييم تماسكها المنطقي، لاختبار صدق مقدماتها ونتائجها، واكتشاف المغالطات والثغرات التي تضعفها.
ولا يقف التفكير الفلسفي عند حدود التحليل، بل يمتد إلى النظر في وجهات نظر متعددة حول القضايا المعقدة. فعند مناقشة مثلًا أخلاقيات التجارب على الحيوانات، يسعى الفيلسوف إلى فهم متوازن يجمع بين آراء المدافعين عن حقوق الحيوان والباحثين العلميين، بما يتيح تكوين رؤية أكثر عمقًا وإنصافًا. (97)
وخلاصة القول، إن التشكيك في الافتراضات وتحليل الحجج والنظر في وجهات نظر متعددة هي مكونات أساسية في التفكير الفلسفي تُسهم في تنمية التفكير النقدي والتأمل العقلي. ومن خلال تبنّي هذه المبادئ الجوهرية، يستطيع الأفراد تكوين عقلية فلسفية تُقاوم المعتقدات الراسخة، وتُنمّي مهارات التحليل، وتُثري فهمهم للعالم من حولهم. فالسعي وراء التفكير الفلسفي يمتلك القدرة على كشف آفاق جديدة للفهم، وتوسيع وجهات النظر، وإلهام الفضول الفكري الذي يدفع الإنسان إلى البحث الدائم عن الحقيقة والمعرفة. (98)
ولا يكتمل هذا المسار إلا بالتحلّي بـ التواضع الفكري والفضول والإخلاص للحقيقة، وهي القيم التي تُجسّد روح الفلسفة الحقيقية. فالتواضع الفكري حجر الأساس الذي يمكّننا من الانفتاح على الأفكار الجديدة، ويحمينا من الغرور والتعصّب العقائدي، فيما يُغذّي الفضول الرغبة في التساؤل حول جوهر الوجود والوعي والأخلاق. أما السعي الصادق نحو الحقيقة، فهو ما يجعل الفيلسوف مستعدًّا لمراجعة قناعاته وتقبّل الأدلة الجديدة مهما كانت مزعجة. ومن خلال تجسيد هذه الصفات، يستطيع الإنسان أن يتبنّى منهجًا فلسفيًا راقيًا يُنمّي فيه التفكير النقدي والانفتاح الذهني والنزاهة الفكرية، ويمنحه قدرةً أكبر على فهم العالم والتفاعل معه بوعيٍ وبصيرةٍ نافذة. (99)
المحور السابع: الفلسفة تؤسس للأخلاق والتقدم الإنساني
تُعدّ الفلسفة من أبرز الركائز التي تسهم في تأسيس القيم الأخلاقية وتنمية الوعي الإنساني، إذ تُمدّ الإنسان بالأدوات الفكرية التي تمكّنه من التمييز بين الخير والشر، والحق والباطل، بما يجعلها منبعًا دائمًا للتهذيب الروحي والعقلي.
1- تكوين الأسس الأخلاقية
بالإضافة إلى ذلك، تؤدّي الفلسفة دورًا محوريًا في تكوين الأسس الأخلاقية وأنماط التفكير الأخلاقي. فالمبادئ والنظريات الفلسفية تساعد الأفراد والمجتمعات على اتخاذ قرارات أخلاقية وحلّ المعضلات القيمية. ومن خلال النظر في وجهات النظر الأخلاقية المختلفة والانخراط في نقاشات أخلاقية، تساهم الفلسفة في تطوير فهم أعمق لما هو خير وما هو شر، وتدفع الناس إلى العمل بما يتوافق مع المبادئ الأخلاقية. ويُعدّ هذا الإطار القيمي ضروريًا لمعالجة القضايا المعاصرة مثل العدالة الاجتماعية، والاستدامة البيئية، والتقدّم التكنولوجي، والصراعات العالمية.(100)
2- تعزيز التقدّم الاجتماعي
ولا يتوقف دور الفلسفة عند حدود الأخلاق الفردية، بل يمتد ليشمل البنية الاجتماعية ذاتها، إذ تتحدى الفلسفة الأوضاع القائمة وتعزّز التقدّم الاجتماعي. فعلى مرّ التاريخ، كانت الأفكار الفلسفية شرارةً للثورات، والحركات الاجتماعية، والتطوّرات في مجال حقوق الإنسان. ومن خلال مساءلة المعتقدات والقيم والممارسات السائدة، تُسائل الفلسفة الأنظمة والهياكل غير العادلة، وتمهّد الطريق نحو التغيير المجتمعي. وسواء كانت تدافع عن المساواة أو العدالة أو الحرية أو السعي وراء المعرفة، فإنّ الفلسفة تُمثّل محرّكًا للتقدّم وقوّة دافعة نحو التغيير الاجتماعي.(101)
3- دعم التقدّم العلمي
ويمتد تأثير الفلسفة إلى العلم، إذ كانت منذ القدم مصدر إلهامٍ للبحث والنظر العقلي. فرغم أنّ الفلسفة غالبًا ما تُعتبر مجالًا تجريديًا منفصلًا عن المسعى العلمي، فإنها تاريخيًا كانت مصدرًا وداعمًا للتقدّم العلمي. فقد تساءل أوائل المفكّرين في اليونان القديمة، مثل طاليس، وديموقريطس، وفيثاغورس، عن جوهر الواقع، وطبيعة المادة، والمبادئ الرياضية، وأسّسوا بذلك دعائم التفكير العلمي. أما اليوم، فتتعاون الفلسفة مع العلوم في تشجيع البحث النقدي، والتطوّر النظري، والتقدّم المعرفي. وتُبرِز أمثلةٌ مثل إسهام فلسفة العقل في علم الأعصاب، والمداولات الأخلاقية في البحوث الطبية الحيوية، ودور الميتافيزيقا في ميكانيكا الكمّ، مدى ثراء هذا التحالف المثمر بين الفلسفة والعلوم.(102)
4- تنمية التفكير الأخلاقي والتماسك الاجتماعي
ولا شك أن التأثير العميق للفلسفة يشكّل بوصلة للسلوك الأخلاقي، ويمتدّ إلى ميدان الأخلاق والوحدة الاجتماعية. فمن خلال دراسة الأطر الأخلاقية مثل النفعية، وعلم الأخلاق، وأخلاق الفضيلة، يستطيع الأفراد تنمية قدرة عميقة على التفكير الأخلاقي، والتعامل مع المعضلات القيمية من منظور واعٍ ومستنير. وعلاوة على ذلك، تُسهِم الفلسفة في تعزيز الحوار حول قضايا مثل العدالة والمساواة وحقوق الإنسان، وتُمكّن المجتمعات من ترسيخ بوصلة أخلاقية خاصة بها وتقييمها باستمرار. فالقوانين، والسياسات الأخلاقية، والمعايير المجتمعية التي تنبثق عن التأمل الفلسفي، تُفضي إلى بناء هيكل اجتماعي عادل ومتماسك.(103)
5- اكتشاف الذات واكتساب الحكمة
وتتجاوز أهمية الفلسفة مجرّد تأثيرها في المجتمع، إذ إنها تمثّل سبيلًا لاكتشاف الذات، والنمو الشخصي، واكتساب الحكمة. فمن خلال التأمّل الذاتي والتفكّر الفلسفي، يستطيع الإنسان أن يُراجع معتقداته، ويفهم وجوده، ويتقبّل التغيّر الشخصي. وقد ساعد فلاسفة الوجودية مثل سارتر، وكامو، وكيركجارد، الناس على مواجهة أسئلة المعنى، والحرية، والموقع في الكون. وتُتيح ممارسة الفلسفة تنمية مهارات التفكير النقدي، وتوسيع الآفاق الذهنية، وتطوير القدرة على حلّ المشكلات. وتسهم هذه التطورات الشخصية في تكوين أفراد متكاملين، وهم أساس لا غنى عنه لمجتمع مستنير.(104)
6- استشراف المستقبل
وفي ظلّ التحوّلات المتسارعة في عالمنا المعاصر، تزداد أهمية الفلسفة كمرشدٍ أخلاقيٍّ وإنسانيٍّ في مواجهة تعقيدات الحياة الحديثة. ففي عصر يتّسم بالتقدّم التكنولوجي وتعقيد الحياة الاجتماعية، تزداد أهمية الفلسفة يومًا بعد يوم. فمع تشكيل الذكاء الاصطناعي والأتمتة لمستقبل البشرية، تظهر تباعًا تساؤلات أخلاقية واعتبارات فلسفية ملحّة. وتُتيح الفلسفة للناس التعامل مع قضايا مثل أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، والتأثيرات الاجتماعية للأتمتة، وتبعات الهندسة الوراثية، وهي قضايا تستوجب معايير أخلاقية وأسسًا قيمية راسخة. علاوة على ذلك، تتناول الفلسفة قضايا وجودية مثل التنوع الثقافي، وأخلاقيات التعدّدية، والالتزامات الأخلاقية العالمية الناشئة عن التسارع الكبير في وتيرة العولمة.(105)
7- الفلسفة كغطاءٍ للأمان الداخلي
غير أنّ الإنسان، رغم كل تقدّمه، يظلّ يبحث عن الأمان في عالمٍ يملؤه القلق واللايقين. في حياتنا، نعلم أن العالم ليس دائمًا آمنًا. لذلك، عندما نشعر بالخوف أو القلق، نبحث عن شيء يجعلنا نشعر بالأمان. ربما نتمسك بشخص نثق به، أو بفكرة نحبها، أو حتى بشيء نملكه. مثل ركّاب سفينة غارقة، نبحث عن أي شيء نتمسك به لنشعر بأننا بخير. الفيلسوف الأمريكي "تشارلز ساندرز بيرس" يقول إن الشكّ وعدم التأكد يسببان القلق، لذلك نحاول الهروب منهما بأي طريقة. لكن هنا تحدث المفارقة: الشيء الذي يجعلنا نشعر بالأمان، قد يصبح مصدر قلق جديد. لماذا؟ لأننا نخاف أن نفقده. فنصبح مشغولين بحمايته، ونقلق أكثر. وهكذا، بدلًا من أن يساعدنا هذا "الغطاء الآمن"، يُصبح عبئًا علينا. ولهذا علينا أن نسأل أنفسنا: هل التمسك الشديد هو الحل؟ أم يجب أن نتعلم كيف نواجه الخوف بطريقة مختلفة؟ (106)
8- الفلسفة وتحرير العقل الإنساني
وفي هذا السياق، يبرز قول "برتراند راسل" الذي يرى أن الإنسان الذي لا يعرف شيئًا عن الفلسفة يعيش حياته سجينًا لتحيّزاته المستقاة من الحسّ المشترك، ومن المعتقدات الشائعة في عصره أو وطنه، ومن قناعات ترسّخت في ذهنه دون أن يمرّرها على عقلٍ متأمّل أو نقدٍ واعٍ. حياة هذا الإنسان الغريزية محصورة داخل دائرة اهتماماته الشخصية. وفي مثل هذه الحياة شيء من الحُمّى والضيق، إذا قورنت بالحياة الفلسفية الهادئة والحرّة. إنّ العالم الخاص الذي يعيش فيه من ينقاد للغريزة عالمٌ ضيّق، مُحاطٌ بعالم كبير قوي، لا بدّ أن يُحطِّم يومًا ما هذا العالم الخاص ويُطيح به.(107)
تتمثّل القيمة الأساسية للفلسفة، كما يرى راسل، في قدرتها على تحرير العقل من سطوة الآراء التي تُعتنق دون تمحيص، وفتح الأذهان أمام آفاق رحبة من الإمكانيات الجديدة. فالفلسفة تكتسب قيمتها - في جانب كبير منها - من كونها لا تقدّم يقينًا ثابتًا، بل تُثري الفكر عبر الشكّ المنهجي. وإن كانت الفلسفة لا تستطيع أن تمنحنا أجوبة قاطعة على التساؤلات التي تُثيرها، فإنها تطرح أمامنا احتمالات متعددة توسّع مداركنا وتُحرّرنا من سلطة العُرف والتقليد. إنها، إذ تقلّل من شعورنا باليقين إزاء ما نظنه ثابتًا، تزيد من وعينا بإمكانات ما يمكن أن يكون عليه الواقع. وبذلك، تُبدّد التصلّب الفكري الذي يلازم من لم يخوضوا تجربة الشكّ المحرّر، وتحفظ في النفس شعور الدهشة والانفتاح، حين تُقدّم المألوف في صورة غير مألوفة.(108)
وفي النهاية، يمكن القول إن الفلسفة لا تُعطينا إجابات نهائية، لكنها تُعطينا القدرة على طرح الأسئلة الصحيحة، وتوسيع أفقنا الفكري، وتحريرنا من طغيان المألوف. وهذا بحد ذاته فضيلة كبرى، تجعل من الفلسفة تمرينًا دائمًا على الحرية العقلية والتأمل النقدي.
2- الفلسفة كدعامة للتنمية والتطور الحضاري
للفلسفة دورٌ جوهري في مسار الحضارة الإنسانية:
أولا: تكشف لنا دراسة التاريخ أن الفلسفات لا تنشأ في فراغ، بل تستجيب لأسئلةٍ يفرضها واقعٌ علميٌّ أو اجتماعيٌّ معيَّن. فلا يمكن، مثلًا، فهم فكر القديس توما الأكويني دون النظر إلى التأثيرات المتشابكة لكلٍّ من أرسطو، والقديس أوغسطينوس، والعقيدة الكاثوليكية في تكوينه الفكري. وبالمثل، تأثّر ديكارت بالفيزياء الرياضية في عصره، وبالفلسفة الجسيمية في القرن السادس عشر، وكذلك بأفكار القديس أوغسطين. غير أن الفلسفة لا تقتصر على استلهام عناصر من حضارتها، بل تتجاوزها إلى إعادة صياغة هذه العناصر في منظومات فكرية شاملة تُوحِّدها وتمنحها تماسكًا داخليًا يجعلها تعبّر عن روح عصرها تعبيرًا عميقًا ومتماسكًا (109).
ثانيا: لا تنشأ التيارات الفكرية بمعزل عن صراع الاتجاهات السائدة، إذ لا تترسّخ مدرسة فكرية إلا بإقصاء غيرها. وهكذا تصبح العقول ميدانًا لتصارع الأفكار المتعارضة التي قد تتعايش دون حسم. ويجد الفكر نفسه أمام خيارين: إمّا السقوط في الشكّ المدمّر، أو انتظار فيلسوف يوحّد المتناقضات، كما فعل توما الأكويني حين جمع بين اللاهوت الأوغسطيني وتعاليم أرسطو، وديكارت حين وفّق بين الفيزياء الرياضية والميتافيزيقا. فالفلسفة بهذا المعنى هي سعي الفكر إلى الوحدة التي تمنح النظام والسلام، إذ يطمح الإنسان إلى انسجام أفكاره ومشاعره وأفعاله، وهو ما اعتبره جيلسون أساس الحضارة وشرط الانسجام مع الذات والآخر. فالفيلسوف، حين يفكر، يفعل ذلك باسم الإنسانية جمعاء، ساعيًا إلى توازن العقول وارتقاء القيم الروحية.(110)
ثالثًا: تبقى الفلسفة حية بعد أفول الحضارات التي نشأت في كنفها، لأنها تحمل حقائق خالدة تتجاوز حدود الزمان والمكان. ففلاسفة كأفلاطون وأرسطو وتوما الأكويني وديكارت وكانط يظلون معاصرين لكل عقل إنساني، إذ تتضمن فلسفاتهم عناصر تمسّ جوهر الإنسان ذاته. ولا تقوم الفلسفات الكبرى على التلفيق، بل على التوفيق العميق بين المتعارضات سعيًا إلى تحرير الفكرة في أنقاها. فبفكر أفلاطون تتكامل الكينونة عند بارمنيدس والصيرورة عند هيراقليطس، وبتوما الأكويني يلتئم الإلهي بالبشري في نظرية التناظر في الوجود، فيما رأى ديكارت أن فيزياء أرسطو روحانية زائفة والذرّية الأبيقورية مادية بلا أساس. وهكذا تستمد الفلسفة قيمتها من انشغالها الدائم بأسئلة الإنسان بوصفه كائنًا عاقلًا، لا من مشكلات عصرٍ محدد، لتظل حدثًا فكريًا خالدًا في حاضرٍ أبدي.(111)
وعليه، فإذا كانت الحضارة ليست مجرد أسلوب حياةٍ لأمةٍ في زمنٍ محدّد، بل هي أيضًا رصيدٌ من القيم والحقائق المتراكمة التي توحّد الإنسانية، فإن الفلسفة لا تنتج النظام في الفكر إلا لأنها تنتج الحقيقة ذاتها. فهي في الوقت نفسه ثمرة التاريخ وصانعته، إذ يقوم فعلها الإبداعي على خضوعٍ صادقٍ للحقيقة يتجاوز حدود الزمان (112).
تناول عدد من فلاسفة الحداثة مفهوم التقدّم بالتحليل والتأمل، من أبرزهم كانط في كتابه «فكرة من أجل تاريخ كوني من منظور مدني»، حيث دعا إلى تحقيق «الغاية الكوزموبوليتية» بإقامة نظام عالمي تنظم فيه العلاقات بين الأمم كما تُنظم بين الأفراد في الدولة. وقد رأى هيجل في «فينومينولوجيا الروح» و«محاضرات في فلسفة التاريخ»أن التقدّم التاريخي هو حركة تصاعدية للروح عبر صراعاتها، بينما اعتبر ماركس وإنجلز أن التقدّم يتحقق من خلال الصراع الطبقي. وعبّر أوجست كونت عن رؤيته لمسار التطوّر الإنساني في «قانون المراحل الثلاث»: اللاهوتية، الميتافيزيقية، ثم الوضعية، مؤكدًا أن النظام شرط للتقدّم. ويرى بعض الباحثين، مثل فوكوياما، أن جذور هذه الفكرة تعود إلى مكيافيلّي، الذي فصل بين السياسة والأخلاق.(113)
3- الفلسفة ودورها في التنمية الوطنية
اهتمَّ المفكر نناميدو بارثولوميو (Nnaemedo Bartholomew) بدراسة أهمية الفلسفة في تحقيق التنمية الوطنية في كتابه «تحليل الدور الخماسي للفلسفة في التنمية الوطنية»، حيث رأى أنَّه «لفهم عصرٍ أو أمة، يجب أن نفهم فلسفتها» كما قال برتراند راسل. وبناءً على ذلك، فإنَّ فهم مفهوم التنمية الوطنية يستلزم فهم فلسفتها التي تجسِّد رؤيتها ورسالتها وأهدافها. فالفلسفة — بحسب بارثولوميو — ضرورية لصياغة التنمية الوطنية وتنفيذها واستكمالها، وقد حدد لذلك خمسة أدوار أساسية للفلسفة في هذا المجال (114).
أولًا: الفلسفة كأساسٍ عقلانيٍّ للتنمية الوطنية
لكل مجالٍ من مجالات التنمية الوطنية فلسفته الخاصة التي تمثِّل الأساس العقلاني الذي يقوم عليه صرح التنمية. وتؤدِّي الفلسفة في هذا السياق ثلاث وظائف رئيسة:
1- توفير رابطٍ يربط بين التنمية الوطنية والبنى الفرعية الأخرى،
2- تخفيف الاحتكاك بين وكلاء المشاريع التنموية وبيئاتهم المباشرة،
3- ضمان تدفّقٍ مستمرٍّ للموارد من البيئات المحيطة.
فالفلسفة هنا تُعدّ الركيزة الفكرية التي تضمن سلامة البناء التنموي من حيث الاتساق الداخلي والترابط المنهجي بين عناصره (115).
ثانيًا: الفلسفة كخريطة طريقٍ للتنمية الوطنية
لا تقتصر وظيفة فلسفة التنمية الوطنية على وضع الأسس النظرية للبنية التحتية فحسب، بل تمتد لتشمل توجيه مسار التنفيذ وضبط حركته لضمان عدم انحراف التنمية عن أهدافها الكبرى. فهي بمثابة بوصلة فكرية تُرشد خطط التنمية لتجنُّب مظاهر الانكسار أو الانفجار أو الركود أو النموّ المفرط، مما يحافظ على توازنها واستدامتها في مواجهة التحولات السياسية والاجتماعية (116).
ثالثًا: الفلسفة كسقفٍ أعلى يحمي التنمية الوطنية
كما أنّ الفلسفة تخدم التنمية الوطنية في مستواها التحتي (البنية التحتية)، فإنّها تواكبها أيضًا في المستوى الفوقي (البنية العليا). فهي توفّر سقفًا رمزيًا يحمي المشاريع التنموية من التأثيرات السلبية الناتجة عن السياسات أو الممارسات الرائجة التي قد تُعيق تحقيق الأهداف. وتشبه هذه الظواهر — في استعارة بارثولوميو — الشمس الحارقة أو العواصف أو الثلوج التي قد تُضعف نموّ المشروع التنموي. ومن ثَمّ، تعمل الفلسفة كقوة تنظيمية تقي التنمية من التشويه أو الانحلال أو التآكل، وتضمن استمرارها في تحقيق أهدافها (117).
رابعًا: الفلسفة كعدسةٍ أخلاقيةٍ للتنمية الوطنية
ينبغي أن تقوم كل عملية تنموية على أساسٍ أخلاقيٍّ متين، إذ تتمثّل الغاية القصوى للتنمية في تحقيق السعادة الإنسانية. فكل منتج من منتجات التنمية الوطنية يجب أن يضع الإنسان في صميم اهتمامه، وإلا فقد قيمته. ومن هنا، تمثّل الأخلاق — بوصفها فرعًا من فروع الفلسفة — العدسة التي تُقيِّم من خلالها التنمية مدى انسجامها مع القيم الإنسانية. فقبل الشروع في أي مشروع، يجب النظر في مدى خدمته للإنسان وكرامته. وهذا ما يجعل الفعل الأخلاقي مميزًا عن الفعل الآلي أو الميكانيكي، لأنّ الأول يصدر عن وعيٍ وإرادةٍ حرة، ويمكن مساءلة الإنسان عنه، بينما الثاني فعلٌ غير إراديٍّ لا مسؤولية فيه (118)
خامسًا: الفلسفة كمحفِّزٍ للتنمية الوطنية
يشبِّه بارثولوميو دور الفلسفة في التنمية بدور المحفّز الكيميائي الذي يُسرّع التفاعل دون أن يتأثّر به. فالفلسفة تُسهم في تسريع وتيرة التنمية الوطنية من خلال إذكاء الوعي النقدي وتوسيع الأفق الفكري، لكنها تظل محتفظة باستقلالها عن نتائج هذه التنمية. ويتجلّى هذا الدور التحفيزي في نظرياتٍ فلسفية عديدة أحدثت تحوّلات عميقة في التاريخ، مثل: الثورة الأخلاقية التي أحدثها سقراط في شباب عصره، والدعوة إلى الزهد التي أكّدها أفلاطون والرواقيون، والمبادئ السياسية والاجتماعية التي قدّمها جون لوك، وهيغل، وكارل ماركس، ومونتسكيو، وجان جاك روسو.
وقد كانت فلسفة سقراط — التي دعت إلى مساءلة الذات وإصلاح الأخلاق — من أبرز الأمثلة على أثر الفلسفة في التغيير الاجتماعي، إذ أحدثت ثورة فكرية بين الشباب دفعت السلطات إلى اتهامه بإفساد عقولهم، فحُكم عليه بالموت وتناول نبات الشوكران تنفيذًا للحكم (119).
الخاتمة
يمكن تلخيص أهم النتائج والاستنتاجات التي توصل إليها البحث حول سؤال: «لماذا الفلسفة؟ ولماذا الآن؟» في النقاط الآتية:
1- الفلسفة ضرورة إنسانية وليست ترفًا فكريًا؛ فهي حاجة وجودية تُلازم الإنسان في سعيه الدائم نحو الفهم والمعنى، وتساعده على إدراك ذاته وموقعه في العالم.
2- وظيفة الفلسفة الأساسية تتمثل في توجيه العقل نحو التساؤل والفهم، وتحرير الفكر من الجمود والاتباع الأعمى، مما يجعلها أداة لتجديد الوعي الإنساني.
3- العالم المعاصر يعيش أزمة قيمية وأخلاقية نتيجة هيمنة النزعة المادية والانغماس في التقدم التقني على حساب البعد الإنساني، وهو ما يجعل العودة إلى الفلسفة ضرورة ملحّة لاستعادة التوازن بين العلم والأخلاق.
4- مناهج التفكير الفلسفي تُعدّ وسيلة فعّالة لتنمية مهارات التحليل والنقد، وتعليم الإنسان كيف يفكر لا ماذا يفكر، وبذلك تُحصّنه ضد الاستسلام للأفكار الجاهزة والمضلّلة.
5- الفلسفة مصدر للطموح والإخلاص، لأنها تغذي في الإنسان الرغبة في البحث عن الحقيقة، وتدفعه إلى العمل المخلص الهادف الذي يتجاوز المصالح الضيقة نحو الخير العام.
6- الفلسفة نور يهدي مسيرة الإنسان، إذ تمكّنه من مواجهة تحديات الحياة المعاصرة بثقة ووعي، وتمنحه القدرة على المواءمة بين التقدم المادي والنمو الروحي.
7- الحاجة إلى الفلسفة الآن أشد من أي وقت مضى؛ لأنها القادرة على إعادة بناء الوعي الإنساني المفقود، وترميم العلاقة بين الفكر والضمير، وبين الإنسان والعالم.
8- الخلاصة النهائية: الفلسفة ليست ماضيًا يُستعاد، بل مشروعًا دائمًا لتجديد الفكر الإنساني وإضفاء المعنى على الوجود، وهي الطريق الذي به يحافظ الإنسان على كرامته ويصون إنسانيته في وجه تحولات العصر.
***
دكتور ابراهيم طلبه سلكها
2025
..................
الهوامش
1- Dr. Oyekunle O. Adegboyega: Introduction to Philosophy and Logic, National Open University of Nigeria, Printed 2018, p. 10.
2- Loc- Cit.
3- Ibid, p. 11.
4- Roark, Dallas M.: Introduction to Philosophy, Emporia, KS: Dalmor Publishing, 1982 (revised 2011), p. 1.
5- Ibid, pp. 1–2.
6- Ibid, pp. 2–3.
7- Ibid, pp. 3–4.
8- Ibid, p. 5.
9- Ibid, p. 7.
See also: John Dewey, Experience and Nature, p. 398.
10- Scherer, Donald, Peter Facione, Thomas Attig, and Frank Miller: Introductory Philosophy, Englewood Cliffs, N.J.: Prentice- Hall, 1979.
11- Swami Krishnananda: The Philosophy of Life, The Divine Life Society, P.O. Shivanandanagar, India, pp. 17–18.
12- Roark, Dallas M., Op- Cit, pp. 8–9.
13- Standard Eleven: Philosophy, Maharashtra State Bureau of Textbook Production and Curriculum Research, Pune, 2020, p. 5.
14- Nweke, Charles C., and Vera A. Uyanwune: “Relevance of Philosophy to Any Discipline.” International Journal of Research and Innovation in Social Science (IJRISS), 4(8), August 2020, ISSN 2454- 6186, p. 784.
15- Meenakshi Mawi: Socrates v/s Plato – Philosophy and Knowledge, International Journal of Humanities and Social Science Research, www.socialsciencejournal.in, ISSN: 2455- 2070, Volume 9, Issue 4, 2023, p. 27.
16- Payne, W. Russ: Introduction to Philosophy, Bellevue College, 2015, Creative Commons Attribution- NonCommercial 4.0 International. http://creativecommons.org/licenses/by- nc/4.0/, p. 7.
17- Ibid, p. 8.
18- Loc- Cit.
19- Nathan Smith: Introduction to Philosophy, OpenStax, Rice University, 2022, p. 36.
20- Loc- Cit.
21- Robert Fisher: Philosophy for Children: Fostering Communities of Philosophical Enquiry and Reflection in Primary and Secondary Schools, A thesis submitted to Brunel University for the degree of Doctor of Philosophy (Published Work) in the School of Education, Brunel University, January 1996, Theme 2, Part 2, p. 3.
22- Nathan Smith: Introduction to Philosophy, OpenStax, Rice University, 2022, p. 37.
23- Robert Fisher, Op- Cit, p. 3.
24- Sanjit Chakraborty: Critical Thinking: An Approach that Synthesizes Analytic Philosophy, India Philosophical Quarterly, University of Pune, Vol. 44, No. 1, December 2017, p. 1.
25- Ibid, p. 2.
26- Daniela Dover: Criticism as Conversation, Philosophical Perspectives, Harvard University Press, 2020, p. 1.
27- Sanjit Chakraborty: Op- Cit, p. 1.
28- Ibid, pp. 1–2.
29- Loc- Cit.
30- Daniela Dover: Op- Cit, p. 2.
31- Amy Jacques- Garvey: Philosophy and Opinions of Marcus Garvey, The Journal of Pan African Studies, 2009, eBook, p. 5.
32- Loc- Cit.
33- Alegre, Susie, and Aaron Shull: Freedom of Thought: Reviving and Protecting a Forgotten Human Right, Waterloo, ON: Centre for International Governance Innovation (CIGI), September 4, 2024, p. 1.
34- Loc- Cit.
35- Ibid, pp. 1–2.
36- Ibid, p. 4.
37- Marc Jonathan Blitz and Jan Christoph Bublitz (eds.): The Law and Ethics of Freedom of Thought, Volume 1: Neuroscience, Autonomy, and Individual Rights, Cham: Palgrave Macmillan, 2021, p. vi.
38- Loc- Cit.
39- Ibid, pp. vi–vii.
40- Ibid, p. vii.
41- Dudley, Will: Hegel, Nietzsche, and Philosophy: Thinking Freedom, Cambridge: Cambridge University Press, 2002, ISBN 052181250X, p. 2.
42- Hoxha, Ermela: “Concept of Freedom in the Philosophy of Fichte.” European Journal of Social Sciences Education and Research, Vol. 2, No. 1, 2014, pp. 131–135, doi:10.26417/ejser.v2i1.p131- 135, p. 131.
43- Marc Jonathan Blitz and Jan Christoph Bublitz (eds.): The Law and Ethics of Freedom of Thought, Volume 1: Neuroscience, Autonomy, and Individual Rights, Cham: Palgrave Macmillan, 2021, p. xi.
44- Ibid, p. 49.
45- Morris, Paul: “Intellectual Freedom Today.” Continental Thought & Theory (CT&T): A Journal of Intellectual Freedom, Vol. 1, No. 1, 2016, pp. 132–136, ISSN 2463- 333X, p. 132.
46- Elisabeth Schelleken: Perfection and Fiction: A Study in Iris Murdoch’s Moral Philosophy, [Frits Gåvertsson, Unpublished manuscript], Date of issue: 17 September 2018, p. ix.
47- Milan Petričković: The Communicational Biblical Motive of Self- Perfection in an Ethical Reflection on Sin, Shame, Remorse and Forgiveness, Informatol., Vol. 47, 2014, No. 1, pp. 20–28, p. 20.
48- Ibid, p. 21.
49- Peter Baumann: Enlightenment as Perfection, Perfection as Enlightenment? Kant on Thinking for Oneself and Perfecting Oneself, College, 500 College Avenue, Swarthmore, PA 19081, USA, p. 284.
50- Loc- Cit.
51- Ibid, p. 285.
52- Alain de Botton: The Consolations of Philosophy, Vintage Books, a Division of Random House Inc., New York, 2001, p. 1.
53- Roark, Dallas M.: Introduction to Philosophy, Emporia, KS: Dalmor Publishing, 1982 (revised 2011), p. 1.
54- Baggini, Julian: How to Think like a Philosopher: Twelve Key Principles for More Humane, Balanced, and Rational Thinking, Chicago: University of Chicago Press, 2023, Chapter 5.
55- Loc- Cit.
56- Amy Jacques- Garvey: Philosophy and Opinions of Marcus Garvey, The Journal of Pan African Studies, 2009, eBook, p. 22.
57- Ibid, p. 23.
58- Ibid, p. 24.
59- Ibid, p. 27.
60- Neha Jain and Ratan Raigar: Ethical Implications of Technology in the Digital Era: A Call for Responsible Innovation, Turkish Journal of Computer and Mathematics Education, Vol. 10, No. 2 (2019), pp. 1145–1147.
61- George W. Reynolds: Ethics in Information Technology, Cengage Learning, Sixth Edition, 2019, ISBN 978- 1337405874, p. 3.
62- Loc- Cit.
63- Karaganis, Milana: “Ethics of Technology.” In Report of the UNECE Workshop on Ethics in Modern Statistical Organizations, Geneva: United Nations Economic Commission for Europe, March 26–28, 2024, pp. 12–14.
64- Rashid, Muhammad Mustafa: Technology Ethics, Online at https://mpra.ub.uni- muenchen.de/105731, 2020, p. 3.
65- Juan Enriquez: Right/Wrong: How Technology Transforms Our Ethics, Routledge, New York, 2020, p. 12.
66- Anil Rajimwale: The Particle and Philosophy in Crisis: Towards Mode of Information, Routledge, New York, First published 2023, p. x.
67- Ihejirika, C. I., & Asike, J.: “Exploring the Power of Philosophy in Nation Building.” [Journal/Publisher if available], [Year not specified], p. 1201.
68- Jonas, Hans: “Toward a Philosophy of Technology.” The Hastings Center Report, Vol. 9, No. 1 (1979), p. 34. https://www.jstor.org/stable/3561700.
69- Rodrigo Cordero: Crisis and Critique: On the Fragile Foundations of Social Life, Routledge, New York, p. 1.
70- Ihejirika, C. I., & Asike, J., Op- Cit, p. 1199.
71- Ibid, p. 1201.
72- Ibid, pp. 1201–1202.
73- Baggini, Julian: How to Think like a Philosopher: Twelve Key Principles for More Humane, Balanced, and Rational Thinking, Chicago: University of Chicago Press, 2023, Chapter 4.
74- Alain de Botton: The Consolations of Philosophy, Vintage Books, a division of Random House Inc., New York, 2001, pp. 16–17.
75- Loc- Cit.
76- Ibid, pp. 18–19.
77- Ibid, p. 19.
78- Dr. Oyekunle O. Adegboyega: Introduction to Philosophy and Logic, National Open University of Nigeria, Printed 2018, p. 17.
79- Ibid, p. 19.
80- Standard Eleven: Philosophy, Maharashtra State Bureau of Textbook Production and Curriculum Research, Pune, 2020, p. 7.
81- Loc- Cit.
82- Ibid, pp. 8–9.
83- Ibid, p. 9.
84- Ibid, p. 10.
85- Loc- Cit.
86- Ibid, p. 12.
87- Jesper Kallestrup: Methods and Skills for Philosophy, Routledge, London and New York, First published 2025, p. x.
88- Ibid, p. 6.
89- Ibid, p. 7.
90- Loc- Cit.
91- Ibid, p. 8.
92- Zachary G. Augustine: Philosophy for Any Life, an open- source self- help book, First edition published 29 September 2015, pp. 3–4.
93- Ibid, p. 4.
94- Swami Krishnananda: The Philosophy of Life, The Divine Life Society, P.O. Shivanandanagar, India, pp. 41–42.
95- Baggini, Julian: How to Think like a Philosopher: Twelve Key Principles for More Humane, Balanced, and Rational Thinking, Chicago: University of Chicago Press, 2023, Chapter 1.
96- Loc- Cit.
97- Ibid, Chapter 2.
98- Loc- Cit.
99- Loc- Cit.
100- American Journal of Interdisciplinary Research and Development: “Philosophy and Its Role in Society,” A. Navoi, Volume 25, February 2024, p. 89.
101- Loc- Cit.
102- Loc- Cit.
103- Ibid, p. 90.
104- Loc- Cit.
105- Loc- Cit.
106- Yoni Porat: A Brief Introduction to Philosophy, Southern Alberta Institute of Technology, Calgary, Alberta, Canada, 2021, p. 11.
107- Ibid, pp. 11–12.
108- Ibid, p. 12.
109- Richard Fafara: Philosophy and Civilization, Rocznik Tomistyczny, Vol. 7 (2018), ISSN 2300- 1976, p. 55.
110- Loc- Cit.
111- Loc- Cit.
112- Ibid, pp. 55–56.
113- Zbigniew Orbik: “On the Evolution of the Concept of Sustainable Development,” Scientific Papers of Silesian University of Technology: Organization and Management Series, No. 223 (2023), p. 388.
114- Nnaemedo Bartholomew: “Analysis of the Five- Fold Role of Philosophy in National Development,” International Journal of Research and Review, Vol. 10, Issue 5, May 2023, p. 348.
115- Ibid, pp. 348–349.
116- Ibid, p. 350.
117- Loc- Cit.
118- Ibid, pp. 350–351.
119- Loc- Cit






